إفتتاحية العدد 23

الافتتاحيّة

افتتاحيّة العدد

كان لا بدّ لمجمل المباحث التي تعاطتها المحجّة في أعدادها الأخيرة (الزمن، عودة المِتافيزيقا، المعاد) أن تصل بنا إلى تخوم مبحث الجسد. فالمبحث يشتمل في تضاعيفه على مكنون ما اندمجت عليه التيّارات الفلسفيّة المختلفة، ولطالما كان الأرض التي خيضت عليها المعارك الفكريّة، وتناحرت عليها الـمُسبقات الفلسفيّة. مغلوبٌ على أمره الجسدُ في تاريخ الفلسفة؛ وعندما ترى كيف يُنتَصَرُ له اليوم، فلسفيًّا، فإنّك أحيانًا قد ترجو له دوام التعاسة. ودعك من اعتداد الفلسفة بنفسها، واستعلائها على الدين والأسطورة، فإنّنا نجد اليوم مناخًا عارمًا لا يتحرّج من القول بمُسبقات حاكمة على الفلسفة، وعلى كلّ اشتغالٍ فكريّ. يكفيك في ذلك التيّارات الواسعة التي حكمت على الفلسفةِ بقدرٍ لغويّ – أو، لا أقلّ، أحكمت الربط بين الفلسفة واللغة بما لا يطيق الانفصام – فإنّ “فلسفةً تنطلق من مِلء اللغة، هي فلسفة مع مُسبَقات”[1].

بيد أنّ الفلسفة أكثر تجذُّرًا في المسبقات. وبالتحديد، الفلسفة التي صيغت في اليونان، وصارت مصدرًا لمشروعيّة كلّ ما تسمّى فلسفة فيما بعد. فقد قام أفلاطون، في مواجهة السفسطة، بالاستعانة بالأورفيوسيّة كيما يسوّغ خلود النفس وهدفيّتها. وعلى أساس هذه الأسطورة، يتماهى الإنسان مع النفس ويغاير الجسد؛ تصير النفس هي الأنا، ويصير الجسد هو الآخر. ومن يومها، صارت “الأورفيوسيّة من مستلزمات الفلسفة”[2]؛ من مُسبقاتها، إذا جاز لي القول.

إنّه الحدث الفلسفيّ الأكثر تأسيسيّة. هنا انقسمت الأنطولوجيا إلى أنطولوجيا روح وأنطولوجيا جسد. وهذا ما مهّد إلى تجزئة العالم فيما بعد إلى واقع موضوعيّ خارجيّ، وواقع آخر ذاتيّ[3] مع أولويّة للموضوعيّ تحملنا على تحويل الذات إلى موضوع إذا ما شئنا أن نعرفها أو ندرسها. وإنّها لمفارقة أن تحتاج الفلسفة التي تزعم تزويدنا برؤية كونيّة إلى ما سواها – في هذه الحالة أسطورة – لتستقي منه عناصر رؤية كونيّة. لكن، هل يمكن خلاف ذلك؟

وماذا عن أرسطو؟

صحيحٌ أنّ الأفلاطونيّة، بما هي رؤية للواقع، تستدعي الأرسطيّة بما هي رؤية مغايرة للواقع – إذا أخذنا بالمقاربة التي تجعلهما طرفا طيف الرؤى الفلسفيّة – ومأزق الأفلاطونيّة، حيث جعلت الروحانيّ في مقابل المادّيّ، يستدعي رؤيةً للواقع في وحدته كما تقدّم بها أرسطو. إلّا أنّ البرنامج الأفلاطونيّ المحدَث الذي أخذ على عاتقه “مصالحة” هاتين الرؤيتَين للعالم، فاقم القسمة الأولى، فصرنا أفلاطونيّين في مثاليّاتنا، وأرسطيّين في واقعنا المعيش[4]. بأيّ الأحوال، فقد كان لهذا البرنامج أن يكتمل إثر التفاعل والتخالط الواسع الذي جرى بين الأفلاطونيّة المحدَثة وبين التيّارات المسيحيّة التي تشكّلت في صيغ رسميّة وبخاصّة مع بولس وأوغسطينوس. فللأفلاطونيّة إطار تفسيريّ رحب لا يُقصي الروح بل يراعي حقّها، ويرى في الإنسان حقيقةً تتخطّى حيّزه الوجوديّ الضيّق في هذا العالم. هذا من ناحية. أمّا من أخرى، فقد كان لها دور تسويغيّ في تبرئة الإنسان من الخطيئة الأصليّة بإحالتها على الجسد.

فلنُجمِل. تقول الأورفيوسيّة بأصلين في الإنسان، أحدهما إلهيّ خيّر، وثانيهما هو محلّ الشرّ. النقلة الثانية تأتي مع الأفلاطونيّين حيث صارت النفس هي البُعد الإلهيّ في الإنسان، والجسد هو البُعد الدنيويّ. وعلى النفس دَينٌ تؤدّيه كي تكمُل، وإلى حين تأديته فهي أسيرة الجسد السجن[5].

كان على النقلة التالية أن تنتظر قدوم ديكارت الذي جعل من الأنا المفكّرة ذاتًا أسمى، بل لقد حصر فيها ذاتيّة الإنسان. “نجد هذا التوكيد، اللوغوس، منذ البداية مع أرسطو، فقد كان معيارَ تعيّن المقولات، أي كينونة الكائنات. بيد أنّ هذا المعيار – العقل البشريّ، العقل بشكل عامّ – لم يكن يوصف بأنّه ذاتيّة الذات. أمّا الآن [مع ديكارت]، يتقدّم العقل، بصراحة، على أنّه ’الأنا أفكّر‘ في المبدإ الأعلى، وكمعيار ومحكّ لتعيّنات الكينونة”[6].

لم يعد للجسد – المنحصر، منذ الآن، في حيّز الامتداد المكانيّ – أيّ نصيب من ذاتيّة الإنسان. بل لقد تكرّس بما هو جسم – وفارقٌ ما بين الجسد والجسم[7] – في مقابل الذهن الذي استبدل الروح في الأدبيّات الفلسفيّة التي تلت.

ومع توجّه الإنسان إلى داخله كي يُحرز اليقين، يتّخذ الخارج صبغةً أجنبيّة بالكامل. تصير الذات المنفكّة disengaged self محور كلّ حراك معرفيّ، وتصير الإبستمولوجيا، بما هي ضابط حركة العلوم المتقصّية للخارج، تمامَ الفلسفة. هذا عطفًا على إيمانٍ، كأنّما أوحي إليهم[8]، بأنّ الداخل (الذهن-الذات) البرهانيّ، الآليّ، والأداتيّ يضاهي الخارج الذرّيّ atomistic المتفاصل.

إنّ ثنائيّةً مماثلةً، مأخوذةً مع نظرةٍ ميكانيكيّة إلى العالم، ونزوعٍ مادّيّ صارخ، لن تفتأ تولّد ثنائيّات وتجاذبات وجدليّات تراوح بين تشيئة الإنسان وعزله عن الحياة. ومع اتّضاح التهافت الداخليّ لهذه المنظومة، وعدم انسجام ثنائيّتها المؤسِّسة مع ما أفسحت له المجال من مناهج علميّة وفلسفيّة دفعت بالمادّيّات لتملأ كلّ حيّز، رُدمت الهوّة بين النفس والجسد (أو الذهن والجسم)، وصرنا نردّد مع ميرلوبونتي، “أنا جسدي”[9]. لقد حُبي الجسد، من ثمّ، بكلّ المثاليّات والقدسيّات التي حازتها الروح فيما مضى.

أعتقد أنّنا هنا أمام مشكلةٍ تختصر في رمزيّاتها كلّ الجدليّات: المقدّس والمدنّس، المفارق والمحايث، الذات والموضوع. ولا أرى حال هذه الجدليّات مستقيمًا إلّا برفعها، والنظر إلى الإنسان بكليّته.

من الملائم هنا أن نسأل: ماذا عن الدين؟ ألم يُتعارف على الأورفيوسيّة دينًا؟ أليس الدين هو مُسبَقةَ الفلسفة التي ازدرت الجسد وجعلت الكمال للروح وحده؟

من الواضح أوّلًا أنّ تأثير الأفلاطونيّة تناهى إلى المعاقل الدينيّة، وبخاصّة عند التيّارات الغنوصيّة. وليس صعبًا أن نفهم انجذاب بعض الاتّجاهات النسكيّة، في كلّ الأديان، باتّجاه تمثّل الأفلاطونيّة، أو بعض نسخها، في مضامينها العقديّة. وكان التأثير جليًّا في الإسلام وفي المسيحيّة. حاولت المسيحيّة، مع توما الأكوينيّ، تبديد هذه الثنائيّة المفروضة من خلال التأسيس على ما في الكتاب المقدّس من إشارات إلى الإنسان في وحدته الوجوديّة، والاستثمار مجدّدًا في تعريف أرسطو للنفس بأنّها كمالٌ أوّل للجسم، وتطوير مقولة “الشخص” الوثيقة الصلة بالأقنوم، والتي كان لها أن تتحرّك في اتّجاهات مختلفة لما فيها من زخم منفتح على الكثير من البؤر المفهوميّة[10]. إلّا أنّ تكثّر المقولات (النفس، الروح، الشخص) دون تبيان الفوارق والتداخلات في المعنى لم يساعد المطلب في كثيرٍ من الأحيان؛ يقول جوزيف راتزينغر [البابا بنديكتوس السادس عشر]: “النفس تنتمي إلى الجسد كـ’صورة‘ [بالمعنى الفلسفيّ] له، إلّا أنّ الذي يكون صورةً للجسد هو أيضًا روح. إنّه يجعل الإنسان شخصًا […]”[11]. وكذلك نجد في معجم الإيمان المسيحيّ، لدى تعداد معاني النفس: “النفس هي الشخص الحيّ”[12].

إنّ فوضًى مماثلةً نجدها في الأدبيّات الإسلاميّة حين التعاطي مع مصطلحَي النفس والروح – لم تجد مفردة الشخص هذا النوع من الاصطلاحيّة هنا، وإن كانت من المفردات الفلسفيّة المتداولة.

ومع إصرارنا على عدم وجود فلسفة عارية عن المسبقات، نرى التداخل بين الدين والفلسفة عصيًّا على الفضّ غالبًا. وأظنّ قويًّا أنّ المدخل الملائم لمعالجة هذه المسألة هو اللغة، لا لأنّ اللغة تختزل المضامين الفكريّة المحرّكة، بل لأنّها تختزنها، لا على نحو الحياد “إذ من المتعذّر على الرويّة [الفكر] أن ترتّب المعاني من غير أن تتخيّل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الرويّة مناجاةً من الإنسان ذهنَه بألفاظ متخيَّلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني حتّى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن[13]، بل على نحو التفاعل. وبالتالي قد ترقى بنا إلى حيث يلتقي المجالان [الدين والفلسفة] في الآفاق التعبيريّة.

يقول هايدغر: “بالطبع، لا تنشأ المسألة دائمًا حيث تظهر الكلمة أوّل ظهورها. لكنّنا مع الإغريق، الذين عنهم صدرت الكلمة، نستطيع أن نقوم بهذا الافتراض دونما تردّد”[14]. مع صعوبة الوقوف على طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، لسنا مضطرّين لأن نقطع للغةٍ بعينها باستثنائيّة قد تشوبها شائبة المفاضلة العرقيّة، بيد أنّنا لا نرى عائقًا  في الإقرار بمحوريّة لغاتٍ دون أخرى من حيث تقاطعاتها التاريخيّة التي جعلت منها لغةً للاشتغال الفكريّ والتداول الثقافيّ. وهذا هو حال اللغة العربيّة التي سادت لفترةٍ طويلة كاللغة العقليّة لهذه المنطقة الحضاريّة.

فالفلاسفة، عربًا وغير عرب، الذين استعملوا اللغة العربيّة كأداة عقليّة لهم في التفكير والكتابة، كافحوا من جهة أولى لبناء معجم جديد بالعربيّة يمكن له أن يعبّر بدقّة عن الأفكار والمفاهيم الإغريقيّة، فضلًا عن أنّهم حاولوا من جهة أخرى ربط هذا المعجم بالتعاليم القرآنيّة. ومن ها هنا كانت الطبيعة الخصوصيّة جدًّا للمعاني العلاقيّة التي نمت حول المصطلحات القرآنيّة[15].

فلنعد إلى موضوعنا. أترك المقاربة اللغويّة المباشرة للجسد لصالح المعالجات الواردة في الملفّ[16]، وأقارب الجسد من باب النفس.

النفس، بحسب معجم ألفاظ القرآن الكريم، هي معنًى في الإنسان يوجّهه إلى أفعاله من الخير والشرّ[17]، أو معنًى به يكون التمييز والإدراك والإحساس بالمحيط، وهي، بَعْدُ، تقعُ موقعَ القلب والضمير، فتكون محلًّا للسرّ، وموطنًا للخاطر[18]. بيد أنّ النفس، على الأغلب، هي ذات الشيء وحقيقته[19]. ولا تعارض بين هذه المعاني. فحقيقة الشيء، إن كان لنا أن ندركها في الحدّ التامّ، هي مورد تمايزه عن حقائق الأشياء الأخرى، وإنّما تُسمّى بالحقيقة من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأهمّ. والنفس هي أثمن ما لدى ذوات النفوس. إذ النفس من النفاسة، “وهي رفعة الشيء وعظم مكانته”. وملاك نفاستها ناطقيَّتُها، أي كونها مدركة، لذاتها ولما سواها، وموجِّهة إلى مواطن الخير، لا أنّها مقصورة على العقلانيّة الأداتيّة.

وبما أنّ النفس هي حقيقة الإنسان، بالمعنى الذي مرّ، فإنّ كمال الإنسان الخاصّ يكون بكمال نفسه. وقد عرّف الحكماء كمال الشيء بأنّه صدور خاصّته عنه على أتمّ وجه[20]. والخاصّة، أو الفصل المقوّم، للإنسان هي نفسه الناطقة.

هل ينفي ذلك مدخليّة الجسد في كمال الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة، على وجه الدقّة، بين النفس والجسد؟

إنّ لحسم مسألة العلاقة بين النفس والجسد، ثمرة أخلاقيّة بالغة الأهمّيّة. فلقد درج عددٌ من علماء الأخلاق والفلاسفة، وبتأثيرٍ من مشارب فلسفيّة ودينيّة شتّى، على نفي أيّة مدخليّة للجسد في تعريف النفس، فجعلوه حقيقة مغايرة مستقلّة، تقف في إزاء حقيقةٍ أخرى مستقلّة هي النفس. ولهذا الأمر تبعاته حتّى عندما نتجاوز عنه لدواعٍ منهجيّة. إذ يصير الكمال عندها هو بنبذ الجسد، وربّما بمعاقبته، لأنّه مكمن الخطيئة والبُعد. وتنسحب هذه النظرة على التعاطي مع الدنيا لِما لا يخفى من كون الجسد (أي البدن العنصريّ الطبيعيّ) هو جزء الإنسان الممتدّ في الزمان والمكان، وبالتالي، المتّصل مع الدنيا. فتصير الدنيا مذمومةً في كلّ الأحوال، والحال أنّها مذمومة حينًا وممدوحة حينًا، والمِلاك في كلّ ذلك هو النفس الإنسانيّة في إقبالها على الدنيا وإدبارها عنها، وفي مرادها من ذا وذاك.

وإذا كان البدن هو جزء الذات الإنسانيّة، بل وجزؤها الممتدّ مع الطبيعة الخارجيّة، فهو حلقة الاتّصال بين الإنسان والعالم من حوله. وهذا ما ينبئ بمدخليّة للبدن ذات جنبة معرفيّة؛ فهل تنفكّ الحقيقة الإنسانيّة المعبَّر عنها بالنفس عن هذا البدن، أم هو جزؤها المشمول في كلّ إشارةٍ إليها؟ يقول الملّا صدرا: “إنّ نفسيّة النفس [هي] نحوُ وجودها الخاصّ الذي يلزمه الإضافة إلى البدن الطبيعيّ، وليست هذه الإضافة كإضافة الأشياء التي عرضت لها الإضافةُ بعد تمام وجودها وهويّتها”[21]. البدن، إذًا، هو بدنها، ولا تكون النفس بحالٍ دونما بدن، وإن كنا نحكي عن بدنٍ عنصريّ طبيعيّ هو لها في هذه النشأة – نُسمّيه الجسد – فإنّ لها في النشآت الأخرى بدنًا ملائمًا.

على هذا، فإنّني أصل إلى التعريف الوارد بحقّ النفس ولعلّه التعريف الجامع: النفسُ “جملةُ الإنسان، والجنى من الروح والجسد”[22]. بيد أنّ هذا التعريف لا يحول دون الوقوع في الالتباس حين الكلام على النفس، إذ يتعدّد المراد منها بحسب اختلاف الموارد. فكيف تكون النفس موردًا للذمّ في محلّ، وموردًا للمدح في آخر؟ أيكون للحقيقة الواحدة هذا النحو من التفاوت وهي بعد حقيقة واحدة؟

المورد الأوّل للالتباس يكمن في إشارتنا إلى الحقيقة الإنسانيّة المذكورة بتسميات شتّى، بلحاظ الحيثيّة التي نُقاربها من خلالها، وهذه الحيثيّات تُشير، في واقع الأمر، إلى أبعاد مختلفة للنفس. يقول الفيض الكاشاني:

وقد يُسمّى هذا الجوهر الملكوتيّ [النفس] بالروح لتوقّف حياة البدن عليه، وبالقلب لتقلّبه في الخواطر، وبالعقل لاكتسابه العلوم واتّصافه بالمدركات، وقد تستعمل هذه الألفاظ الأربعة [النفس والقلب والعقل والروح] في معانٍ أخر تُعرف بالقرائن[23].

بعبارةٍ فلسفيّة:

النفس تمام البدن؛ يحصل منها ومن المادّة نوع كامل جسمانيّ. وجوهر النفس باعتبار ربوبيّته للبدن يُسمّى روحًا، والبدن تجسُّدُ الروح وتجسُّمُه، ومظهرُه ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة [أي في هذه الدنيا][24].

أمّا مورد الالتباس الثاني فهو أنّ هذه النفس ليست قارّةً بغير حراك. فهي تشتدّ وتقوى وتتكامل في كلّ واحدٍ من أبعادها المذكورة. فمن حيث هي روح، فهي قد تشتدّ في روحانيّتها حتّى تصير أمر الله؛ ومن حيث هي قلب، فقد تخلو من كلّ خاطرٍ ما سوى الله، وتطهّر سرّها، فتكون عرشَ الرحمن؛ ومن حيث هي عقل، فقد تكتمل بالمعارف والعلوم لتصير عقلًا قدسيًّا، وعالمـًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ. فهل يمكن مقارنة النفوس الأمريّة، العرشيّة، القُدسيّة بالنفوس المنكوسة المـُخلِدةِ إلى الأرض، المكتفية بها؟

إنّ القسمة السالفة الذكر بين الذات والموضوع في الحيّز الأنطولوجيّ ولّدت القسمة بين الوقائع والقيم fact/value split في الحيّز الأخلاقيّ. باتت القيمة “تعبّر عن ردّ فعلنا الذاتيّ تجاه الموضوع من دون أن يكون للموضوع ارتباط واقعيّ بتوليد ردّ الفعل المذكور”[25]، فتساوت كلّ الأشياء. ومع “موت الذاتيّة” في حتميّات المسار الفلسفيّ المذكور ضاعت القيمة تمامًا. ومع ضمور القيم تتهافت الأسس الأخلاقيّة لانعدام القدرة على تأسيسها على عقلٍ أداتيّ منبتّ الصلة بالخارج. وتتهافت معه، بل وقبله، كلّ إمكانيّة لإقامة مجتمع إنسانيّ تواصليّ.

إن كان الدليل الأوّليّ [على الواقع] موجودًا في وعي الذات وحدها، فلن يكون ممكنًا أن نؤسّسَ انطلاقًا منه، وبنفس القيمة الحضوريّة، الواقعيّةَ المستقلّة للأشياء الأخرى. أضف إليه أنّ التواصل بين الذوات يصير مستحيلًا؛ إذ لو عرّفنا الأنا ego على أنّه الوعي، يصير جسدا الأنا ego والأنا الآخر alter ego عوائق أنطولوجيّة مزدوجة يستعصي تخطّيها. وليس هذا فحسب، بل يصير الجسد نفسه مشكلة: كيف نفسّر التعبير، إذ يظهر في الجسد، في الوقت الذي لا نجد له أثرًا، بأيّ نحو، في الخصائص الأنطولوجيّة للأجساد بما هي أجساد[26]؟

من هنا انصبّ نقدُ المعترضين على المسار الفلسفيّ المذكور على إيلاء الأولويّة للمجتمع بما هو بؤرة الهويّة الفرديّة، وأكثر ما توسّلوه في دخول هذا المدخل فهو التقصّي المتأنّي لدور اللغة في حياة الإنسان. باتت المهمّة بين أيدينا تقوم على

تجاوز المعتقدات الأنثروبولوجيّة الفاسدة [الرؤية إلى الإنسان القائمة على أساس الفصل بين الذات والموضوع] من خلال نقد – وتقويم – المباني المعرفيّة المتعلّقة بها، والتي لعبت دورًا كبيرًا في إيلائها [المعتقدات الأنثروبولوجيّة] رصيدًا لا تستحقّه. بعبارة أخرى، من خلال توضيح شروط القصديّة، نفهم أنفسنا أكثر بما نحن فواعل معرفيّة – وبالتالي كائنات لغويّة – ومن ثمّ نحرز فهمًا لعدد من الأسئلة الأنثروبولوجيّة التي تتأسّس عليها معتقداتنا الأخلاقيّة والروحيّة[27].

إنّ الإشارة الواردة إلى القصديّة قد تنحصر – في هذا السياق – باللغة، إلّا أنّ القصديّة في الإنسان تتجاوز كونها من خصائص فكره أو لغته، بل هي تشير إلى أنّه كائنٌ متجاوزٌ بكلّه، لا ينحصر في ذاته، بل يتخطّى إلى ما سواه تخطّي تفاعل وتكامل. أمّا الإشارة الأوسع إلى التغيّرات الأنثروبولوجيّة فتشير إلى ما بات كثير التداول في يومنا، ويُطلق عليه “الانعطافة الأنثروبولوجيّة” في ربطٍ له بالانعطافات الكبرى في تاريخ الفلسفة الحديث (الانعطافة المعرفيّة، الانعطافة اللغويّة، وغير ذلك). ويبدو أنّ كثرة الانعطافات ستعود بنا إلى المحلّ الأوّل. بيد أنّه من المعيب أن نصل إلى هناك دون أن نكون قد تعلّمنا واستفدنا من كلّ التجارب والإخفاقات.

إنّ الفكر الإسلاميّ مدعوّ اليوم، ومن موقع منهجه التوحيديّ الأرحب، إلى خوض هذا الغمار تأسيسًا على موقعيّة القيم منه، ومحوريّة المعنى عنده، إذ الروح هي المعنى. وكلّ تعاطٍ مع الإنسان يأخذه بمعزل عن تماهيه مع العالم ومع غاياته، ويريد أن يردّه إلى مكوّنات مادّيّة فيه، يستطيع من خلاله أن يؤطّره في معادلات رياضيّة، ويدرسه بحسب برامج حاسوبيّة، هو تعاطٍ لا يرى الحياة في الإنسان. والحياة لا تخلو من التعقيد، لا تخلو من تعدّد السياقات وتمازجها، واختلاف أدوار المكوّنات بحسب اختلاف السياقات[28]، كما لو أنّ الحياة نصٌّ لا قيوميّة فيه على المعنى إلّا لمرادات الناصّ وسياقات القراءة. بهذا اللحاظ ندرك المغزى ممّا ورد أعلاه بأنّ النفس معنى، إذ عنها تصدر أفعال الحياة، والجسد من حروفها، لا نفهمه إن عزلنا ما بين السطور، ولا نقبض عليه إن لم نقرّ للرمزيّات بغنى المعنى. إنّ الحياة لا تُفهم إن لم نمتلك قدرة لنؤوّل، وخيالًا لنتجاوز.

هذه تلميحات أكتفي بها لكي نظلّ في حدود افتتاحيّة – وهذا مطعون فيه – عسى أن تتمكّن المحجّة من تظهيرها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر،

  1. Ricœur, The Symbolism of Evil (New York: Harper & Row, 1969), p. 357.

بالطبع، نحن لا نرى، كذلك، أنّ ارتباط الفلسفة باللغة هو أقلّ وثاقة. انظر أدناه.

[2]

Ibid, p. 279; J. Ratzinger, Eschatology: Death and Eternal Life, tr. Michael Waldestein, 2nd ed. (Washington D.C.: The Catholic University of America Press, 1988), p.141.

الأسطورة الأورفيوسيّة معروفة إلى حدٍّ بعيد: يقوم الجبابرة (أو التياتنة Titans) بقتل الإله الطفل ديونيسوس، ويغلونه في قدر، ويأكلونه. وليعاقبهم، يرميهم زوس بالصواعق، ويخلق من رمادهم الجنس البشريّ. وهكذا، يُشارك الإنسان في الطبيعة الإلهيّة لديونيسوس، والطبيعة الشرّيرة للجبابرة.

[3] انظر، في هذا العدد، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتخطّي جدال العلم والدين”.

[4] انظر، مثلًا،

  1. D’Ancona, “Greek into Arabic: Neoplatonism in Translation”, in P. Adamson and R. C. Taylor, The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), pp. 10-31.

لوجهة النظر المغايرة،

  1. E. Karamanolis, Plato and Aristotle in Agreement? Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry (Oxford: Oxford University Press, 2006).

[5] المعنى الحرفيّ لكلمة سوما sôma – أي الجسد – اليونانيّة هو السجن، “[و]لا يلزم تغيير ولا حتّى حرف واحد في الكلمة”، كما يقول أفلاطون. أفلاطون، محاورة أفلاطون، ترجمة عزمي طه السيّد أحمد (عمّان: وزارة الثقافة، 1995)، الصفحة 125.

[6] انظر،

  1. Heidegger, What is a Thing? tr. W. B. Barton, Jr., and V. Deutsch, with an analysis by E. T. Gendlin (Chicago: Henry Regnery Co., 1967), p. 106. Original edition: M. Heidegger, Die Frage nach dem Ding (Tübingen: Max Niemeyer Verlag, 1962).

[7] انظر، في هذا العدد، أحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[8] بعبارة تشارلز تايلر: “المسألة كانت كما لو أنّهم تلقّوا وحيًا، قبليًّا a priori، بأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يجري بمقتضى الحساب الصوريّ. الآن، أنا أذعن بأنّ جذور هذا الوحي تضرب في أعماق حضارتنا [الحضارة الغربيّة] والنموذج الإبستمولوجيّ المرفق بها”. يُلمّح تايلر هنا إلى تكثّف البُعد العقلانيّ، بالمعنى الأداتيّ، في الفكر الغربيّ، ويُقدّم معالجةً طيّبة لهذه المسألة. وللمزيد حول هذه المسألة انظر، في هذا العدد، مقالة ألستر كروك “القيم الغربيّة: حكاية السيّد الذي أطاح به خادمه”. المقالة تستقي من كتابٍ لإيان ماكغيلكرايست يبيّن فيه أسبقيّة بُعدٍ معرفيّ، في الإنسان، قائم على القبض المباشر على الواقع، على بُعد يتوسّل الصور والتمثّلات [غير المباشرة] لمعرفة الواقع. وهذا هو محور النقد الذي تقدّم به نيتشه وهايدغر وآخرون للإبستمولوجيا التقليديّة إذ جعلوا الجمعيّة في الخارج في مقابل الذرّيّة، ورفضوا مقولة الذات المنفكّة لحساب الذات المنخرطة – “الكائن-في-العالم”. أمّا في الفلسفة الإسلاميّة، فقد قامت الإبستمولوجيا على الاعتراف بهذين النحوين من المعرفة، الحضوريّ والحصوليّ. انظر،

  1. Taylor, Philosophical Arguments (Harvard University Press, 1995), ch. 1 “Overcoming Epistemology”, p. 6; I. McGilchrist, The Master and his Emissary: The Divided Brain and the Making of the Western World (New Haven and London: Yale University Press, 2009); M. Hai’ri Yazdi, The Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence (New York: SUNY Press, 1992).

[9] انظر، في هذا العدد، جوزيف معلوف، “مفهوم الجسد عند موريس ميرلوبونتي”؛ أظنّ أنّ مفردة “جسم” أليق، كترجمة، من “جسد”. وأيضًا، وجيه قانصو، “الجسد في الفلسفة الوجوديّة”.

[10] انظر،

Eschatology, op. cit., pp. 108, 155-158.

[11]

Ibid, p. 149.

[12] الأب صبحي حموي اليسوعيّ، معجم الإيمان المسيحيّ، أعاد النظر فيه من الناحية المسكونيّة الأب جان كوربون، الطبعة 2 (بيروت: دار المشرق، 1998)، الصفحة 514.

[13] ابن سينا، الشفاء: المنطق، 1- المدخل، تصدير طه حسين، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأساتذة الأب قنواتي، محمود الخضيري، فؤاد الإهواني (القاهرة: وزارة المعارف العموميّة، 1953)، الصفحتان 22 و23. التسويد ليس في الأصل.

[14]

What is a Thing? Op. cit., p. 249.

[15] توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمّد الجهاد (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2007)، الصفحة 92.

[16] انظر، تحديدًا، شفيق جرادي، “ابن الطين وغسق الذات المجهولة”، وأحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[17] مجمع اللغة العربيّة (القاهرة)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الطبعة 2 (انتشارات ناصر خسرو، 1363 ش. ق.)، الجزء 2، الصفحة 709.

[18] المصدر نفسه. وقد وردت في الآيات القرآنيّة شواهد بكلّ هذه المعاني. على سبيل المثال: سورة البقرة، الآيتان 233 و281؛ سورة آل عمران، الآيتان 161 و185؛ سورة المائدة، الآيتان 32 و45؛ سورة يونس، الآيات 30، 54 و100؛ سورة الإسراء، الآية 33؛ سورة الكهف، الآية 15؛ سورة الأنبياء 47؛ سورة السجدة، الآيتان 13 و17، وغيرها.

[19] المصدر نفسه، الصفحة 710.

[20] الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ترجمه عن الفارسيّة ووضع الدراسات والتحليلات العلميّة الدكتور محمّد صادق فضل الله (بيروت: دار الهادي، 2008)، الصفحة 121.

[21] صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات، تقديم وتصحيح محمّد خواجوى (بيروت: دار الصفوة، 1993)، الصفحتان 145 و146. إنّ العمق الفلسفيّ لهذا الاستنتاج يكمن في القاعدة القائلة بأنّ النفس جسمانيّة الحدوث، روحانيّة البقاء. ولكن لا مجال لتفصيل القول في ذلك هنا.

[22] معجم ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 708.

[23] الفيض الكاشاني، الحقايق في محاسن الأخلاق، الطبعة 2 (بيروت: دار البلاغة، 2004)،  الصفحة 50.

[24] آية الله حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون [عيون مسائل النفس] (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1421 هـ. ق.)، الصفحة 13.

[25]

  1. McInerny, A Student’s Guide to Philosophy, with a bibliographical appendix by J. P. Hochschild (Delaware: Intercollegiate Studies Institute Books, 1999), p. 46.

[26] إدوارد نيكول، “العودة إلى المِتافيزيقا”، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2010)، العدد 21.

[27]

“Overcoming Epistemology”, op. cit., p. 14.

[28] انظر،

  1. Talbott, “What Do Organisms Mean?” The New Atlantis 31, Winter 2011.

إفتتاحية العدد 27

الطبيعة، إذًا، ملاك التوجّه، والـمَصيغة بمقتضياته[1]. ثمّ إنّ أفق التوجّه عند الإنسان يوازي الوجود على إطلاقه. فالإنسان بمثابة “النسخة المنتخبة” من كتاب الوجود[2]. هذا في مقابل الوجودات الأخرى التي لها حصّة وجوديّة منحصرة – إلّا أن تصير إنسانًا[3] – وهو قول الملائكة، على سبيل المثال، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[4]. والطبيعة “مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها[5] – أو على أساس مبدئها؛ لا فرق، إذ الوجهة والمبدأ يتقاطعان على موضوع واحد. وإذ تتأبّى الطبيعة السكون، فإنها تختار لها وجهةً تقصدها (وإلّا اختيرت لها وجهة)، وتتشبّه بها إذ تتحرّك نحوها.

لا يبدأ الإنسان حياته بتوجّهيّة مطلقة، بمعنى أنّه يستطيع أن يصير أيّ شيء. فهو ليس غير محتجب عن كلّ الوجهات المتاحة، وليس مطلق العنان في تشخيص الوجهة، أو تخيّرها، والثبات عليها. بل طبيعته قد تخصّصت بموجب ملاكات مولده في زمان ومكان معيّنَين، وكافّة الحيثيّات المرتبطة به (المولد)، بل السابقة عليه. وهذا منشأ ما يُطلق عليه “الطباع”. إذ لكلّ فرد طبعه الخاصّ الذي منه يشرع بتلمّس الوجهات، ويحاكمها على ضوء الحصّة التي أوتيها، والتي تتمثّل بقابليّات بدنيّة، وعقليّة، وخياليّة، وإراديّة، وشعوريّة محدّدة ابتداءً. إلّا أنّ التوجّهيّة المطلقة، الكامنة في الطبيعة الإنسانيّة الأصليّة، أي السابقة على كلّ تخصّص، تملك أن تهيّئ للإنسان أسباب تجاوز شروط الزمان والمكان، أو، إن شئت، تجاوز طبعه. وإذ يسلك الإنسان مساره الدنيويّ بموجب وجهة حُدِّدت له ابتداءً – ليس ثَمَّ من سبيل آخر[6] – فإنّه، شيئًا فشيئًا، يستعيد زمام وجهته، وإن ظلّ محكومًا للمقتضيات أو الملاكات الأولى – مع قدرته على محاكمتها، فتجاوُزِها، دومًا، وهذه القدرة تضمحلّ وتشتدّ بموجب خياراته وتصريفات إرادته. هنا، يقول الملّا صدرا الشيرازي: “إنّ القوى الفعليّة [في الإنسان] بعضها يحصل بالطباع [وقد عرفتَها]، وبعضها يحصل بالعادة [أي بتكرار أفاعيل غير مقصودة]، وبعضها يحصل بالصناعة [أي مع قصد ومزاولة]، وبعضها يحصل بالاتّفاق [أي جرّاء التقاطع مع نظام الطبيعة العامّ الذي يتّخذ الإنسان فيه موقعًا غير نهائيّ – وهذه اللا-نهائيّة نهائيّة[7] ما دام في مهلته الدنيويّة، فلا تستقرّ إلّا عند الموت الذي هو بمثابة نفاد هذه المهلة]”[8].

إلّا أنّ الأصل، في المسألة، امتلاك الإنسان خيار تحديد الوجهة. ولا أقول بانعدام الاختيار مطلقًا خارج الأفق الإنسانيّ. الأولى أن نتريّث. ولسنا مضطرّين، في سبيل تأكيد الخصوصيّة الإنسانيّة، أن نجعل قطيعةً بين الإنسان وباقي الموجودات. ولكن، بقول عامّ، فإنّ الإنسان يمتاز عن غيره بسعة أفق توجّهه، وبكونه صاحب قول – لا أقلّ – في تحديد الوجهة. أمّا المحكّ فهو الاختيار الصائب للوجهة. وإن كانت كلّ الموجودات متوجّهةً شطر الحقّ بفعل الخميرة المفعّلة لها، والكامنة فيها، أي الطبيعة بما هي مبدأ الحركة، فإنّ الإنسان يندرج في هذا المسار الحتميّ، بلحاظ زمنيّته، أو تزمّنه، ويجافيه – وإن إلى حين – بلحاظ اختياره. فعلاقة طبيعته الخاصّة مع الطبيعة بالعموم، أكثر جدلًا من علاقة الموجودات الأخرى، بطبائعها الخاصّة، مع الطبيعة العامّة، لمحلّ الإنسان من الوجود. فالطبيعة الإنسانيّة تختصر كلّ هذه الطبائع الخاصّة. ومتى تحقّقت في كمالها، فكأنّما كمال الوجود، أو الوجودات، قد تحقّق. وهذا، مرّةً ثانيةً، مغزى كون الإنسان – متى ما اكتمل في طبيعته – وجهَ الله. وهذا سرّ وجاهته عند الله، أي كونه مدخلًا إلى الله، تقف عند أعتابه كافّة مسارات كدح الموجودات إلى الله. وهذا معنى العالم الأصغر، والإنسان الكامل.

هذه، في العموم، هي المترتّبات على فهمنا للطبيعة البشريّة كما عرضنا له في الافتتاحيّة السابقة. ومع تخصيصنا عددين كاملين لموضوعة الطبيعة البشريّة، فإنّ الأسئلة، على ما يبدو، ليست بوارد أن تُشبَع بهذا المقدار، أو أضعافه، من المعالجة. ويبدو أن الأسلم هو حصر الأسئلة على أمل أن يظلّ، في العددين، ما يشكّل، أقلّه، مؤشّرًا لأيّ معالجة تصبو لأن تكون وافيةً. وقد ألمحتُ إلى مركزيّة الارتباط الأخلاقيّ بموضوعة الطبيعة البشريّة، وأريد، في المتيسّر من المساحة – ولعلّ القارئ يعذرني على ما اعتاده من التطويل – أن أردفه بتلميح آخر. كما أريد أن أعرض لإشكاليّة الاكتفاء بالطبيعة في تفسير الطبيعة. ومن هذه المسألة المعرفيّة أشرع، مؤخِّرًا المسألة الأخلاقيّة قليلًا لتقاطع بينهما.

يقرّر الملّا صدرا – انسجامًا مع قوله بالحركة في الجوهر، وبأنّ الحركة هي المتحرّكيّة، وأنّ الزمان مقدارها، لا علّتها – أنّ المبدأ القريب لأفاعيل النفس، وحركاتها المخصوصة، ليس أمرًا مفارقًا عن المادّة[9]، سواء أكانت الحركة طبيعيّةً، أو قسريّةً، أو إراديّةً[10]. وهذا المبدأ هو الطبيعة “التي بسببها يطلب الجسم بالحركة كمالاتها الثانية”[11]. وعليه، فللطبيعة كمالات ثانية مطيّتُها إليها المادّة (الجسم) التي انوجدت معها[12]. وبعد، فهي، لا سواها، سبب الطلب إيّاه، أي طلب الكمالات. وهذا معنى قولنا، مجدّدًا، هي ملاك التوجّه، والمصيغة بمقتضياته.

يتابع الفيلسوف قائلًا:

وكلّ ما يكون من لوازم وجود الشيء الخارجيّ فلم يتخلّل الجعل بينه وبين ذلك اللازم بحسب نحو وجوده الخارجيّ، فيكون وجود الحركة من العوارض التحليليّة لوجود فاعلها القريب؛ فالفاعل القريب للحركة لا بدّ أن يكون ثابت الماهيّة متجدّد الوجود. وستعلم أنّ العلّة القريبة في كلّ نوع من الحركة ليست إلّا الطبيعة، وهي جوهر يتقوّم به الجسم، ويتحصّل به نوعًا، وهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ من حيث هو بالفعل موجود[13].

النصّ، بالتالي، يجعل تمييزًا بين نحو الوجود الخارجيّ ونحو الوجود الذهنيّ (التحليليّ). وحيث المتحرّك ومبدؤه واحد في الخارج، بمقتضى جعل واحد، فإنّ الذهن يحلّل هذه الوحدة، وهي سيّالة متحرّكة في الخارج، إلى مبدإ ومتحرّك ثابتَين، وهكذا تكون الماهيّات على أيّ حال. هذا لا يعني أنّ الطبيعة ليس لها نحو ثبات في الخارج، بل “ثبات الطبيعة الكائنة في الأجسام هو عين تجدّدها الذاتيّ”[14]، تماما كما أنّ العدد واحد في عين أنّه كثير، كما يمثّل الملّا صدرا في محلّ آخر. وهذا الثبات هو ما يهبها هويّةً، أي استقرارًا، إلّا أنّ الملّا صدرا يصف هذه الهويّة بالمتراخية، أو التدريجيّة[15]، إذ تتعاقب عليها الصور بفعل حركتها المطّردة نحو وجهتها، فتصبغها بأطياف من الهويّة. ولا تفاوت في الأمر بين الحركة القسريّة، التي تعمّ الكائنات، والحركة الاختياريّة، التي يتفرّد الكائن البشريّ بها – أو بمرتبتها الخاصّة، إذا ما توخّينا الدقّة. إذًا، الهويّة الإنسانيّة هويّة ما فتأت في طور الإنشاء؛ تزداد وتغيض، تشتدّ وتضعف. لذا كانت، على الدوام، مورد إقلاق للمنهج الفلسفيّ الذي يريد أن يحسم أمرها، مرّةً وللأبد، في توقه المفرط إلى اليقين البتّيّ.

وكملاحظة أخيرة على النصّ، فإنّنا عندما نلاحظ الطبيعة في حيثيّة ثباتها فهي عينها النفس؛ “النفس من حيث ذاتها [فهي] العقليّة [عقليّة]، وأمّا من حيث تعلّقها بالجسم فهي عين الطبيعة”[16]. ولا تكون النفس مبدأً للحركة – إذ لا بدّ لمبدإ الحركة القريب أن يكون متحرّكًا – إلّا باستخدام الطبيعة[17]. ولذا كان تعريف الشيرازي للطبيعة هو عينه التعريف المشهور للنفس[18].

ما ينتابني من سؤال، في هذا الموضع، يتّصل بتداعيات القول بعدم كون مبدإ الحركة (القريب) مفارقًا. فإذا كان مبدأ فاعليّة الطبيعة، أي ملاك الحركة، والتوجّه، وتلمّس المقصد، متضمَّنًا في الطبيعة إيّاها، فهل تكتفي بذاتها، وتنفكّ عن كلّ مفارق؟ هل إنّ القول بمبدإ قريب للحركة، غير مفارق، يجذم الحاجة إلى القول بمبدإ مفارق، أو بمحرّك أوّل متنزّه عن طروء الحركة والحدثان؟

لا ريب أنّ مبنى الملّا صدرا الفلسفيّ يقدّم منظورًا استثنائيًّا فيما خصّ هذه الموضوعات، وما شاكلها. ولعلّنا لم نتوافر بعد على الأدوات التي تمكّننا من تعهّده، بما يليق، لشدّة ما يخالف حدوسنا المشحوذة برؤًى للعالم أسبغتها علينا فلسفات الجوهرانيّة الحادّة والثنائيّات المتصلّبة. فالطبيعة عنده سارية متحوّلة، والأكوان الجوهريّة متجدّدة، والكلّ عنده وجود واحد، متّصل، مترتّب، متصاعد، تدلّ وحدته الجمعيّة على وحدته الشخصيّة. ولقد ولدّ هذا الاعتراف المتأخّر بقابليّات الطبيعة الخلّاقة إحراجًا كبيرًا للبنى الفلسفيّة واللاهوتيّة التقليديّة، وأغرى التيّارات اللاحقة، التي قامت على القطيعة والاختزال والاجتزاء، بحصر الواقع في الطبيعة، والاقتصار عليها لفهم الواقع وتفسيره.

ولذا تطغى الطبيعانيّة naturalism على المشهد الفلسفيّ الراهن. إنّها بمثابة ترويض للوضعيّة، وتطوير لها، مع عدم مخالفتها لها في مسبقاتها الأساسيّة (أصالة المادّة، وما يتفرّع عنها). وهي، بعد، بمثابة الأيديولوجيا الحاكمة في الفلسفة التحليليّة اليوم[19]، وإن تمظهرت المسبقات المذكورة في غير شكل فلسفيّ. للطبيعانيّة جذورها القديمة، بالطبع، لكنّ مقالة كواين “طبعنة الإبستمولوجيا”[20] قد مثّلت محطّة تزخيم بارزة للتيّار الطبيعانيّ – خاصّةً على ضوء مركزيّة الإبستمولوجيا المستجدّة – ولمشاريع الطبعنة التي اكتسحت مجالات نظريّة المعرفة، والمِتافيزيقا، وفلسفة الذهن، ونظريّة المعنى، والفلسفة الأخلاقيّة[21].

تقوم الطبيعانيّة على (1) القول بإغلاق العالم سببيًّا، واكتفاء المادّة بذاتها، وعلى (2) الالتزام بـ”المنهج العلميّ” كمصدر وحيد للمعرفة. وبالتالي، فالعلم (الوضعيّ) لا ينتج المعرفة فحسب، بل يوفّر الأساس (المتافيزيقيّ؟) لها. ويكمن السبيل إلى ذلك في استقراء عمليّة إنتاج المعرفة العلميّة، ومحاكاتها من ثمّ. ولهذه الغاية، ينبغي اختيار حقل علميّ تكون لها حظوة خاصّة – كما فعل كواين مع علم النفس (السلوكيّ)، أو كما حصل مع العلوم الإدراكيّة العصبيّة ونظريّة التطوّر لاحقًا – فنستقرئ آليّاته الداخليّة، لنستنبط منها أحكامًا تبرّر الإنتاج المعرفيّ في حقول أخرى. الهاجس هنا هو تبرير المعرفة على أنّها علميّة؛ فـ”لقد طغى على الإبستمولوجيا[22] الحديثة مفهوم واحد، التبرير، وسؤالان تأسيسيّان يرتبطان به: ما هي الشروط التي تبرّر قبول اعتقاد [معرفيّ] ما على أنّه صادق؟ وأيّ الاعتقادات مبرَّرٌ لنا قبوله في الأصل؟”[23] – إنّه الإرث الديكارتيّ (ديكارت مجدّدًا[24]). وعليه، فما تنهض به الطبيعانيّة هو “صوغ شروط تبرير الاعتقاد على أساس وصفيّ، أو طبيعانيّ، حصرًا، دونما لجوء إلى أيّ أسس تقييميّة، أو معياريّة، سواء أكانت هذه الأسس إبستمولوجيّةً [الماقبليّات a priori مثلًا] أو ما سوى ذلك”[25].

إلّا أنّ معاداة المعياريّة، الصارخة في المقاربة الطبيعانيّة، تسلبنا كلّ سند معرفيّ، ولات حين فلسفة. هذا ناهيك بمشكلة الدور الواضحة (كيف نستخرج من علم ما، علم النفس مثلًا، الضوابط التي نحاكم على أساسها العلم إيّاه؟)، التي تلفّت لها كواين نفسه، ولم يجد لها حلًّا سوى تجاهلها[26]. بأيّ الأحوال، تصدر أغلب الاعتراضات على الطبيعانيّة من مشارب تتشارك وإيّاها عددًا من المسبقات (حول أصالة المادّة، وانحصار الواقع بها)، ولا نراها جذريّةً بما يكفي. ما تفتقر إليه كلّ التفسيرات المادّيّة هو غياب المعنى. فالتحليل (العلميّ) قد يصل بنا إلى توثيق كلّ ما يندرج في العالم المادّيّ، لكنّه لا يخبر شيئًا عن سرّ اندراجه، أو عن مغزى وجوده. ثمّ هو أعمًى فيما خصّ الوجهات التي تتّخذها هذه الموجودات. كيف أمكن لنا أن نفرّط في العلل الغائيّة، أو أن نرى تفسيرًا بالعلّة المادّيّة مفصولًا عنها؟ إنّ أيّ سؤال عن التركيب المخصوص، فلنقل، لكرسيّ ما يستدعي إجاباتين. أولاهما يفسِّر بالموادّ والإعداد، أي بـ”كيف” صنع النجّار الكرسيّ المذكور. والتفاصيل، هنا، لا حدّ لها. أمّا ثانيهما فبسيط، لعلّه يتّخذ صيغةً من قبيل “كيما نستطيع أن نجلس عليه!”. إنّ التفسير بالثاني يسبغ المعنى على التفسير الأوّل ويقوّمه. والسبب في ذلك أنّه تفسير بوجه الخير في الأشياء، أو تفسير بالغاية منها.

وهكذا في حالة العالم. ثمّة، في كلّ شيء، وفي العالم بالجملة، وجه خير يتحرّك نحوه. ما في العالم المادّيّ يشير إليه، ولكنّنا اتّخذنا قرارًا بعدم تلقّف الإشارات. فأيّ إخلال بالإغلاق السببيّ للعالم يوهن قبضة العقل الأداتيّ[27]، ويوحي بتفلّت الأمور من عقالها، والانفتاح على عالم من التفاسير الغيبيّة والخرافيّة.

وثَمَّ، من ناحية ثانية، الخطر المقابل، بأن ننغمس في عالم الغيب، ولا نرى في الطبيعة إلّا أثرًا هابطًا نتعوّذ منه. ففي الحالة الأولى، ليس الإنسان إلّا غريبًا، سقط في هذا العالم (سهوًا؟). أمّا في الحالة الثانية، فلا يعدو كونه إحدى تنويعات المادّة وقد تركّبت اتّفاقًا. إنّه الحَوَل، كما كان ابن العربيّ ليسمّيه[28]. ولا نتفاداه إلّا بأن نعضد التفسير الطبيعيّ، الذي يسلك من أسفل إلى أعلى بمعنًى ما، بتفسير يسلك من أعلى إلى أسفل، أي من الغاية إلى المغيّى. وما دمنا نغرف من عند الملّا صدرا، فإنّه يُطلق على هذا النظام السببيّ، السالك من الغاية إلى المترتّبات عليها، اسم “العناية”، أو، بالأحرى، “الفعل بالعناية”. والعناية عنده اسم لأعلى مراتب العلم الإلهيّ – “العلم بالأشياء التي [الذي] هو عين ذاته المقدّسة”[29] – حيث الإجمال في عين التفصيل، والتفصيل في عين الإجمال[30]. والله، عنده، فاعل بالعناية، أي “يتبع فعلُهُ علمَه بوجه الخير، بحسب نفس الأمر، ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيًا لصدوره عنه، من غير قصد زائد على العلم”[31]، وإلّا طُعن في صرافة الذات الإلهيّة. ويعبّر، في الأسفار، كما يلي: “ومنها [أقسام الفاعل] الفاعل بالعناية، وهو الذي منشأ فاعليّته، وعلّة صدور الفعل عنه، والداعي له على الصدور، مجرّد علمه بنظام الفعل والجود لا غير من الأمور الزائدة على نفس العلم”[32].

الآن، تنفتح المسألة على أفق واسع بالفعل، وتحتمل نقاشًا حادًّا وكثير التفرّع، ولكنّني سأكتفي بملاحظات عامّة – كي لا تكون هذه أطول الافتتاحيّات التي كُتبت (!) – تتجاوز الأفق الذي انفسح أمامنا. وسيكون لنا مجال لطرق المسألة في محلّ آخر[33]، خصوصًا على ضوء اعتراضات العلّامة الطباطبائي، وعلى ضوء تفضيل الملّا صدرا القول بكون الله فاعلًا بالعناية على كونه فاعلًا بالرضا، أي كون “علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، سببًا لوجود الأشياء”[34]. وهذا ما يعني أنّ الله يتوجّه – أقولها بشيء من التسامح – في خلقه العالمَ إلى وجه الخير في العالم، لا إلى ذاته، وإن انتفى التعارض بين الأمرَين من حيثيّة معيّنة، إلّا أن اختلاف زاوية النظر يوجب اختلافًا في المنظور إليه، وله بالغ الأثر فيما خصّ فهمنا للعالم.

ثمّ إنّ المفردة بحدّ ذاتها تنمّ عن علاقة بالعالم هي أبعد الأشياء عن أن تكون ميكانيكيّةً؛ بل قوامها الحبّ الأوّل الذي سرى، من ثمّ، في كلّ ثنايا الوجود. هو الذي أعطى الطبيعة فعاليّتها، وحرّك كوامنها، وأرسى نظامها، وأسبغ المعنى على توجّهيّتها، فكيف يتعارض معها؟ وهذا مغزى إشارتنا في العدد السابق[35] إلى عدم تعارض الأنطولوجيا والأخلاق، والدعوة إلى أخلاق تأسيسيّة تعيننا على فهم العالم وعَيْشِه. فعناية الله، بالعالم وبأشيائه، تعطيه (أي العالم) صبغةً أخلاقيّة لازمة. فالعالم قد بات متقوّمًا بمقولةٍ (العناية) هي أخلاقيّة، اكتماليّة، في صميمها.

وكما أنّ صدور العناية والمعنى عن جذر واحد قد فتح لنا مجالًا للتفكّر في تشكّل العالم سببيًّا بالصورة التي ذكرناها – إذ اللغة، في العالم، مخزون الإشارات إلى مكنوناته – فإنّنا، كذلك، لا نرى سبيلًا إلى المعنى، إلى الفهم والعيش، خارجًا عن المعاناة. إنّها مكابدة الوجد، واحتمال الألم، كي لا تخمد جذوة التسآل، وتنطفىء جمرة الكدح إلى الحقّ. إنّها روح فلسفة البلاء – {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}[36] – التي تصدر عن عالم متقوّم أخلاقيًّا، لا تسلبه الشرورُ المتفشّيةُ المعنى، بل تجعل المعنى ممكنًا بالمعاناة.

بأيّ الأحوال، تولي المحجّة هذا الارتباط الأخلاقيّ اهتمامها في العددين القادمَين (حول الفلسفة الأخلاقيّة [العدد 28]، ونظريّة القيم [العدد 29])، ولا بأس بإعادة طرح بعض الأسئلة التقليديّة بنَفَس جديد.

مع العدد

ينظر شفيق جرادي في رمزيّة الطبيعة الإنسانيّة التي، لبرزخيّتها، بمعنى استجماعها المعنى الكلّيّ والاشتغال الجزئيّ، تعمر الأرض، وتصوغ التاريخ، بمسؤوليّة الاستخلاف الآدميّ. ويدرس حسن بدران ما يعتبره الطبيعة المعلَّقة في الإنسان، التي تمتلك في فطرتها بذور تفعيل حقيقتها، وإقامة وجهها.

أمّا نادر البزري، فيتقدّم، مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة، بقراءة فنمنولوجيّة لفعل الآخر في الذات ومديونيّتها لها. ويقرأ فادي عبد النور في منظومة اللاهوتيّ هانز أُرس فون بالتازار، مستفيدًا من إشاراته حول الله والغشتلت والسرّ، ليتقدّم بمعالجة، للطبيعة الإنسانيّة، ما-وراء-مفهوميّة. وفي ورقته، يدعو حسن جابر إلى إعادة النظر في الاجتماع السياسيّ، عند المسلمين، على ضوء المقاصد القرآنيّة التي التفتت إلى تركّب المسار التكامليّ الإنسانيّ على المستويين المادّيّ والمعنويّ.

ويعرض أنطوان فليفل للاهوت رودلف بولتمان الذي يقول بعدم توافر الطبيعة الإنسانيّة على ما يصل بها إلى معرفة الله، سواء من خلال التفكّر في التاريخ أو الطبيعة، إلّا أن يأتيها الوحي من خارج. أمّا أحمد ماجد فيدرس المنظور الهندوسيّ، على تنوّعه، إلى الطبيعة البشريّة التي باتت تعاني الابتعاد عن أصلها. وفي سياق غير متّصل، وإن تشارك الهواجس إيّاها، تقرأ وفاء شعبان محاولة يورغن هابرماس استعادة الطبيعة الإنسانيّة من ربقة العقل الأداتيّ من خلال ما يسمّيه أخلاقيّات المناقشة. وفي ختام الملّف، نقدّم ترجمةً للنقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين التاريخ واللغة والعلوم والسياسة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما.

كما يشتمل العدد على الورقتَين اللتين قدّمهما كلّ من شفيق جرادي وجورج خضر في ندوة مشتركة بين معهد المعارف الحكميّة وبرنامج أنيس المقدسيّ للآداب في الجامعة الأميركيّة حول مفهومَي – أو لعلّهما مفهوم واحد – الصبغة والمعموديّة في الإسلام والمسيحيّة.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر، محمود يونس، “الافتتاحيّة”، مجلّة المحجّة 26 [العدد السابق، “الطبيعة البشريّة (1)”] (شتاء-ربيع 2013): الصفحات 3 إلى 9. والتوجّه، كما مرّ هناك، فعل مستمرّ، ومتحرّك باتّجاه الوجهة دومًا.

[2] “قليل لفظه، مستوفًى معناه”؛ صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق جلال الدين الآشتياني (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1419ه)، الصفحة 119.

[3] أي أن تصير حقيقتها إنسانيّةً، بمعنى صيرورتها مظهرًا للأسماء الإلهيّة على حدّ الاستواء؛ انظر، “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق..

[4] سورة الصافّات، الآية 164.

[5] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق، الصفحة 6؛ التشديد في الأصل.

[6] أضف إلى ذلك أنّه كائن اجتماعيّ، يحتكم إلى ملاكات مجتمعيّة يتلقّاها، ويفعل فيها فيلقيها إلى من وراءه. ومن هنا، تكون التربية غايةً في الأهمّيّة، وكذلك السياسة بما هي كدح نحو توفير الشروط المجتمعيّة الأمثل لتفعيل قابليّات الإنسان بما ينسجم وحقيقته.

[7] وهذا ما يجعل وجود الإنسان معلّقًا بنحو ما؛ حول الطبيعة المعلّقة، انظر، في هذا العدد، حسن بدران، الإنسان من خلال الطبيعة والشخص والفطرة.

[8] صدر الدين محمّد الشيرازي (1050 ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، الطبعة 4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1990)، الجزء 3، الصفحة 17.

[9] المصدر نفسه، الصفحة 48. وهذه هي حال الطبائع الأخرى سوى الإنسانيّة. فعلّة حركتها متضمَّنة في داخلها. بمعنًى آخر، لم تُجعل الطبيعة، ثمّ كانت لها الحركة بجعل ثان. فلمّا كانت الحركة من ذاتيّات الطبيعة، والجعل لا يتخلّل بين الشيء وذاتيّاته، فإنّ الجعل هاهنا واحد؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحتان 39 و40.

[10] المصدر نفسه، الصفحة 64.

[11] المصدر نفسه، الصفحة 49.

[12] ولا أقول انوجدت فيها، إذ النفوس الإنسانيّة “ليس وجودها في المادّة، ولكن مع المادّة”؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحة 55. والمسألة أكثر تطلّبًا من أن نَرِدَها هنا.

[13] المصدر نفسه، الصفحتان 61 و62.

[14] المصدر نفسه، الصفحة 63.

[15] المصدر نفسه، الصفحة 127.

[16] المصدر نفسه، الصفحة 66.

[17] المصدر نفسه، الصفحة 65.

[18] “النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة”؛ انظر، مثلًا، حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون (قم: دفتر تبليغات، 1421ه)، الصفحة 11.

[19] J. Kim, “The American Origins of Philosophical Naturalism,” J. Phil. Res. 28 (2003): 83-98.

[20] See, W. V. O. Quine, “Epistemology Naturalized,” in Epistemology, An Anthology (Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2000), pp. 292-300.

[21] “The American Origins of Philosophical Naturalism,” op. cit; S. Luper, “Naturalized Epistemology,” in E. Craig (ed.), The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy (New York: Routledge, 2005), p. 721; D. W. Hands, Reflection Without Rules: Economic Methodology And Contemporary Science Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 2001), ch. 4.

حتّى ابن سينا لم يسلم من الطبعنة؛ انظر،

  1. McGinnis, “Avicenna’s Naturalized Epistemology and Scientific Method,” in S. Rahman, T. Street, and H. Tahiri (eds.), The Unity of Science in the Arabic Tradition (Springer Science+Business Media B.V, 2008), pp. 129-152.

[22] ثَمَّ فارق بين نظريّة المعرفة والإبستمولوجيا لا يبيح استعمال المفردة محلّ الأخرة، أو ترجمة الثانية إلى الأولى. ففي حين تعالج نظريّة المعرفة سؤال “كيف نعرف”، أو “كيف تُطابق معارفنا العالمَ”، فإنّ الإبستمولوجيا تدرس شروط صيرورة معرفة ما علميّةً (بالمعنى الوضعيّ، أو الطبيعيّ). هذا، وقد راج استعمالها في السياق الفرنسيّ بمعنى دراسة الشروط التاريخيّة التي بموجبها تصير الأشياء غرضًا للمعرفة. انظر، مثلًا،

  1. J. Rheinberger, On Historicizing Epistemology, An Essay, trans. D. Fernbach (Stanford: Stanford University Press, 2010), p. 2.

[23] J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” in Epistemology, An Anthology, op. cit., p. 301.

[24] لا نريد أن نلوم ديكارت على كلّ مصائب الفلسفة الحديثة. بل كلامنا على الديكارتيّة بما هي وجهة عامّة حسمت الأسئلة الأساسيّة، وفرضت حدود المنهج العامّة، فطبعت الاشتغال الفلسفيّ بطابع محدّد: “الأجندة الإبستمولوجيّة الديكارتيّة هي الأجندة الحاكمة في الإبستمولوجيا الغربيّة إلى يومنا”. هذا علمًا أنّ الإبستمولوجيا، بعد النقلة الديكارتيّة، تبوّأت محلّ الفلسفة الأولى (Ibid.). ولعلّ ديكارت لم يكن – بهذا الاعتبار – ديكارتيًّا أصلًا.

[25] Ibid.

[26] See, J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” op. cit., pp. 301-13; H. Putnam, “Why Reason Can’t Be Naturalized,” in Epistemology, An Anthology, op. cit., pp. 314-24; A. Corraldini, S. Galvan and E. J. Lowe (eds.), Analytic Philosophy without Naturalism (London and New York: Routledge, 2006), intro.; W. L. Craig and J. P. Moreland (eds.), Naturalism, A Critical Analysis (London and New York: Routledge, 2000); J. Beilby (ed.), Naturalism Defeated? (New York: Cornell University Press, 2002).

[27] تجد في الافتتاحيّة السابقة (العدد 26) إشارات نقديّة كافيّة لمركزيّة العقل الأداتيّ، وشبق الصبو إلى اليقين البتّيّ. فالأحرى ألّا أعاود الكلام عليه.

[28] انظر، توشيهيكو إيزوتسو، البنية الأساسيّة للتفكير المتافيزيقيّ في الإسلام، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة 21 (صيف – خريف 2010): الصفحات 141 إلى 163.

[29] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 91.

[30] هذا جريًا على عادته في اعتبار العلم شأنًا وجوديًّا، وإطلاق أحكام الوجود عليه. فالوجود، عند الملّا صدرا، في أعلى مراتبه، كثير في عين أنّه واحد، وواحد في عين أنّه كثير. “اعلم أنّ العلم مثل الوجود، لا يدخل تحت مقولة من المقولات وهو حقيقة واحدة، وله درجات متفاوتة، متفاضلة؛ في مرتبة يكون علمًا بكلّ شيء، غير مشوب بالعدم، [و]في مرتبة يكون علمًا بشيء وجهلًا بشيء آخر. ولـمّا كان ذاته تعالى وجودَ كلّ شيء على النحو الأتمّ، فهو علم بكلّ شيء من دون شوبه بالجهل، وكان ذاته علمًا تفصيليًّا بكلّ شيء، على نحو لا يشذّ عن حيطة علمه ذرّة، فحضور ذاته لذاته علم إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ”؛ المظاهر الإلهيّة، الصفحة 89، الهامش 3 (تعليقة الآشتياني).

[31] المصدر نفسه، الصفحتان 100 و101؛ التشديد ليس في الأصل.

[32] الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 12، التشديد ليس في الأصل.

[33] انظر،

  1. Youness, “The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part II: Care and Meaning,” Theological Review, forthcoming.

وهي الجزء الثاني من  عملنا على نظريّة التطوّر:

“The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part I: Against Parsimony,” Theological Review 33 (2): 107-134.

[34] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 101.

[35] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق.

[36] انظر، سورة البقرة، الآية 155؛ سورة محمّد، الآية 31.

إفتتاحية العدد 26

الافتتاحيّة_العدد 26

افتتاحيّة العدد

تمخّضت النقلة الديكارتيّة عن ثلاثة آثار رئيسة[1] – أو لعلّها كرّستها. وقد  كان لهذه الآثار مجتمعةً وقعها البالغ على فهم الطبيعة البشريّة وتعريف الإنسان. فالارتكاسة إلى الذات غرّبت العالَم، أو قُل اغتربت الذات، حتّى كأنّها اكتفت بذاتها عالَمًا نهائيًّا. ثمّ هي في عالمها الجديد، الذي رمت فيه الكفاية والاستغناء – بالمقدار الذي تشرع منه نحو كلّ آخر (وفي داخلها وخارجها آخرون) – تماهت مع البعد العقليّ فيه، فهو وحده ما تثبّتت منه. وكلّ بعد آخر فهو يحتاج في (إثبات) واقعيّته إلى إجازة من العقل إيّاه، وإلّا كان، في أحسن أحواله، صنيعةً مرحليّةً من صنائع هذا العقل في مساره التطوّريّ. وبعض الصنائع، التي تستقي وجودها من العقل إيّاه – هكذا هي السرديّة – اشتدّت في مفاعيلها حتّى باتت تنافسه. وبات تحدّيه يكمن في إثباته ذاتَه (أو أنّه تمام الذات) في إزاء منافساتِه على استحواذ الإنسان. وهو يفعل ذلك بالعودة إلى صفائه، بالخلوص من كلّ شائبة، وباكتناه حقيقته التي ما فتئت تتجلّى في غواشي من الخوالط. هو العقل المستقلّ بذاته، المستغني عن كلّ ما سواه، الواضح عند نفسه، والذي يحقّق نفسه في التجريد، وفي إبداعات التقانة.

خطوات النقلة، إذًا، هي كما يلي:

  1. العقل، أو الفكر، دليل على الذات، وعلى كلّ ما سواها بالتبع؛
  2. الذات تتماهى مع هذا العقل؛
  3. حقيقة هذا العقل أنّه أداتيّ، يعبّر عن نفسه بإبداع الصنائع واستعمالها (وللصنائع التقنيّة، حتّى في حيّز الفنّ، خصوصيّة بالغة في هذا الصدد)، مع نزوع نحو التجريد هروبًا من ملابِسات الجسم، أو العالَم، أو ما سوى العقل.

وفي واقع الحال، فإنّ ثَمَّ أثرًا رابعًا له محوريّته على المستوى المجتمعيّ. إذ فردانيّة الإنسان اتّخذت لها، هنا، تأسيسًا أنطولوجيًّا وطيدًا. بعبارة ثانية، باتت طبيعة الإنسان تؤخذ بمعزل عن جمعيّته، أو علاقته بالجماعة، إذ هذه الأخيرة لا تعدو كونها شأنًا طارئًا. وهذا تداع واضح لانسلاخ الإنسان عن الطبيعة الخارجيّة، أو جعله الخارجَ (الآخر الإنسانيّ ضمنًا) في إزاء الذات، وسيشكّل مقدّمةً، كما سنرى، لنبذ الطبيعة الإنسانيّة نفسها.

وإذا ما كان موقع الإنسان من نظريّة بعينها يتحدّد بمقتضى المثال الأعلى الذي تجعله لنفسها، فإنّ النقلة الديكارتيّة تتموضع في إطار النظريّات التي احتكمت إلى مثال أعلى عقلانيّ – بالمعنى الذي مرّ. وما يعنينا هنا هو، أوّلًا، ما يرتبط بـ”تعريف” الطبيعة البشريّة بمقتضى ذلك، وثانيًا، ما يرتبط بأدوات معرفة الطبيعة البشريّة بعد انتقالنا إلى عالم معرفيّ مغاير تمامًا. وهذا ليس بمنفكّ عن المسألة الأولى، فقد كانت تجزئة العلوم مقدّمةً لتشظية الذات الإنسانيّة بحيث تضمحلّ الطبيعة مع اضمحلال كلّ ما يعطي الذات تماسكها. ومن هنا، كان أن قامت بعض التيّارات الفلسفيّة التي تندرج في مفاعيل النقلة الديكارتيّة برفض أن يكون للإنسان طبيعة ثابتة، إذ الثبات تقييد يُخلّ بالمعياريّة المطلقة التي جُعلت للحرّيّة، من ناحية، وفيه “شائبة” الإلهيّ، من أخرى. ولا يخفى أنّ الارتياب بهذه “الشائبة” يحرّك حقولًا معرفيّةً بكاملها.

لقد ولّد تعريف الجسد والنفس على أنّهما جوهران في الفلسفة القديمة ضرورة السؤال عن العلاقة بينهما. وإذ احتدّت هذه الجوهرانيّة مع النقلة الديكارتيّة، بات لزامًا إقصاء أحدهما لصالح الآخر، لِتضعضع السؤال عن العلاقة إلى حدّ بات معه لغوًا. وتاريخ الفلسفة بعد ديكارت، بأغلبه، تسويغ لأيّ الإقصاءَين.

إنّها لجوهرانيّة حادّة بالفعل. والجوهرانيّة الحادّة تفاقم التشييء، بخلاف الجوهرانيّة الليّنة التي تحفظ الهويّات الشخصيّة، مع خصوصيّاتها، من غير أن تحول دون سيرورة الأشياء وتفاعلها وتولّدها. بل لا كلام هنا عن أشياء. كلامنا، في واقع الأمر، ينصبّ على لحاظات وحيثيّات[2]؛ أي لحاظات وحيثيّات خاصّة بالطبيعة إيّاها. فهل الطبيعة جوهر سيّال أم جوهر صلب – إن كان ثَمَّ من جواهر صلبة؟ ماذا عن خصوصيّاتها ولوازمها؟ هل من خصوصيّات لازمة؟ وكيف تحفظ هذه اللوازم الهويّة؟ أصلًا، ما العلاقة بين الهويّة والطبيعة؟

على ما في هذه الأسئلة من همّ أنطولوجيّ، فإنّني أجدني مأخوذًا بأبعادها الأخلاقيّة – بالمعنى التأسيسيّ للأخلاق. وسيتّضح لك ما أريد. وإذ أتحرّر، شيئًا ما، من الالتزام بإجابات – في استغلال (صارخ كما العادة؟) لمساحة الافتتاحيّة – فإنّ المحفّز على تكثيف السؤال هو السؤال عينه. إذ الطبيعة مبعث على السؤال، بل لعلّ السؤال أكثر أشيائها ذاتيّةً. و”السؤال المهاجر”[3] أبلغ فعلًا في الإنسان من اليقين البتّيّ. فلنلاحق الطبيعة في أسئلتها. فإنّها مصيغة بخليط من التقييد والإطلاق، من ثوابت ومن مغادِرات. فما هو الثابت، وما الذي يغادر؟ أو ما الذي يلزم، وما الذي ينزع نحو المغادرة؟ وماذا يترتّب على المغادرة؟ هل الذات، في الطبيعة، تنحصر بما لا بدّ له أن يلزم، أم إنّ الذات – حتّى الذات – من السيولة بحيث لا يضيرها لو غادرها ما كان، في وقت من الأوقات، ذاتيَّها؟ فما مساحة الحركة فيها؟

ولعلّ الثابت في الطبيعة الإنسانيّة أنّها سيّالة، متحرّكة؛ يقول الملّا صدرا:

النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، ولا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة والنفسيّة والعقليّة التي كلّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات ودرجات متفاوتة، وما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته، وعسر فهم هويّته[4].

فإذا كان الإنسان أكثر الأشياء حركةً، هل نستغني فيه عن بُعد إلهيّ؟

من الواضح أنّ للإنسان خصوصيّة. فهو (أوّلًا) في حركته، قادر على تفعيل ذاته، وفي غير اتّجاه؛ إنّ الإنسان إذا ما استشعر في نفسه نزوعَين، هما الغاية في الخلاف والتضادّ – وهو يستشعر من نفسه ذلك – فإنّه يجد في نفسه القدرة على تحقيق أيِّهما. فما كان قادرًا على أن يفعّل في نفسه من المنازع ما هو بهذه الدرجة من الاختلاف فهو إلى الإلهيّ أقرب.

ثمّ (ثانيًا) هو صاحب وجهة. فإذا كان النزوعُ، على سعته، وتفعيلُه، ممّا يختصّ به، فإنّ تحديد الوجهة على عاتقه كذلك. وهو مزوّد بأدوات التوجيه في قبالة كلّ ما يحاول أن يشظّيه، أو أن يجعله ساكنًا عند وجهة لا تليق به، والحال أنّ الوجهة التي ينبغي أن تلائمه، أو تلائم طبيعته، هي الوجهة التي تأبى كلّ سكونيّة. وفي واقع الأمر، فإنّ الفطرة، في كثير من الأدبيّات الإسلاميّة هي هذه، أي التوجّه نحو المطلق، وإباء السكونيّة المعدِمة.

لذا كان الإنسان متوجّهًا بالضرورة. وأريد من التوجّه الفعل، بل الفعل الذي يحدّد الهويّة ضمن جهة التقييد في الطبيعة. الطبيعة، إذًا، هي (1) مِلاك التوجّه، وهي (2) المصيغة بمقتضيات التوجّه. وعلى هذا، لعلّ الخيال أكثر فاعليّةً في تكوين التوجّه من العقل. فالعقل يهذّب، والخيال يُطلق ويفسح. والجدل، الذي يؤرّق كلّ سؤال عن الطبيعة، هو الجدل بين التهذيب والإفساح بما يفعّل قابليّات الطبيعة، ويعيّن هويّتها، أي ما تستقرّ عليه الذات استقرارًا معتدًّا به. فهما (التهذيب والإفساح) من عناصر الطبيعة من حيث هي مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها. ولا تخفى محوريّة الإرادة في تفعيل ما ينفتح عليه الخيال، ويهذّبه العقل (ولا نحصره هنا بالعقل الأداتيّ). كما لا تخفى محوريّة الشعور في تلمّس مسارات الاكتمال والتفعُّل، والتحفيز نحو مواصلة المسير.

فالمسير نحو المطلق لا يُتصوَّر فيه الوصول. إنّه وجه الله، بالعبارة القرآنيّة، الذي يَهلَك كلّ شيء إلّاه[5]. الوجهة، إذًا، وجه الله. ووجه الله هو الإنسان الكامل، أي الطبيعة البشريّة التي اكتملت، فصارت إلهيّة؛ تفعّل فيها الإلهيّ الكامن إلى أبعد مداه فَظَهَر. ولأنّه مطلق فإنّ أبعد مداه ليس غاية مداه. وإذا كانت الأشياء تُعرف بالوجه، فالله، إذًا، يُعرَف بالإنسان، ولذلك خلقه؛ لأنّه ذاك المتحرّك بالسؤال – بسؤال “ألست”[6] – المتوجّه نحو أبعد مديات الـ”بلى”، مخلَّصًا إيّاها من كلّ ترديد مبعثه الـ”لا” التي تريد تأكيد الذات، أي الطبيعة في بعض مستقرّاتها، في مقابل الوجه، أو الوجهة، أي الطبيعة في أبعد مداها.

الله ظاهر في كلّ الأشياء. لا خلاف. المراد هنا أنّ ظهوره في الإنسان هو الأكمل، لأنّه ظهور لكلّ أسمائه. فهو ظهور على حدّ الاستواء، بتعبير الملّا صدرا[7].

مجدّدًا، إذًا. ليس الكلام في أشياء استقرّت على جوهريّة حادّة. بل الكلام في حيثيّات، في مراتب، أي إنّ العلاقة بين الطبيعة الإنسانيّة والطبيعة الإلهيّة مَصيغة بالتسانخ بينهما. وإذا أقرّينا بهذا التسانخ، دون إحلالهما مرتبةً واحدة، فإنّا نخرج من عدد من الإشكالات المرتبطة بالسؤال عن العلاقة.

ولقد حاولنا قراءة مفردات العلاقة (الوحي والإيمان تحديدًا) في عددين سابقين، فلا أكرّر. إلّا أنّ المرء ليلحظ أنّ سيّاليّة الطبيعة البشريّة، في إبائها قبضَ “العقل الأداتيّ المنهجيّ” عليها، تفتتح تحدّيًا معرفيًّا، وفي كلّ تحدٍّ فرصة إذا أُلهمنا صبرًا كافيًا. فالسؤال، مثلًا، عن الوحي، بالصيغة الذي يُسأل بها، أي عن إمكان العلاقة بين المطلق – ترد مفردة “المفارق” في العادة، وهي أكثر إشكاليّةً – والمحايث (المتزمّن إذا ما صحّ الاجتراح)، هو سؤال شبيه بالسؤال عن العلاقة بين الجسد والروح بعد إقرار جوهريّتهما الحادّة. هو سؤال مردود بمجرّد إقرار التعريف. ثمّ إنّ المطلق، إذا ما أراد التواصل مع المتزمّن، أليس هو من جعله في زمنيّته؟ أفلا يرى أن استيعاب المتزمّن لرسالته التواصليّة هو استيعاب مَصِيغ بمقتضيات التزمّن؟ وهل من سبيل آخر؟ إذا ما جوْهَرْنا الزمنيَّ، في مقابل المطلق، بالحدّة التي صبغت فكرنا طويلًا، فلا سبيل إلى ذلك. أمّا إذا ما نظرنا إليه في سيّاليّته، وحركته المنفتحة على قابليّات الصعود والنزول، فإنّ إطار التعارض ينحلّ لصالح جدليّات التكامل.

تكمن الخطوة الأولى، إذًا، في نبذ كلّ معيقات التوجّه. أمّا الثانيّة، بطبيعة الحال، فتكمن في تهذيب قابليّات تشخيص الوجهة. فنحن محكومون بالاختيار – كان سارتر محقًّا. أمّا اختيارنا، فيضعنا على مسار التشبّه بالوجهة (التخلّق بأخلاق الله). وأمّا “التوجّه” الأصيل فينا، فيزوّدنا بالخميرة التي تجعل التخلّق ممكنًا.

نصل، إذًا، إلى محوريّة الأخلاق لأنّها تختطّ مسارات حركة المغادرة والحلول. ولئن كانت هذه الحركة مطويّةً في النفس (الإنسانيّة)، فإنّها ليس بمقطوعة الصلة بالخارج. بل الخارج يعمّ النفس الإنسانيّة وما سواها. وإنّما نأخذ النفس بمعزل عن خارج لمقتضيات الاعتبار المنهجيّ، فلا ينبغي لنا أن نشيّئ هذه القسمة إثر ذلك. فالفضائل التي هي مراتب الحركة الأخلاقيّة الإنسانيّة تحاكي الأسماء المبثوثة والمتغلغلة في كلّ ثنايا الوجود، بحيث يستحيل الكلام على انفكاك للبعد الأخلاقيّ عن الوجود العامّ، أو الوجود الخاصّ (الإنسانيّ).

بعبارة صدرائيّة، مجدّدًا،

اعلم أنّ الله اسم للذات الإلهيّة باعتبار جامعيّته لجميع النعوت الكماليّة، وصورته الإنسان الكامل، وإليه أشير بقوله، صلّى الله عليه وآله، “أوتيت جوامع الكلم”[.] والرحمان هو المقتضي للوجود المنبسط على الكلّ بحسب ما يقتضيه الحكمة، والرحيم هو المقتضي للكمال المعنويّ للأشياء، بحسب النهاية […]، فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم: بالصورة الكاملة الجامعة للرحمة الخاصّة والعامّة، التي هي مظهر الذات الإلهيّة، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بقوله: “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، لأنّ مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الجامعة الإنسانيّة[8].

تتجلّى هذه الحقيقة كرقائق في الطبيعة الإنسانيّة المتفعّلة في الدرجات الوجوديّة المختلفة، كتجلّيها في الوجود الخارجيّ. إلّا أنّ الإنسان يتميّز بجامعيّته التي بها استحقّ الخلافة. وطبيعته تقتضي التوجّه نحو هذه الجامعيّة، بل لعلّها التوجّه عينه. وعليه، فإنّنا نقرأ في كلام الملّا صدرا، بوضوح، الجمعيّة العضويّة التي تربط الوجود بعضه ببعض، مع لحاظ المحوريّة الخاصّة للإنسان. وكذلك نجد أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بما أوتي من جامعيّة، فإنّه بُعث ليستحثّ الحركة نحو الجامعيّة الكامنة في النوع البشريّ.

لا غرو، إذًا، أن تحار العقول في طبيعة الإنسان، وأن تذهب بها المشارب بعيدًا في كلّ اتّجاه. وإن كان كلّ اتّجاه يعبّر عن بُعد أصيل في الإنسان، إلّا أنّ الاتّجاه القادر على محاكاة – ولا أقول إحاطة – الجامعيّة الإنسانيّة مخفيّ في ثنايا السؤال الإنسانيّ القلق أبدًا. بل إنّ الاتّجاه العامّ قد فرض قراءةً أحاديّةً على الإنسان تقصي كلّ إحالة على المقدّس، وتستثني الإلهيّ. وفي زمن المراجعات، تمثّل مقولة الطبيعة البشريّة فرصةً لصياغة كبرى تتعلّم من الإقصائيّات المتقدّمة وتنفتح على التقليد. فلا نراوغ عموميّةَ المفردة وإبهامها – وهذا متأصّل فيها – بالإجابات النهائيّة. وإن كان لا بدّ من تلمّس المفردة في مفردات من قبيل الهويّة، والشخص، والذات، والنفس، والعقل، والروح، والأنا، فلنراجعها كلّها على ضوء المنفسح الفكريّ الراهن.

مع العدد

يلج شفيق جرادي مبحث الطبيعة بمعاينة هويّة القلب الإنسانيّ الذي تتنازعة وجوهه المتعدّدة، فلا تستقيم إلّا عند إنسان الدهر، صاحب القلب البرزخيّ، والرؤية التوحيديّة. ومن منطلق فلسفيّ إسلاميّ جامع، كذلك، يعرض وليام تشيتيك لإشكاليّة تغيبب الطبيعة البشريّة، ويقترح التوحيد كصيغة تأمّليّة تعين على فهم الإنسان، على سعته. ويقترح سمير خير الدين، بعد المقابلة بين مفردتَي الطبيعة البشريّة والطبيعة الإنسانيّة، أن نتوسّل الإنسان لفهم الطبيعة، في تعارض مع المقاربة التقليديّة التي تجعل فهم الطبيعة مقدّمةً لفهم الإنسان. ويعترض حسن بدران على تغييب الحقيقة الوحيانيّة التي تصرّ على طينيّة الإنسان في عين إصرارها على رفعة مرتبته. ويرى أنّ تغييب أيّ بعد من أبعاد الكائن البشريّ يجعل الإخفاق في فهم طبيعته لازمًا.

أمّا السيّد حسين نصر، فيجعل مقابلةً بين الإنسان، بمعناه التقليديّ، أي بما هو رابط بين الأرض والسماء، والإنسان الذي اصطنعه التنوير على ركن القطيعة مع السماء. ويرى أنّ طمس الصبغة الإلهيّة في الإنسان لا بدّ أن يترك أثره على العالم كلّه لما لهذا الإنسان من محوريّة فيه. وإذ تستعرض آن ماري شيمل القراءات الصوفيّة التقليديّة لحقيقة الإنسان، ولمدخليّة الشيطان إليه، فإنّها تقف على خصوصيّة الإرادة الإنسانيّة وقابليّات الخير والشرّ عنده.

في المقالة السابعة، يتقدّم عليّ يوسف بقراءة للطبيعة البشريّة كما هي حاضرة عند مدرِكها، محاولًا إقامة علاقة رابطة بين أبعادها المتبدّية. وبعدها يتناول مهدي مهريزي مسألة تضمّن الخطاب الإلهيّ للإنسان نحوًا من القراءة المجازيّة في سرديّاتها القصصيّة، كمقدّمة لفهم أبعاد قصّة خلق آدم في القرآن، وبما لها من تداعيات على فهم الطبيعة الإنسانيّة.

أمّا ماري ميدجلي، فتشرع من الإشكاليّات التي اعترت فلسفة الأخلاق جرّاء الاختزاليّة الفكريّة الحاكمة لتصرّ على وحدة الفاعل الإنسانيّ في كلّ حكم أخلاقيّ. وفي مقالة حول المدرسة التفكيكيّة، يدرس موسى ملايري تداعيات القول بمادّيّة النفس على فهم الهويّة الإنسانيّة.

وختامًا، يعرض موريس بلوخ لأسباب فقدان علم الإناسة لموضوعه، أي الطبيعة البشريّة، والأثر المترتّب جرّاء ذلك على فهم الطبيعة نفسها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] المصادر، حول هذه “النقلة” الديكارتيّة، أكثر من أن نحصيها في عجالتنا هذه. ولكن انظر، على سبيل القراءة النقديّة،

  1. Gellner, The Devil in Modern Philosophy, 2nd edn. (London and New York: Routledge and Kagan-Paul, 2003), pp. 2-7; C. Taylor, “Overcoming Epistemology,” in Philosophical Arguments (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1995), pp. 1-19; P. Ricœur, “The Crisis of the ‘Cogito,’” Synthese 106: 1 (Jan., 1996): 57-66.

[2] انظر افتتاحيّتنا للعدد 21، “عودة المِتافيزيقا”.

[3] انظر، شفيق جرادي، “الدين والفلسفة والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة 12 (2009): الصفحات 89 إلى 94.

[4] نقلًا عن، حسن بدران، “المسارات الكلّيّة في قراءة الطبيعة الإنسانيّة”، هذا العدد.

[5] سورة القصص، الآية 88.

[6] انظر، سورة الأعراف، الآية 172؛ “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ”.

[7] صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق السيّد جلال الدين الآشتياني (قم: دفتر تبليغات، 1419ه.ق)، الصفحة 86.

[8] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحتان 85 و86.

إفتتاحية العدد 25

الافتتاحيّة العدد 25

افتتاحيّة العدد

1.

لا يتخلّف موضوع هذا العدد (الوحي) عن سياق موضوعات الأعداد السابقة من حيث هو موضوع يطرح نفسه اليوم بعد أن تجاوز عقودًا من القدح بمشروعيّته كشأن معرفيّ[1]، أو بعد أن تكرّس، ولعقود أيضًا، في صيغ معلمَنة بالكامل[2]، لينفتح على مُحتمَلات أكثر انشراحًا في زمن تفتُّت الثنائيّات الصلبة والإقصائيّات الحادّة.

إنّ طرح موضوع الوحي، لا كشأن هامشيّ (تاريخ-دينيّ أو تاريخ-فلسفيّ مثلًا)، ولا كمفردةٍ نقيضةٍ تُبرز صفاء المفردات الحداثويّة – كما في إشكاليّة العقل والوحي التقليديّة[3] – إنّما يعبّر عن روح هذا العصر، الذي قد وسمناه في افتتاحيّة سابقة بأنّه عصر “الاستعادات”، وإن كنّا نرى حاجة أن نكرّر أنّ هذه الاستعادة لا تريد القديم لقدمه على غرار روح عصر أرادت الجديد لجِدته[4]. بل هي استعادة الناضِج المجرّب الذي خبر القديم والجديد، وعرف أنّ الحقّ متساوي النسبة إلى كليهما.

إنّ ضمور العقليّة الاختزاليّة لا ينبغي أن يُفسح في المجال لعقليّة اجتزائيّة، تتمثّل الموضوعات التي جُعلت قيد الطمس في المرحلة السابقة، وتقبل بها على أساس اجتزائها، أو استيعابها، في منظومات تتناقض في أصل غرضها مع ما جُعلت له تلك الموضوعات.

إنّ ضمور العقليّة الاختزاليّة يجب أن ينسحب ضمورًا في قيمها ضيّقة الأفق، محدودة الإطار، التي، متى ما أخفقت في إحالة كلّ المقدّسات إلى وهم، جعلت المقدّس والمدنّس سواء، وساوت بين كلّ الأشياء، ثمّ أقرّت للمقدّس بوجود في وجدان معتنقيه فحسب، وتعاطت معه بحسب تعبيراتهم.

قد يرى البعض في ذلك رحابةً معرفيّةً تُغادر الإقصائيّة ولا تتخلّى عن مكتسبات الأنوار والحداثة من عقلانيّة وموضوعيّة (حياد) وصرامة علميّة. إلّا أنّ هذه المكتسبات – في حدّتها وإطلاقها – تضعضعت من الداخل. فالعقل أثبت بعجزه أنّه ليس الملكة الوحيدة ذات القيمة في الإنسان، وأنّ الذات المجرّدة التي انفصلت عن موضوعها لتتسلّط عليه، وتُحكم معرفتها به، استغرقت في التجرّد إلى حيث لم تعد معرفةٌ ممكنةً، لم يعد شيءٌ ملموسًا. والصرامة العلميّة التي ما برحت تغوص في عمق الأشياء تحليلًا وتشريحًا لم تضع اليد إلّا على نماذج رياضيّة وألغوريزمات (خوارزميّات) تفسيريّة تلائم العالَم الافتراضيّ. أمّا عالمنا فليس افتراضيًّا، وإن تأسّست على اعتباره افتراضيًّا فلسفات ورؤًى قدّمت نفسها على أنّها ذروة ما قد فُكِّر فيه. أمّا الحياد فما أدري ما أقول فيه لتفاهته. وأعتذر عن اللغة المتمادية. ليس الحياد سوى تسويغ لرؤية جعلت نفسها قيّمةً على الرؤى.

2.

تستفيد الاجتزائيّة من التحشيد الكبير للأنساق الفكريّة – وهي اليوم تتداعى – التي ترى في عودة الدينيّ تهديدًا لها – ولا ينبغي للدينيّ أن يعود دونما مراجعة! ونحن كنّا قد عالجنا في العدد السابق مبحث الإيمان، وهو يصلح، في هذا الصدد، لنمثّل من خلاله العقليّة الاجتزائيّة[5]. فهو، كسائر “الأوهام”، عاد عصيًّا على الاختزال. وكيف نحذفه ونحن نرى فعله في حياة المؤمنين؟ فليكن كذلك. نقرّ به من حيث هو شأن بشريّ خاصّ، لا يلزم منه أن يعمّ الناس جميعًا، ولا يلزم أن يكون له اتّجاه معيّن، كأن يشير بذاته إلى مقدّس دون آخر، فنقع في محذور المعياريّة والمفاضلة القيميّة – لا سمح الله! يرجع الإيمان، إذًا، مفردةً ذات مشروعيّة، لا بأس بتعاطيه في أيّ شأن أكاديميّ، ولا يقدح في علميّة متداوليه. هنا، تمارس الإقصائيّة المنهجيّة رقابتها كي لا يتفلّت هذا المبحث، أو أيّ مبحث مماثل، نحو وجهة قيميّة، أو مجاوِزة[6].

لكن ماذا تفعل الاجتزائيّة، والحال هذه، بمبحث الوحي، وهو متفلّت في جوهره[7]، بمعنى أنّه لا يمكن أن يُستوعب في إطار الذات الجوّانيّ مع كوننا لم نعد قادرين على تجاوزه أو اختزاله كما الموضوعات الأخرى؟

3.

موضوعيّة الوحي، إذًا، هي أولى المسائل الحامية ذات الصلة. وإن كان النقاش في الإيمان يتّخذ من متعلَّقه موردًا، فما هو المورد المقابل في حالة الوحي؟ لقد استثمرت الإجابات التي أرادت فرض السكوت على كلّ قول بمصدر للوحي خارج الذات على أنّه الموقف العلميّ الملائم، استثمرت في مقولة النبوّة، وفي المعالجات الفلسفيّة والغنّوصيّة لهذه المقولة. ونحن نرحّب بالإذعان لهذه الصلة بين الوحي والنبوّة. بيد أنّ تعريف النبوّة على أنّها شأن داخليّ مترتّب على الرياضات والمجاهدات السلوكيّة الروحيّة بحاجة إلى مؤونة لا تنهض بها الأدلّة التاريخيّة والعقليّة في المعالجة. ثمّ إذا سلّمنا جدلًا بهذا التعريف للنبوّة الذي لا يجد في دلالات المفردة اللغويّة ما يعارضه، ماذا نفعل بمفردة الرسالة (والرسول والمرسَل)؟ ألا تفترض الرسالة مرسِلًا كذلك؟ هل يستقيم الأمر لمن يريد أن يعمل من ضمن المنظومة الدينيّة أن يعترف بالنبوّة والرسالة والهداية – وهي تفترض العصمة – ثمّ يقولَ بوحي منبتّ الصلة بالمرسِل والهادي؟

بالفعل. إذا كان الإيمان جدلًا صاعدًا فالوحي، بمراتبه، جدل نازل، أو متنزَّل. فالذات التوّاقة التي ترنو إلى ما وراءها لا بدّ لها من استجابة، وإلّا لماذا جُعل التوق ذاتيَّها؟ أليست واقعيّة التوق هذا دليل واقعيّة الاستجابة تلك؟

في واقع الأمر، إنّ الاستهانة بالمعنى، معنى أن تكون إنسانًا، معنى أن تنتمي إلى تاريخ، إلى خبرة، معنى أن تنهمّ بالمعنى، وتنقّب عن المعنى، في كلّ مقبلة ومدبرة من شؤون الوجود، إنّ هذه الاستهانة تجعل من فصل التوق عن الاستجابة أمرًا هيّنًا، بل تداعيًا تلقائيًّا. فلا غرابة، إذًا، في زمن نُبِذ فيه المعنى، إذ عُدّ مِتافيزيقيًّا، وازدُريت فيه الغاية، إذ عُدّت لاهوتيّةً، أن يكون فعلٌ ولا من غاية، وأن يكون قصد ولا من معنًى، وأن يكون توق ولا من مُتعلَّق.

4.

أمّا وقد سلّمنا للوحي بمُتعلَّق هو مصدره، فما علينا لو تعدّد المصدر؟ هل يقدح في موضوعيّة الوحي تكثّر الموضوع وتغايره[8]؟ لنا أن نقول في ذلك، مرحليًّا فحسب[9]، إنّه يقتضي تكثّر الطبيعة البشريّة وتغايرها، ولا سبيل إلى ذلك برأينا – لا سيّما في ضوء المراجعات التي تسم زمننا الفكريّ هذا، والذي شكّل فيه السؤال عن الإنسان واحدًا من أبرز دواعي المراجعة.

بأيّ الأحوال، لعلّ الاستنكاف عن الولوج في مسألة موضوعيّة الوحي له دواعيه في حفظ بشريّته. إذ قد يُخشى من تضييع جنبة الوحي البشريّة إذا ما استغرقنا في جنبته الإلهيّة. وللاستنكاف مسوّغه. بل تاريخ الفكر الدينيّ بأغلبه يبعث عليه. فهو تاريخ أقصى كلّ التفاتة إلى الإنسانيّ صونًا للإلهيّ عن ما يَشرَكه. وما يدريك لعلّ البشريّ وجه الإلهيّ، ذاك الكنز المخفيّ، المكنون، المطويّ في غيب الغيوب.

إنّه العقل الإقصائي مجدّدًا؛ بلغ بالتنزيه حدّ التعطيل، أو قرع بالتشبيه باب الأنسنة. فهل من سبيل إلى الاعتراف بإلهيّة الله دون القدح بإنسانيّة الإنسان؟ أظنّ أنّ أكثر السُّبُل تجري هذا المجرى، إلّا أنّنا عندما أردنا بالمعرفة تأكيد الذات، تفرَّقت [السُّبُل] بنا عن سبيله. إنّها عاداتنا المعرفيّة التي لم ترد من المعرفة سوى التسلّط والإحاطة، سوى الاستحواذ على الألوهيّة كلّها دون ترسيخ ما هو إلهيّ فينا. والمعرفة، أصَبْتَ، المؤشِّرُ إلى الإنسان. لكنّها، بمعزل عن الله، تنطوي على نفسها، وتُستَهلَك في ممكناتها.

5.

الوحي إذًا ضمانة المعرفة. نعم، المعرفة كامنة في الإنسان، قد تتفعّل في غير اتّجاه، وهل الإلهام، والحدس، والشهود، والخيال، سوى منافذ على المعرفة كلٌّ في اتّجاه؟ ولا يجرمنّك القول بموضوعيّة الوحي على إغفال ذاتيّته. نحن إنّما نطعن في الإقصائيّة الرائجة لا لنُحِلّ محلّها إقصائيّةً من عندنا. فالقطيعة بين المقامات المعرفيّة – سمِّها هنا عرفانيّة – وبين الوحي الآتي الذاتَ من خارجها ليست من قبيل الحدّة التي يبعث عليها الاستغراق في نحو المعرفة الذي يقوم على فصل الذات عن موضوعها، وهي قسمة حادّة لا محالة. لكنّها كانت لحظةً مميّزةً في زمننا الفكريّ هذا عندما وصلنا بهذا النحو إلى ذروته، وإلى حدود استطالته بالتالي، وعرفنا أنّ للمعرفة نحوًا آخر، بل أنحاء أخرى – وهذا بدوره دعا إلى مراجعة واستعادة في باب المعرفة[10].

تصاحبت هذه المراجعة الإبستمولوجيّة مع الانعطافة اللغويّة التي طغت على معظم الاشتغال الفلسفيّ في القرن العشرين، ومع ثورة تأويليّة في الإطار الفلسفيّ القارّيّ. وقد أدّى تقاطع السياقات هذا إلى انفتاح في الحقول المعرفيّة، بعضها على بعض، كما يشهد على ذلك رواج المقاربات البين-منهجيّة والعبر-منهجيّة، وانفتاحها على أفق، إذا جاز لي القول، يتجاوز الواقعيّة المادّيّة. في المقابل، كان لهذا التقاطع أثر إحيائيّ على المباحث الدينيّة التقليديّة التي باتت، بدورها، أكثر انفتاحًا على هذه الحقول المعرفيّة، وأكثر تواضعًا تجاه جزئيّاتها. هنا تذلّلت، أو تكاد، ثنائيّة أخرى: أيّهما أبلغ مدخليّةً إلى المعرفة، الكلّيّ أم الجزئيّ؟

ما طبيعة المعرفة التي ينطوي عليها الوحي؟ وهل تتّسع اللغة البشريّة لهذه المعرفة؟ هل يصحّ منّا السؤال عن انسكاب كلّيّات الوحي في جزئيّات اللغة، أم هل نقف هنا حائرين أمام تضعضع كلّ الحدود بين اللغة والوجود، وبالتالي، بين الإنسانيّ والإلهيّ؟

لعلّ هايدغر كان مصيبًا عندما قال إنّ اللغة هي حيث يرتع الوجود، حيث يسكن الإنسان[11]. إلّا أنّ هذا الملاذ الذي يحكي الإنسان، يحمل أيضًا بواعث كماله. يقول تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[12].

ما دلالة “اقرأ” المفتاحيّة هذه؟

إنّ الله بعد أن منّ على الإنسان بالوجود، أراد له أن يصل إلى كمال وجوده، فيترقّى عن مرتبة “العلق”، وهي المادّة المستعدّة لقبول الهيئات، خيرًا وشرًّا. وإذ قد تعهّدَها اللهُ بالتربيّة، فإنّها تصل إلى كمالها. ولـمّا كان ترتُّب الحكم على الوصف، بحسب القاعدة الأصوليّة، مشعرًا بكون الوصف علّةً[13]، فإنّنا ندرك علّةَ نسبةِ العلم إلى “ربّك الأكرم”. لأنّ الربوبيّة اسمٌ مشتقُّ من التربيّة[14]، وهي إيصال الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا؛ يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه في التحميد لله تعالى: “وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيّته“. أمّا الأكرميّة فلأنّ نعمة كمال الوجود تضاهي نعمة أصل الوجود على شرفها.

هنا مكمن الوحي: حيث يتقاطع الخلق والإيجاد مع التربية والهداية. وكلّ فصل لهما يعزل الوحي مقدّمةً لنفيه، تمامًا كما كلّ فصل بين مسار الاستهداء الصعوديّ ومسار الهداية النزوليّ؛ يقول تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)[15].

وعليه، ليس قولنا نزول الوحي، أو تنزّله، حطًّا من قيمته، كما أنّ هبوط آدم من الجنّة ليس اقتصاصًا منه، بل كلاهما مقدّمة للاكتمال الذي لا يكون إلّا حيث يستطيع الإنسان استكشاف ممكنات بشريّته في إطار نُظُم الهداية المجعولة في الكون وفيه.

مع العدد

يُطوّر شفيق جرادي في المقالة الأولى من الملفّ مقاربته التي يتقدّم بها تحت عنوان “إلهيّات المعرفة” مبيّنًا بعض خصائصها، ومستعينًا بها لإقامة الربط بين الوجود والوحي، مناقشًا، من ثمّ، عددًا من الأطروحات الإسلاميّة والعلمانيّة فيما خصّ الوحي.

وفي المقالة الثانية، يعالج غلام رضا جمشيديها وأبو الفضل مرشدي رؤية الفارابي الفلسفيّة للوحي، فيتناولان إشكاليّة العلاقة بين الفيلسوف والنبيّ التي قامت على التفاضل بين ملكتَي الخيال والعقل في الإنسان.

في ثالث المقالات، يعرض لنا محمّد مرتضى لرؤية العلّامة الطباطبائي للوحي من حيث هو شأن تكوينيّ وشأن معرفيّ في آن، معالجًا الإشكالات الناتجة عن هذه الطبيعة المزدوجة.

أمّا رابعًا، فيقرأ أحمد واعظي محاولات نصر حامد أبو زيد تطبيق مناهج الهرمنوطيقا الحديثة على النصّ القرآنيّ مبيّنًا مثالب هذه المقاربة وسقطاتها.

نستكمل الملفّ في أربعة أوراق قدّمت في ندوتَين أقيمتا بالتعاون مع كلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت.

يُعالج محمّد زراقط في أولى الأوراق الفهم الإسلاميّ للوحي، دلالةً واصطلاحًا، متابعًا الوحي في فعاليّاته الحضاريّة والقيميّة. ويقدّم جورج صبرا القراءة المسيحيّة للوحي، بالأحرى الكشف، على ضوء التحدّيات التي فرضتها الحداثة، مبيّنًا النتائج الإيجابيّة لهذا التلاقح الفكريّ على الفهم الراهن للوحي في المسيحيّة.

في الندوة الثانية، طالع حسين إبراهيم النقاشات الكلاميّة حول الكلام الإلهيّ وصلته بمراتب وجود القرآن، مستعرضًا آراء المدارس المختلفة بطريق نقديّ. في حين قدّم جوني عوّاد الفهم المسيحيّ، الكالفينيّ بخاصّة، للكتاب المقدّس، أو الكلمة المكتوبة، وصلتها بالكلمة الحيّ، أي المسيحي.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على ثلاث دراسات. الدراسة الأولى هي تتمّة مقاربة مهدي الحائري اليزدي لنظريّة المعرفة في الإسلام. وهنا، يتابع قراءة المعرفة الحضوريّة مبيّنًا خصائصها في مقابل المعرفة الحصوليّة.

في الدراسة الثانية، يستعرض السيّد محمّد المرندي وزهرة خوارزمي مسيرة حلقة كيان الإيرانيّة التي ضمّت عددًا من أبرز المفكّرين الإيرانيّين بعد الثورة، ويبيّن مآل هذه الحلقة بعد أن تبنّت المقولات اللِبراليّة، وصارت مروّجًا لها في الساحة الفكريّة الإيرانيّة.

أمّا ثالثًا، فنقدّم ترجمةً جديدةً لمقالة جيل دولوز وفِليكس غتاري “ما الفلسفة؟” التي يعرضان فيها فهمهما للفلسفة على أنّها صناعة ابتكار الأفاهيم.

وفي باب “حكماء”، نقرأ سيرة حكيم معاصر، هو العلّامة الطباطبائي، بقلم أحد أبرز تلامذته، عبد الله جوادي آملي.

والحمد لله كما هو أهله

محمود يونس

[1] انظر، الأعداد 21 “عودة المِتافيزيقا”، و22 “المعاد”، و24 “لإيمان”.

[2] انظر، العدد 19 “الزمن”، و23 “الجسد”.

[3] ونحن نتجاوز، في هذا العدد، عن هذه الإشكاليّة إلّا بشكل عابر. فإن لم يكن كافيًا ما كُتب فيها، وهي ثنائيّة تنفعنا في تبيان معالم النقاش، فإنّها، وقد تشيّأت كغيرها من الثنائيّات الصلبة (الذات والموضوع، الجسد والذهن، وما إلى ذلك)، تستوجب نقلةً ذهنيّةً تخرج بنا من أسر الإسقاطات المِتافيزيقيّة، وبالتالي، مقاربةً تنظر في الجذور والفعاليّات.

[4] شكّل عصر “النهايات” ردًّا طبيعيًّا على هذا التطرّف في الإقصائيّة.

[5] انظر، المحجّة، العدد 24.

[6] ليست هذه المقاربة، بطبيعة الحال، حاسمة. بل المعالجات التي انطوى عليها العدد السابق إنّما تحضُر لتُبرز خَتَلها، والمنفسَحَ الرحب خارجها.

[7] الإيمان، بهذه المعنى، متفلّت، لا يمكن حصره في الذات، إذ فعل آمن فعل متعدّ، يقصد إلى خارج، بيد أنّ آليّات تغييب الخارج أفعل في الإيمان منها في الوحي كما سنرى.

[8] إنّ القول بموضوعيّة الوحي يأتي في مقابل القول بذاتيّته، بمعنى عدم وجود حقيقة له خارج الذات، فيكون صنيعة الذات. ونحن نريد خلاف هذا المعنى كما نبيّن في المتن. وعندما نعبّر، في هذا السياق، بـ”موضوع”، فالمراد منه ما هو تحقّق موضوعيّة الوحي، أي حقيقة الوحي الموضوعيّة.

[9] سيكون موضوع العددين 26 و27 هو “الطبيعة البشريّة” حصرًا. ونحن بذلك نختتم سلسلة الموضوعات الأخيرة التي عالجتها المحجّة في الإضاءة على عدد من المباحث التي يتقاطع فيها الفلسفيّ بالدينيّ، ولكن على ضوء المراجعات التي خفّفت من غلواء الحدّة المنهجيّة والهيمنة الفكريّة لعدد من المدارس الفكريّة المعادية للدين، وأحيانًا للفلسفة، في مقاربتها.

[10] هذا يدعونا، بطبيعة الحال، إلى الاستثمار في مقولة المعرفة الحضوريّة التي أسّس لها الحكماء المسلمون، ولم تغب، لم يمكن لها أن تغيب، عن بصائر غير واحد من حكماء الشرق والغرب، محدثيهم وقدمائهم.

[11] انظر،

  1. Heidegger, “Letter on ‘Humanism’,” trans. Frank A. Capuzzi, in M. Heidegger, Pathmarks, ed. W. McNeill (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), p. 239.

[12] سورة اقرأ، الآيات 1 إلى 5.

[13] الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي، منية المريد في أدب المُفيد والمُستفيد، تحقيق رضا المختاري (بيروت: دار المرتضى للطباعة والنشر والتوزيع، 2008)، الصفحة 95.

[14] السيّد عليّ خان المدني الشيرازي، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين عليه السلام، الطبعة 2 (قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1414هـ)، الجزء 1، الصفحة 320.

[15] سورة البقرة، الآية 282.

المعاد في زمن الحاجة إلى الأخلاق

لا تستقيم الحياة الأخلاقية دون نواظم تحدّد حركتها ومفاصلها وغاياتها. وإذا ما سقطت هذه النواظم دون إمكانية التبرير، تهافتت البنى الأخلاقية وتساوت كل الأشياء. وللمعاد، في ضمن هذه النواظم، حاكمية وسعة خاصّتين تجعلانه أصلاً لا تثبت قيم الدين، أيّ دين، دونه. فالمعاد، وهو، بالمطلق، لقاء الله، يحرّك كوامن الشوق إلى لقاء الغاية لدى الإنسان، ويسكن ألمه الذي يكابده في دنياه، ويقفه أمام مسؤولياته التي كانت مذ جُعل مختاراً. بيد أنّ المعاد، كمبحث، يفرض صعوبات خاصّة لدى معالجته، ما يحيلنا على مقاربة لا بدّ لها أن تكون في غاية السعة، بمعنى أنّها تقرأ كل جوانب الذات الإنسانية في محاولةٍ لتلمّس الطريق نحو مصيرها المعاديّ.

إفتتاحية العدد 21

iftita7ieh 21

عودة المِتافيزيقا

 

فمن جَهِلَ بمعرفةِ الوجود يسري جهلُهُ في أمّهات المطالب ومُعظماتها

– صدر المتألّهين

 

يقترن السؤال بذات الإنسان مهاجرًا بها إلى حيث يستقرّ معها في مراتع اليقين[1]. ولا تثريب على صاحب المسألة ولو تمرَّدَ، بل لو لم يتمرّد لم يكن فيلسوفًا. بيد أنّ آفّة الفلسفة المُقامةَ في تمرّد السؤال وعدمَ الانتقال إلى اليقين المُسائل، أو القناعة المُسائلة. فلا بدّ للفيلسوف، في كلّ حال، من حسّ سؤالٍ ومُساءلة، إلّا أنّه ينبغي له الولوج من السؤال المتمرّد إلى مَحكَمٍ يحتكم إليه، وإن لم يجز له التخلّي عن مساءلته (المحكَم) في عزّ تيقُّنه به، وإلّا لبث في رعونة السؤال أبدًا.

وقديمًا درج الفلاسفة على تخصيص الأسئلة الأولى بعلمٍ أسموه ‘الفلسفة الأولى’، وتلبّسَ بـ‘المِتافيزيقا’. ولعلّ الجامع بين هذه الأسئلة الأولى هو تمحورها حول الوجود، العامّ والخاصّ (الإنسانيّ)[2]، والغاية منه. وقد بنوا لهذا العلم صروحًا آخذُ ما تكون بالتعقيد، منهجًا ولغةً، وتباينت آراؤهم فيه حتّى تضادّت، أو كادت. وانهمك أهل الحميّة من الفلاسفة في إصلاح هذا العلم، أو هذا الفنّ أو هذه الصناعة – ما شئت فسمِّ –، وكان لبعض أصحاب النوايا الحسنة دورٌ في مفاقمة متاعب المِتافيزيقا.

لقد رأوا إلى العلم الوضعيّ، في صعوده المبهر، كمعيارٍ ومحكٍّ ينبغي للمِتافيزيقا الاقتداء به كيما تنجو من عُقَد المنهج وتكلُّف اللغة. أمّا منجهه (العلم الوضعيّ) فقد كان أنيقًا دقيقًا يتوسّل التجربة، ويعوّل عليها في صياغة حقله المعرفيّ، وأمّا اللغة فكانت جليّةً مُنسابةً انسياب البرهان الرياضيّ. والحقُّ أنّ بعض أرباب المِتافيزيقا أغلقوا الأبواب على غيرهم، وفضّوا الأنصار من حولهم، بلغتهم العصيّة، ومواقفهم الجازمة المتعجرفة في إقصائيّتها[3].

ربّما كان هذا ما دعا كانط إلى مناشدة ‘كلّ مِتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا’[4]، ودعوتها إلى الكمال بالتأسّي بالعلم الوضعيّ. ثمّ كانت دعوة هُسِرل إلى فلسفةٍ بقامةِ العلم المُحكَم[5]. لا بدّ، أوّلًا، أنّهما، وغيرهما، توسّما في لغة العلم ما يلمّ شتات المعرفة، ويوحّد لغةَ مُباشرتِها ومقاربتِها. ولا بدّ، كذلك، أنّ توافق العلماء على رأي، واجتماعهم على قول، تبدّى لهما، ولغيرهما كذلك، مشهدًا أكثر جاذبيّة – حين كانت الحقيقة لا تزال واحدة (!) – من تنافر الفلاسفة وتناحر المِتافيزيقيّين.

وفي كلّ الأحوال، لا بدّ من مَحكَم. ومع ضمور شرعيّة المَحكَم الماقبليّ، والمَحكَم الخُلُقيّ، والمحكَم الدينيّ، صارت المَحكَميّة للعلم وحده، وقد كان، عصرَذاك، المصدرَ لكلِّ ثبات. أمّا وقد نرى تحلُّلَه من الثبات في شتّى المضامير[6]، فلا بدّ لنا من عودةٍ إلى ما يُعطينا ثابتًا، نشرَعُ منه إلى مُباشرةِ المتغيّر وقراءته؛ لا بدّ لنا من عودةٍ إلى المِتافيزيقا.

وإذا أردت فهمَ المِتافيزيقا من تعريفاتها، فلكَ أن تجدها وفيرةً في الدراسات المنشورة في هذا العدد – أوليست هي محوره؟ أمّا لغاياتنا هنا، فيكفيني أن أقول إنّها فلسفة الوجود (أو الواقع)، وقد استعملوا لها، مؤخّرًا (القرن السابع عشر)، لفظ الأنطُلوجيا[7] حينما أُقصيت المِتافيزيقا، أو انتشرت، فترهّلت، شأنها شأن الفلسفات المضافة فصار لكلِّ حيِّزٍ فلسفيٍّ مِتافيزيقاه. والوجود المقصود هنا هو الوجود المطلق – أو الوجود القِسميّ باللغة الصدرائيّة – وليس هو الوجود المتعيّن، أو الموجودات، أي الوجود المتلبّس بالماهيّات. والوجود المطلق هو أشمل المفاهيم وأوسعها، فتناله النفس دونما واسطة، وتظفر به دونما تروّي؛ بل هو واسطة التعرُّف على الموجودات. إنّه محكَمُنا الأوّل. هو المبدأ الأوّل، بتعبير ابن سينا[8]، فلا حقّ لنا في تجاهله، أو نسيانه، أو تعليقه، كما ارتأت المنهجيّة التأمُّليّة الشكّيّة عند ديكارت. وقد وجدت هذه المنهجيّة توسعةً هائلة في فِنُمِنُلوجيا هُسِرل الذي رأى أنّ تعليق epoché الواقع، ومباشرةَ الأشياء في تبدّياتها لذواتنا، هو سبيل فهمِه (الواقع) الأنسب.

وليست الذات، أو العقل – أو اللغة بالتَّبَعِ والاشتقاق – مبدأ سابقًا على الواقع، بل هي جزؤه، وهو مشتملٌ عليها. وقد نرى المآلات التي أوصلتنا إليها انعطافة ديكارت نحو الذات – وقد ساهم فيها، وغذّاها، لوك وهيوم وكانط – “والانعطافة اللغويّة” التي وَلَتها في الحاكميّة على الاشتغال الفلسفيّ الغربيّ. إنّ تأخير الواقع – وهو أكثر الأشياء حضورًا وظهورًا – لا يولّد إلّا الرَّيبيّات والمثاليّات التي تفتك بالمتسالَمات الفكريّة.

ولا مشاحّةَ في مركزيّة العقل، بيد أنّ العقل نفسه يروم ما يحتكم إليه[9]؛ وما يُجلّي العقلَ الكلّيَّ عندنا، إنّما هو أثَرةٌ نأخذها عن معصوم. ولئن نَحَت الفلسفةُ الغربيّةُ منحى اللغة العلميّة في تكميل لغتها لأنّها ترى في اللغة العلميّة كمالَ اللغة، فإنّنا نرى في القرآن الكريم، وفي نصّ المعصومين، اللغةَ الكاملة والناظمة لكلِّ إطارٍ لغويّ في أيِّ الميادين المعرفيّة اتّفق تداولُه. فالقرآن، والنصّ المعصوم، الذي يؤسِّس، في الوسط الإسلاميّ، لزخم الانطلاقة المعرفيّة المُوجَّهة، ثمّ يُنشؤ حولها دوائر يكون التفاعل مع كلّ فكرٍ متناظرٍ من ضمنها، هو الناظم والمعيار والمصفاة لكلِّ فكرٍ يريدُ لنفسه لقبَ ‘إسلاميّ’، وكذلك، لكلِّ لغةٍ تريد أن تُسمّي نفسها ‘ملتزمة’ و‘إسلاميّة’. ومتى ما اتّضح لدينا المَحكَمُ في الفلسفة الإسلاميّة، فإنّنا نقفُ الفيلسوف موقفَ المُسائل والمُراجِع الذي لا ينفكّ يتفحّص الموروث الفلسفيّ الإسلاميّ مهذِّبًا إيّاه من كلّ دخيلٍ ذي سلطةٍ، ولو كان من قامة أفلاطون. لا أقول هنا برفض التفاعل مع النتاج الإنسانيّ بعامّة، لأنّه ليس بنتاجِ مُشتغلةِ المسلمين، بل ما أرمي إليه هو التفاعل معه على أساسٍ خلفيّةٍ ما، يصوغها، في الإطار الفلسفيّ الإسلاميّ، ما وَصَلنا عن طريق الوحي متى ما تثبّتنا من مصدريّته.

أمّا مناوءةُ المِتافيزيقا من بابِ عدم انسجام أربابها، فربّما قدّمت له نفس طبيعة المبحث المِتافيزيقيّ تسويغًا. ولا يقدح تكثُّر الأنساق والإجابات المِتافيزيقيّة في قيمتها كمبحثٍ معرفيٍّ إنسانيّ. فللمِتافيزيقا جنبةٌ تُذكِّرُ بالدراسات الأدبيّة وسرديّات الذات من حيث يرتبط الحاصل الفلسفيّ بتجربة الكاتب التي لا تنفكّ عن ذاتيّته، وإن كانت الأدوات المعرفيّة الأخرى في متناول الفلاسفة جميعًا على حدٍّ سواء. من هنا، فإنّ الكتاب الأدبيّ لا يفقد قيمته مع الزمن – ومن شَكَّ في الإنتاجيّة المعرفيّة لهذا النحو من الاشتغال العقليّ، فهو ممّن قرأ الأدب ولم يتذوّقه. بالتالي، لا تزال مُصنّفات أرسطو وأفلوطين والكندي وابن سينا وغيرهم تثيرُ فينا ما تُثيره مؤلّفات العباقرة ممّن قرض الشعر وروى الذات أدبًا.

وكذا، للمِتافيزيقا جنبةٌ تذكّر بالعلم الوضعيّ من حيث تراكمُ معطياتها وانبناءُ المُحدَث من نظريّاتها على ما سلف، وهذا ما يجعل العودة، مثلًا، إلى كتابات أرسطو العلميّة مدفوعةً بهمٍّ تاريخ-علميّ، وليس علميًّا صرفًا، أمّا العودة إلى ما بثّه من فلسفةِ وجودٍ وسياسةٍ وأخلاق، فقد يكون أولى، أحيانًا بالطبع، من العودة إلى ما يُكتبُ اليوم في هذا المجالات.

وقد كان لانسحابِ بعض المباحث الفلسفيّة، واندراجها في المجالات العلميّة، أثرُ تحفيزِ بعض المتفائلين العلمويّين على القول بخاتمةٍ مشابهة لكلِّ المباحث الفلسفيّة، حيث تضمُر الفلسفة وتتراجع إلى الخلف إذ يتقدّم العلم مالئًا كلّ المساحات. بلى، تتقدّم المِتافيزيقا، وتتراكم مع تقدُّمها المعرفة التي تعطيناها. وثمّة، في تاريخ المِتافيزيقا، محطّات تحدث فيها تحوّلات تتّسع على إثرها معرفتنا بالوجود وبأنفسنا، وتتراكم كمًّا ونوعًا، وإن كان التراكم، لا محالة، انتقائيًّا.

وهنا سؤال. إذا كانت المعرفة الإنسانيّة مَشيدةً بحسب الاجتماع، ومَصيغةً بحسب التاريخ، ومحكومةً للسياقات[10]، فهل من مسوّغٍ للعودة إلى الفلسفات القديمة في محاولة الإجابة عن أسئلة معاصرة؟ هل من جدوى تُرتجى؟ أظنّ قويًّا أنّه بلى. لماذا؟ لأنّ الحقّ واحدٌ غير قابل للقسمة! غاية الأمر أنّنا نحيط، كلٌّ من زاويته، بمقدارٍ منه، يزداد أو يتضاءل بمقدار سعة وعائنا الوجوديّ المعرفيّ. وهذا لا يدعونا إلى الوقوف عند الأنساق الفلسفيّة القديمة كمنجزات نهائيّة محيطة بكلّ ما يمكن أن يُقال. فقد يضعنا العقل الفاحص للفيلسوف المتخطّي لكلِّ اختلاجات الزمان أمام “زوايا” جديدة، نرى معها أنّ الواقع المترامي أكثر عمقًا ممّا حسبنا.

ولربّما قيل إنّ تقدُّمَ المِتافيزيقا يأتي مع تطوّر مناهجها التي يبتدعها عباقرة الفلاسفة. وللمنهج دوره، بيد أنّه اصطبغ، على الأكثر، بصبغة الإقصائيّة والقَصريّة. أي إنّه غالبًا ما وقف بإزاء الأنساق المختلفة موقفَ المبايَنة التامّة فرفضها برمّتها، وقَصَر الحقيقة على ما يستطيل عليه، متعاميًا عن كلّ ما خرج عن متناول أدواته، ومعلِّقًا إيّاه إلى اللاحين.

إذًا، ما منشؤ تقدّم المبحث المِتافيزيقي؟ هو بالطبع يأتي مع بروز عبقريّةٍ ما تعيش أقصى مديات تمرّد السؤال، وتنخلع عن كلّ معوّقاته من هيبةِ الأنساق السائدة وسلطتها، ونفوذ الرجعيّات والجمادات الشائعة والضغوط الاجتماعيّة المتفشيّة، ووطأة التفلُّت من ربقة الأستاذ المؤسّس، ونزعة الفرادة والتميّز وغير ذلك ممّا لا يجد سوى الفيلسوف الحكيم حقًّا طاقةً على تخطّيه. ولربّما أتت (العبقريّة المذكورة) بمنهجها الخاصّ. أمّا إذا صحّ ما قيل، “لولا الحيثيّات لفسدت الحكمة”، فإنّ الحكيم، قيد التقريظ، هو من تسلّط على الحيثيّات، وحَكَم بسؤدده عليها، واتّساعُ حَدَقة الحيثيّات خصيمُ انغلاق المنهجيّات – بالمعنى الإقصائيّ للكلمة.

عن أيّ الحيثيّات كلامُنا؟

إذا سلّمنا بكون المِتافيزيقا هي البحث عن أكثر بنى الواقع أساسيّةً، وهو تعريفٌ يلقى رواجًا متجدِّدًا، بل إذعانًا هو يفرضه من ذاته، فإنّ الحيثيّات المقصودة هي حيثيّات الواقع. بالتالي، الأقدرُ على الإحاطة بالواقع هو من شحذ حدسه، وكافّة أدواته، لتترصد الواقع في حيثيّاته.

قبل هذا، وليس ببعيدٍ عن زخمِ عودة المِتافيزيقا، فإنّها [المِتافيزيقا]، في سعيها لاستعادة المشروعيّة، قد كابدت عناء تبيان حيثيّاتها هي، وتمييزها عن حيثيّات كلّ من المنطق والعلم الوضعيّ. فالمنطق لا يعفينا من عناء البحث في المِتافيزيقا، ولا يغنينا عنه، لتغايرهما، فهما مجالان للاشتغال الفكريّ لهما حيّزهما الخاصّ. ومن مميّزات المبحث العلميّ الإسلاميّ، تاريخيًّا أقلّه، أنّه يعتني بتبيان مجالات العلوم وموراد اهتمامها. وهاهنا سبيلان لتمييز المنطق عن الفلسفة. أحدهما يميّز بين نوعين من الضرورة (أو الوجوب) هما الضرورة الذاتيّة (الفلسفيّة) التي تكون بمقتضى الطبائع، أو الماهيّات[11]، والضرورة المنطقيّة القائمة على أصول الهويّة وعدم التناقض والثالث المرفوع[12]، وقديمًا ماهت الفلسفة الإسلاميّة بينهما. وثانيهما التمييز بين المعقولات الثانية المنطقيّة والمعقولات الثانية الفلسفيّة، وهو من إبداعات الفلسفة الإسلاميّة[13].

والمعقولات الثانية هي أحكام ذهنيّة على الوجود، مبتوتة الصلة بالخارج إلّا من حيث هي (بعضُها كما سنرى) صفات للأعيان الخارجيّة. فحضور صور هذه الأعيان في الذهن، في كلّيّتها، ينتج المعقولات الأولى من قبيل الإنسان والنور والماء والبياض والدائرة وما إلى ذلك. وبتعبيرهم، فإنّ المعقولات الأولى عروضها واتّصافها في الخارج. ثمّ إنّ الذهن يحكم على هذه المعقولات الأولى فتتحصّل لدينا المعقولات الثانية التي جعلها الفارابيّ وابن سينا حقل اشتغال المنطق. فجاء الإشكال بأنّ بعض المعقولات الثانية، من مثل العلّة والمعلول، والإمكان والامتناع والشيئيّة وغيرها لا يمكن أن تكون موردًا لاهتمام المنطق الذي يُعنى بالقضايا الذهنيّة والحال أنّها من مختصّات القضايا الحقيقيّة. هنا ينبري نصير الدين الطوسيّ ليقعّد لحيثيّتَي المعقولات الثانية مفسحًا في المجال، شيئًا ما، لقسمةٍ لن تلبث أن تنضج مع الملّا صدرا. إذًا، ثمّة معقولات ثانية منطقيّة، تكون مظروفةً للذهن بالمطلق، ومن أمثلتها النوع والجنس، والكلّيّ والجزئيّ… وثمّة معقولات ثانية فلسفيّة لها نحو انطباقٍ على الخارج وإن كان عروضها في الذهن، وقد مرّ معك من أمثلتها[14]. بأيّ الأحوال، فإنّ مردّ كلّ تمييز بين المنطق والمِتافيزيقا يكون إلى الفارق بين الأساس الصوريّ المفهوميّ، وهو مورد اشتغال المنطق، والأساس الأنطُلوجيّ الذاتيّ، وهو مورد الاهتمام المِتافيزيقيّ.

أمّا تمييز العلم عن الفلسفة فسُبُله شتّى. فقد يُقال إنّ الاختلاف يكمن في الطبيعة التجريبيّة للعلم والطبيعة التأمُّليّة والحدسيّة والبرهانيّة للفلسفة، وقد يقال هو المائز بين الاستقراء والقياس وما إلى ذلك. بيد أنّ العلم يقتضي الفلسفة[15] – لاحظ معي أن استعمال مفردة الفلسفة دونما قيد، غالبًا ما يُقصد منه فلسفة الوجود – إذ ما لم تتحوّل المقدّمات الاستقرائيّة إلى مقدّمات قياسيّة فيستحيل تحقُّق اليقين الذي يأتينا به العلم. وهذه مسألة أستوقفت كثيرين من الفلاسفة – انطلاقًا من هيوم – تربّصوا بدوائرها المِتافيزيقا ليدحضوها. هنا تستعين الفلسفة الصدرائيّة بمقولة “الفرد بالذات” لتعلن أنّ لنا سبيلًا إلى المطلق وهو الفرد متى ما نزعنا عنه ما به التمايز وحافظنا على ما به الامتياز. على سبيل المثال، إنّنا عندما نرى الأبيض لأوّل مرّة، فإنّنا نصل من خلاله إلى الأبيض المطلق، فكلّما رأينا هذا اللون عرفناه مع عدم احتياجنا إلى تتبّع كلّ أفراده لنحيط علمًا به في إطلاقه، وذلك بمقتضى القاعدة: “كلّ ما صحّ على الفرد [بالذات] صحّ على الطبيعة”[16].

 

5.

بالعودة إلى حيثيّات الواقع، فإنّي لا أجد بدًّا، في محاولة بيان المسألة، من التمثيل بمثال. وسألجأ إلى ما عُرِف بالسؤال الأبِستِمُلوجيّ الذي طُرح في إزاء نظريّة المطابقة، أي النظريّة التي عُنيت بقراءة علاقة الذات والموضوع، والذهن والخارج، والمفهوم والمصداق. يقول الشيخ شفيق جرادي،

علينا أن نميِّز بين متن الواقع ونفس الأمر، وهو الوجود المصاحب بوحدته للكلِّ فكرًا وذاتًا وخارجًا وواقعًا – بوحدةٍ حقّة – وبين تقسيم مبنيٍّ على ما نسمّيه بـ”الما بإزاء”، ونقصد به أنّ الذات بحقيقتها موضوع، لكنّنا، حينما نريد أن نقيس على قاعدة المغايرة، فإنّنا نسمّي الذات بإزاء غيرها ذاتًا ونسمّي غيرها بإزائها، أي بما يقابلها، موضوعاً، وهكذا الفارق بين الذهن والخارج. لذا، فإنّ الثنائيّة التي دمَّرت الذات وشيّأتها، بعد أن أهملتها، هي ثنائيّة افتراضيّة أوجبَتها الضروراتُ المنهجيّة، ثمّ ما لبثنا أن حكمنا عليها باعتبارها ضرورة مسلّمة لا تقبل الجدل…[17]

إذًا، كيف ترتبط الذات بالموضوع؟ أيّهما أولى؟ هل الموضوع صنيعة الذات، أم هي تقف إزاءه موقف من لا يملك إلّا أن ينساب معه، وإن استطاع أن يقرأه؟ كيف تكون هذه الثنائيّة افتراضيّة وعليها تقتات آلاف الأوراق الفلسفيّة التي صيغت في غيرٍ عصرٍ وحقبة؟

يبدو أنّ المِتافيزيقا اليوم، في عصر ما بعد الرَّيبيّة، مدعوّة لإعادة صياغة العلاقة بين الذهن والحقائق الخارجيّة، ولا محيص عن صياغةٍ واقعيّة لهذه العلاقة قائمة على قبول الذهن جزءًا من الواقع، وإن كان جزءًا له خاصّيّة الحكاية عنه. وما لم نلحظ في الذهن تينك الحيثيّتان، فإنّ أسئلة الذات والموضوع لن تفتأ تفسد نظرتنا الفلسفيّة للعالم مع ما لهذه من تداعيات على مجمل واقعنا.

يقول مايكل دومت، وهو من مبرَّزي الفلاسفة المعاصرين،

لقد مرّت الفلسفة التحليليّة [وليست القارّيّة بأحسن حال كذلك!] مؤخّرًا، بمرحلةٍ تدميريّة؛ قلّة، بالفعل، من لم تخرج منها بعد. في تلك المرحلة، بدا أنّ المهمّة المشروعة الوحيدة للفلسفة هي التدمير. أمّا اليوم، فمعظمنا يؤمن بأنّ للفلسفة، مجدّدًا، دورها التشييديّ؛ أمّا وقد كان التدمير شاملًا، فإنّ التشييد، ولا بدّ، سيكون بطيئًا[18].

يعزو جون سيرل هذه التدميريّة إلى فقدان الثقة بالواقع وبتراكم المعرفة الموضوعيّ، ويرى أنّه لا بدّ لنا اليوم من التسليم جدلًا بالواقع الخارجيّ إذا ما أردنا الخروج من مآزق الفلسفة الراهنة ومتاهاتها. وأظنّ أنّ المسار الذي أدّى إلى ما وصلنا إليه، هو الذي بدأ بإقامة الثنائيّة الحادّة بين الذهن والخارج، ورأى للذهنِ والمعرفةِ قيوميّةً على الخارج، فما عادت، معه، المِتافيزيقا علمَ الوجود، بل غدت العلم المعنيّ بتحديد قابليّات العقل وحدود المعرفة الإنسانيّة (كانط)، وهذا ما صيّرها، في أحسن الأحوال، وصيفةً تعمل لحساب علوم المعرفة واللغة.

أمّا في الفلسفة الإسلاميّة فقد حال اجتراح الحلّ الأنطُلوجيّ للمسألة دون بقاء الوضع الإبِستِمُلوجيّ مهتزًّا، فكان أن خرج إلينا ابن سينا بعددٍ من المقولات مثل الماهيّة والمعقولات والوجود الذهنيّ، التي وفّرت، لمن تلاه، مادّةً للخروج بنسقٍ فلسفيٍّ مُحكَم يرفض الواحديّات دون أن يغرق في الثنائيّات[19]. وفي الواقع، فإنّ الاشتغال الفلسفيّ المعاصر بات يرى أن لا مفرّ له من الحلول الأنطُلوجيّة[20] لهذه المسألة الإبِستِمُلوجيّة، لذا تراه يطرح موضوعاتٍ من قبيل الوجود القصديّ intentional existence، وأنطُلوجيا المتكلِّم first-person ontology والموضوعات (الأشياء) الذهنيّة mental objects وسوف أشرح هذه المتلازمات وتداعياتها توًّا. بعبارةٍ أخرى، لقد بات أكثر اهتمامًا في تمييز الحيثيّات الوجوديّة للمسائل قيد المعالجة.

أولى النقلات المتقنة لابن سينا كانت تمييزُه بين الوجود والماهيّة[21]. ثمّ قسّم الوجود إلى عينيّ وذهنيّ. والماهيّة محايدة بالنسبة لهما. فالوجود ليس ذاتها ولا جزء ذاتها، وإلّا لما انفكّ عنها، والحال أنّ كلّ المعاناة الفلسفيّة تنصبّ على إثبات الوجود لماهيّةٍ بعينها، أو نفيه عنها! تُعينُنا القسمة المذكورة على استبيان علاقة الذهن بالخارج. فما يحضر في الذهن إنّما هو نفس الماهيّة التي تتلبّس الوجود عينًا، وإن كان أثرها في الخارج غير أثرها في الذهن – دفع الجهل.

ثمّ يميّز في الموجودات الذهنيّة بين معقولات أولى ومعقولات ثانية – وقد مرّ شرحهما. ويرى أنّ معاني المعقولات الثانية هي “مقاصد للنفس” تعبّر عنها بواسطة اللغة[22]. هنا يبدأ مشوارٌ فلسفيّ طويل سيكون له، في يومنا، أبلغ الأثر في إعادة الاعتبار إلى المِتافيزيقا. فما معنى أن يكون للنفس مقاصد؟ والنفس، هنا، تؤخذ بلحاظ كونها المعلوم[23]. أو فقل ما معنى أن يكون للوجود الذهنيّ مقاصد؟ إن كان عصيًّا تصوُّر ذلك، فمن المفيد أن نسأل عن الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ، مستكملين بذلك تفريعات الوجود في الفلسفة الإسلاميّة المابعد سينويّة (لاحظ انهمامَها بالوجود). ما ملاك كونها وجودات؟ أعتقد أنّ القصديّة التي تشتمل عليها هي محكُّ تسميتها وجودًا، فهي تشير إلى ما سواها. هي تنقل أذهاننا إلى حقائق الأشياء لاتّحادها معها. لقد فطن ابن سينا إلى أنّ من أبرز ما يميّز الذهنيّ عن المادّيّ، أو ما في الذهن عن ما في العين، هو تخطّي الذهنيّ ذاتَهُ ليشير إلى خارجها، وهذه هي الخاصّيّة التي تجعل من المبحث مبحثًا مثيرًا لكلّ أنواع الأسئلة في الفلسفة المعاصرة، وبخاصّة تلك الأسئلة المرتبطة بالمادّيّ والمجرّد.

6.

بغضّ النظر عن التباينات الطفيفة بين المفاهيم والمعقولات والماهيّات، فإنّ ابن سينا – والسينويّة – ظلّ منسجمًا مع قسمته المُحدَثة فآثر لغة الماهيّات على لغة المعقولات. أمّا غربًا، عند القروسطيّين، فقد كان أثر ابن رشد أبلغ. وهو الذي نبذ القسمة السينويّة من أصلها، وإن راقَهُ الحيّزُ الذي افتتحه ابن سينا في المعقولات، فكانت لغة المعقولات عنده، وبالتالي عند القروسطيّين (توما الأكوينيّ ودونس سكوتُس تحديدًا)، أكثر رواجًا. وقد وجد المترجم اللاتينيّ في خاصّيّة القصد في المعقولات ما يلفته، فكان أن ترجم مُفردَتَي “معنى” و”معقول” بـ”intentio” وهي تعني “القصد”. وبذا صارت المعقول الأوّل قصدًا أوّلًا “prima intentio“، والمعقول الثاني قصدًا ثانيًا “secunda intentio“. أمّا الوجود الذهنيّ فصار “وجودًا قصديًّا esse intentionale“.

وقد استعان ابن سينا بمفردة “معنى” ليدلّ على المدرَكات من حيث هي مدرَكات. وهذا معيارٌ في غاية الأهمّيّة، إذ هو الرابط بين وجهتَي النظر الأنطُلوجيّة والمعرفيّة. “عندما يكون الشيءُ الخارجيّ غرضَ إدراك أو تعقُّل، فإنّه يتمتّع بحالَتَين [إقرأ حيثيّتين]، حالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’ وحالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’. في الحالة الأولى، فهو موجودٌ قبل فعل الإدراك، وباستقلالٍ عنه، أمّا في الثانية فإنّ نحوَ وجوده يقوم على الإدراك؛ إنّه لا شيء سوى ‘كونه مُدرَكًا’”[24].

أمّا الفلسفة المعاصرة فلا تمتلك هذه الجرأة الأنطُلوجيّة، وهذا ما يفرض مبحث القصديّة بقوّة[25]. إنّه عصيٌّ على الاختزال الأنطُلوجيّ، بخاصّة لأنّه يُنشؤ علاقةً لا تناظريّة بين الذهن والموجودات، أو بين الذهن واللاموجودات (في الخارج)![26] ولا تجده خارج إطار الذهن إلّا على نحوٍ اشتقاقيّ – كما في حالتَي الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ. أمّا الإطار المعرفيّ العلمويّ الذي وجد أيّما صعوبة في قبول الوعي – في ذاتيّته ووحدته وبساطته – في العالم المادّيّ، فإنّه كان أكثر تلكّؤًا فيما خصّ القصديّة. هذا علمًا أنّ المبحث أنطُلوجيٌّ منذ استدعاه برِنتانو Brentano أوّل الأمر في دراسته النفسيّة. لقد التفت برِنتانو إلى هذا المبحث، معترفًا بفضل القروسطيّين، لأنّه رأى أنّ “الوجود ‘القصديّ’ للشيء، في إزاء وجوده الخارجيّ… يؤخَذُ كنحوٍ (نمطٍ) وافٍ (مكتفٍ) من الوجود”[27].[28]

يقول وِليام لايكان،

القصديّة عائقٌ أمام المادّيّة أكبر من أيّ شيءٍ له صلة بالوعيّ، بالكيفات qualia، بالطابع الفِنُمِنُلوجيّ، بالذاتيّة، إلخ. إذا ما استطعنا طبعنة naturalization القصديّة، فإنّ كلّ تلك المشاكل تنحلّ معها[29].

ويشرح بيير جاكوب الصعوبة التي تُثيرها القصديّة في وجه المادّيّة،

أوّلًا، لقد كانوا شديدي الحرص على تفادي الالتزامات الأنطُلوجيّة الثقيلة التي تفرضها النظريّات القصديّة. ثانيًا، كان من الصعب المواءمة بين أنطُلوجيا الأشياء اللاموجودة والأشياء المجرّدة وبين أنطُلوجيا العلوم الطبيعيّة المعاصرة التي لا ترى في العالم سوى المحسوسات القائمة في الزمان والمكان[30].

من هنا، فإنّنا نضع اليد على عددٍ من المفردات تفرض المبحث الوجوديّ ومعظمها يصدر عن الاشتغال في فلسفة الذهن المعاصرة philosophy of mind. فلقد انهمكت الفلسفة الغربيّة، طيلة القرن الماضي، بالمعرفة واللغة والمعنى. بيد أنّ الحفريّات المكثّفة في هذه المجالات، أفضت إلى إبراز الذهن كمستوًى أوّليّ سابق عليها، لا بدّ من التعاطي معه في سبيل فضّ ما انغلق أمام الباحثين في الإبِستِمُلوجيا والسِمانطيقا والتأويل. هنا وصلنا إلى معضلتين رئيستَين: الوعي والقصديّة. وقد كانتا ممّا استدعى تفحُّصَ الأنساق الفلسفيّة القديمة سعيًا وراء حلول. ولئن تردّد الفلاسفة في قبول مقولةٍ أنطُلوجيّة صارخة من قبيل الوجود الذهنيّ – أو القصديّ – فإنّهم بدأوا بالتعاطي مع موضوعات من قبيل “الأشياء الذهنيّة”، وهي، من حيث كونها أشياء، فلها حيثيّتها الوجوديّة البارزة، وكذلك من قبيل “أنطُلوجيا المتكلِّم”، أي ما يُشكِّل خطوةً أولى في الابتعاد عن الأنطُلوجيا التسطيحيّة للمعرفيّة القائمة على تقديس العلوم الوضعيّة. عنيتُ إقصاء كلّ ما هو ذاتيّ، أي كلّ ما لا يطاله مسبارُ التجريب، من حقل المعرفة الشرعيّة.

إنّ إعادة طرح مسألة الذات والموضوع بهذا الزخم، وعلى هذا النحو، يُفسح في المجال لعودة المباحث المِتافيزيقيّة بكلّها. هذا لا يعني أنّ المِتافيزيقا كانت خارج التداول بالمطلق، فهذا غير ممكن؛ بل قد هي عولجت حتّى في أعتى مراتع الوضعيّة المنطقيّة، وإن بعناوين مختلفة وبأقلام مُحرَجة. أمّا اليوم، فإنّها تعيش، بحسب تعبير جوناثن لوو، عصرًا فضيًّا[31] (وليس ذهبيًّا، إذ هو يعقد المقارنة مع اليونان القديمة) يُبشّر بقلبِ العمليّة التدميريّة التي مرّ ذكرها، وبعودة الاعتبار إلى عددٍ من المباحث التي أحيلت، في وقت من الأوقات، إلى العَبَث الكلاميّ والخرافة والغنّوصيّة والتي لا تجد، بين أتباعها، سوى الغاوين.

بعبارةٍ أخرى، فإنّ البذرةَ الفلسفيّة التي وُضعت في عصرَي النهضة والتنوير أثمرت إعادة قراءةٍ لكلِّ مسلَّمٍ وأفضَت إلى صياغاتٍ وبنًى جديدة. وعلى ما في هذا الأمر من تحريكٍ للذهن البشريّ، إيجابًا حينًا، وسلبًا أحيانًا، فإنّها وصلت إلى إعلان موت كلّ ما يرتبط بمركَزَي الثبات في المِتافيزيقا القديمة (العقل والوحي). ولأنّ العقل البشريّ يأبى إلّا السعيَ إلى مصادر اليقين، فإنّ الرَّيبيّة والتفكيكيّة واللاأدريّة وغيرها بدأت تُخلي مطارحَها لحساب نوعٍ مختلفٍ من العقلانيّة الواقعيّة التي جاءت لتضع حدًّا لجنون “النهايات”، ولتفتح باب “الاستعادات”، في عودةٍ لمباحث الأُنطُلوجيا والذات والقِيم والغاية، والماقبل، وكلِّ المبحث الخُلُقيّ والدينيّ، إلخ.

أقول، إنّ الظرف الراهن يوفّر فرصةً للفلسفة الإسلاميّة، بما تحتضنه كذلك في مباحثها الدينيّة، وبخاصّة في علم الأصول، وفي مباحثها القيميّة والخُلُقيّة، وبخاصّة في الحكمة العمليّة والعرفان النظريّ والعمليّ، لتتقدم دون وجل، بعد تطوير لغتها بما يتناسب مع هموم الاشتغال الفلسفيّ اليوم، وتطرح حلولها في كلّ المجالات، ولتمتحن ذاتها في جدل تقابل الفكر والفكر، دونما استحياء، ولتزاول المِتافيزيقا، كما اعتادت، بما هي إلهيّات، بمعنييها الإعمّ والأخصّ[32]. إنّنا نعيش عصرًا فلسفيًّا مثيرًا بالفعل!

[1] عن السؤال المهاجر، انظر، شفيق جرادي، “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2009)، العدد 19، الصفحات 89 إلى 94.

[2] تجد، في هذا العدد، أحد أبرز الأمثلة على مَفصَلةِ المِتافيزيقا لتكون على قياس الوجود الخاصّ. انظر، إيمانويل لِفيناس، “الأنطُلوجيا: هل هي تأسيسيّة؟”، ترجمة عليّ يوسف. وهذا تيّارٌ رائجٌ في الفلسفات الفرنسيّة والألمانيّة، ترفضه الفلسفة التحليليّة بشكلٍ عامّ. فهي تتبنّى بقوّة تعريف غوتلوب فريغه Gottlob Frege للوجود إذ يماهيه بالعدد 1، فيكون خلافه (العدم) العدد صفر (وهذا امتدادٌ لتأثير كانط في حصره للوجود بالوجود الرابط copula). وهذا ما يُسمّيه بيتر فان إنواغِن بالمفهوم الرفيع للوجود thin conception، في مقابل الوجود الكثيف thick conception عند القارّيّين، وهي قسمةٌ أخذها عن أستاذه ويلارد كواين، أبرز الفلاسفة الأميركيّين في القرن الماضي. انظر،

  1. van Inwagen, Ontology, Identity and Modality: Essays in Metaphysics (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), 4.

[3] انظر، في هذا العدد، خنجر حميّة، “إشكاليّة المِتافيزيقا وأزمة تجاوزها في فلسفة العلم المعاصرة: جدل الفكر والواقع عند غاستون باشلار”.

[4] في إشارة إلى كتابه Prolegomena zu einer jeden künftigen Metaphysik، الذي تُرجم إلى العربيّة تحت عنوان، مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا، ترجمة الدكتورة نازلي اسماعيم حسين، مراجعة عبد الرحمن بدوي (القاهرة: دار الكتاب العربيّ، الطبعة 1، 1967).

[5] في إشارةٍ إلى كتابه Philosophie als strenge Wissenschaft وقد تُرجم إلى العربيّة. انظر، هُسّرل، الفلسفة علمًا دقيقًا، ترجمة وتقديم محمود رجب (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002).

[6] تجد تحليلًا قيّمًا لهذه المسألة في المقالة المترجمة في هذا العدد لإدوارد نيكول. انطر، “العودة إلى المِتافيزيقا”.

[7] انظر،

  1. van Inwagen, Ontology, Identity and Modadility, Ibid. p. 1, fn. 2.

[8] يقول إدوار نيكول، “المبدأ الأوّل هو الدليل الحضوريّ. والمبدأ ليس إيجادًا بل حيازة دائمة”. “العودة إلى المِتافيزيقا”، مصدر سابق.

[9] عن محظورات الاحتكام إلى العقل وحده، انظر، في هذا العدد، محمّد مصباحيّ، “المِتافيزيقا في مواطنها الأصليّة: حوار الفلسفة والتصوُّف”.

[10] انظر،

  1. Searle, Philosophy in New Century: Selected Essays (Cambridge: Cambridge University Press, 2008), 8-9; W. Sweet (ed.), Approaches to Metaphysics (Dordrecht: Kluwer Academic Press, 2004), 6, 17.

[11] من قبيل قولنا “النار تحرق بالضرورة” بمقتضى طبيعتها.

[12] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، “الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”؛ وأيضًا، جوناثن لوو، “إمكان المِتافيزيقا”. يقول الشيخ بدران، في بيانه للهجمة على المِتافيزيقا، “ولم يقتصر النقد على شيئيّة الوجود، وإنّما امتدّ إلى النظام المنطقيّ الذي انبثق عنه”. وبالفعل، فإنّ عمليّة نزع الشرعيّة عن المِتافيزيقا، راكمت زخمها الأساسيّ على إثر الهجمات التي انصبّت على مبدإ عدم التناقض، فزلزلت التوافق التاريخيّ عليه. ومع العودة التي تشهدها مباحث المِتافيزيقا، فإنّ مباحث المنطق المصاحب لها تشهد تعافيًا ملحوظًا، كذلك. انظر، على سبيل المثال،

  1. N. Zalta, “In Defense of the Law of Non-Contradiction”, in G. Priest and B. Armour-Garb (eds.), The Law of Non-Contradiction: New Philosophical Essays (Oxford: Oxford University Press, 2004); M. Dummett, The Logical Basis of Metaphysics (Cambridge: Harvard University Press, 1991).

[13] انظر، مرتضى المطهري، شرح المنظومة، ترجمة عمار أبو رغيف (مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1417هـ)، الصفحات 110 إلى 141.

[14] المصدر نفسه، الصفحات 138 إلى 141.

[15] “ما من علمٍ يعول نفسه بنفسه” بعبارة نيكول. انظر، أيضًا، “إمكان المِتافيزيقا” لجوناثن لوو.

[16] مهدي الحائريّ اليزديّ، هرم الوجود، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقانيّ (بيروت: دار الروضة، 1990)، الصفحة 158.

[17] “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مصدر سابق، الصفحة 92.

[18] انظر،

  1. Dummett, The Logical Basis of Metaphysics, op. cit., Intro.

[19] انظر، في هذا العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.

[20] ثمّة حلّ منطقيّ للمسألة، تقدّم به الملّا صدرا، يقوم على التمييز بين نوعين من الحمل: الحمل الأوّليّ الذاتي، أو الحمل المفهوميّ، والحمل الشايع الصناعيّ، أو الحمل المصداقيّ. انظر، للاستزادة، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 68 إلى 73.

[21] يرى روبرت ويزنوفسكي أنّ الإنجاز الأساسيّ عند ابن سينا كان في مبحث الموادّ الثلاث (الوجود، العدم، الإمكان)، وهو يقابل مبحث الجهات الثلاث في المنطق. وهذا دليلٌ آخر على أنّ عبقريّة ابن سينا كانت في بيانه وتفصيله لحيثيّات الواقع (والجهة هي الحيثيّة) بما فسح في المجال لتقدُّم فلسفيٍّ هائل. ومبحث الجهات modalities يحتلّ حيّزًا واسعًا في المنطق الغربيّ المعاصر بعكس المنطق القروسطيّ أو الأرسطيّ. أمّا بعد ابن سينا، عند الفلاسفة المسلمين، فقد صار عمدة المبحث المنطقيّ هو الجهات والموجّهات – يُسمّيها طلبة المنطق “الموجّعات”، في دليلٍ آخر على أنّ أكثر ما يُجهد ذهن طالب الفلسفة وحدسَه، إنّما هو تقصّي المسائل في حيثيّاتها. انظر،

  1. Wisnovsky, “Avicenna and the Avicennan Tradition”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), 113-115; T. Street, “Logic”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), op. cit. 256-257.

كما وانظر، في هذا العدد، نادر البزريّ، “السينويّة ونقد هايدِغر لتاريخ المِتافيزيقا”. وهذه قراءة مقارنة تبرز إسهامات ابن سينا في المِتافيزيقا بعد تخليصها من بعض الأخطاء التاريخيّة. قارن، في العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.

[22] ابن سينا، الشفاء: المنطق 3، العبارة، تحقيق محمود الخضيري، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور (القاهرة: دار الكاتب العربيّ، 1970)، الصفحات، 2-3.

[23] على مبنى اتّحاد العلم والعالم والمعلوم، وهو في خصوص النفس لا مأخذ لابن سينا عليه، يكون العلم والعالم والمعلوم اعتبارات يجترحها الذهن وهي النفس في أحوالها.

[24] انظر،

  1. M. De Rijk, Giraldus Odonis O.F.M. Opera Philosophica. Volume Two : De Intentionbus (Leiden – Boston : Brill, 2005), 2-3.

[25] الوعي، فلنكتف بتعريف سيرل على سبيل المرونة، “يتكوّن من حالات شعورٍ أو إدراكٍ باطنيّة، ذاتيّة، كيفيّة”. وهذه الخصائص الثلاث هي ما يجعل من الوعيّ “المشكلة الكبرى”، بتعبير دايفِ تشالمرز، وما يخلق، بتعبير جوزِف ليفين، “فجوةً تفسيريّةً” تعجز الأطر الفلسفيّة الراهنة عن ردمها. وثمّة، هنا، نقاشٌ محموم حول ما يُشكّل علامة الذهنيّ the mark of the mental في إزاء المادّيّ. وقد برز إلى الساح مرشّحان: الوعي والقصديّة؛ فكان من أنصار المرشّح الأوّل، جون سيرل، على نحوٍ ملحوظ، أمّا “القصديّون” فكثر وأشهرهم ألِكسيوس ماينونغ، رودريك تشيزولم، وويلارد كواين، ومؤخّرًا، ويليام لايكان وتيم كراين. هذا علمًا أنّ أكثر الفلاسفة القارّيّين، وبخاصّة هُسِرل وسارتر، لا يرون بونًا بين القصديّة والوعي إذ “كلّ وعيٍ يتوجّه نحو غرَضٍ (موضوعٍ) ما؛ بكلامٍ آخر، كلّ وعيٍ هو وعيٌ بأمرٍ ما”. انظر،

  1. Searle, “Consciousness”, Annu. Rev. Neurosci. (2000) 23: 557–578; D. Chalmers, 1995. “Facing up to The Problem of Consciousness” Journal of Consciousness Studies 2: 200-219; R. Chisholm, Perceiving: a Philosophical Study (Cornell University Press, 1957), ch. 11; W.V.O. Quine, Word and Object (Cambridge, Mass.: MIT Press), ch. 6; W. Lycan, Judgment and Justification (Cambridge: Cambridge university press, 1988; T. Crane, Intentionality as a Mark of the Mental in A. O’Hear, Current Issues in Philosophy of Mind, Royal Institute of Philosophy Supplement: 43 (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), 229-252; T. Crane, Elements of Mind (Oxford: Oxford University Press, 2001) ch. 1 and 3; M. P. Banchetti-Robino, “Ibn Sīnā and Husserl on Intention and Intentionality”, Philosophy East and West (Jan., 2004), 54 (1): 76.

[26] وقد كان هذا عنصرًا محرّكًا عند ابن سينا نفسه. فقد دعته محاولات المعتزلة، برأيه، تشيئةَ العدم، إلى الإصرار على واقعيّة الوجود الذهنيّ لتبرير معرفتنا بالّلاموجودات. فما لا حظَّ له من الوجود الخارجيّ، فهو موجودٌ ذهنيّ، وأحكام الوجودين تختلف بلا ريب. انظر، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 147 إلى 157. وأيضًا، D. Black, “Intentionality in Medieval Arabic Philosophy”,.

[27] انظر،

  1. M. De Rijk, De Intentionbus, op. cit. 23.

[28] لقد كان لمحوريّة فرانتز برِنتانو (1838-1917) Franz Brentano في الفلسفة الغربيّة أثر الترويج لمبحث القصديّة في الفلسفتين القاريّة – من خلال تلميذه هُسِرل – والتحليليّة – من خلال ماينونغ تحديدًا. في الواقع، فإنّ البعض يعتبره رائد التقليدَين الغربيّين، القاريّ والتحليليّ.

[29] انظر،

  1. Lycan, “Giving Dualism its Due,” Aust. J. Phil. (Dec. 2009) 87 (4): 551-563, fn. 8.

[30] انظر،

  1. Jacob, “Intentionality”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition), E. N. Zalta (ed.), URL = <http://plato.stanford.edu/archives/fall2008/entries/intentionality/>.

[31] انظر،

  1. J. Lowe, “New Directions in Metaphysics and Ontology”, Axiomathes (2008), 18:273–288

[32] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، ” الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”، حيث يبيّن أسباب ترجمة المِتافيزيقا، في الوسط الفلسفيّ الإسلاميّ، بالإلهيّات.