افتتاحيّة العدد
نوعان من نفحات الروح يغمران حياة المعتقِد بأيّ ديانة، وكلاهما يسمّى بالإيمان.
النوع الأوّل، هو ذاك الذي يخرج من عمق الذات المستسرّة فيها روحُ الحبّ، وانجذاب العشق نحو الكامل. إنّه الأمانة التي أودعها الله فينا، وجعلها مهماز العودة إليه كلّما ران على القلب ما يُبعد عن الربّ.
أمانة الإيمان هنا، نوع من صفاء سماويّ يحوم حول القلوب والأنفس، ينتظر القبول منّا ليضع ترحاله فينا، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. قد نمتلك قرار قبولها، لكنّنا لا نمتلك قرار قتلها، لأنّ حياة هذا النوع من الإيمان الفطريّ مجبولة في أصل خلقة كلّ منّا.
بناءً عليه، فإنّ أيّ تحدّ للنوع الإيمانيّ هو بحقيقة الأمر تحدّ للذات، بل حرب للذات على الذات. إنّه أن تقول لنفسك لن أكون على إنسانيّتي، على مشاركتي لمن هم أقراني من الخلائق، على وصالي بين الجسد المنتمي إلى طين الأرض والروح المتسامي في سماء القيم والأخلاق والحقّ والواجب والرحمة والحبّ.
هذا النوع من الإيمان، هو تمام قصّة الإنسان في أصل وجوده، وفي مساره نحو المصير الأخير الذي قضاه الله ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾[1].
لذا، فإنّ أيّ معتقِد ومن أيّ ديانة كان، هو عضو حقيقيّ في محفل هذا الإيمان الروحيّ المنبثق من سماء السؤدد والسرمد.
النوع الثاني، هو إيمان يُفشي سرّه في الموضوع الإيمانيّ بكلمة وحي، أو حكمة إلهام، أو مقرّرات معتقد. ويمرّ مثل هذا الإيمان الموضوعيّ بمراحل من التأسيس الذي تكون فيه روح الإيمان موصولةً بموضوعه ولغته المنطوقة من المؤسّس (النبيّ، الرسول، الممثّل للروح، الـمُلهم أو غيرهم). لذا، تنفتح لغة الإيمان على الروح بشكل قدسيّ يبقى محفوظًا في الذاكرة، وفي الوجدان الدينيّ، وفي الأمثولة والقصّة والعبرة. ثمّ يمرّ بمراحل من التقنين التي تقوم بدور الدفاع المستميت عن الذات عبر جعل الموضوع حضن الروح، بحيث يتمّ تصوير الروح الإيمانيّ وكأنّها تلك الكلمات أو المقرّرات، حتّى ندخل رويدًا رويدًا في عصر التأويل والتفسير، فتنبني المدارس والمذاهب والطوائف، ويفرح كلّ حزب بما لديه، ولو على حساب نفي الآخر أو تصفيته.
وهنا، يتحوّل الناس إلى ما يشبه الجماعات التي تعبد الله على حرف من الفهم والنكران لكلّ القيم الإنسانيّة المنبنية على وحدة إيمان الروح.
ومن المعلوم، أنّ من خاصّيّة الروح الحياة ورفض الموت، بل التغلّب على الموت بالموت. لذا، تطلع تباشير الإيمان الروحيّ عند منعطفات حسّاسة من الزمن لتعمل على استعادة القيم والمعنويات التي أضاعها الناس بما كسبت أيديهم، لتوجّه القلوب نحو المعبود مجدّدًا، ولتثأر لإنسانيّة الإنسان وإيمانه الروحيّ، فتدفع نحو بناءات من الأعمال الصالحات البانية لجسور المحبّة والعيش والعدالة والعزّة.
من هنا، فإن كان لكلّ منّا خصوصيّة الموضوع الإيمانيّ، فإنّ روح الإيمان هو لنا جميعًا. فلا ينبغي أن نجعل الله عُرضةً لما قسّمناه، لأنّه فوق الجميع ومع الجميع وقبل الجميع، وكلّ ما سواه هالك، ولا يبقى إلّا وجهه، وجه الرحمة التي تؤلّف بين الناس، ولو في ذاك المشهد العظيم الذي أسمته الأديان بيوم الدين.
يبقى أن نسأل: كيف نميّز بين جماعة دينيّة وأخرى، في اجتماع روح الإيمان فيها مع موضوع الإيمان، إذا كان الجميع يدّعي الوصال بين الأمرين واكتمال الصنفين عنده؟
وهنا، اسمحوا لي أن أعرض قناعتي الخاصّة بهذا الشأن. فأنا أعتقد أنّ الدين، أو الكلام، أو الوحي الإلهيّ لم يأتِ لخدمة الله، أو لمصالح خاصّة بالله. فالله مستغنٍ عن الخلق كلّه، والقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[2]. فمحور الخطاب الدينيّ، ومغزى مقصد الغايات والأهداف والقيم الدينيّة هو الإنسان. من أجل الإنسان تمّت كلمة الله بالنعم والحقّ والخير والعدل، ولا يوجد في ميزان الله من تفاضل بين الأعراق والمذاهب والألوان، بل بالتقوى واتّباع الحقّ من جهة، وبخدمة الناس من جهة أخرى.
وفي الوارد من أحاديث، أنّ “الناس كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله”. فهل المعيار الفاصل إذًا هو مَن الأنفع للناس؟
لا بدّ أن نشير إلى أنّ الخصوصيّات المرتبطة بحياة المجتمعات لاستكشاف طرق الإيمان الروحيّ والموضوعيّ لا يمكن لنا أن نسلكها إلّا مهتدين مقتدين بالذين كانوا يُبرِؤون الأكمَه والأبرص، والذين كانوا يبلسمون جراح النفوس من المكلومين والمستضعفين، فهؤلاء كانوا أصحاب المعجزات، وما مصدر إعجازهم إلّا يد الحبّ وكلمة الرحمة التي كانت تنطلق من روح الإيمان بالواحد القادر الرحمن الرحيم نحو العباد من الناس والأمم.
بمقدار ما ننـزع من قلوبنا شرك المصالح والأهواء وكفر تصنيم الذات، بمقدار ما نوحّد الذي أراد أن يُوحّد كلّ شيء.
وهنا، ما من صورة حقيقيّة للروح في هذه الحياة الدنيا إلّا بإنشاء السلام لأهل الأرض، سلام العدل القويّ بعزّة الحقّ، والذي يأبى أن يرى الظلم ويسكت على الضيم.
فتنافس المفاضلة ليس فيما أطرح أو تطرح، لأنّ كلًّا منّا قد اعتقد وسكن لما عنده. المفاضلة هي في أن أصلك ولو قاطعتني، أن أبحث عن عزّتك ولو أخطأت في تقديري، شرط أن لا أخونك أو تمارس عليّ الخيانة. لأنّ كلّ الذنوب في توحيد الله تُغفر إلّا أن يشرك به، والظلم والخيانة بمثابة الشرك العظيم الذي يمارسه المرء في حقّ الإنسان بإنسانيّته. المفاضلة هي، أن نكون في محضر الله عند كلّ ما يخصّ الإنسان في حياته الفرديّة بالعبادة، وفي حياة الجماعة بحسن العلاقة والمعاملة، وفي حياة الأمم بسيادة الرحمة والعدل والإحسان.
صحيح أنّي لا أقدر على أن أرى كلّ الناس بنفس المستوى من مسؤوليّتي تجاههم. فمن أشبِهُهم أكثر في الدين والإيمان والأرض والانتماء هم أقرب إلى نفسي وأوجب في مسؤوليّتي، وهنا الخصوصيّة. لكن حينما يصبح الظلم مباحًا تحت عنوان الخصوصيّة، كما الكذب والبغضاء، فإنّ الخصوصيّة، هنا، لم تعد صاحبة انتماء للإيمان، إذ الإيمان أوسع منّا، وهو الحياة، بينما البغضاء موت، ومثل هذه الخصوصيّة تصبح عصبيّةً.
أنا لا يمكن لي أن أطلب من المسلم أن ينظر للمسيحيّ نظرته لبقيّة المسلمين، كما لا يمكن لي أن أطلب من المسيحيّ أن يضع المسلمين على نفس المصافّ من اهتماماته، إذ الإيمان العقديّ ومقرّراته، فضلًا عن سياقات الحياة، تمنع من ذلك. لكن لا يمكن إلّا وأن أرى في وجه كلّ مسلم أو مسيحيّ روح الإيمان الحيّ الذي يجب أن لا يموت، الذي يجب أن لا نعيش معه بخصام.
عليّ أن أسأل، بأيّ إيمانٍ يحرق الواحد منّا معبد الآخر؟ بأيّ إيمان نستبيح الكرامات ونسوّغ التهجير ونُفقد الحياة المشتركة لذّة الهناء والوئام؟ لصالح من نقطّع أوصال مجتمع بناه الأنبياء والرسل والصدّيقون والقدّيسون حجرًا حجرًا، ولبنةً لبنة؟ هل في ذلك صالح عقائدنا وإيماننا؟ أم صالح معتقدات وقناعات صاغتها يد بعض من العصبيّة الجاهليّة الممزوجة ببعض من التاريخ الأسود، والممهورة بيد أصحاب المصالح والأهواء؟
أدّعي أنّي أعرف الجواب، لكنّ القول الخيِّر هنا، تعالوا نحتكم لإيمان الروح فينا، ولنسمعها ولو لهذه المرّة.
مع العدد
يُقارب شفيق جرادي، في المقالة الأولى، مفردة الإيمان في حقلها الانطباعيّ العامّ، الذي يحاكي الإنسان في كلّيّته، فلا ينحصر بالبُعد العقليّ فيه؛ ويحاكي الدين في كليّته، فلا ينحصر بأبعاده العقديّة أو الشريعيّة، بل يحضر بقوّة في الأبعاد القيميّة والأخلاقيّة، كلّ ذلك عطفًا على تقريره (جرادي) الدينَ الوحيانيّ مصداقًا أمثل لحقيقة الإيمان القائم على الوصال بين الإنسان والله.
ويرى سمير خير الدين، في مقاربته القرآنيّة للإيمان، أنّ وجدان الإيمان الاعتقاديّ هو فعل إنسانيّ إراديّ. وبالتالي، فالإنسان، في بنيته الواحدة، هو محور هذه العمليّة الإيمانيّة الاعتقاديّة. أمّا كون الإيمان اختياريًّا فيكشف عن نوع من التعلّق الواعي (للإنسان) بالذات المقدّسة. وعن هذا التعلّق تصدر الفاعليّة الإنسانيّة في حراكها الفرديّ والاجتماعيّ، وفيه تنحصر إمكانيّة تعريف الإيمان مفهومًا.
ونجد في المقالة الثالثة، لحسن بدران، استقصاءً لمفردة الإيمان في أحد “الكتب الأربعة” عند الشيعة – أي مجامع الحديث التأسيسيّة الأولى – وهو كتاب الكافي للكليني. إنّ الإيمان، هنا، ناظر إلى الإنسان في “الزمن المقدّس” السابق على السيرورات والنسبيّات وتحوّلات اللحظة التي تحتكم إليها المعالجات العقديّة. وبالتالي، فالكلام في النظام العامّ للخلقة، والإيمان فيه كامن في أصل جوهر الإنسان، كما هو كامن، إذ يتصرّم الزمان، في حراك الإنسان وحياته.
أمّا في المقالة الرابعة لأحمد ماجد، فثمّة قراءة لموضوعة الإيمان في الإناسة من خلال ثلاث شخصيّات معاصرة، غيرتز وغلنر وأسد، كانت صاحبة قول فيما خصّ الإسلام وموقعه من الحداثة. وفي حين نحا غيرتز وغِلنر منحى القراءة التعميميّة التي لا ترى في الدين إلّا نسقًا ثقافيًّا رمزيًّا هو معطًى اجتماعيّ خالص، لا صلاحة لديه لتوليد المعنى، فإنّ أسد يستردّ للدين مرجعيّته وللخصوصيّات موقعها، من خلال بيان محوريّة التقليد والصراطيّة في المنظومات الإيمانيّة الاعتقاديّة. إنّ هذه المقاربة ممّا يفتح الباب أمام نقاش، من الضروريّ أن يجري في العالم الإسلاميّ عن هذه العلوم وكيفيّة حضورها فيه.
ثمّ في المقالة الخامسة لريتشارد سوينبرن استقراء للمواقف المسيحيّة الأساسيّة من الإيمان، في تمايزها على ضوء الثقل الذي توليه إحدى مقولتَي الاعتقاد أو الثقة. ومع حضور العنصر العقليّ قويًّا في كلتَي المقولتين – ما يطرح بقوّة إشكاليّة “إيمان الشياطين” – فإنّ موضوعة الخلاص تجد لها مدخلًا عريضًا، ومعها نجد تبلورًا في مقولتَي الحبّ، مع توما الأكوينيّ تحديدًا، وعمل الخير، مع لوثر تحديدًا.
وإذا كانت مسألة موضوع الإيمان – أو متعلّقه في الأدبيّات الإسلاميّة – قد برزت واضحةً في المقالات السابقة، فإنّ المقالة الأخيرة في الملفّ لكارل ياسبرز تطرق، بالفلسفة، سؤال العلاقة بين وجهَي الإيمان، الذاتيّ والموضوعيّ؛ ولا تجد، في سبيل الجواب، بدًّا من الإشارة إلى ما تكون الذات والموضوع مظهرَه، إلى المكتنف الذي فيه، من “كنفه”، تتولّد حريّة الإيمان وحياته.
ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” على ثلاث مقالات.
يرى مهدي الحائري اليزدي، في المقالة الأولى، ضرورة معالجة السؤال “الماقبل-معرفيّ” إذا ما كان للاعتبارات الإبستمولوجيّة أن تكتسي أيّ معنًى. فمن دون هذا السؤال لا يمكن إحراز أيّ فهم لعلاقة المعرفة بمحرِزها. عليه، يقوم الحائري باستثمار أطروحة المعرفة الحضوريّة في الفلسفة الإسلاميّة، في تشريح لمقولتَي الموضوع والذات، كي ينخرط في نقاش مع الإشكالات الإبستمولوجيّة الأساسيّة في الفلسفة المعاصرة.
أمّا المقالة الثانية لإدريس هاني فتقترح مقاربة الحكمة الصدرائيّة المتعالية من باب العبرمناهجيّة، مستعرضةً موارد الاستفادة المتبادلة بين المقاربتين، وما يترتّب على هذا التلاقح من فوائد لكليهما[3].
وفي المقالة الأخيرة، يحذّر حيدر حبّ الله من صعود الاتّجاهات المناهضة للفلسفة، في الوسط الحوزويّ، بعد فترة من الإحيائيّة كان لها الأثر الطيّب على المناخ العلميّ الدينيّ. ويقوم بمعالجة عدد من الأدلّة التي تُساق لصالح مناوءة الدرس الفلسفيّ مبيّنًا اعتلالها، ومؤكّدًا على ضرورة الاستفادة من الفلسفة في مواجهة تحدّيات التجديد والمعاصرة.
أمّا في باب “حكماء”، يتقدّم محمّد تقي السبحاني بقراءة جلال الدين الرومي من خلال المقولات الأساسيّة الحاكمة على رؤيته، العقل والعلم والحبّ، مبيّنًا خصوصيّات معالجته التي جعلت منه أحد أهمّ متصوّفة الإسلام.
والحمد لله كما هو أهله
شفيق جرادي
محمود يونس
[1] سورة الأحزاب، الآية 62.
[2] سورة فاطر، الآية 15.
[3] انظر، في العدد السابق، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتجاوز جدال الدين والعلم”، ترجمة هادي قبيسي.