افتتاحية العددين 39 و40

تحميل الملف: افتتاحية العددين 39 و40

يطرح هذا العدد من مجلة المحجة موضوع التدين الشعبيّ، ويضعه على مشرحة البحث؛ لينظر فيه، ويعالج قضاياه لأهميتها، فهذا الموضوع يثير الكثير من النقاش، ويطرح العديد من الأسئلة بدءًا من التسمية التي تدفع إلى التفكّر في أصل طرحها، فهل هناك دين شعبيّ مقابل آخر رسميّ مؤسساتيّ؟ وما هي معيارية “الشعبيّ” عند وضعها كواصفة للدين؟ وهذا يأخذ بشكل تلقائي إلى الحديث عن الحكمة من استخدام اللفظ، وتُثير إشكالًا يتعلق في كيفية بناء النظرة إلى العالم انطلاقًا من مفهوم السوق، حيث يخضع كلّ شيء إلى عملية تقيمية، حسب جودة المنتج. وإذا كان هذا الأمر مسموحًا على المستوى السلعي، فهل نستطيع أن ننقله إلى ما له علاقة بالأمور الجوهرية المتعلقة بالإنسان؟       

إذا تناسينا السؤال السابق، وقررنا السير بالموضوع، سرعان ما يلوح أمامنا سؤال آخر، يتعلّق بطبيعة العلاقة بين الدين الشعبي والدين الرسميّ، هل هي علاقة وصل أو انفصال؟ وهل المظاهر الشعبية للتديّن تستمدّ شرعيّتها من الدين نفسه؟ حيث انبثق هذا التديّن من أصل الدين، وقد حضّت عليه تعاليمه حين أشارت إلى ضرورة إحياء بعض المناسبات؛ لتظهر طاعة المؤمن ومحبّته إلى صاحب هذه المناسبة، بالتالي فتحت بابًا جديدًا خارج نطاق الطقوس الواجبة، يستطيع من خلالها الإنسان أن يتقرّب، ويشكر، ويعبّر عن محبته وتقديره. والجماعة طوّرت من محتواه؛ لتعبّر عن مدى التزامها بهذا الأمر، بالتالي يكون التدّين الشعبيّ تعبيرات إيمانية للمجموعة المنتمية إلى دين محدد، وما تقوم به، يدخل في هذا الاطار، حيث تُعبر كلّ مجموعة عن نفسها وشخصيتها ورؤيتها من خلال خصوصيتها، ولذلك تختلف الطقوس من مكان إلى آخر باختلاف الجماعة الناظمة.

وفي المقابل، هل التديّن الشعبيّ هو محاولة استيعابية لِما هو سائد بين الناس من أعراف وتقاليد، بالتالي تكون المظاهر الشعبية تعبيرات فولكلورية عن تراث شعبيّ متناقل عبر الأجيال، أو هي حضور لتجربة تاريخية لأمة من الأمم؟ وفي هذا الموضع، قد يُطرح إشكال يتعلق بمحتواها، فهل هي مجرد ممارسات اعتاد الناس القيام بها؟ أو أنّها تتعدّى ذلك لتعبّر عن التجربة الحياتيّة لجماعة دينيّة محددة، بالتالي هل تُخبر عن الكامن في ذات الجماعة من تجربة مرّت بها، تدلّ على خصوصيتها، وتميّزها، حاول الدين استيعابها بإعطائها المشروعية عبر السكوت عنها؟ وإذا كان الأمر كذلك هل هناك حدود يجب التوقّف عندها؟ ومن الذي يحدّدها؟

التدين الشعبيّ – كما نرى – أمرٌ معقّدٌ، لا يمكن الحكم عليه بسهولة، وهو بحاجة إلى تدقيق، وتروّي للوصول إلى نتائج محددة، ومجلة المحجة عند طرقها لهذا الموضوع تفتح الباب أمام نقاش جديّ حوله على أمل أن تجد استجابة عند الباحثين، لِما يثيره هذا الموضوع من مساحات واسعة للنقاش، يتداخل فيها الاعتقادي بالديني والسياسي والاجتماعي.

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب؛ أوّلها ملف العدد، وثانيها هو باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث. حاول أحمد ماجد في بحثه “مقدمة نظرية في التديّن الشعبيّ” إيجاد الفرق بين الدين والتديّن الشعبي من المنظور الديني والاجتماعي، مضافًا إلى التداخل والعلائقيّة مع الدين كمؤسّسة. ووقف عند توجّهات ثلاثة، هي: الدين الشعبي مكمّل للدين، أو هو تعديل للدين الرسمي، أو هو حضور للثقافة الشعبيّة في الدين.

وفي البحث الثاني “التحليل النفسيّ للشعائر”، عدّ فيصل عباس الشعائر Rites من أهمّ العناصر في كلّ دين التي يعيرها المحلّلون النفسانيّون انتباهًا خاصًّا لما لها من أهميّة في التعبير عن التجارب الباطنيّة. وخصّص الجزء الكبير من بحثه لدراسة الطقوس العاشورائيّة.

أمّا سوزان سعيد فأملت في بحثها “التوظيف السياسي لظاهرة الأولياء في الكيان الصهيوني” أن تكشف دلالات الصدّيق المتعدّدة في الذهن اليهوديّ. فعرض البحث أنواع الصدّيقين، ثمّ أطلّت الباحثة على حركة التصوّف اليهوديّة كجزء من العقيدة الشعبيّة التي اتّخذت وسيلة لربط الأمة اليهوديّة بطقوسها وتقاليدها في فترات الشتات اليهودي.

ثمّ عرّف علي نور الدين في بحثه “الخرافات عند العرب قبل الإسلام” الخرافة من منظور لغوي واصطلاحي، وميّز بينها وبين الأسطورة، ثمّ عرّج على مفهومهما عند العرب قبل الإسلام ورسوخ فكرتهما في أذهان العامّة. وأفرد جزءًا من بحثه للتعرّف على قيمة الخرافة بما تشكّل من حضارة مجتمع ما وبعضًا من تاريخه الحقيقي والافتراضي أو المتوهّم.

وفي البحث الخامس “تأثير الأولياء في حياة سكان أيت عتاب مولاي بوعنان نموذجًا”، اعتمد حسن الحنصالي على استمارات ميدانيّة لزوّار الوليّ “مولاي بوعنان” في أيت عتاب، ليبرز الأسباب التي تجعل العديد من الناس يؤمّون هذا الضريح، ومظاهر هذا الارتباط وطبيعة الهدايا والنذور التي يقدّمونها.

كما عالجت حسناء لعوان في بحثها “السياسة والتديّن الشعبي في تونس: دراسة في الزوايا والأولياء” ظاهرة زيارة الزوايا وأوليائها الصالحين وأثرها على الأنظمة السياسيّة بكلٍ من المغرب وتونس، كممارسات ثقافية وشعبية في ترسيخ المعتقد والحفاظ عليه، وارتباط هذه الممارسات الطقوسية والمعتقدات بأبعاد أخرى سياسيّة واقتصادية.

أمّا البحث السابع “رؤى الأولياء في الثقافة النوبيّة المصريّة دراسة في أنثروبولوجيا النصّ عند حجاج أدول فعرض محمّد محمود إبراهيم رؤى الأولياء في الثقافة النوبيّة المصريّة في نصوص حجاج أدول، وعرّج على الدور الوظيفي الذي يؤدّيه الأولياء في المجتمع النوبي، بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه الوليّ في قضاء حوائج الناس وشفائهم من الأمراض وحمايتهم. وهذه النظرة تتماثل في بعض جوانبها مع المجتمع المصري ككلّ.

والبحث الثامن “الدين الشعبي” هو لنانسي شايفر، والذي عالج بصورة رئيسية دراسة الثقافة الشعبية في الدين والدين في الثقافة الشعبية. فحدّد الفرق بين الدين الرسمي وغير الرسمي. وعالجت الباحثة موضوع التديّن الأميركي اليوم ومصادر الدين الشعبي في أمريكا والإحياءات المتاخمة للحدود والحضريّة وبروز السلع التجاريّة المسيحيّة الناتجة عن التديّن الشعبي في الثقافة المادّيّة، ودور البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة كوسيط آخر للدين الشعبي.

أمّا البحث الأخير “الدين الشعبي وقضاياه المعاصرة”، فيعالج نوريكو كواهاشي فيه الدين الشعبي في الدراسات اليابانية، ويقترح الباحث الفرص الممكنة والمناهج المتاحة لإجراء بحث مبتكر لإفادة المقبلين حديثًا على دراسة الدين الشعبي. كما يتطرّق إلى مسألة التغيرات التي طرأت على لغة الدين الشعبي الاصطلاحية وعلى اهتماماته البحثية في السنوات الأخيرة.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارين. الأوّل مع أديب صعب الذي أجاب عن تعريفه للدين، وهل يتلّقاه الناس بالتساوي، نظرته للتديّن الشعبي، موقفه منه ومن بعض الممارسات والطقوس الشعبيّة، وبعض الظواهر كالأحراز والتمائم والمشايخ الروحانيّة والحكايات الشعبيّة. والحوار الثاني مع خزعل الماجدي الذي أوجد الفرق بين مصطلح الدين الشعبي والتديّن الشعبي وتجلّيات مظاهره.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه بحثان. عرّف إدريس الكنبوري في البحث الأول “الإسلاموفوبيا وصناعة الصورة” الإسلاموفوبيا، حيث ساهمت الصناعة الإعلاميّة الحديثة الأوروبيّة بجعلها ظاهرة في قلب الحياة السياسيّة والثقافيّة، إذ نقلت الصور السلبيّة والنمطيّة للمسلمين من المجالات الضيّقة إلى رحاب الفضاء العمومي، لتصبح قضيّة رأي عامّ، تلعب دورًا رئيسًا في قولبة العقول وتنميطها، والتحكّم في إدارتها.

كما قدّم ميكِل بِرلي في بحثه الوصف المكثّف كتدبير مقترح لتحسين حال فهم فلسفة الدين. وهذا المنهج يساعد على فهم الظواهر الدينيّة فهمًا سياقيًّا، يفوق الفهم التقليديّ. فعرض أنواعه، وكيفيّة تسييله لفهم أوسع لفلسفة الدين. وانصرف إلى التركيز على مثلَين اثنَين يبيّنان إمكانيّة الاستعانة بالإثنوغرافيا من أجل الوصول إلى الهدف المرجوّ.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

اترك تعليقاً