افتتاحيّة العدد
تمخّضت النقلة الديكارتيّة عن ثلاثة آثار رئيسة[1] – أو لعلّها كرّستها. وقد كان لهذه الآثار مجتمعةً وقعها البالغ على فهم الطبيعة البشريّة وتعريف الإنسان. فالارتكاسة إلى الذات غرّبت العالَم، أو قُل اغتربت الذات، حتّى كأنّها اكتفت بذاتها عالَمًا نهائيًّا. ثمّ هي في عالمها الجديد، الذي رمت فيه الكفاية والاستغناء – بالمقدار الذي تشرع منه نحو كلّ آخر (وفي داخلها وخارجها آخرون) – تماهت مع البعد العقليّ فيه، فهو وحده ما تثبّتت منه. وكلّ بعد آخر فهو يحتاج في (إثبات) واقعيّته إلى إجازة من العقل إيّاه، وإلّا كان، في أحسن أحواله، صنيعةً مرحليّةً من صنائع هذا العقل في مساره التطوّريّ. وبعض الصنائع، التي تستقي وجودها من العقل إيّاه – هكذا هي السرديّة – اشتدّت في مفاعيلها حتّى باتت تنافسه. وبات تحدّيه يكمن في إثباته ذاتَه (أو أنّه تمام الذات) في إزاء منافساتِه على استحواذ الإنسان. وهو يفعل ذلك بالعودة إلى صفائه، بالخلوص من كلّ شائبة، وباكتناه حقيقته التي ما فتئت تتجلّى في غواشي من الخوالط. هو العقل المستقلّ بذاته، المستغني عن كلّ ما سواه، الواضح عند نفسه، والذي يحقّق نفسه في التجريد، وفي إبداعات التقانة.
خطوات النقلة، إذًا، هي كما يلي:
- العقل، أو الفكر، دليل على الذات، وعلى كلّ ما سواها بالتبع؛
- الذات تتماهى مع هذا العقل؛
- حقيقة هذا العقل أنّه أداتيّ، يعبّر عن نفسه بإبداع الصنائع واستعمالها (وللصنائع التقنيّة، حتّى في حيّز الفنّ، خصوصيّة بالغة في هذا الصدد)، مع نزوع نحو التجريد هروبًا من ملابِسات الجسم، أو العالَم، أو ما سوى العقل.
وفي واقع الحال، فإنّ ثَمَّ أثرًا رابعًا له محوريّته على المستوى المجتمعيّ. إذ فردانيّة الإنسان اتّخذت لها، هنا، تأسيسًا أنطولوجيًّا وطيدًا. بعبارة ثانية، باتت طبيعة الإنسان تؤخذ بمعزل عن جمعيّته، أو علاقته بالجماعة، إذ هذه الأخيرة لا تعدو كونها شأنًا طارئًا. وهذا تداع واضح لانسلاخ الإنسان عن الطبيعة الخارجيّة، أو جعله الخارجَ (الآخر الإنسانيّ ضمنًا) في إزاء الذات، وسيشكّل مقدّمةً، كما سنرى، لنبذ الطبيعة الإنسانيّة نفسها.
وإذا ما كان موقع الإنسان من نظريّة بعينها يتحدّد بمقتضى المثال الأعلى الذي تجعله لنفسها، فإنّ النقلة الديكارتيّة تتموضع في إطار النظريّات التي احتكمت إلى مثال أعلى عقلانيّ – بالمعنى الذي مرّ. وما يعنينا هنا هو، أوّلًا، ما يرتبط بـ”تعريف” الطبيعة البشريّة بمقتضى ذلك، وثانيًا، ما يرتبط بأدوات معرفة الطبيعة البشريّة بعد انتقالنا إلى عالم معرفيّ مغاير تمامًا. وهذا ليس بمنفكّ عن المسألة الأولى، فقد كانت تجزئة العلوم مقدّمةً لتشظية الذات الإنسانيّة بحيث تضمحلّ الطبيعة مع اضمحلال كلّ ما يعطي الذات تماسكها. ومن هنا، كان أن قامت بعض التيّارات الفلسفيّة التي تندرج في مفاعيل النقلة الديكارتيّة برفض أن يكون للإنسان طبيعة ثابتة، إذ الثبات تقييد يُخلّ بالمعياريّة المطلقة التي جُعلت للحرّيّة، من ناحية، وفيه “شائبة” الإلهيّ، من أخرى. ولا يخفى أنّ الارتياب بهذه “الشائبة” يحرّك حقولًا معرفيّةً بكاملها.
لقد ولّد تعريف الجسد والنفس على أنّهما جوهران في الفلسفة القديمة ضرورة السؤال عن العلاقة بينهما. وإذ احتدّت هذه الجوهرانيّة مع النقلة الديكارتيّة، بات لزامًا إقصاء أحدهما لصالح الآخر، لِتضعضع السؤال عن العلاقة إلى حدّ بات معه لغوًا. وتاريخ الفلسفة بعد ديكارت، بأغلبه، تسويغ لأيّ الإقصاءَين.
إنّها لجوهرانيّة حادّة بالفعل. والجوهرانيّة الحادّة تفاقم التشييء، بخلاف الجوهرانيّة الليّنة التي تحفظ الهويّات الشخصيّة، مع خصوصيّاتها، من غير أن تحول دون سيرورة الأشياء وتفاعلها وتولّدها. بل لا كلام هنا عن أشياء. كلامنا، في واقع الأمر، ينصبّ على لحاظات وحيثيّات[2]؛ أي لحاظات وحيثيّات خاصّة بالطبيعة إيّاها. فهل الطبيعة جوهر سيّال أم جوهر صلب – إن كان ثَمَّ من جواهر صلبة؟ ماذا عن خصوصيّاتها ولوازمها؟ هل من خصوصيّات لازمة؟ وكيف تحفظ هذه اللوازم الهويّة؟ أصلًا، ما العلاقة بين الهويّة والطبيعة؟
على ما في هذه الأسئلة من همّ أنطولوجيّ، فإنّني أجدني مأخوذًا بأبعادها الأخلاقيّة – بالمعنى التأسيسيّ للأخلاق. وسيتّضح لك ما أريد. وإذ أتحرّر، شيئًا ما، من الالتزام بإجابات – في استغلال (صارخ كما العادة؟) لمساحة الافتتاحيّة – فإنّ المحفّز على تكثيف السؤال هو السؤال عينه. إذ الطبيعة مبعث على السؤال، بل لعلّ السؤال أكثر أشيائها ذاتيّةً. و”السؤال المهاجر”[3] أبلغ فعلًا في الإنسان من اليقين البتّيّ. فلنلاحق الطبيعة في أسئلتها. فإنّها مصيغة بخليط من التقييد والإطلاق، من ثوابت ومن مغادِرات. فما هو الثابت، وما الذي يغادر؟ أو ما الذي يلزم، وما الذي ينزع نحو المغادرة؟ وماذا يترتّب على المغادرة؟ هل الذات، في الطبيعة، تنحصر بما لا بدّ له أن يلزم، أم إنّ الذات – حتّى الذات – من السيولة بحيث لا يضيرها لو غادرها ما كان، في وقت من الأوقات، ذاتيَّها؟ فما مساحة الحركة فيها؟
ولعلّ الثابت في الطبيعة الإنسانيّة أنّها سيّالة، متحرّكة؛ يقول الملّا صدرا:
النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، ولا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة والنفسيّة والعقليّة التي كلّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات ودرجات متفاوتة، وما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته، وعسر فهم هويّته[4].
فإذا كان الإنسان أكثر الأشياء حركةً، هل نستغني فيه عن بُعد إلهيّ؟
من الواضح أنّ للإنسان خصوصيّة. فهو (أوّلًا) في حركته، قادر على تفعيل ذاته، وفي غير اتّجاه؛ إنّ الإنسان إذا ما استشعر في نفسه نزوعَين، هما الغاية في الخلاف والتضادّ – وهو يستشعر من نفسه ذلك – فإنّه يجد في نفسه القدرة على تحقيق أيِّهما. فما كان قادرًا على أن يفعّل في نفسه من المنازع ما هو بهذه الدرجة من الاختلاف فهو إلى الإلهيّ أقرب.
ثمّ (ثانيًا) هو صاحب وجهة. فإذا كان النزوعُ، على سعته، وتفعيلُه، ممّا يختصّ به، فإنّ تحديد الوجهة على عاتقه كذلك. وهو مزوّد بأدوات التوجيه في قبالة كلّ ما يحاول أن يشظّيه، أو أن يجعله ساكنًا عند وجهة لا تليق به، والحال أنّ الوجهة التي ينبغي أن تلائمه، أو تلائم طبيعته، هي الوجهة التي تأبى كلّ سكونيّة. وفي واقع الأمر، فإنّ الفطرة، في كثير من الأدبيّات الإسلاميّة هي هذه، أي التوجّه نحو المطلق، وإباء السكونيّة المعدِمة.
لذا كان الإنسان متوجّهًا بالضرورة. وأريد من التوجّه الفعل، بل الفعل الذي يحدّد الهويّة ضمن جهة التقييد في الطبيعة. الطبيعة، إذًا، هي (1) مِلاك التوجّه، وهي (2) المصيغة بمقتضيات التوجّه. وعلى هذا، لعلّ الخيال أكثر فاعليّةً في تكوين التوجّه من العقل. فالعقل يهذّب، والخيال يُطلق ويفسح. والجدل، الذي يؤرّق كلّ سؤال عن الطبيعة، هو الجدل بين التهذيب والإفساح بما يفعّل قابليّات الطبيعة، ويعيّن هويّتها، أي ما تستقرّ عليه الذات استقرارًا معتدًّا به. فهما (التهذيب والإفساح) من عناصر الطبيعة من حيث هي مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها. ولا تخفى محوريّة الإرادة في تفعيل ما ينفتح عليه الخيال، ويهذّبه العقل (ولا نحصره هنا بالعقل الأداتيّ). كما لا تخفى محوريّة الشعور في تلمّس مسارات الاكتمال والتفعُّل، والتحفيز نحو مواصلة المسير.
فالمسير نحو المطلق لا يُتصوَّر فيه الوصول. إنّه وجه الله، بالعبارة القرآنيّة، الذي يَهلَك كلّ شيء إلّاه[5]. الوجهة، إذًا، وجه الله. ووجه الله هو الإنسان الكامل، أي الطبيعة البشريّة التي اكتملت، فصارت إلهيّة؛ تفعّل فيها الإلهيّ الكامن إلى أبعد مداه فَظَهَر. ولأنّه مطلق فإنّ أبعد مداه ليس غاية مداه. وإذا كانت الأشياء تُعرف بالوجه، فالله، إذًا، يُعرَف بالإنسان، ولذلك خلقه؛ لأنّه ذاك المتحرّك بالسؤال – بسؤال “ألست”[6] – المتوجّه نحو أبعد مديات الـ”بلى”، مخلَّصًا إيّاها من كلّ ترديد مبعثه الـ”لا” التي تريد تأكيد الذات، أي الطبيعة في بعض مستقرّاتها، في مقابل الوجه، أو الوجهة، أي الطبيعة في أبعد مداها.
الله ظاهر في كلّ الأشياء. لا خلاف. المراد هنا أنّ ظهوره في الإنسان هو الأكمل، لأنّه ظهور لكلّ أسمائه. فهو ظهور على حدّ الاستواء، بتعبير الملّا صدرا[7].
مجدّدًا، إذًا. ليس الكلام في أشياء استقرّت على جوهريّة حادّة. بل الكلام في حيثيّات، في مراتب، أي إنّ العلاقة بين الطبيعة الإنسانيّة والطبيعة الإلهيّة مَصيغة بالتسانخ بينهما. وإذا أقرّينا بهذا التسانخ، دون إحلالهما مرتبةً واحدة، فإنّا نخرج من عدد من الإشكالات المرتبطة بالسؤال عن العلاقة.
ولقد حاولنا قراءة مفردات العلاقة (الوحي والإيمان تحديدًا) في عددين سابقين، فلا أكرّر. إلّا أنّ المرء ليلحظ أنّ سيّاليّة الطبيعة البشريّة، في إبائها قبضَ “العقل الأداتيّ المنهجيّ” عليها، تفتتح تحدّيًا معرفيًّا، وفي كلّ تحدٍّ فرصة إذا أُلهمنا صبرًا كافيًا. فالسؤال، مثلًا، عن الوحي، بالصيغة الذي يُسأل بها، أي عن إمكان العلاقة بين المطلق – ترد مفردة “المفارق” في العادة، وهي أكثر إشكاليّةً – والمحايث (المتزمّن إذا ما صحّ الاجتراح)، هو سؤال شبيه بالسؤال عن العلاقة بين الجسد والروح بعد إقرار جوهريّتهما الحادّة. هو سؤال مردود بمجرّد إقرار التعريف. ثمّ إنّ المطلق، إذا ما أراد التواصل مع المتزمّن، أليس هو من جعله في زمنيّته؟ أفلا يرى أن استيعاب المتزمّن لرسالته التواصليّة هو استيعاب مَصِيغ بمقتضيات التزمّن؟ وهل من سبيل آخر؟ إذا ما جوْهَرْنا الزمنيَّ، في مقابل المطلق، بالحدّة التي صبغت فكرنا طويلًا، فلا سبيل إلى ذلك. أمّا إذا ما نظرنا إليه في سيّاليّته، وحركته المنفتحة على قابليّات الصعود والنزول، فإنّ إطار التعارض ينحلّ لصالح جدليّات التكامل.
تكمن الخطوة الأولى، إذًا، في نبذ كلّ معيقات التوجّه. أمّا الثانيّة، بطبيعة الحال، فتكمن في تهذيب قابليّات تشخيص الوجهة. فنحن محكومون بالاختيار – كان سارتر محقًّا. أمّا اختيارنا، فيضعنا على مسار التشبّه بالوجهة (التخلّق بأخلاق الله). وأمّا “التوجّه” الأصيل فينا، فيزوّدنا بالخميرة التي تجعل التخلّق ممكنًا.
نصل، إذًا، إلى محوريّة الأخلاق لأنّها تختطّ مسارات حركة المغادرة والحلول. ولئن كانت هذه الحركة مطويّةً في النفس (الإنسانيّة)، فإنّها ليس بمقطوعة الصلة بالخارج. بل الخارج يعمّ النفس الإنسانيّة وما سواها. وإنّما نأخذ النفس بمعزل عن خارج لمقتضيات الاعتبار المنهجيّ، فلا ينبغي لنا أن نشيّئ هذه القسمة إثر ذلك. فالفضائل التي هي مراتب الحركة الأخلاقيّة الإنسانيّة تحاكي الأسماء المبثوثة والمتغلغلة في كلّ ثنايا الوجود، بحيث يستحيل الكلام على انفكاك للبعد الأخلاقيّ عن الوجود العامّ، أو الوجود الخاصّ (الإنسانيّ).
بعبارة صدرائيّة، مجدّدًا،
اعلم أنّ الله اسم للذات الإلهيّة باعتبار جامعيّته لجميع النعوت الكماليّة، وصورته الإنسان الكامل، وإليه أشير بقوله، صلّى الله عليه وآله، “أوتيت جوامع الكلم”[.] والرحمان هو المقتضي للوجود المنبسط على الكلّ بحسب ما يقتضيه الحكمة، والرحيم هو المقتضي للكمال المعنويّ للأشياء، بحسب النهاية […]، فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم: بالصورة الكاملة الجامعة للرحمة الخاصّة والعامّة، التي هي مظهر الذات الإلهيّة، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بقوله: “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، لأنّ مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الجامعة الإنسانيّة[8].
تتجلّى هذه الحقيقة كرقائق في الطبيعة الإنسانيّة المتفعّلة في الدرجات الوجوديّة المختلفة، كتجلّيها في الوجود الخارجيّ. إلّا أنّ الإنسان يتميّز بجامعيّته التي بها استحقّ الخلافة. وطبيعته تقتضي التوجّه نحو هذه الجامعيّة، بل لعلّها التوجّه عينه. وعليه، فإنّنا نقرأ في كلام الملّا صدرا، بوضوح، الجمعيّة العضويّة التي تربط الوجود بعضه ببعض، مع لحاظ المحوريّة الخاصّة للإنسان. وكذلك نجد أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بما أوتي من جامعيّة، فإنّه بُعث ليستحثّ الحركة نحو الجامعيّة الكامنة في النوع البشريّ.
لا غرو، إذًا، أن تحار العقول في طبيعة الإنسان، وأن تذهب بها المشارب بعيدًا في كلّ اتّجاه. وإن كان كلّ اتّجاه يعبّر عن بُعد أصيل في الإنسان، إلّا أنّ الاتّجاه القادر على محاكاة – ولا أقول إحاطة – الجامعيّة الإنسانيّة مخفيّ في ثنايا السؤال الإنسانيّ القلق أبدًا. بل إنّ الاتّجاه العامّ قد فرض قراءةً أحاديّةً على الإنسان تقصي كلّ إحالة على المقدّس، وتستثني الإلهيّ. وفي زمن المراجعات، تمثّل مقولة الطبيعة البشريّة فرصةً لصياغة كبرى تتعلّم من الإقصائيّات المتقدّمة وتنفتح على التقليد. فلا نراوغ عموميّةَ المفردة وإبهامها – وهذا متأصّل فيها – بالإجابات النهائيّة. وإن كان لا بدّ من تلمّس المفردة في مفردات من قبيل الهويّة، والشخص، والذات، والنفس، والعقل، والروح، والأنا، فلنراجعها كلّها على ضوء المنفسح الفكريّ الراهن.
مع العدد
يلج شفيق جرادي مبحث الطبيعة بمعاينة هويّة القلب الإنسانيّ الذي تتنازعة وجوهه المتعدّدة، فلا تستقيم إلّا عند إنسان الدهر، صاحب القلب البرزخيّ، والرؤية التوحيديّة. ومن منطلق فلسفيّ إسلاميّ جامع، كذلك، يعرض وليام تشيتيك لإشكاليّة تغيبب الطبيعة البشريّة، ويقترح التوحيد كصيغة تأمّليّة تعين على فهم الإنسان، على سعته. ويقترح سمير خير الدين، بعد المقابلة بين مفردتَي الطبيعة البشريّة والطبيعة الإنسانيّة، أن نتوسّل الإنسان لفهم الطبيعة، في تعارض مع المقاربة التقليديّة التي تجعل فهم الطبيعة مقدّمةً لفهم الإنسان. ويعترض حسن بدران على تغييب الحقيقة الوحيانيّة التي تصرّ على طينيّة الإنسان في عين إصرارها على رفعة مرتبته. ويرى أنّ تغييب أيّ بعد من أبعاد الكائن البشريّ يجعل الإخفاق في فهم طبيعته لازمًا.
أمّا السيّد حسين نصر، فيجعل مقابلةً بين الإنسان، بمعناه التقليديّ، أي بما هو رابط بين الأرض والسماء، والإنسان الذي اصطنعه التنوير على ركن القطيعة مع السماء. ويرى أنّ طمس الصبغة الإلهيّة في الإنسان لا بدّ أن يترك أثره على العالم كلّه لما لهذا الإنسان من محوريّة فيه. وإذ تستعرض آن ماري شيمل القراءات الصوفيّة التقليديّة لحقيقة الإنسان، ولمدخليّة الشيطان إليه، فإنّها تقف على خصوصيّة الإرادة الإنسانيّة وقابليّات الخير والشرّ عنده.
في المقالة السابعة، يتقدّم عليّ يوسف بقراءة للطبيعة البشريّة كما هي حاضرة عند مدرِكها، محاولًا إقامة علاقة رابطة بين أبعادها المتبدّية. وبعدها يتناول مهدي مهريزي مسألة تضمّن الخطاب الإلهيّ للإنسان نحوًا من القراءة المجازيّة في سرديّاتها القصصيّة، كمقدّمة لفهم أبعاد قصّة خلق آدم في القرآن، وبما لها من تداعيات على فهم الطبيعة الإنسانيّة.
أمّا ماري ميدجلي، فتشرع من الإشكاليّات التي اعترت فلسفة الأخلاق جرّاء الاختزاليّة الفكريّة الحاكمة لتصرّ على وحدة الفاعل الإنسانيّ في كلّ حكم أخلاقيّ. وفي مقالة حول المدرسة التفكيكيّة، يدرس موسى ملايري تداعيات القول بمادّيّة النفس على فهم الهويّة الإنسانيّة.
وختامًا، يعرض موريس بلوخ لأسباب فقدان علم الإناسة لموضوعه، أي الطبيعة البشريّة، والأثر المترتّب جرّاء ذلك على فهم الطبيعة نفسها.
والحمد لله كما هو أهله
[1] المصادر، حول هذه “النقلة” الديكارتيّة، أكثر من أن نحصيها في عجالتنا هذه. ولكن انظر، على سبيل القراءة النقديّة،
- Gellner, The Devil in Modern Philosophy, 2nd edn. (London and New York: Routledge and Kagan-Paul, 2003), pp. 2-7; C. Taylor, “Overcoming Epistemology,” in Philosophical Arguments (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1995), pp. 1-19; P. Ricœur, “The Crisis of the ‘Cogito,’” Synthese 106: 1 (Jan., 1996): 57-66.
[2] انظر افتتاحيّتنا للعدد 21، “عودة المِتافيزيقا”.
[3] انظر، شفيق جرادي، “الدين والفلسفة والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة 12 (2009): الصفحات 89 إلى 94.
[4] نقلًا عن، حسن بدران، “المسارات الكلّيّة في قراءة الطبيعة الإنسانيّة”، هذا العدد.
[5] سورة القصص، الآية 88.
[6] انظر، سورة الأعراف، الآية 172؛ “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ”.
[7] صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق السيّد جلال الدين الآشتياني (قم: دفتر تبليغات، 1419ه.ق)، الصفحة 86.
[8] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحتان 85 و86.