الدين، الإسلام، الثقافة

تحميل الملف: الدين، الإسلام، الثقافة

إنّ لكلّ موجود إمكانيّ، أو ظاهرةٍ حياتيّةٍ، علّةً وسبباً تدفعُ الباحثَ للسؤالِ عنها، والتحقيق في مداليلِها، ومقاصدِها… والدينُ وجودٌ، وظاهرةٌ حياتيّةٌ، عاشت مع الإنسانِ منذ بداياتهِ حتّى تكاد أن تشكّلَ قِوامَ إنسانيّتِه رغمَ الاختلافاتِ التي وقعت حين التّعبير عن هذا الدين أو ذاك… بين هذا الدّين أو ذاك…

“ولو أنّنا تتبعنا سلسلةَ الحديثِ عن الأديان من عهد الفراعنةِ، فاليونانُ، فالمسيحيّة، فالإسلام، فالنهضة الحديثة، لاستطعنا أن نتبيّن اختلاف صورة فيما بين العصر، والعصر، بل ربما بين الفترةِ والفترة، من فتراتِ العصر الواحد”(1) وقبل أن نخوضَ البحثَ في “الدين” كوجودٍ، وظاهرةٍ إنسانيّةٍ نقدّم بعض التعريفات حول الدين.

     تعريفات للدين:

  أ  تعريف الراغب الأصفهاني:

أورد الراغب الأصفهاني أن “الدين يقال للطاعة والجزاء واستعير للشريعة، والدين كالملّة، لكنه يقال اعتباراً بالطاعة، والانقياد للشريعة” قال تعالى: ﴿إنّ الدّين عند الله الإسلام﴾(2) وقال: ﴿ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو مُحسن﴾(3)؛ أي طاعة ﴿واخلصوا دينهم للّه﴾(4) وقوله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم﴾(5)؛ وذلك حثّ على اتباع دين النبي (ص) الذي هو أوسط الأديان كما قال: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً﴾(6)، وقوله: ﴿لا إكراه في الدين﴾(7)؛  قيل: يعني الطاعة فإن ذلك لا يكون في الحقيقة إلا بالإخلاص.

والإخلاص لا يتأتّى فيه الإكراه. وقيل: إنّ ذلك مختصٌ بأهل الكتابِ الباذلين للجزية. وقوله: ﴿أفغير دين الله يبغون﴾(8)؛ يعني الإسلام.. لقوله تعالى: ﴿ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه﴾(9). وعلى هذا قوله تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق﴾(10)

وقوله: ﴿ولا يدينون دين الحق﴾(11)، وقوله: ﴿ومن أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾(12)… ﴿فلولا إن كنتم غيرَ مدينين﴾(13) أي غير مجزيين(14).

ممّا عرَّفه الراغب يمكن فهم أنّ الدّين هو “الطاعة، والانقياد للشريعة بإخلاص وصدق وطلب لوجه الباري سبحانه”..

     ب-  تعريف الجرجاني:

“الدين وضع إلهيٌ، يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول…

الدّين والملّة متّحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار فإن الشريعة من حيث إنها تطاع تسمّى ديناً.. ومن حيث إنها تجمع تسمّى: ملَّة؛ ومن حيث إنها يُرجع إليها تُسمّى مذهباً…

وقيل الفرق بين الدين، والملَّة، والمذهب أنّ الدّين منسوبٌ إلى اللَّه تعالى، والملَّة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد”(15).

إذاً، هناك جملة من الأمور التي عرَّف بها الجرجاني الدين:

أولاً: أنه من اللَّه سبحانه وتعالى. (المصدر 0 )

ثانياً: هو خطاب من البارى‏ء إلى العقول الإنسانيّة، التي برأها، وخلقها، وهداها سبحانه.

ثالثاً: وهو حثٌ على قبول شريعة، وأوامر النبي..

رابعاً: ميزة الدين أنه النسبة التي تعود للبارى‏ء.

وإذا نسبت للنبيّ سمّيت ملَّة، وإذا نسبت إلى أهل الاجتهاد، والتفكّر الدينيّ سمّيت مذهباً؛ وبالتالي، فأيّ دخالة بشريّة نابعة من تفكير الناس وثقافتهم؛ إذا توجهت نحو الدّين هذا التفاعل يُطلق عليه اسم المذهب، ولا يصحّ أن يُسمى ديناً…

ج- تعريف الدين عند العلامة الطباطبائي:

لقد سعى الطباطبائي (قده) في كتابه التفسيري الكبير الموسوم بـ “الميزان في تفسير القرآن” إلى وضع جملة من التعريفات – توزّعت على أكثر من مجلد من الميزان – لتبيان المقصود من الدين وتعريفه.

ونحن هنا نسعى للملمة بعضها، والعمل على تركيبها..

أ‌- “الدين نحو سلوك في الحياة الدنيا، يتضمّن صلاح الدّنيا بما يوافق الكمال الأخرويّ، والحياة الدائمة الحقيقيّة عند الله سبحانه، فلا بدّ في الشريعة من قوانين تتعرّض لحال المعاش على قدر الاحتياج”(16).

فالدّين بهذا المعنى هو حالةٌ سلوكيّة تُنظّم حياة الإنسان الفرد، والمجتمع على حسب ما فيه كمال وجوده الدنيويّ المرتبط بالآخرة، التي هي الحياة الحقيقيّة..

ب‌-  “قوله سبحانه: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾(17)؛ يفيد أنّ المراد بالدّين هو مجموع المعارف، والأحكام المشرّعة”(18).

لقد أطلَّ العلامة بهذه الملاحظة على إضافة الجانب المعرفيّ “مجموع المعارف” الإلهيّة والأخلاقيّة…

كما والدستور الإلهي “الأحكام المشرعة”.. إلى الجانب السلوكيّ الذي ألفت إليه في النقطة السابقة.

ج-   “الدين صبغة اجتماعيّة حمله الله على الناس، ولا يرضى لعباده الكفر، ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم”(19).

يكتسب الدين ميزةً (جماعية – اجتماعيّة) تنصبغ بصبغة رضا البارى‏ء… وهو بذلك حياة الجماعة.

د-   … ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون﴾(20).

فالدّين الحنيف الإلهيّ الذي هو قيّم على المجتمع الإنسانيّ هو الذي تهدي إليه الفطرة، وتميل إليه الخِلقة البشريّة بحسب ما تحسّ. بحوائجها الوجوديّة، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والأخلاق والأعمال(21).

بعد أن أورد في الملاحظة السابقة أنّ للدّين صبغته الاجتماعيّة، التي تشمل حركة، وكيان الإنسانيّة؛ اعتبر (قده) أنّ القرآن كشَف عن فطريّة الصبغة الإلهيّة، وكونها ذاتيّةً عند الإنسان، والدين بتشريعاته، ونظمه إنّما – يحاكي هذه الفطرة والكيان بحسب احتياجاته الكماليّة.

“ليس الدين إلا سنّة الحياة، والسبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للإنسان يتبعها إلا السعادة..

وقد هدي كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته، التي هي بغية حياته بفطرته، وجُهِّز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز ﴿ربنا الذي أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثم هدى﴾(22).

ولعلّ هذه الحاجة الاجتماعيّة – الذاتية إلى الدين، تنبع من طبع الاختلاف بين البشر، فيجي‏ء الدين كحاجة لرفع ذاك الاختلاف الطبيعي..

ولهذا، يشير (قده) بقوله: “العلّة في الدعوة الدينيّة، هو أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنّه سالك نحو الاجتماع المدني..

وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف، ولم تتمكّن من رفع الاختلاف.. إذ كيف يدفع شي‏ء ما يجذبه إلى نفسه..

كان رفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوّة، والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق. بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقيّ داخل في الصنع، والإيجاد”(23) وممّا يلفت النّظر هنا أنّه نحا بموضوعة الدين كشأن اجتماعيّ ناحية النبوّة، والتشريع وهما عمدة تشكيل الملَّة، التي تصبّ بنهاية المطاف في جوهر حقيقة إلهيّة – دينية هي: تأمين الكمال بما هو “كمال حقيقي داخل في الصنع والإيجاد”؛ وهذه العبارة منه تضعنا أمام التساؤل التالي: هل يمكن اعتبار طبيعة الحقيقة الدينيّة واقعاً موضوعيّاً له آثاره وكمالاته الوجودية؟

وبالتالي فليس الدّين مجرد إنشاءٍ، يتشكّل من أوامر ونواهي.. وهذا ما قد يوصلنا لنتساءل عن مدى إمكانيّة التعرف إلى الدين.. إذ في الحالة الأولى‏، فإنّ أي حقيقة موضوعيّة تحمل في ذاتها قدرة، وقابليّة التعريف عن نفسها، والتعرف عليها..

أمّا في الحالة الثانية، فإنّ المسألة تكون مرتبطة بعالم الاعتبار، والاصطلاح، والإنشاء. والحقيقة هي ما ننشئ وما نحكي وما نصطلح.

وبذا فليست بذاتها أمراً ذا بال، بل هي قابلة للتكوّن في كلّ مرة إنشاءً جديداً لحقيقة جديدة..

وهنا تدخل الثقافة – باعتبارها النظامَ العقلي للبشر – في حركة العلاقة مع الدين‏.

لتكون هي المنشئة للدين – الملّة، إذا اعتبرنا أنّ الدّين مجرد إنشاء يتمّ على يد النبي المُخبِرِ عن اللَّه سبحانه، أو على يد وصيّ النبيّ، أو من وكيله، (أيِّ كانت طبيعة هذا الوصيّ أو الوكيل حسب اختلاف الأديان)..

فتصبح السلطة الدينيّة، والإطار الدينيّ صنيعَ المُخْبِرِ عن اللَّه سبحانه، وبمعنى آخر يصبح الدّين صنيع ثقافة المُخْبِرِ عن اللَّه سبحانه..

بينما لو اعتبرنا أنّ للدّين حقيقة موضوعيّة، فإنّ المسألة فضلاً عن كونها تخرج من يد تحكم البشر وتلوُّن ثقافاتهم.

فإنّها تكون بذلك أمراً له مقاصده ولوازمه، ودلالاته، وآثاره، وكمالاته..

التي هي قابلة لتُعرف – ويجب أن تعرف – إذ الاندماج والتأثّر الإيجابيّ بالحقائق فرع معرفتها…

﴿إنّا أنزلناه في ليلة القدر…﴾(24).

﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون﴾(25).

﴿بل هو قرآن مجيدٌ في لوحٍ محفوظ﴾(26).

﴿كتابٌ أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾(27).

إلا أن الكلام يبقى حول خصوصية تلك الحقيقة الدينيّة، وإلى أيِّ مدى تقبل التنوّع التثاقف والثقافة..

     طبيعة الحقيقة الدينية:

ليس الجمود والسكونيّة هما سيدا الموقف في الحقيقة الدينية – ونقول هنا الحقيقة الدينية، لأنّنا لا نتحدث عن ظاهرة الأديان وتنوّعها، وبهذا المجال أطلق القرآن لفظ الدّين بصيغة المفرد، ولم يتحدّث عنه بصيغة الجمع…

فالدين هويّة حقيقة واحدة محفوظة – استنزلت عبر التاريخ، وتكاملت بالقرآن الكريم.. وبذلك يكون القرآن هو تلك الحقيقة التي نزلت كوحدة، ووجود بسيط (بالمعنى الفلسفي) دفعة واحدة على الكمال البشري الخاتم (قلب محمد ص) وهذه الحقيقة لم تُلغِ أيَّ كتابٍ سماويٍّ سابق تنزل من عند اللَّه سبحانه.

بل واستمرّت – حقيقة القرآن تتنزل – نجوماً – في الوقائع، والمناسبات عبر امتدادات زمنيّة، ولحاظات جغرافيّة. وطبائع، وانطباعات بشرية، وتاريخيّة، معلنة أنّها بثباتها في الهوية هي سيّالة أبداً، تُفصِّل، وتقوِّم، وتقضي، وتعالج إلخ… (الفرقان) ﴿كتابٌ أحكمت آياته ثمّ فُصِّلت…﴾(28). وهي تدعو. بل إنّما تنزلت للبشر، لتدعوهم أن يعقلوا ويتدبّروا؛ ﴿كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته﴾(29).

وهي تدخل السجال بوسائط التثاقف البشري (اللغة)، لإعادة تكوين بنية العقل على مقتضى الفطرة، والحقيقة الدينيّة ﴿حم والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وأنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم﴾(30).

فهو في الوقت الذي يكون فيه على ثباته في “أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم”.

يلبس ثوب اللغة العربيّة، ويخاطب الناس ببيان هو الأفصح ﴿والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون﴾(31).

ويحمل كلّ إمكانيّات، وقدرات التكامل في التثاقف‏، بحيث إنّه خاطب كلّ عقل حسب قابليّاته “إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم”(32) (النبي الأكرم ص)، ويسير بلغة، وروح الصدق النظريّ، والعمليّ / المعرفي والعبادي.. لينقل الناس إلى كمال “الطهر”، ليتشرفوا بدرك الحقيقة الدينيّة القدسيّة؛ ﴿فلا أقسم بمواقع النّجوم* وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم* إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهّرون* تنزيل من ربّ العالمين﴾(33).

فاللون الثقافيّ لهؤلاء يتحوّل إلى كمال يؤهّلهم درك الحقيقة الثابتة التي تُعبِّر عن نفسها بثوب الثقافات..

فالحقيقة الدينيّة، وكلام الله حقيقة عينيّة لها دلالاتها، وأطوار تفسيرها…

“القرآن الكريم هو كتاب الله وكلماته…

هو حقيقة كونيّة بصورته الموجودة، ويختلف بذلك تمام الاختلاف عن الكلمات البشريّة.

والحقيقة الكونيّة تتجلّى، وتبرز للإنسان من جديد في أيّ خطوة تقدّم وعيه فيها، وارتفع مستوى ثقافته بها..

والكون هو موضوع تطوّر الحضارة، وتقدّم الثقافة، وحامل هذه التطورات، والتقدّم المستمرّ هو الإنسان.

فالكون والإنسان حقيقتان تتجلّيان في كلّ مرحلة حضاريّة بصورةٍ جديدةٍ”(34).

وبشأن تأثير الدين والاستقامة على الثقافة قال أفصح من تحدث بعد النبي (ص) : “لا يستقيم إيمان عبدٍ حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه”(35) الإمام علي (ع).

ففي الوقت الذي حصَّن فيه القرآن ثقافة الناس المؤمنين به، فقد فتح صدورهم لقبول الثقافات الأخرى اقتباساً: “خذ الحكمة ولو من مشرك”.

* وهضماً: “خياركم من وعى فأوعى”.

* وتنشيطاً: “يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم…”

وقد صبغت الحقيقة الدينية = (الإسلام)، ثقافة الحضارة التي كوَّنتها في العديد من جوانبها..

فإذا “كان القرآن نوراً – كما وصفه الله سبحانه – فقد كتب المسلمون آياته على جدران المساجد، فإذا المسجد يجمع بين نورٍ مقروءٍ ونورٍ منظورٍ.

وإذا نظرت إلى فنّ الأرابيك رأيت فيه جمالاً، ونظاماً هندسيّاً دقيقاً وتماسكاً بين الأشكال الهندسيّة، وأنت في المجتمع تؤكّد هذه العناصر الأساسيّة الثلاثة: الجمال / التماسك‏ / والنظام.. كذلك ترى التناسب بين الجزء والكلّ، فكلّ وحدة صغيرة لها ذاتيّتها، وفي تماسك الوحدات ذاتيّة أكبر؛ وبهذا يحدث التوازن بين الصغير، والكبير، بين الفرد والمجتمع.

وأنت تقرأ في القرآن هذا عناية بالفرد وعناية بالجماعة… وكما تؤكّد العقيدة الإسلاميّة بالكلمة والسلوك الرباط بين السماء والأرض، ترمز المآذن العالية لهذا الرباط؛ يرتفع صوت المؤذّن كما ترتفع الأيدي بالدعاء”(36).

     كلمات لا بد منها:

أولاً: أن كلّ ما سلف ممّا بيّنّاه حول نظرتنا لرؤية الإسلام تجاه الدّين وعلاقته بالثقافة، لا يلغي واقع أنّ ما هو عندي حقيقة قد يكون عند آخر مجرد ثقافة واطّلاع، فتارةً ننظر للموضوع من داخله.. إجابة عن تساؤل.. “أيّ شي‏ٍء هو في ذاته؟”.

وأخرى نطلّ عليه من خارج فيكون مجرّد شي‏ء نسأل عنه بـ “ما هذا؟”.

وفي هذه الحالة الثانية سيبقى السؤال من دون قيمة ما لم ندخل في عمق الحقيقة. إذن ستكون الثقافة الدينيّة دون أيّ قيمة ما لم تدخل عمق الحقيقة الدينيّة.

ثانياً: لا تعاند بين الحقيقة الدينيّة، وبين أشكال ثقافيّة كالفلسفة، والأخلاق وغيرهما…

لأنّ الحقيقة كواقعٍ موضوعيٍ – يمكن التعرّف إليه.. تحتاج إلى سبل معرفيّة كالفلسفة وغيرها.

فإن لحظنا الحقيقة الدينيّة كفطرة في الإدراك، عنينا بذلك أنّها بديهيّة أوليّة نجد الدليل عليها معها وكل برهان في مقدّماته لا بُدَّ أن يعود إلى مثل هذه البديهيّات.. هذا علماً أن طريق البرهان إلى مثل هذه الحقيقة مفتوح. وكلّ قول بأنّ الدّين نأخذه بمجرّد التقليد، والتعبّد الأعمى هو قول إذا صدق على كثيرٍ من الاتّجاهات الدينيّة، إلا أنّه لا يصدق على الإسلام، وهو كلام “يبطله كون الدّين مركّباً من معارف المبدأ والمعاد، ومن قوانين اجتماعيّة من العبادات والمعاملات،.. مأخوذة من طريق الوحي والنبوّة الثابت صدقه بالبرهان.. والمجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة وأتباعها أتباع للعلم، لأنّ المفروض: العلم بصدق مُخُبِرِها بالبرهان”(37).

أمّا إذا لحظنا الحقيقة الدينيّة من جنبة النزوع الفطري فإنّما نقصد الحالة النّفسيّة المتدبّرة بالإيمان الذي هو صنو المعرفة العيانيّة..

في إجابة لأمير المؤمنين )ع) لذعلب حين سأله هل رأيت ربّك؟

يقول (ع): لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. (نهج البلاغة).

ثالثاً: أنّنا مدعوّون للتمييز بين ما يصعب معرفته، وبين ما يستحيل معرفته.

فما كانت معرفته مستحيلة لأنّه يناقض كلّ حقيقة، وجب علينا رميه في سلّة الأساطير والأوهام. وما صعب معرفته وجب علينا تمتين بنائنا الثقافيّ ليتفاعل مع تلك الحقيقة إدراكاً بالوجه كما هي نتائج أيّ معرفة مفهوميّة..

أو تفانياً مع تجلّيات الحقيقة كما هي المكاشفة والمشاهدة..

والحقيقة الدينيّة هي كل ذلك، وكلّما استطاعت لغة التثاقف عندنا أن توغّل في المعرفة، كلّما استطاعت أن تدرك الدين كواقعٍ عينيّ، علينا أن نزيل عنه ما علق به من أوهام، وأساطير، ومحالات عقليّة. كما وعلينا التكامل معه بعفويّة صادقة متدبّرة لا بتكلّف شعائري خالٍ من كل مضمون..

واليوم بات لزاماً لروح العصر، والإنسان أن تستعيد مع الدين محكمة الاستقامة، والتقييم، والترشيد، والنقد الإيجابيّ.

وأن لا نخشى على الدين من الإرهاصات، أو النقاشات والله هو القائل ﴿وأنّه لدينا لعليّ حكيم﴾.

ولهذا نفتح باب التباحث في الدين والثقافة كموضوعة تقع فيها وجهات نظر متعدّدة وهي على اختلافها وتباينها، أو توافقها إنّما تبني أفقاً من تثمير الإدراك، والفهم، والانسجام مع “الدين” و”الإنسان”.

(1)  راز/ الدين/ ص9.

(2)  سورة آل عمران، الآية 19.

(3)  سورة النساء، الآية 125.

(4)  سورة النساء، الآية 146

(5)  سورة المائدة، الآية 77.

(6)  سورة البقرة، الآية 143.

(7)  سورة البقرة، الآية 256.

(8) سورة آل عمران، الآية 83.

(9) سورة آل عمران، الآية 85.

(10) سورة التوبة، الآية 33.

(11) سورة التوبة، الآية 29.

(12) سورة النساء، الآية 125.

(13) سورة الواقعة، الآية 86.

(14) الأصفهاني، راغب، “مفردات ألفاط القرآن الكريم” مركز الخدمات، إيران، ط 42- 1404هـ، ص175.

(15) الجرجاني، “التعريفات”، دار السرور، د. ط، د. ت، ص 47.

(16) الطباطبائي، محمد: “الميزان في تفسير القرآن”، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، بيروت، مؤسسة الأعلمي، ط 1عام 1997، ج 2، ص132.

(17) سورة المائدة، الآية 3.

(18) م. س / ج 5/ ص184.

(19) م. س/ ج – ص146.

(20) سورة الروم، الآية 30.

(21) م. س‏/ ج7/ ص255.

(22) م. س‏/ ج16/ ص.183.

(23) م. س‏/ ج7/ ص 132/ الواقع الموضعي‏ – عم من أن يكون مادياً.

(24) سورة القدر، الآية 1.

(25) سورة الحجر، الآية 9.

(26) سورة البروج، الآية 21- 22.

(27) سورة هود، الآية1.

(28) سورة هود، الآية1.

(29) سورة ص، الآية 29.

(30) سورة الزخرف، الآية 1-2-3-4.

(31) سورة الزخرف، الآية 2- 3.

(32) المجلسي “بحار الأنوار”، ج 16، ص 280، رواية 122، باب9.

(33) سورة الواقعة، الآية 75- 76- 77- 78- 79.

(34) الإمام موسى الصدر: “أبجديّة الحوار” مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، إعداد حسين شرف الدين، ط 1، عام  1997، ص 96.

(35) المجلسي: “بحار الأنوار”، ج 71، ص 286، رواية 42، باب 78.

(36) عالم الفكر، عبد العزيز كامل سنة 1984.

(37) الميزان الطباطبائي، ج1، ص 424.

 

اترك تعليقاً