افتتاحية العدد 12

تحميل البحث: الافتتاحية

الافتتاحية:

“الحق أوسع من أن يحيط به عقل واحد”

                                   صدر التألهين

 

         المعرفة الدينية وجدلية العقل والشهود:

إذا كانت المعرفة الدينية – بمعنى العلم بالدين – ترتكز وتنطلق من ” الوحي ” باعتباره المصدر الإلهي  لهذه المعرفة، فإنها سرعان ما تتفاعل تأثيرا وتأثرا ببقية المصادر المعرفية الأخرى، أي المعرفتين العقلية ( الفلسفية ) والشهودية ( الصوفية والعرفانية ). بحيث لا يمكن الحديث عن معرفة دينية دون الأخذ بعين الاعتبار النتائج التي تسفر عنها هذه العلاقة التفاعلية القائمة بين النص ( الوحي ) وبين منهجي العقل والشهود الكشفي.

فالعقل لا يجد بداً من اقتحام أسوار النص ( الوحي )، فهما وتأويلا وسبراً لأغواره، بحثا دون كلل عن الحقائق المنزلة بين ثنايا ألفاظه ومقارنتها بما يتوصل إليه بمعزل عن الوحي الإلهي. في الوقت الذي يحاول فيه المتصوف والعارف تمثُّل حقائق هذا الوحي وقيمه ومبادئه، ليحيلها إلى سلوك عملي يرتقي من خلاله سلم الحقيقة الشهودية، وكلا من العقل والشهود هدفهما يكاد يكون واحداً، وهو الوصول إلى سدرة الحقيقة أو مقام اليقين، للخروج من حالة القلق الوجودي والمعرفي التي يعاني منها هذا الكائن العاقل والمفكِّر.

وبالرجوع إلى المعرفة الدينية الإسلامية، نكتشف أن العقل الإسلامي قد تعرَّف مبكرا على هذه الثنائيات: العقل والنقل، الظاهر والباطن، العقل والشهود الكشفي أو الفلسفة والعرفان، فالإرهاصات الأولى لإعمال العقل في النص الموحى به واكبت تنزيله، لكن وجود الرسول (ص) الشارح والمفسر والمجيب على كل التساؤلات، أخَّر انفجار الإشكاليات المعرفية التي سيثيرها فهم النص ( الوحي ) إلى حين. لكن   ” حروب التأويل ” سرعان ما انطلقت شرارتها، لتضع النص والعقل الإسلامي أمام تحديات معرفية متعددة الأبعاد، حيث بدأ التساؤل عن طبيعة المنهجية المعتمدة في تحصيل المعرفة والبحث عن الحقيقة يتبلور في إطار اتجاهات وطرائق بحث متعددة، قسمَّها طاش زاده كبرى إلى قسمين: طريق النظر وطريق الذوق، وينقسم طريق النظر إلى قسمين: طريق الفلاسفة وطريق المتكلمين، وينقسم الطريق الأخير- أي الذوق – إلى قسمين: طريق الإشراق وطريق التصوف(1).

وقد تحولت هذه الطرائق فيما بعد إلى تيارات ومدارس متباينة المنطلقات والنتائج. فالنوازل والمستجدات اليومية دفعت العقل الإسلامي إلى محاولة تقعيد مجموعة من القواعد لمقاربة النص الديني بغية استنطاقه لاستنباط ما يحتاجه الواقع من حلول وأجوبة واحتياجات معرفية، ولم تكن هذه الآليات الجديدة المكتشفة محل وفاق بين المسلمين ، ففي الوقت الذي اقتصر البعض على الاستفادة من الظواهر اللفظية للنص الديني وفهمها والرجوع إليها، سعى آخرون لتوسيع مجال الاستنباط ليشمل آليات أخرى مثل القياس وغيره من مصادر الاستنباط الأخرى… وإذا كانت هذه الآليات الاستنباطية قد أثبتت جدوائيتها في مجال المعرفة الفقهية، إلا أنها لم تستطع مواجهة التحديات التي بدأت تتعرض لها العقائد الإسلامية من طرف الأفكار والآراء اللاهوتية والفلسفية التي اصطدم بها الدين الجديد وأتباعه، بسبب الاتصال المباشر مع معتنقي هذه الآراء والنحل أو الاطلاع على تراثهم الفكري والفلسفي عن طريق الترجمة.

لقد كانت حاجة علماء الكلام إلى العقل والمنطق ضرورية للدفاع عن العقائد الإيمانية، لكن انشغالهم بتقديم فهم وشرح عقلاني للعقيدة جعلهم يصطدمون في أحيان كثيرة بظواهر النصوص الدينية، ما دفع البعض منهم إلى الاستنجاد بآلية التأويل، في محاولة لتجاوز التناقض الحاصل بين ما يُفهم من ظواهر النصوص وما يتوصل إليه العقل والجدل الكلامي، وهكذا ظهرت في سماء المعرفة الدينية إشكالية الأسبقية هل هي للعقل أم النقل، حيث أعلن متكلمو مدرسة الاعتزال أن “العقل قبل ورود السمع” في الوقت الذي ذهب متكلمو المدرسة الأشعرية إلى تقديم النقل أو السمع على العقل، ورام آخرون من ضمن التيار الكلامي إلى التوفيق بين العقل والنقل،لأن “العقل لن يهتدي إلا بالشرع  والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس، والشرع كالبناء”(2).

لقد انطلق الفقهاء والمتكلمون من أرضية مشتركة، وهي الإيمان بمصدري المعرفة الأساسيين (القرآن والسنة)، أما الاختلاف بينهما فيكاد ينحصر في ترتيب آليات استنباط المعرفة وإنتاجها من هذين المصدرين. بالإضافة إلى الاختلاف الكبير حول آلية التأويل، لأن إخراج الألفاظ من دلالتها الظاهرية إلى دلالات مجازية أو باطنية، عملية محفوفة بالمخاطر الجمة، لأنها تشرَّع أبواب النص الديني وتجعله منفتحا على أكثر من قراءة وتفسير وتأويل، لذلك استنكف الفقهاء عن الالتجاء إلى التأويل، أما دعاته فطالبوا فقط بضرورة وضع قواعد علمية للتأويل يراعى فيها قانون اللسان العربي – لسان التنزيل – ودلالاته المتفق أو المجمع عليها.

لقد تميز المنهج الكلامي بالجدل والمناظرة، فمن خلالهما تمكن من “نصرة الأفعال والآراء التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفه من أقاويل”(3).

لذلك فقد غاب عن مباحثه استخدام البرهان، لولا الآثار التي تركها بعض علماء الكلام البارزين مثل الخواجة نصير الدين الطوسي من الإمامية وفخر الدين الرازي من أهل السنة، وكذلك ما خلفه المعتزلة من آثار ظهر فيها أخذهم بالاستدلالات العقلية في سياق أبحاثهم وفق المنهج الشكي، وبذلك غلب الطابع العقلي على علم الكلام وأصبح علما عقليا يستبطن معطيات النص الديني(4).

كما قلنا سابقا، ففي الوقت الذي انشغل البعض بفهم النص الديني (الوحي) والدفاع عن العقائد الإيمانية التي جاء بها، كان هناك من يعمل على تمثل قيمه ومبادئه وأحكامه بهدف التماهي مع الحقيقة المطلقة التي بشر بها الوحي، لذلك لم ينشغل هذا الفريق بجدلية العقل والنقل وأيهما أسبق، بل أعطى الأولوية للتجربة الروحية وتزكية النفس والارتياض والعزلة، فهذا الطريق – في نظرهم – هو أساس  المعرفة الدينية وهدفها، لأنه وحده القادر على إيصال السالك والمريد إلى مصدر المعرفة وغاية المعرفة أي علة الوجود وخالقه ومدبره ” الله سبحانه وتعالى”.

إن سلوك الطريق عبر تمثل القيم الدينية والرياضات الروحية، يؤدي إلى المكاشفات الشهودية، وهي عبارة عن ومضات نورانية تشبه الرؤى والأحلام، يتمكن المتصوف أو سالك الطريق عبرها من مشاهد حقائق الوجود أو معاينتها معاينة كشف وذوق وحال، ومن خلال هذه الومضات وشدتها  وتكرارها وقدرة المتصوف والعارف على استيعابها، ومدى صقالة مرآة روحه وهمته، تنعكس لديه الحقائق الوجودية، فيرتقي من مقام إلى مقام، ومن مشاهدة إلى أخرى، إلى أن يتحقق فناؤه في ذات الحق، فلا يبقى إلا وجه ربه ذو الجلال والإكرام…

إن الصوفي والعارف وهو يكابد معاناة الارتياض الروحي وكدح التزكية المستمرة للنفس، لا يضيع وقته في الانشغال بفهم ظواهر النصوص الدينية أو ترتيب المقدمات العقلية والمنطقية، بل يكتفي بالاحتراق لذة بما حصل عليه من معارف كشفية وذوقية، لائذا بالصمت قهرا، لأن اللغة تصبح عاجزة عن ترجمة ما رآه وشاهده وتذوقه، بل تصبح أضيق من أن تحيط أو تستوعب مضامين تلك الكشوفات الغيبية، ولسان حاله يردد قول الشاعر:

وكان ما كان مما لست أذكره          فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

وإذا لم يصبر على الكتمان ورام لسانه الإفصاح أو ترجمة ما رآه بعين قلبه حال سكره وذهوله، فإنه سيسقط في الشطح والهذيان، وسيعرض نفسه لسهام علماء الرسوم وحراس الظواهر والقشور، وسيكبو جواده لا محالة ولن يجد من ينقذه من غضب هؤلاء، كما وقع للحلاج الذي كبا به جواده  فعجَّل حتفه وعوقب بالإعدام لإفشائه بعض أسرار الكشوفات  الغيبية.

إن المعرفة الشهودية لا يمكن الوصول إليها بالتعلم أو التفكر والرياضات العقلية، وإنما تُدرك بسلوك طريق المجاهدات النفسية والرياضات الروحية المستمرة، لذلك فقد ظلت هذه المعرفة مثار جدل مستمر إلى الآن، من جهة، توجَّس الفقهاء أو علماء الرسوم – كما يسميهم ابن عربي- خيفة من نتائج هذه التجارب والرياضات الروحية التي يخوض غمارها الصوفية في خلواتهم والتي يطفو على سطحها بين الفينة والأخرى من الأفعال والأقوال ما يخالف الشريعة، مثل الشطحات القولية: “أنا الحق”، “سبحاني سبحاني ما أعظم شأني”، “ما تحت الجبة إلا الله”. وهذه الشطحات تثير حفيظة العوام، ويصعب على الخواص إيجاد تأويل صائغ لها.

بالإضافة إلى صعوبة بل استحالة التأكد من صحة هذه المكاشفات والمشاهدات الروحية، هل هي فعلا نورانية من مصدر النور الحقيقي – أي الله سبحانه وتعالى – أم تلبيسات شيطانية وشطحات يحاول المتصوفة وأهل العرفان تغطيتها والتستر عليها عبر تأويلها بما يجعلها صائغة ومقبولة نقلًا وعقلًا.

أما الفلاسفة وأهل العقل فشككوا في القيمة العلمية لهذه المعرفة الشهودية، لأن أصحابها لا يستطيعون إثباتها بالأدلة العقلية والمقاييس المنطقية، لأنها قائمة على تجربة ومعاناة نفسية باطنية وشخصية، ولا تعني لها هذه المقاييس العقلية شيئًا.

وقد ردَّ المتصوفة والعرفاء على هذه الاعتراضات، فأكدوا على لسان الجنيد والغزالي وغيرهما بأنهم مقيدون بالكتاب والسنة، وأن شعارهم:” تفقه ثم اعتزل “، أما “ما يتوصلون إليه فما هو إلا فيض روحاني  إلهي”(5)، وأعلن البسطامي وهو من كبار القوم: “لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات  حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر الإلهي وحفظ الحدود”(6)، وبذلك وضعوا حدا فاصلا بين الحقيقة والادعاء. وفي سلوكهم هذا الطريق، هم مجتهدون كالفقهاء، قد يخطئ البعض منهم أو يكبو فيقع في الشطح ويتلفظ بعبارات كفرية أو تدل على عقائد منحرفة، لكن كبار العارفين منهم يؤولونها بما يصرف وجهها الدال على الكفر والانحراف.

لكن المتصوفة – وبسبب اعتمادهم على التجربة الشخصية الباطنية – افترقوا طرائق قددا في تحديد معنى المعرفة، يقول القشيري: “وقد تكلم المشايخ في المعرفة، فكل نطق بما وقع له وأشار إلى ما وجده في وقته”(7)، وبذلك اختلف النطق والترجمة باختلاف الحال والمقام، والقدرة على الاستيعاب والتمثل، والإيضاح والإفصاح والتمكن من اللسان المبين، ومنهج من فضَّل الصمت اختيارا للخمول والتواري عن الأنظار، إيثار السلامة من الغرور أو خوفا من زلات اللسان ومصائد الشيطان. وهذه المآخذ المهمة التي روَّج لها خصوم التصوف حاول العرفان إيجاد الحلول لها عندما قام بصياغة المكاشفات والشهودات صياغة نظرية يمكن إدخالها في أنساق استدلالية عقلية ومنطقية.

لقد انفجر الصراع مبكرا بين الفقهاء والمتصوفة، وهذا الصراع جسَّد بدوره الاختلاف والتناقض المنهجي بين تيارين مهمين في تاريخ المعرفة الدينية الإسلامية، وكشف عن مستوى التأزم الذي وصلته العلاقة بين الفقيه والمتصوف أو العارف، والاضطراب الذي ساد مواقف الفقهاء من المعرفة الصوفية وأصحابها…

لقد حاول التصوف أن يتمثل الوحي، ليتمكن عبر ما يؤدي إليه هذا التمثل من مشاهدات وكشوفات روحية من الوصول إلى اليقين والكشف عن حقائق الوجود وأسراره، ثم تطور الهدف مع العرفان والإشراق ليصبح انشغالًا أكثر بفهم الوجود وتفسيره أيضًا، وهذا بالضبط ما رامت الفلسفة الإسلامية الوصول إليه، ونقصد بها الفلسفة المشائية (الأرسطية) على وجه الخصوص، لأنها وجدت لها مناصرين ومروجين في عالم الإسلام على قدر كبير من الذكاء والحب للحكمة والإيمان بقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق الكبرى في الوجود دون مساعدة الوحي أو النقل، مثل الفارابي الملقب ﺑ”المعلم الثاني”، وابن سينا المشهور ﺑ “الشيخ الرئيس”، وابن رشد “الشارح الأكبر”.

لقد سعى فلاسفة الإسلام – وربما تقليدا لفلاسفة اليونان – إلى فهم العالم وتكوين تصور صحيح وجامع نسبيا وكامل عن العالم، حيث أصبح الحد الأعلى لكمال الإنسان عند الفيلسوف – كما يقول الشهيد مطهري – هو وصوله إلى تلك المرحلة التي يدرك فيها العالم كما هو موجود بعقله، بحيث يكون العالم في وجوده وجودًا عقليًّا، ويصبح عالما عقليًّا(8).

أما الأدوات أو المنهج الذي يعتمده الفيلسوف فهو: العقل والمنطق والاستدلال البرهاني(9). فالفارابي مثلا يعتقد أن معرفة الوجود ممكنة، وإنها تستطيع أن تقبض على الحقيقة عن طريق العقل الكلي نفسه، الذي يقدم الصور للعالم المادي والأفكار للإنسان، لذلك فحكمة الفلاسفة تصدر عن هذا العقل الكلي أو العقل الخالص (10).

لقد أثار اعتماد الفلاسفة المسلمين النظر العقلي  والبرهان كمنهج لمعرفة حقائق الوجود بعيدا عن الوحي، أثار ردود فعل مختلفة ومتعددة من طرف الفقهاء والمتكلمين والمتصوفة والعرفاء، حيث سارع الفقهاء – كدأبهم – إلى رفض التفكير الفلسفي جملة وتفصيلا، واتهام المشتغلين بالفلسفة بالزندقة والكفر والانحراف عن العقائد الإيمانية، وأعلنوا الحرب على الفلسفة والفلاسفة، بينما اتخذ المتكلمون والمتصوفة والعرفاء مواقف متباينة، أهمها المحاولة التي قام بها بعض المتكلمين لإدخال البرهان إلى علم الكلام، ومحاولة بعض العرفاء الجمع والتوفيق بين الفلسفة والعرفان.

لقد وضع حب الحكمة والرغبة في الارتياض العقلي الفلاسفة المسلمين في موقف صعب للغاية، فالفقهاء – ومن ورائهم العامة – يتربصون بهم الدوائر، ويهتبلون الفرص لتحريم النظر الفلسفي لأنه يؤدي – في نظرهم – إلى التشكيك في العقائد الإيمانية، “من تمنطق تزندق”، لذلك لم يكن هناك بدٍّ من الدفاع عن النظر الفلسفي بالشروع في محاولات توفيقية بين الفلسفة والدين لمعرفة ما بينهما من اتصال وانفصال.

انطلق الفلاسفة المسلمون من الإيمان بأن الشريعة المحمدية الحقة  صادرة عن مبدأ العقل، إذن يستحيل مناقضتها لقضايا  العقل الضرورية أو القريبة من الضرورة، كما يستحيل مخالفة العقل لقضايا الشريعة الحقة بصفتها صادرة عن مبدأ العقل وقيومه، فإن لم نجد بينهما وفاقا في بعض الموارد فإما لعدم الفهم الصحيح عن الرأي الديني، أو لعدم مطابقة القضية العقلية للأصول المنطقية، وخفاء ذلك على عقل من يحاول التفسير الصحيح عن قضاياهما(11).

ومن أشهر المحاولات التوفيقية بين الحكمة والشريعة، ما قام به فيلسوف قرطبة والشارح الأكبر لأرسطو ابن رشد، أما محاولات السهروردي والملا صدرا فلم تقتصر على عقد المصالحة بين الفلسفة والدين فقط، بل حاولت كذلك الجمع والتوفيق بين الفلسفة والعرفان والإشراق والدين.

بالنسبة لابن رشد كان التوفيق بين الحكمة والشريعة مناسبة لرد الاعتبار للفلسفة والنظر العقلي البرهاني، الذي كاد أن يتهاوى في الشرق تحت ضربات الغزالي وكتابه تهافت الفلاسفة، لذلك سيتجه التوفيق أولا باتجاه تأصيل النظر الفلسفي من خلال التأكيد على حقيقة الاختلاف الطبيعي الموجود بين بني البشر في مستوى إدراك الحقائق. ففي مقدمة كتاب: “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال” يتساءل ابن رشد: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محضور أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب(12). ويجيب على سؤاله هذا بترتيب أدلة عقلية ونقلية، منطلقا من حقيقة الاتفاق الأولي بين الفلسفة والدين في الحث على الاعتبار والتفكر والتأمل في الموجودات لمعرفة الصانع أو الخالق سبحانه وتعالى. وهذا لا يتم بالنسبة للفيلسوف إلا بالنظر العقلي المنطقي، فالمنطق هو آلة الفيلسوف لتحقيق الاعتبار الذي حثت عليه الشريعة، وبالتالي فإن “النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه “(13).

لكن النظر العقلي المنطقي ليس هو الطريق الوحيد لتحقيق الاعتبار في الموجودات، بل هناك طريقان آخران للاعتبار أشارت إليهما الآية الكريمة: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾(14)، فهذه الطرق الثلاثة تؤكد تفاوت مستويات البشر في الاعتبار وإدراك الحقائق. يقول ابن رشد: “إن طباع الناس متفاضلة، فمنهم  من يصدق بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية… وإذا كانت هذه الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”(15).

وفي حال ما إذا اختلفت نتائج النظر الفلسفي “البرهاني” مع ظواهر الشريعة فإن فيلسوف قرطبة يحيلنا إلى آلية التأويل، تأويل ظاهر الشريعة بما يوافق نتائج البرهان “ونحن – يقول ابن رشد:- نقطع قطعا أن ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، إن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي”(16).

والخلاصة التي يتوصل إليها فيلسوف قرطبة بخصوص العلاقة بين الدين والفلسفة، هي “إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة… وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة(17).

لقد أثارت هذه المحاولة التوفيقية بين الدين والفلسفة الكثير من الانتقادات والردود، لسنا هنا في مورد تقييمها، لكن لا بد من الإشارة إلى أهمية هذه المحاولة والوضوح والدقة العلمية التي عالج بها ابن رشد هذه الإشكالية الكبيرة،  كما أعاد الاعتبار للنظر الفلسفي، أما الادعاء الذي روَّج له البعض من أن ابن رشد كان يؤمن بوجود حقيقتين متعارضتين، دينية وفلسفية، فنحن نؤيد ما ذهب إليه هنري كوربان من أن القول بوجود حقيقة مزدوجة هو من نسج الرشدية اللاتينية السياسية.

 

وفي الوقت الذي كانت الفلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة في الغرب الإسلامي كانت جذوة التفلسف تشتعل ويشتد أوارها في الشرق الإسلامي، مع شخصيتين لامعتين هما شهاب الدين السهروردي (549 ﻫ – 587ﻫ) الملقب بشيخ الإشراق، وصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر المتألهين (979 ﻫ – 1050 ﻫ) وصاحب “الحكمة المتعالية”، إن ما قام به هذين الحكيمين الإلهيين يشبه عمل النحل الذي يتنقل بين الأزهار والأشجار والثمار، يمتص الرحيق ثم يخرجه من بطنه فيه لذة وشفاء للشاربين، لقد استطاع هذان الحكيمان فعلا أن يعالجا برحيق ما أنتجاه من فكر وفلسفة الكثير من علل المعرفة الفلسفية، وأن يحلا عددا من معضلاتها، وأن يساهما بدورهما في معالجة إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين، وبين الفلسفة والعرفان، وبين الدين والعرفان.

قبل الحديث عن فلسفة الإشراق، لا بد من الإشارة إلى أن “الشيخ الرئيس” كان قد أشار إلى إمكانية إستفادة الفيلسوف من الكشوفات الشهودية للمتصوف أو العارف، وهذا يعني إمكانية المصالحة بين الفلسفة والعرفان، والحاجة المتبادلة بينهما، فالعرفان بحاجة إلى الاستدلال العقلي والمنطقي لتفسير شهوده الكشفي ووضعه في نسق نظري يمكن البرهنة عليه، ومده بالاصطلاحات الدقيقة التي تمكنه من التعبير عن حاله، وبالتالي تلقينه وتجاوز أزمة صدقية وصحة كشوفاته الذوقية الخاصة. أما الفلسفة فهي في حاجة للمواضيع والقضايا الجديدة التي يثيرها العرفان والتي ستصبح موضوعا للنظر والبحث العقلي.

بالنسبة للسهروردي، الارتياض الروحي والتزكية المستمرة للنفس تفسح المجال للأنوار الإشراقية المتتالية كي تسطع على الروح فتتيح لها فرصة ” معاينة المعاني والمجردات كافة “بعد ذلك يأتي دور الحجة والبرهان لتصديق ما رآه الفؤاد بعين قلبه وشهوده، لذلك فمع الحكمة الإشراقية هناك تجاوز لثنائية الفلسفة المشائية ــ الشريعة الإسلامية، لأن الينابيع التي تمتح منها هذه الحكمة هي التراث الإنساني  ككل: الحكمة الإيرانية القديمة، الفلسفة اليونانية، التصوف والعرفان الإسلامي، الشريعة الإسلامية (قرآن وسنة)، لذلك نجد في كتابات شيخ الإشراق الأدلة البرهانية جنبا إلى جنب الآيات القرآنية لمساندة المقامات الكشفية والذوقية وشرحها وتفسيرها وتأكيد صدقيتها، والخلاصة، فالحكيم الإشراقي هو من يجمع بين التأله العرفاني والبحث العقلي، وبذلك يؤكد على المستويين النظري والواقعي وحدة الحقائق الدينية والعقلية والشهودية… فما يدركه الفيلسوف بالعقل والمنطق والاستدلال، يراه العارف من خلال الإشراق(18).

وبالعودة إلى صدر المتألهين، نجد أهداف الحكمة المتعالية محددة بدقة، فبخصوص العلاقة بين الفلسفة والدين والعرفان، فالهدف هو الوصول إلى مقام التصالح التام بينهم.

“فإذا اتحد التعقل الفلسفي مع الوحي السماوي، فإن ذلك سيكون نورا على نور” (19).

أما البرهان، فالمطلوب أن يصبح مقدمة للعرفان، وفي هذا السياق يشير الشيرازي إلى نقطة محورية في تفكيره ومنطلقه، وهو إيمانه بأن التشيع – الإمامي – وحده الذي يستطيع في الإسلام أن يقدم التوافق والانسجام بين الوحي الإلهي والتعقل الفلسفي،  لأن التشيع يأخذ العلم والحكمة عارية من مشكاة النبوة، ولأن الفلسفة الشيعية فلسفة مبنية في الأساس على الوحي…(20).

كان هذا سفرًا قصيرًا وسريعًا توقفنا فيه عند أهم المحطات المعرفية الكاشفة عن طبيعة تعاطي العقل الإسلامي مع الثنائيات التي تحكمت في إنتاجه المعرفي، وعلاقة المعرفة الدينية بالمناهج المعرفية الأخرى، فالنزاع انفجر مبكرًا واستمر إلى يومنا هذا بين الفقيه والمتكلم والفيلسوف والعارف، وبين بعضهم البعض والكل يدعي وصلا بليلى، وقد خاض عدد من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والعارفين تجربة التوفيق والمصالحة بين هذه المناهج والمدارس، بغية نزع فتيل الصراع والتحارب والتأكيد على وحدة الحقيقة وإن اختلفت المناهج والسبل الموصلة إليها، فالله سبحانه وتعالى واحد وطرق الوصول إليه بعدد أنفاس خلقه، “والحق ــ كما يقول صدر المتألهين ــ أوسع من أن يحيط به عقل واحد” أو تستوعبه تجربة روحية واحدة، أو ينحصر التعبير عنه بلغة أو إشارة واحدة.

لقد أثرى هذا النزاع والتنوع المنهجي المعرفة الدينية الإسلامية والمعرفتين الفلسفية والعرفانية، وحال دون استبداد أو استفراد منهج أو تيار بالساحة المعرفية الإسلامية، كما أعطى العقل الإسلامي الفرصة للإبداع، خصوصا محاولات التوفيق بين هذه المناهج كما رأينا. وفي الوقت نفسه أثار من الأسئلة والإشكاليات الكثير، من أهم هذه الأسئلة – في نظرنا – علاقة المناهج بالمعرفة بشكل عام، وتأثيرها في النتائج؟ وهل هذا التنوع المنهجي يؤكد نسبية المعرفة الدينية ؟  وتحديد معنى أو مفهوم العقل، فقد صوِّر دائما  على أنه مخالف للشريعة وللعرفان ؟ ما السبيل لعقلنة المعرفة الشهودية ؟ وكيف نُظر إليها على أنها تقدم فهما وتصورا أكثر عمقا وشمولا للوجود ولأحكام الشريعة ؟ مع أنها فجَّرت بدورها إشكالات أخرى لا تقل غموضا وصعوبة عن الإشكالات التي فجرتها المعرفة العقلية؟

هل تتوقف المعرفة العقلية عند بناء البعد البرهاني، أم يمكن أن تتجاوزه لأطوار أسمى (ما فوق العقل) وبالتالي قد تلتقي مع المعرفة الشهودية في مرحلة من المراحل؟

للمساهمة في الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، تقدم مجلة المحجة لقرائها في هذا العدد مجموعة من الدراسات والأوراق المقدمة لمؤتمر” المعرفة الدينية جدلية العقل والشهو ” الذي نظمه  في بيروت معهد المعارف الحكمية في 23 تموز 2004.

قدمت دراسات الملف معالجات لهذه الإشكالية من خلال مقاربات متنوعة، فالباحث الإيراني د. غلام حسين ديناني يؤكد في بحثه: “العقل والعشق الإله ” على صعوبة إدراك الإنسان للعقل والعشق، لكن وحدة الحقيقة المعبر عنها بالشهود الحضوري كفيلة بتجاوز هذه الإشكالية. أما الشيخ شفيق جرادة، تحت عنوان: “العقل في جدلياته” عن موضوع العقل في حقليه المفاهيمي والاصطلاحي. كما حاول الكشف عن منطق التوحيد الارتقائي الذي يقوم في إطاره المعرفي على جدلية العقل الشامل.

واستعرض الدكتور الإيراني محمد صادق الموسوي آراء بعض حكماء الشرق والغرب بخصوص برهان الصديقين لإثبات وجود الخالق. من جهة أخرى تحدث د.جاد حاتم عن نظرية الحب الخالص لدى الملا صدرا، من خلال ثلاثة عناوين: الرحمة للهالك، الحب للهالك، رغبة الموت. أما الباحثة الإيرانية فروزان الراسخي فقد تناولت الموقف من المرأة من خلال المعرفة الشهودية. وعالج د. حبيب فياض ثنائية المنهج في إطار العرفان والفلسفة، كما تحدثت د. مهين الرضائي من إيران عن العدل الإلهي في فلسفة لايبتس.

أما دراسات هذا العدد فهناك دراستان: الأولى للشيخ محسن غرويان أجاب فيها عن سؤال: هل الحركة الجوهرية اشتدادية؟ والثانية للباحث المغربي الأستاذ إبراهيم بورشاشن الذي سلط الضوء على  علاقة ابن رشد بالتصوف.

وفي باب وجهات نظر: هناك مناقشة لكتاب السيد محمد حسن الأمين: “الاجتماع العربي الإسلامي، مراجعات في التعددية والنهضة والتنوير”، من طرف د. علي فياض والأستاذ إلياس خوري، بالإضافة إلى وقائع الدائرة المستديرة للحوار الذي عقد على هامش ندوة: “هنري كوربان: حواريات الروح والدين” وقد شارك في الحواركل من سماحة الشيخ شفيق جرادة، ود. بيار لوري، ود. أعواني، ود. حبيب فياض.

 

                                                              

                                                                 والله الموفق     

                                                                  محمد دكير

 

اترك تعليقاً