إفتتاحية العدد 25

الافتتاحيّة العدد 25

افتتاحيّة العدد

1.

لا يتخلّف موضوع هذا العدد (الوحي) عن سياق موضوعات الأعداد السابقة من حيث هو موضوع يطرح نفسه اليوم بعد أن تجاوز عقودًا من القدح بمشروعيّته كشأن معرفيّ[1]، أو بعد أن تكرّس، ولعقود أيضًا، في صيغ معلمَنة بالكامل[2]، لينفتح على مُحتمَلات أكثر انشراحًا في زمن تفتُّت الثنائيّات الصلبة والإقصائيّات الحادّة.

إنّ طرح موضوع الوحي، لا كشأن هامشيّ (تاريخ-دينيّ أو تاريخ-فلسفيّ مثلًا)، ولا كمفردةٍ نقيضةٍ تُبرز صفاء المفردات الحداثويّة – كما في إشكاليّة العقل والوحي التقليديّة[3] – إنّما يعبّر عن روح هذا العصر، الذي قد وسمناه في افتتاحيّة سابقة بأنّه عصر “الاستعادات”، وإن كنّا نرى حاجة أن نكرّر أنّ هذه الاستعادة لا تريد القديم لقدمه على غرار روح عصر أرادت الجديد لجِدته[4]. بل هي استعادة الناضِج المجرّب الذي خبر القديم والجديد، وعرف أنّ الحقّ متساوي النسبة إلى كليهما.

إنّ ضمور العقليّة الاختزاليّة لا ينبغي أن يُفسح في المجال لعقليّة اجتزائيّة، تتمثّل الموضوعات التي جُعلت قيد الطمس في المرحلة السابقة، وتقبل بها على أساس اجتزائها، أو استيعابها، في منظومات تتناقض في أصل غرضها مع ما جُعلت له تلك الموضوعات.

إنّ ضمور العقليّة الاختزاليّة يجب أن ينسحب ضمورًا في قيمها ضيّقة الأفق، محدودة الإطار، التي، متى ما أخفقت في إحالة كلّ المقدّسات إلى وهم، جعلت المقدّس والمدنّس سواء، وساوت بين كلّ الأشياء، ثمّ أقرّت للمقدّس بوجود في وجدان معتنقيه فحسب، وتعاطت معه بحسب تعبيراتهم.

قد يرى البعض في ذلك رحابةً معرفيّةً تُغادر الإقصائيّة ولا تتخلّى عن مكتسبات الأنوار والحداثة من عقلانيّة وموضوعيّة (حياد) وصرامة علميّة. إلّا أنّ هذه المكتسبات – في حدّتها وإطلاقها – تضعضعت من الداخل. فالعقل أثبت بعجزه أنّه ليس الملكة الوحيدة ذات القيمة في الإنسان، وأنّ الذات المجرّدة التي انفصلت عن موضوعها لتتسلّط عليه، وتُحكم معرفتها به، استغرقت في التجرّد إلى حيث لم تعد معرفةٌ ممكنةً، لم يعد شيءٌ ملموسًا. والصرامة العلميّة التي ما برحت تغوص في عمق الأشياء تحليلًا وتشريحًا لم تضع اليد إلّا على نماذج رياضيّة وألغوريزمات (خوارزميّات) تفسيريّة تلائم العالَم الافتراضيّ. أمّا عالمنا فليس افتراضيًّا، وإن تأسّست على اعتباره افتراضيًّا فلسفات ورؤًى قدّمت نفسها على أنّها ذروة ما قد فُكِّر فيه. أمّا الحياد فما أدري ما أقول فيه لتفاهته. وأعتذر عن اللغة المتمادية. ليس الحياد سوى تسويغ لرؤية جعلت نفسها قيّمةً على الرؤى.

2.

تستفيد الاجتزائيّة من التحشيد الكبير للأنساق الفكريّة – وهي اليوم تتداعى – التي ترى في عودة الدينيّ تهديدًا لها – ولا ينبغي للدينيّ أن يعود دونما مراجعة! ونحن كنّا قد عالجنا في العدد السابق مبحث الإيمان، وهو يصلح، في هذا الصدد، لنمثّل من خلاله العقليّة الاجتزائيّة[5]. فهو، كسائر “الأوهام”، عاد عصيًّا على الاختزال. وكيف نحذفه ونحن نرى فعله في حياة المؤمنين؟ فليكن كذلك. نقرّ به من حيث هو شأن بشريّ خاصّ، لا يلزم منه أن يعمّ الناس جميعًا، ولا يلزم أن يكون له اتّجاه معيّن، كأن يشير بذاته إلى مقدّس دون آخر، فنقع في محذور المعياريّة والمفاضلة القيميّة – لا سمح الله! يرجع الإيمان، إذًا، مفردةً ذات مشروعيّة، لا بأس بتعاطيه في أيّ شأن أكاديميّ، ولا يقدح في علميّة متداوليه. هنا، تمارس الإقصائيّة المنهجيّة رقابتها كي لا يتفلّت هذا المبحث، أو أيّ مبحث مماثل، نحو وجهة قيميّة، أو مجاوِزة[6].

لكن ماذا تفعل الاجتزائيّة، والحال هذه، بمبحث الوحي، وهو متفلّت في جوهره[7]، بمعنى أنّه لا يمكن أن يُستوعب في إطار الذات الجوّانيّ مع كوننا لم نعد قادرين على تجاوزه أو اختزاله كما الموضوعات الأخرى؟

3.

موضوعيّة الوحي، إذًا، هي أولى المسائل الحامية ذات الصلة. وإن كان النقاش في الإيمان يتّخذ من متعلَّقه موردًا، فما هو المورد المقابل في حالة الوحي؟ لقد استثمرت الإجابات التي أرادت فرض السكوت على كلّ قول بمصدر للوحي خارج الذات على أنّه الموقف العلميّ الملائم، استثمرت في مقولة النبوّة، وفي المعالجات الفلسفيّة والغنّوصيّة لهذه المقولة. ونحن نرحّب بالإذعان لهذه الصلة بين الوحي والنبوّة. بيد أنّ تعريف النبوّة على أنّها شأن داخليّ مترتّب على الرياضات والمجاهدات السلوكيّة الروحيّة بحاجة إلى مؤونة لا تنهض بها الأدلّة التاريخيّة والعقليّة في المعالجة. ثمّ إذا سلّمنا جدلًا بهذا التعريف للنبوّة الذي لا يجد في دلالات المفردة اللغويّة ما يعارضه، ماذا نفعل بمفردة الرسالة (والرسول والمرسَل)؟ ألا تفترض الرسالة مرسِلًا كذلك؟ هل يستقيم الأمر لمن يريد أن يعمل من ضمن المنظومة الدينيّة أن يعترف بالنبوّة والرسالة والهداية – وهي تفترض العصمة – ثمّ يقولَ بوحي منبتّ الصلة بالمرسِل والهادي؟

بالفعل. إذا كان الإيمان جدلًا صاعدًا فالوحي، بمراتبه، جدل نازل، أو متنزَّل. فالذات التوّاقة التي ترنو إلى ما وراءها لا بدّ لها من استجابة، وإلّا لماذا جُعل التوق ذاتيَّها؟ أليست واقعيّة التوق هذا دليل واقعيّة الاستجابة تلك؟

في واقع الأمر، إنّ الاستهانة بالمعنى، معنى أن تكون إنسانًا، معنى أن تنتمي إلى تاريخ، إلى خبرة، معنى أن تنهمّ بالمعنى، وتنقّب عن المعنى، في كلّ مقبلة ومدبرة من شؤون الوجود، إنّ هذه الاستهانة تجعل من فصل التوق عن الاستجابة أمرًا هيّنًا، بل تداعيًا تلقائيًّا. فلا غرابة، إذًا، في زمن نُبِذ فيه المعنى، إذ عُدّ مِتافيزيقيًّا، وازدُريت فيه الغاية، إذ عُدّت لاهوتيّةً، أن يكون فعلٌ ولا من غاية، وأن يكون قصد ولا من معنًى، وأن يكون توق ولا من مُتعلَّق.

4.

أمّا وقد سلّمنا للوحي بمُتعلَّق هو مصدره، فما علينا لو تعدّد المصدر؟ هل يقدح في موضوعيّة الوحي تكثّر الموضوع وتغايره[8]؟ لنا أن نقول في ذلك، مرحليًّا فحسب[9]، إنّه يقتضي تكثّر الطبيعة البشريّة وتغايرها، ولا سبيل إلى ذلك برأينا – لا سيّما في ضوء المراجعات التي تسم زمننا الفكريّ هذا، والذي شكّل فيه السؤال عن الإنسان واحدًا من أبرز دواعي المراجعة.

بأيّ الأحوال، لعلّ الاستنكاف عن الولوج في مسألة موضوعيّة الوحي له دواعيه في حفظ بشريّته. إذ قد يُخشى من تضييع جنبة الوحي البشريّة إذا ما استغرقنا في جنبته الإلهيّة. وللاستنكاف مسوّغه. بل تاريخ الفكر الدينيّ بأغلبه يبعث عليه. فهو تاريخ أقصى كلّ التفاتة إلى الإنسانيّ صونًا للإلهيّ عن ما يَشرَكه. وما يدريك لعلّ البشريّ وجه الإلهيّ، ذاك الكنز المخفيّ، المكنون، المطويّ في غيب الغيوب.

إنّه العقل الإقصائي مجدّدًا؛ بلغ بالتنزيه حدّ التعطيل، أو قرع بالتشبيه باب الأنسنة. فهل من سبيل إلى الاعتراف بإلهيّة الله دون القدح بإنسانيّة الإنسان؟ أظنّ أنّ أكثر السُّبُل تجري هذا المجرى، إلّا أنّنا عندما أردنا بالمعرفة تأكيد الذات، تفرَّقت [السُّبُل] بنا عن سبيله. إنّها عاداتنا المعرفيّة التي لم ترد من المعرفة سوى التسلّط والإحاطة، سوى الاستحواذ على الألوهيّة كلّها دون ترسيخ ما هو إلهيّ فينا. والمعرفة، أصَبْتَ، المؤشِّرُ إلى الإنسان. لكنّها، بمعزل عن الله، تنطوي على نفسها، وتُستَهلَك في ممكناتها.

5.

الوحي إذًا ضمانة المعرفة. نعم، المعرفة كامنة في الإنسان، قد تتفعّل في غير اتّجاه، وهل الإلهام، والحدس، والشهود، والخيال، سوى منافذ على المعرفة كلٌّ في اتّجاه؟ ولا يجرمنّك القول بموضوعيّة الوحي على إغفال ذاتيّته. نحن إنّما نطعن في الإقصائيّة الرائجة لا لنُحِلّ محلّها إقصائيّةً من عندنا. فالقطيعة بين المقامات المعرفيّة – سمِّها هنا عرفانيّة – وبين الوحي الآتي الذاتَ من خارجها ليست من قبيل الحدّة التي يبعث عليها الاستغراق في نحو المعرفة الذي يقوم على فصل الذات عن موضوعها، وهي قسمة حادّة لا محالة. لكنّها كانت لحظةً مميّزةً في زمننا الفكريّ هذا عندما وصلنا بهذا النحو إلى ذروته، وإلى حدود استطالته بالتالي، وعرفنا أنّ للمعرفة نحوًا آخر، بل أنحاء أخرى – وهذا بدوره دعا إلى مراجعة واستعادة في باب المعرفة[10].

تصاحبت هذه المراجعة الإبستمولوجيّة مع الانعطافة اللغويّة التي طغت على معظم الاشتغال الفلسفيّ في القرن العشرين، ومع ثورة تأويليّة في الإطار الفلسفيّ القارّيّ. وقد أدّى تقاطع السياقات هذا إلى انفتاح في الحقول المعرفيّة، بعضها على بعض، كما يشهد على ذلك رواج المقاربات البين-منهجيّة والعبر-منهجيّة، وانفتاحها على أفق، إذا جاز لي القول، يتجاوز الواقعيّة المادّيّة. في المقابل، كان لهذا التقاطع أثر إحيائيّ على المباحث الدينيّة التقليديّة التي باتت، بدورها، أكثر انفتاحًا على هذه الحقول المعرفيّة، وأكثر تواضعًا تجاه جزئيّاتها. هنا تذلّلت، أو تكاد، ثنائيّة أخرى: أيّهما أبلغ مدخليّةً إلى المعرفة، الكلّيّ أم الجزئيّ؟

ما طبيعة المعرفة التي ينطوي عليها الوحي؟ وهل تتّسع اللغة البشريّة لهذه المعرفة؟ هل يصحّ منّا السؤال عن انسكاب كلّيّات الوحي في جزئيّات اللغة، أم هل نقف هنا حائرين أمام تضعضع كلّ الحدود بين اللغة والوجود، وبالتالي، بين الإنسانيّ والإلهيّ؟

لعلّ هايدغر كان مصيبًا عندما قال إنّ اللغة هي حيث يرتع الوجود، حيث يسكن الإنسان[11]. إلّا أنّ هذا الملاذ الذي يحكي الإنسان، يحمل أيضًا بواعث كماله. يقول تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[12].

ما دلالة “اقرأ” المفتاحيّة هذه؟

إنّ الله بعد أن منّ على الإنسان بالوجود، أراد له أن يصل إلى كمال وجوده، فيترقّى عن مرتبة “العلق”، وهي المادّة المستعدّة لقبول الهيئات، خيرًا وشرًّا. وإذ قد تعهّدَها اللهُ بالتربيّة، فإنّها تصل إلى كمالها. ولـمّا كان ترتُّب الحكم على الوصف، بحسب القاعدة الأصوليّة، مشعرًا بكون الوصف علّةً[13]، فإنّنا ندرك علّةَ نسبةِ العلم إلى “ربّك الأكرم”. لأنّ الربوبيّة اسمٌ مشتقُّ من التربيّة[14]، وهي إيصال الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا؛ يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه في التحميد لله تعالى: “وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيّته“. أمّا الأكرميّة فلأنّ نعمة كمال الوجود تضاهي نعمة أصل الوجود على شرفها.

هنا مكمن الوحي: حيث يتقاطع الخلق والإيجاد مع التربية والهداية. وكلّ فصل لهما يعزل الوحي مقدّمةً لنفيه، تمامًا كما كلّ فصل بين مسار الاستهداء الصعوديّ ومسار الهداية النزوليّ؛ يقول تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)[15].

وعليه، ليس قولنا نزول الوحي، أو تنزّله، حطًّا من قيمته، كما أنّ هبوط آدم من الجنّة ليس اقتصاصًا منه، بل كلاهما مقدّمة للاكتمال الذي لا يكون إلّا حيث يستطيع الإنسان استكشاف ممكنات بشريّته في إطار نُظُم الهداية المجعولة في الكون وفيه.

مع العدد

يُطوّر شفيق جرادي في المقالة الأولى من الملفّ مقاربته التي يتقدّم بها تحت عنوان “إلهيّات المعرفة” مبيّنًا بعض خصائصها، ومستعينًا بها لإقامة الربط بين الوجود والوحي، مناقشًا، من ثمّ، عددًا من الأطروحات الإسلاميّة والعلمانيّة فيما خصّ الوحي.

وفي المقالة الثانية، يعالج غلام رضا جمشيديها وأبو الفضل مرشدي رؤية الفارابي الفلسفيّة للوحي، فيتناولان إشكاليّة العلاقة بين الفيلسوف والنبيّ التي قامت على التفاضل بين ملكتَي الخيال والعقل في الإنسان.

في ثالث المقالات، يعرض لنا محمّد مرتضى لرؤية العلّامة الطباطبائي للوحي من حيث هو شأن تكوينيّ وشأن معرفيّ في آن، معالجًا الإشكالات الناتجة عن هذه الطبيعة المزدوجة.

أمّا رابعًا، فيقرأ أحمد واعظي محاولات نصر حامد أبو زيد تطبيق مناهج الهرمنوطيقا الحديثة على النصّ القرآنيّ مبيّنًا مثالب هذه المقاربة وسقطاتها.

نستكمل الملفّ في أربعة أوراق قدّمت في ندوتَين أقيمتا بالتعاون مع كلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت.

يُعالج محمّد زراقط في أولى الأوراق الفهم الإسلاميّ للوحي، دلالةً واصطلاحًا، متابعًا الوحي في فعاليّاته الحضاريّة والقيميّة. ويقدّم جورج صبرا القراءة المسيحيّة للوحي، بالأحرى الكشف، على ضوء التحدّيات التي فرضتها الحداثة، مبيّنًا النتائج الإيجابيّة لهذا التلاقح الفكريّ على الفهم الراهن للوحي في المسيحيّة.

في الندوة الثانية، طالع حسين إبراهيم النقاشات الكلاميّة حول الكلام الإلهيّ وصلته بمراتب وجود القرآن، مستعرضًا آراء المدارس المختلفة بطريق نقديّ. في حين قدّم جوني عوّاد الفهم المسيحيّ، الكالفينيّ بخاصّة، للكتاب المقدّس، أو الكلمة المكتوبة، وصلتها بالكلمة الحيّ، أي المسيحي.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على ثلاث دراسات. الدراسة الأولى هي تتمّة مقاربة مهدي الحائري اليزدي لنظريّة المعرفة في الإسلام. وهنا، يتابع قراءة المعرفة الحضوريّة مبيّنًا خصائصها في مقابل المعرفة الحصوليّة.

في الدراسة الثانية، يستعرض السيّد محمّد المرندي وزهرة خوارزمي مسيرة حلقة كيان الإيرانيّة التي ضمّت عددًا من أبرز المفكّرين الإيرانيّين بعد الثورة، ويبيّن مآل هذه الحلقة بعد أن تبنّت المقولات اللِبراليّة، وصارت مروّجًا لها في الساحة الفكريّة الإيرانيّة.

أمّا ثالثًا، فنقدّم ترجمةً جديدةً لمقالة جيل دولوز وفِليكس غتاري “ما الفلسفة؟” التي يعرضان فيها فهمهما للفلسفة على أنّها صناعة ابتكار الأفاهيم.

وفي باب “حكماء”، نقرأ سيرة حكيم معاصر، هو العلّامة الطباطبائي، بقلم أحد أبرز تلامذته، عبد الله جوادي آملي.

والحمد لله كما هو أهله

محمود يونس

[1] انظر، الأعداد 21 “عودة المِتافيزيقا”، و22 “المعاد”، و24 “لإيمان”.

[2] انظر، العدد 19 “الزمن”، و23 “الجسد”.

[3] ونحن نتجاوز، في هذا العدد، عن هذه الإشكاليّة إلّا بشكل عابر. فإن لم يكن كافيًا ما كُتب فيها، وهي ثنائيّة تنفعنا في تبيان معالم النقاش، فإنّها، وقد تشيّأت كغيرها من الثنائيّات الصلبة (الذات والموضوع، الجسد والذهن، وما إلى ذلك)، تستوجب نقلةً ذهنيّةً تخرج بنا من أسر الإسقاطات المِتافيزيقيّة، وبالتالي، مقاربةً تنظر في الجذور والفعاليّات.

[4] شكّل عصر “النهايات” ردًّا طبيعيًّا على هذا التطرّف في الإقصائيّة.

[5] انظر، المحجّة، العدد 24.

[6] ليست هذه المقاربة، بطبيعة الحال، حاسمة. بل المعالجات التي انطوى عليها العدد السابق إنّما تحضُر لتُبرز خَتَلها، والمنفسَحَ الرحب خارجها.

[7] الإيمان، بهذه المعنى، متفلّت، لا يمكن حصره في الذات، إذ فعل آمن فعل متعدّ، يقصد إلى خارج، بيد أنّ آليّات تغييب الخارج أفعل في الإيمان منها في الوحي كما سنرى.

[8] إنّ القول بموضوعيّة الوحي يأتي في مقابل القول بذاتيّته، بمعنى عدم وجود حقيقة له خارج الذات، فيكون صنيعة الذات. ونحن نريد خلاف هذا المعنى كما نبيّن في المتن. وعندما نعبّر، في هذا السياق، بـ”موضوع”، فالمراد منه ما هو تحقّق موضوعيّة الوحي، أي حقيقة الوحي الموضوعيّة.

[9] سيكون موضوع العددين 26 و27 هو “الطبيعة البشريّة” حصرًا. ونحن بذلك نختتم سلسلة الموضوعات الأخيرة التي عالجتها المحجّة في الإضاءة على عدد من المباحث التي يتقاطع فيها الفلسفيّ بالدينيّ، ولكن على ضوء المراجعات التي خفّفت من غلواء الحدّة المنهجيّة والهيمنة الفكريّة لعدد من المدارس الفكريّة المعادية للدين، وأحيانًا للفلسفة، في مقاربتها.

[10] هذا يدعونا، بطبيعة الحال، إلى الاستثمار في مقولة المعرفة الحضوريّة التي أسّس لها الحكماء المسلمون، ولم تغب، لم يمكن لها أن تغيب، عن بصائر غير واحد من حكماء الشرق والغرب، محدثيهم وقدمائهم.

[11] انظر،

  1. Heidegger, “Letter on ‘Humanism’,” trans. Frank A. Capuzzi, in M. Heidegger, Pathmarks, ed. W. McNeill (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), p. 239.

[12] سورة اقرأ، الآيات 1 إلى 5.

[13] الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي، منية المريد في أدب المُفيد والمُستفيد، تحقيق رضا المختاري (بيروت: دار المرتضى للطباعة والنشر والتوزيع، 2008)، الصفحة 95.

[14] السيّد عليّ خان المدني الشيرازي، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين عليه السلام، الطبعة 2 (قم: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1414هـ)، الجزء 1، الصفحة 320.

[15] سورة البقرة، الآية 282.

إفتتاحية العدد 24

افتتاحية العدد 24

افتتاحيّة العدد

نوعان من نفحات الروح يغمران حياة المعتقِد بأيّ ديانة، وكلاهما يسمّى بالإيمان.

النوع الأوّل، هو ذاك الذي يخرج من عمق الذات المستسرّة فيها روحُ الحبّ، وانجذاب العشق نحو الكامل. إنّه الأمانة التي أودعها الله فينا، وجعلها مهماز العودة إليه كلّما ران على القلب ما يُبعد عن الربّ.

أمانة الإيمان هنا، نوع من صفاء سماويّ يحوم حول القلوب والأنفس، ينتظر القبول منّا ليضع ترحاله فينا، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. قد نمتلك قرار قبولها، لكنّنا لا نمتلك قرار قتلها، لأنّ حياة هذا النوع من الإيمان الفطريّ مجبولة في أصل خلقة كلّ منّا.

بناءً عليه، فإنّ أيّ تحدّ للنوع الإيمانيّ هو بحقيقة الأمر تحدّ للذات، بل حرب للذات على الذات. إنّه أن تقول لنفسك لن أكون على إنسانيّتي، على مشاركتي لمن هم أقراني من الخلائق، على وصالي بين الجسد المنتمي إلى طين الأرض والروح المتسامي في سماء القيم والأخلاق والحقّ والواجب والرحمة والحبّ.

هذا النوع من الإيمان، هو تمام قصّة الإنسان في أصل وجوده، وفي مساره نحو المصير الأخير الذي قضاه الله ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾[1].

لذا، فإنّ أيّ معتقِد ومن أيّ ديانة كان، هو عضو حقيقيّ في محفل هذا الإيمان الروحيّ المنبثق من سماء السؤدد والسرمد.

النوع الثاني، هو إيمان يُفشي سرّه في الموضوع الإيمانيّ بكلمة وحي، أو حكمة إلهام، أو مقرّرات معتقد. ويمرّ مثل هذا الإيمان الموضوعيّ بمراحل من التأسيس الذي تكون فيه روح الإيمان موصولةً بموضوعه ولغته المنطوقة من المؤسّس (النبيّ، الرسول، الممثّل للروح، الـمُلهم أو غيرهم). لذا، تنفتح لغة الإيمان على الروح بشكل قدسيّ يبقى محفوظًا في الذاكرة، وفي الوجدان الدينيّ، وفي الأمثولة والقصّة والعبرة. ثمّ يمرّ بمراحل من التقنين التي تقوم بدور الدفاع المستميت عن الذات عبر جعل الموضوع حضن الروح، بحيث يتمّ تصوير الروح الإيمانيّ وكأنّها تلك الكلمات أو المقرّرات، حتّى ندخل رويدًا رويدًا في عصر التأويل والتفسير، فتنبني المدارس والمذاهب والطوائف، ويفرح كلّ حزب بما لديه، ولو على حساب نفي الآخر أو تصفيته.

وهنا، يتحوّل الناس إلى ما يشبه الجماعات التي تعبد الله على حرف من الفهم والنكران لكلّ القيم الإنسانيّة المنبنية على وحدة إيمان الروح.

ومن المعلوم، أنّ من خاصّيّة الروح الحياة ورفض الموت، بل التغلّب على الموت بالموت. لذا، تطلع تباشير الإيمان الروحيّ عند منعطفات حسّاسة من الزمن لتعمل على استعادة القيم والمعنويات التي أضاعها الناس بما كسبت أيديهم، لتوجّه القلوب نحو المعبود مجدّدًا، ولتثأر لإنسانيّة الإنسان وإيمانه الروحيّ، فتدفع نحو بناءات من الأعمال الصالحات البانية لجسور المحبّة والعيش والعدالة والعزّة.

من هنا، فإن كان لكلّ منّا خصوصيّة الموضوع الإيمانيّ، فإنّ روح الإيمان هو لنا جميعًا. فلا ينبغي أن نجعل الله عُرضةً لما قسّمناه، لأنّه فوق الجميع ومع الجميع وقبل الجميع، وكلّ ما سواه هالك، ولا يبقى إلّا وجهه، وجه الرحمة التي تؤلّف بين الناس، ولو في ذاك المشهد العظيم الذي أسمته الأديان بيوم الدين.

يبقى أن نسأل: كيف نميّز بين جماعة دينيّة وأخرى، في اجتماع روح الإيمان فيها مع موضوع الإيمان، إذا كان الجميع يدّعي الوصال بين الأمرين واكتمال الصنفين عنده؟

وهنا، اسمحوا لي أن أعرض قناعتي الخاصّة بهذا الشأن. فأنا أعتقد أنّ الدين، أو الكلام، أو الوحي الإلهيّ لم يأتِ لخدمة الله، أو لمصالح خاصّة بالله. فالله مستغنٍ عن الخلق كلّه، والقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[2]. فمحور الخطاب الدينيّ، ومغزى مقصد الغايات والأهداف والقيم الدينيّة هو الإنسان. من أجل الإنسان تمّت كلمة الله بالنعم والحقّ والخير والعدل، ولا يوجد في ميزان الله من تفاضل بين الأعراق والمذاهب والألوان، بل بالتقوى واتّباع الحقّ من جهة، وبخدمة الناس من جهة أخرى.

وفي الوارد من أحاديث، أنّ “الناس كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله”. فهل المعيار الفاصل إذًا هو مَن الأنفع للناس؟

لا بدّ أن نشير إلى أنّ الخصوصيّات المرتبطة بحياة المجتمعات لاستكشاف طرق الإيمان الروحيّ والموضوعيّ لا يمكن لنا أن نسلكها إلّا مهتدين مقتدين بالذين كانوا يُبرِؤون الأكمَه والأبرص، والذين كانوا يبلسمون جراح النفوس من المكلومين والمستضعفين، فهؤلاء كانوا أصحاب المعجزات، وما مصدر إعجازهم إلّا يد الحبّ وكلمة الرحمة التي كانت تنطلق من روح الإيمان بالواحد القادر الرحمن الرحيم نحو العباد من الناس والأمم.

بمقدار ما ننـزع من قلوبنا شرك المصالح والأهواء وكفر تصنيم الذات، بمقدار ما نوحّد الذي أراد أن يُوحّد كلّ شيء.

وهنا، ما من صورة حقيقيّة للروح في هذه الحياة الدنيا إلّا بإنشاء السلام لأهل الأرض، سلام العدل القويّ بعزّة الحقّ، والذي يأبى أن يرى الظلم ويسكت على الضيم.

فتنافس المفاضلة ليس فيما أطرح أو تطرح، لأنّ كلًّا منّا قد اعتقد وسكن لما عنده. المفاضلة هي في أن أصلك ولو قاطعتني، أن أبحث عن عزّتك ولو أخطأت في تقديري، شرط أن لا أخونك أو تمارس عليّ الخيانة. لأنّ كلّ الذنوب في توحيد الله تُغفر إلّا أن يشرك به، والظلم والخيانة بمثابة الشرك العظيم الذي يمارسه المرء في حقّ الإنسان بإنسانيّته. المفاضلة هي، أن نكون في محضر الله عند كلّ ما يخصّ الإنسان في حياته الفرديّة بالعبادة، وفي حياة الجماعة بحسن العلاقة والمعاملة، وفي حياة الأمم بسيادة الرحمة والعدل والإحسان.

صحيح أنّي لا أقدر على أن أرى كلّ الناس بنفس المستوى من مسؤوليّتي تجاههم. فمن أشبِهُهم أكثر في الدين والإيمان والأرض والانتماء هم أقرب إلى نفسي وأوجب في مسؤوليّتي، وهنا الخصوصيّة. لكن حينما يصبح الظلم مباحًا تحت عنوان الخصوصيّة، كما الكذب والبغضاء، فإنّ الخصوصيّة، هنا، لم تعد صاحبة انتماء للإيمان، إذ الإيمان أوسع منّا، وهو الحياة، بينما البغضاء موت، ومثل هذه الخصوصيّة تصبح عصبيّةً.

أنا لا يمكن لي أن أطلب من المسلم أن ينظر للمسيحيّ نظرته لبقيّة المسلمين، كما لا يمكن لي أن أطلب من المسيحيّ أن يضع المسلمين على نفس المصافّ من اهتماماته، إذ الإيمان العقديّ ومقرّراته، فضلًا عن سياقات الحياة، تمنع من ذلك. لكن لا يمكن إلّا وأن أرى في وجه كلّ مسلم أو مسيحيّ روح الإيمان الحيّ الذي يجب أن لا يموت، الذي يجب أن لا نعيش معه بخصام.

عليّ أن أسأل، بأيّ إيمانٍ يحرق الواحد منّا معبد الآخر؟ بأيّ إيمان نستبيح الكرامات ونسوّغ التهجير ونُفقد الحياة المشتركة لذّة الهناء والوئام؟ لصالح من نقطّع أوصال مجتمع بناه الأنبياء والرسل والصدّيقون والقدّيسون حجرًا حجرًا، ولبنةً لبنة؟ هل في ذلك صالح عقائدنا وإيماننا؟ أم صالح معتقدات وقناعات صاغتها يد بعض من العصبيّة الجاهليّة الممزوجة ببعض من التاريخ الأسود، والممهورة بيد أصحاب المصالح والأهواء؟

أدّعي أنّي أعرف الجواب، لكنّ القول الخيِّر هنا، تعالوا نحتكم لإيمان الروح فينا، ولنسمعها ولو لهذه المرّة.

 

مع العدد

يُقارب شفيق جرادي، في المقالة الأولى، مفردة الإيمان في حقلها الانطباعيّ العامّ، الذي يحاكي الإنسان في كلّيّته، فلا ينحصر بالبُعد العقليّ فيه؛ ويحاكي الدين في كليّته، فلا ينحصر بأبعاده العقديّة أو الشريعيّة، بل يحضر بقوّة في الأبعاد القيميّة والأخلاقيّة، كلّ ذلك عطفًا على تقريره (جرادي) الدينَ الوحيانيّ مصداقًا أمثل لحقيقة الإيمان القائم على الوصال بين الإنسان والله.

ويرى سمير خير الدين، في مقاربته القرآنيّة للإيمان، أنّ وجدان الإيمان الاعتقاديّ هو فعل إنسانيّ إراديّ. وبالتالي، فالإنسان، في بنيته الواحدة، هو محور هذه العمليّة الإيمانيّة الاعتقاديّة. أمّا كون الإيمان اختياريًّا فيكشف عن نوع من التعلّق الواعي (للإنسان) بالذات المقدّسة. وعن هذا التعلّق تصدر الفاعليّة الإنسانيّة في حراكها الفرديّ والاجتماعيّ، وفيه تنحصر إمكانيّة تعريف الإيمان مفهومًا.

ونجد في المقالة الثالثة، لحسن بدران، استقصاءً لمفردة الإيمان في أحد “الكتب الأربعة” عند الشيعة – أي مجامع الحديث التأسيسيّة الأولى – وهو كتاب الكافي للكليني. إنّ الإيمان، هنا، ناظر إلى الإنسان في “الزمن المقدّس” السابق على السيرورات والنسبيّات وتحوّلات اللحظة التي تحتكم إليها المعالجات العقديّة. وبالتالي، فالكلام في النظام العامّ للخلقة، والإيمان فيه كامن في أصل جوهر الإنسان، كما هو كامن، إذ يتصرّم الزمان، في حراك الإنسان وحياته.

أمّا في المقالة الرابعة لأحمد ماجد، فثمّة قراءة لموضوعة الإيمان في الإناسة من خلال ثلاث شخصيّات معاصرة، غيرتز وغلنر وأسد، كانت صاحبة قول فيما خصّ الإسلام وموقعه من الحداثة. وفي حين نحا غيرتز وغِلنر منحى القراءة التعميميّة التي لا ترى في الدين إلّا نسقًا ثقافيًّا رمزيًّا هو معطًى اجتماعيّ خالص، لا صلاحة لديه لتوليد المعنى، فإنّ أسد يستردّ للدين مرجعيّته وللخصوصيّات موقعها، من خلال بيان محوريّة التقليد والصراطيّة في المنظومات الإيمانيّة الاعتقاديّة. إنّ هذه المقاربة ممّا يفتح الباب أمام نقاش، من الضروريّ أن يجري في العالم الإسلاميّ عن هذه العلوم وكيفيّة حضورها فيه.

ثمّ في المقالة الخامسة لريتشارد سوينبرن استقراء للمواقف المسيحيّة الأساسيّة من الإيمان، في تمايزها على ضوء الثقل الذي توليه إحدى مقولتَي الاعتقاد أو الثقة. ومع حضور العنصر العقليّ قويًّا في كلتَي المقولتين – ما يطرح بقوّة إشكاليّة “إيمان الشياطين” – فإنّ موضوعة الخلاص تجد لها مدخلًا عريضًا، ومعها نجد تبلورًا في مقولتَي الحبّ، مع توما الأكوينيّ تحديدًا، وعمل الخير، مع لوثر تحديدًا.

وإذا كانت مسألة موضوع الإيمان – أو متعلّقه في الأدبيّات الإسلاميّة – قد برزت واضحةً في المقالات السابقة، فإنّ المقالة الأخيرة في الملفّ لكارل ياسبرز تطرق، بالفلسفة، سؤال العلاقة بين وجهَي الإيمان، الذاتيّ والموضوعيّ؛ ولا تجد، في سبيل الجواب، بدًّا من الإشارة إلى ما تكون الذات والموضوع مظهرَه، إلى المكتنف الذي فيه، من “كنفه”، تتولّد حريّة الإيمان وحياته.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” على ثلاث مقالات.

يرى مهدي الحائري اليزدي، في المقالة الأولى، ضرورة معالجة السؤال “الماقبل-معرفيّ” إذا ما كان للاعتبارات الإبستمولوجيّة أن تكتسي أيّ معنًى. فمن دون هذا السؤال لا يمكن إحراز أيّ فهم لعلاقة المعرفة بمحرِزها. عليه، يقوم الحائري باستثمار أطروحة المعرفة الحضوريّة في الفلسفة الإسلاميّة، في تشريح لمقولتَي الموضوع والذات، كي ينخرط في نقاش مع الإشكالات الإبستمولوجيّة الأساسيّة في الفلسفة المعاصرة.

أمّا المقالة الثانية لإدريس هاني فتقترح مقاربة الحكمة الصدرائيّة المتعالية من باب العبرمناهجيّة، مستعرضةً موارد الاستفادة المتبادلة بين المقاربتين، وما يترتّب على هذا التلاقح من فوائد لكليهما[3].

وفي المقالة الأخيرة، يحذّر حيدر حبّ الله من صعود الاتّجاهات المناهضة للفلسفة، في الوسط الحوزويّ، بعد فترة من الإحيائيّة كان لها الأثر الطيّب على المناخ العلميّ الدينيّ. ويقوم بمعالجة عدد من الأدلّة التي تُساق لصالح مناوءة الدرس الفلسفيّ مبيّنًا اعتلالها، ومؤكّدًا على ضرورة الاستفادة من الفلسفة في مواجهة تحدّيات التجديد والمعاصرة.

أمّا في باب “حكماء”، يتقدّم محمّد تقي السبحاني بقراءة جلال الدين الرومي من خلال المقولات الأساسيّة الحاكمة على رؤيته، العقل والعلم والحبّ، مبيّنًا خصوصيّات معالجته التي جعلت منه أحد أهمّ متصوّفة الإسلام.

والحمد لله كما هو أهله

شفيق جرادي

محمود يونس

 

[1] سورة الأحزاب، الآية 62.

[2] سورة فاطر، الآية 15.

[3] انظر، في العدد السابق، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتجاوز جدال الدين والعلم”، ترجمة هادي قبيسي.

إفتتاحية العدد 33

افتتاحية العدد 33

معنى أن نتحدّث حول العلوم وأسلمتها؛ قد يعني عند المتلقّي أنّنا أمام تجربة لأدلجة المعرفة؛ أو قد يستلزم الإقرار بمحوريّة العلوم، الإنسانيّة منها أو التجريبيّة في الحياة الأكاديميّة والمجتمعيّة.

بلا شكّ، إنّ الاتجاهات العلمانيّة استبدلت كلّ علم ومعرفة لاهوتيّة أو كلاميّة – دينيّة بعلوم مشبَعة بنزعة أطلقوا عليها اسم “الأنسنة”. ولقد كان المطلوب من ذلك ردم الهوّة والفراغ الذي يمكن أن يتركه الإعلان عن موت الإله، ونهاية الدين، إلّا أنّ الحراك النهضوي الذي شهده العالم الإسلامي من عودة للحياة الدينيّة عبر بوابة “الإسلام” أعاد البوصلة باتجاه موقع الدين في الحياة العامّة للناس.

هذا الحراك وجد معوّقًا مجتمعيًّا خطيرًا أمامه، وهو: أنّ الوجدان العامّ للناس، وإن كان يركن إلى الدين، إلّا أنّ الناتج الذي ضخّته وما زالت المؤسّسات التعليميّة والأكاديميّة انبنى على معارف وقيم ومنهجيّأت معرفيّة وفلسفيّة وثقافيّة لا تتّصل بالوجدان الديني بصلة الوثاقة والعلاقة. ممّا جعل لطرح إشكاليّة العلاقة بين الإسلام والمعرفة كما العلوم؛ موقعًا حساسًا وعمليًّا جدًّا.

لذا، فالمسألة تعود لحاجة حضاريّة ومجتمعيّة قبل أي اعتبارات أيديولوجيّة. ثمّ إنّ الرؤية الإسلاميّة لطالما كانت مهجوسة ببحث العلاقة بين الإيمان والمعرفة؛ وبين الشريعة والقيم والفكريات. عليه، فإنّ بحث التكامل المعرفي بين الإسلام والعلوم الإنسانيّة، كما هو المطروح في إيران، أو العلاقة بين العلوم وأسلمتها معرفيًّا كما هو المشغول عليه لدى نخبة واسعة من المفكّرين العرب المتحلّقين حول “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” يستحقّ الدخول فيه عبر مراحل متنوعة؛ منها ما هو توصيفي، ومنها ما هو جدلي ومقارن؛ ومنها ما هو تأسيسي.

وهذا ما سنجهد في عمله في هذا العدد من مجلّة المحجّة.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن أربعة أبواب، أوّلها ملف العدد المعنون بـ”العلم الديني ومساحات الأنسنة”، وثانيها جلسة بحثيّة أقيمت في معهد المعارف الحكميّة، وثالثها هو باب حوارات، ورابعها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل ستّة أبحاث، يستهلّها أحمد ماجد في تحديد معنى النموذج المعرفي وعلاقته في إنتاج العلوم، حيث يشكلّ تحديد هذا العنصر نقطة انطلاق هامّة في فهم ومآلات الفكر ومستقبل الثقافات الإنسانيّة. ويضيف حسن بدران في طرحه البحثي لتحديد المعايير الأساسيّة لتقبّل العلوم المعاصرة التي تتوافق مع الفطرة الإنسانيّة ومطلب السعادة الحقيقيّة.

كما اعتبر حسين نصر في بحثه أنّ “أسلمة العلم” يواجه مشكلة أساسيّة، وهي كيفيّة التوفيق بين مقتضيات العلوم الحديثة والتراث الفكري الإسلامي لإيجاد نموذج بديل بأدوات فكريّة ينقد بها الأسس الفلسفيّة للعلم الحديث.

وفي البحث الرابع من ملف العدد، يطلق حميد بارسانيا جملة من التعريفات بغية تحديد المنهج الخاصّ والمناسب للعلوم الإنسانيّة من وجهة نظر إسلاميّة، وهو ما يعبّر عنه بالمنهج التأسيسي الذي هو طريقة توليد النظريّة من خلال الاعتماد على المعطيات الإسلاميّة في قسمي نظرية المعرفة ومعرفة الوجود.

أمّا أحمد أبو ترابي في بحثه حول منهج العلوم الفطريّة، فيعرض جملة من آراء بعض الفلاسفة الغربيّين والإسلاميّين حول حقيقة الأمر الفطري ومزاياه، وطرق إثبات هذه المزايا بالعلم الحضوري والدليل العقلي والتجربة والاعتماد على النصوص الدينيّة بحسب ما يقتضيه المقام.

وفي البحث السادس والأخير من ملف العدد، يعرض حسن أمهز رؤية الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي حول موضوع أسلمة العلوم الإنسانيّة، والمراحل التي قدّ تمرّ بها للوصول إلى الغاية المرجوّة.

ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى ملف “جلسة بحثيّة”، والأبحاث فيها هي خلاصة ندوة أقامها معهد المعارف الحكميّة في العام 2015، اختير منها الأبحاث الثلاثة المنصوص عليها في العدد الذي بين أيدينا من المجلّة؛ الأوّل لمسعود معيني بور حول تحدّيات وموانع تحوّل العلوم الإنسانيّة وتوليد العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة إذ يعتبر أنّ الأسلمة تستبطن شعورًا بالغربة عن علوم تدّعي أنّها إنسانيّة كلّية، ولأنّ عنوانها الإسلامي يشكلّ لونًا من مقاومة الهيمنة المادّية الغربيّة تتضافر التحديات والموانع في وجهها.

ويطرح عادل بيغامي ثلاث نكات في ما يخصّ منهجيّة العلم الإسلامي؛ الأولى تتعلّق بأنواع المعرفة وأساليبها، والثانية في دراسة منهجيّة أيّ علم، والثالثة في أنّ العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة كمعظم العلوم الحديثة، ليست علومًا بسيطة وذات قاعدة واحدة.

كما يعرض حسین سوزنچی في البحث الثالث آراء المفكّرين الإيرانيّين في ما يخصّ العلم الدينيّ من معارضين ومؤيّدين لمناقشة دعوى فصل الدين والعلم، أو إيجاد الانسجام بينهما.

وفي باب “حوارات”، حوار مع الدكتور حميد بارسانيا حول ارتباط العلوم الإنسانيّة بإرادة الإنسان لا بالعلوم والأمور الانتزاعيّة، فيجيب عن أسئلة وُجّهت له حول كيفيّة إنتاج العلم الديني والعلوم الإنسانيّة.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه بحثان، الأوّل لبتول الخنسا حول إشكاليّة مستقبل الفلسفة بوصفها نوعًا من المحادثة كما عبّر عنها ريتشارد رورتي، واعتبر الهيرومنطيقا أنّها علاقات بين أشكال الخطاب الكلامي المختلفة لا يُفقد فيها الأمل في الاتفاق وإيجاد أرضيّة مشتركة قائمة بين المتكلّمين.

والبحث الثاني لغادة زقروبة حول دلالة الإيقاع في اللطمية الشيعيّة والرقص الصوفي خارج الرؤية الدينيّة وسياقاتها التشريعيّة، بل بما هو تناول فلسفي وجودي يبحث في صدى الكائن في الوجود، والذي يندرج في مسار علاقة الجسد بالمكان وعلاقة الجسد بالذاكرة والتصوّر.

والحمد لله ربّ العالمين

إفتتاحية العدد 21

iftita7ieh 21

عودة المِتافيزيقا

 

فمن جَهِلَ بمعرفةِ الوجود يسري جهلُهُ في أمّهات المطالب ومُعظماتها

– صدر المتألّهين

 

يقترن السؤال بذات الإنسان مهاجرًا بها إلى حيث يستقرّ معها في مراتع اليقين[1]. ولا تثريب على صاحب المسألة ولو تمرَّدَ، بل لو لم يتمرّد لم يكن فيلسوفًا. بيد أنّ آفّة الفلسفة المُقامةَ في تمرّد السؤال وعدمَ الانتقال إلى اليقين المُسائل، أو القناعة المُسائلة. فلا بدّ للفيلسوف، في كلّ حال، من حسّ سؤالٍ ومُساءلة، إلّا أنّه ينبغي له الولوج من السؤال المتمرّد إلى مَحكَمٍ يحتكم إليه، وإن لم يجز له التخلّي عن مساءلته (المحكَم) في عزّ تيقُّنه به، وإلّا لبث في رعونة السؤال أبدًا.

وقديمًا درج الفلاسفة على تخصيص الأسئلة الأولى بعلمٍ أسموه ‘الفلسفة الأولى’، وتلبّسَ بـ‘المِتافيزيقا’. ولعلّ الجامع بين هذه الأسئلة الأولى هو تمحورها حول الوجود، العامّ والخاصّ (الإنسانيّ)[2]، والغاية منه. وقد بنوا لهذا العلم صروحًا آخذُ ما تكون بالتعقيد، منهجًا ولغةً، وتباينت آراؤهم فيه حتّى تضادّت، أو كادت. وانهمك أهل الحميّة من الفلاسفة في إصلاح هذا العلم، أو هذا الفنّ أو هذه الصناعة – ما شئت فسمِّ –، وكان لبعض أصحاب النوايا الحسنة دورٌ في مفاقمة متاعب المِتافيزيقا.

لقد رأوا إلى العلم الوضعيّ، في صعوده المبهر، كمعيارٍ ومحكٍّ ينبغي للمِتافيزيقا الاقتداء به كيما تنجو من عُقَد المنهج وتكلُّف اللغة. أمّا منجهه (العلم الوضعيّ) فقد كان أنيقًا دقيقًا يتوسّل التجربة، ويعوّل عليها في صياغة حقله المعرفيّ، وأمّا اللغة فكانت جليّةً مُنسابةً انسياب البرهان الرياضيّ. والحقُّ أنّ بعض أرباب المِتافيزيقا أغلقوا الأبواب على غيرهم، وفضّوا الأنصار من حولهم، بلغتهم العصيّة، ومواقفهم الجازمة المتعجرفة في إقصائيّتها[3].

ربّما كان هذا ما دعا كانط إلى مناشدة ‘كلّ مِتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا’[4]، ودعوتها إلى الكمال بالتأسّي بالعلم الوضعيّ. ثمّ كانت دعوة هُسِرل إلى فلسفةٍ بقامةِ العلم المُحكَم[5]. لا بدّ، أوّلًا، أنّهما، وغيرهما، توسّما في لغة العلم ما يلمّ شتات المعرفة، ويوحّد لغةَ مُباشرتِها ومقاربتِها. ولا بدّ، كذلك، أنّ توافق العلماء على رأي، واجتماعهم على قول، تبدّى لهما، ولغيرهما كذلك، مشهدًا أكثر جاذبيّة – حين كانت الحقيقة لا تزال واحدة (!) – من تنافر الفلاسفة وتناحر المِتافيزيقيّين.

وفي كلّ الأحوال، لا بدّ من مَحكَم. ومع ضمور شرعيّة المَحكَم الماقبليّ، والمَحكَم الخُلُقيّ، والمحكَم الدينيّ، صارت المَحكَميّة للعلم وحده، وقد كان، عصرَذاك، المصدرَ لكلِّ ثبات. أمّا وقد نرى تحلُّلَه من الثبات في شتّى المضامير[6]، فلا بدّ لنا من عودةٍ إلى ما يُعطينا ثابتًا، نشرَعُ منه إلى مُباشرةِ المتغيّر وقراءته؛ لا بدّ لنا من عودةٍ إلى المِتافيزيقا.

وإذا أردت فهمَ المِتافيزيقا من تعريفاتها، فلكَ أن تجدها وفيرةً في الدراسات المنشورة في هذا العدد – أوليست هي محوره؟ أمّا لغاياتنا هنا، فيكفيني أن أقول إنّها فلسفة الوجود (أو الواقع)، وقد استعملوا لها، مؤخّرًا (القرن السابع عشر)، لفظ الأنطُلوجيا[7] حينما أُقصيت المِتافيزيقا، أو انتشرت، فترهّلت، شأنها شأن الفلسفات المضافة فصار لكلِّ حيِّزٍ فلسفيٍّ مِتافيزيقاه. والوجود المقصود هنا هو الوجود المطلق – أو الوجود القِسميّ باللغة الصدرائيّة – وليس هو الوجود المتعيّن، أو الموجودات، أي الوجود المتلبّس بالماهيّات. والوجود المطلق هو أشمل المفاهيم وأوسعها، فتناله النفس دونما واسطة، وتظفر به دونما تروّي؛ بل هو واسطة التعرُّف على الموجودات. إنّه محكَمُنا الأوّل. هو المبدأ الأوّل، بتعبير ابن سينا[8]، فلا حقّ لنا في تجاهله، أو نسيانه، أو تعليقه، كما ارتأت المنهجيّة التأمُّليّة الشكّيّة عند ديكارت. وقد وجدت هذه المنهجيّة توسعةً هائلة في فِنُمِنُلوجيا هُسِرل الذي رأى أنّ تعليق epoché الواقع، ومباشرةَ الأشياء في تبدّياتها لذواتنا، هو سبيل فهمِه (الواقع) الأنسب.

وليست الذات، أو العقل – أو اللغة بالتَّبَعِ والاشتقاق – مبدأ سابقًا على الواقع، بل هي جزؤه، وهو مشتملٌ عليها. وقد نرى المآلات التي أوصلتنا إليها انعطافة ديكارت نحو الذات – وقد ساهم فيها، وغذّاها، لوك وهيوم وكانط – “والانعطافة اللغويّة” التي وَلَتها في الحاكميّة على الاشتغال الفلسفيّ الغربيّ. إنّ تأخير الواقع – وهو أكثر الأشياء حضورًا وظهورًا – لا يولّد إلّا الرَّيبيّات والمثاليّات التي تفتك بالمتسالَمات الفكريّة.

ولا مشاحّةَ في مركزيّة العقل، بيد أنّ العقل نفسه يروم ما يحتكم إليه[9]؛ وما يُجلّي العقلَ الكلّيَّ عندنا، إنّما هو أثَرةٌ نأخذها عن معصوم. ولئن نَحَت الفلسفةُ الغربيّةُ منحى اللغة العلميّة في تكميل لغتها لأنّها ترى في اللغة العلميّة كمالَ اللغة، فإنّنا نرى في القرآن الكريم، وفي نصّ المعصومين، اللغةَ الكاملة والناظمة لكلِّ إطارٍ لغويّ في أيِّ الميادين المعرفيّة اتّفق تداولُه. فالقرآن، والنصّ المعصوم، الذي يؤسِّس، في الوسط الإسلاميّ، لزخم الانطلاقة المعرفيّة المُوجَّهة، ثمّ يُنشؤ حولها دوائر يكون التفاعل مع كلّ فكرٍ متناظرٍ من ضمنها، هو الناظم والمعيار والمصفاة لكلِّ فكرٍ يريدُ لنفسه لقبَ ‘إسلاميّ’، وكذلك، لكلِّ لغةٍ تريد أن تُسمّي نفسها ‘ملتزمة’ و‘إسلاميّة’. ومتى ما اتّضح لدينا المَحكَمُ في الفلسفة الإسلاميّة، فإنّنا نقفُ الفيلسوف موقفَ المُسائل والمُراجِع الذي لا ينفكّ يتفحّص الموروث الفلسفيّ الإسلاميّ مهذِّبًا إيّاه من كلّ دخيلٍ ذي سلطةٍ، ولو كان من قامة أفلاطون. لا أقول هنا برفض التفاعل مع النتاج الإنسانيّ بعامّة، لأنّه ليس بنتاجِ مُشتغلةِ المسلمين، بل ما أرمي إليه هو التفاعل معه على أساسٍ خلفيّةٍ ما، يصوغها، في الإطار الفلسفيّ الإسلاميّ، ما وَصَلنا عن طريق الوحي متى ما تثبّتنا من مصدريّته.

أمّا مناوءةُ المِتافيزيقا من بابِ عدم انسجام أربابها، فربّما قدّمت له نفس طبيعة المبحث المِتافيزيقيّ تسويغًا. ولا يقدح تكثُّر الأنساق والإجابات المِتافيزيقيّة في قيمتها كمبحثٍ معرفيٍّ إنسانيّ. فللمِتافيزيقا جنبةٌ تُذكِّرُ بالدراسات الأدبيّة وسرديّات الذات من حيث يرتبط الحاصل الفلسفيّ بتجربة الكاتب التي لا تنفكّ عن ذاتيّته، وإن كانت الأدوات المعرفيّة الأخرى في متناول الفلاسفة جميعًا على حدٍّ سواء. من هنا، فإنّ الكتاب الأدبيّ لا يفقد قيمته مع الزمن – ومن شَكَّ في الإنتاجيّة المعرفيّة لهذا النحو من الاشتغال العقليّ، فهو ممّن قرأ الأدب ولم يتذوّقه. بالتالي، لا تزال مُصنّفات أرسطو وأفلوطين والكندي وابن سينا وغيرهم تثيرُ فينا ما تُثيره مؤلّفات العباقرة ممّن قرض الشعر وروى الذات أدبًا.

وكذا، للمِتافيزيقا جنبةٌ تذكّر بالعلم الوضعيّ من حيث تراكمُ معطياتها وانبناءُ المُحدَث من نظريّاتها على ما سلف، وهذا ما يجعل العودة، مثلًا، إلى كتابات أرسطو العلميّة مدفوعةً بهمٍّ تاريخ-علميّ، وليس علميًّا صرفًا، أمّا العودة إلى ما بثّه من فلسفةِ وجودٍ وسياسةٍ وأخلاق، فقد يكون أولى، أحيانًا بالطبع، من العودة إلى ما يُكتبُ اليوم في هذا المجالات.

وقد كان لانسحابِ بعض المباحث الفلسفيّة، واندراجها في المجالات العلميّة، أثرُ تحفيزِ بعض المتفائلين العلمويّين على القول بخاتمةٍ مشابهة لكلِّ المباحث الفلسفيّة، حيث تضمُر الفلسفة وتتراجع إلى الخلف إذ يتقدّم العلم مالئًا كلّ المساحات. بلى، تتقدّم المِتافيزيقا، وتتراكم مع تقدُّمها المعرفة التي تعطيناها. وثمّة، في تاريخ المِتافيزيقا، محطّات تحدث فيها تحوّلات تتّسع على إثرها معرفتنا بالوجود وبأنفسنا، وتتراكم كمًّا ونوعًا، وإن كان التراكم، لا محالة، انتقائيًّا.

وهنا سؤال. إذا كانت المعرفة الإنسانيّة مَشيدةً بحسب الاجتماع، ومَصيغةً بحسب التاريخ، ومحكومةً للسياقات[10]، فهل من مسوّغٍ للعودة إلى الفلسفات القديمة في محاولة الإجابة عن أسئلة معاصرة؟ هل من جدوى تُرتجى؟ أظنّ قويًّا أنّه بلى. لماذا؟ لأنّ الحقّ واحدٌ غير قابل للقسمة! غاية الأمر أنّنا نحيط، كلٌّ من زاويته، بمقدارٍ منه، يزداد أو يتضاءل بمقدار سعة وعائنا الوجوديّ المعرفيّ. وهذا لا يدعونا إلى الوقوف عند الأنساق الفلسفيّة القديمة كمنجزات نهائيّة محيطة بكلّ ما يمكن أن يُقال. فقد يضعنا العقل الفاحص للفيلسوف المتخطّي لكلِّ اختلاجات الزمان أمام “زوايا” جديدة، نرى معها أنّ الواقع المترامي أكثر عمقًا ممّا حسبنا.

ولربّما قيل إنّ تقدُّمَ المِتافيزيقا يأتي مع تطوّر مناهجها التي يبتدعها عباقرة الفلاسفة. وللمنهج دوره، بيد أنّه اصطبغ، على الأكثر، بصبغة الإقصائيّة والقَصريّة. أي إنّه غالبًا ما وقف بإزاء الأنساق المختلفة موقفَ المبايَنة التامّة فرفضها برمّتها، وقَصَر الحقيقة على ما يستطيل عليه، متعاميًا عن كلّ ما خرج عن متناول أدواته، ومعلِّقًا إيّاه إلى اللاحين.

إذًا، ما منشؤ تقدّم المبحث المِتافيزيقي؟ هو بالطبع يأتي مع بروز عبقريّةٍ ما تعيش أقصى مديات تمرّد السؤال، وتنخلع عن كلّ معوّقاته من هيبةِ الأنساق السائدة وسلطتها، ونفوذ الرجعيّات والجمادات الشائعة والضغوط الاجتماعيّة المتفشيّة، ووطأة التفلُّت من ربقة الأستاذ المؤسّس، ونزعة الفرادة والتميّز وغير ذلك ممّا لا يجد سوى الفيلسوف الحكيم حقًّا طاقةً على تخطّيه. ولربّما أتت (العبقريّة المذكورة) بمنهجها الخاصّ. أمّا إذا صحّ ما قيل، “لولا الحيثيّات لفسدت الحكمة”، فإنّ الحكيم، قيد التقريظ، هو من تسلّط على الحيثيّات، وحَكَم بسؤدده عليها، واتّساعُ حَدَقة الحيثيّات خصيمُ انغلاق المنهجيّات – بالمعنى الإقصائيّ للكلمة.

عن أيّ الحيثيّات كلامُنا؟

إذا سلّمنا بكون المِتافيزيقا هي البحث عن أكثر بنى الواقع أساسيّةً، وهو تعريفٌ يلقى رواجًا متجدِّدًا، بل إذعانًا هو يفرضه من ذاته، فإنّ الحيثيّات المقصودة هي حيثيّات الواقع. بالتالي، الأقدرُ على الإحاطة بالواقع هو من شحذ حدسه، وكافّة أدواته، لتترصد الواقع في حيثيّاته.

قبل هذا، وليس ببعيدٍ عن زخمِ عودة المِتافيزيقا، فإنّها [المِتافيزيقا]، في سعيها لاستعادة المشروعيّة، قد كابدت عناء تبيان حيثيّاتها هي، وتمييزها عن حيثيّات كلّ من المنطق والعلم الوضعيّ. فالمنطق لا يعفينا من عناء البحث في المِتافيزيقا، ولا يغنينا عنه، لتغايرهما، فهما مجالان للاشتغال الفكريّ لهما حيّزهما الخاصّ. ومن مميّزات المبحث العلميّ الإسلاميّ، تاريخيًّا أقلّه، أنّه يعتني بتبيان مجالات العلوم وموراد اهتمامها. وهاهنا سبيلان لتمييز المنطق عن الفلسفة. أحدهما يميّز بين نوعين من الضرورة (أو الوجوب) هما الضرورة الذاتيّة (الفلسفيّة) التي تكون بمقتضى الطبائع، أو الماهيّات[11]، والضرورة المنطقيّة القائمة على أصول الهويّة وعدم التناقض والثالث المرفوع[12]، وقديمًا ماهت الفلسفة الإسلاميّة بينهما. وثانيهما التمييز بين المعقولات الثانية المنطقيّة والمعقولات الثانية الفلسفيّة، وهو من إبداعات الفلسفة الإسلاميّة[13].

والمعقولات الثانية هي أحكام ذهنيّة على الوجود، مبتوتة الصلة بالخارج إلّا من حيث هي (بعضُها كما سنرى) صفات للأعيان الخارجيّة. فحضور صور هذه الأعيان في الذهن، في كلّيّتها، ينتج المعقولات الأولى من قبيل الإنسان والنور والماء والبياض والدائرة وما إلى ذلك. وبتعبيرهم، فإنّ المعقولات الأولى عروضها واتّصافها في الخارج. ثمّ إنّ الذهن يحكم على هذه المعقولات الأولى فتتحصّل لدينا المعقولات الثانية التي جعلها الفارابيّ وابن سينا حقل اشتغال المنطق. فجاء الإشكال بأنّ بعض المعقولات الثانية، من مثل العلّة والمعلول، والإمكان والامتناع والشيئيّة وغيرها لا يمكن أن تكون موردًا لاهتمام المنطق الذي يُعنى بالقضايا الذهنيّة والحال أنّها من مختصّات القضايا الحقيقيّة. هنا ينبري نصير الدين الطوسيّ ليقعّد لحيثيّتَي المعقولات الثانية مفسحًا في المجال، شيئًا ما، لقسمةٍ لن تلبث أن تنضج مع الملّا صدرا. إذًا، ثمّة معقولات ثانية منطقيّة، تكون مظروفةً للذهن بالمطلق، ومن أمثلتها النوع والجنس، والكلّيّ والجزئيّ… وثمّة معقولات ثانية فلسفيّة لها نحو انطباقٍ على الخارج وإن كان عروضها في الذهن، وقد مرّ معك من أمثلتها[14]. بأيّ الأحوال، فإنّ مردّ كلّ تمييز بين المنطق والمِتافيزيقا يكون إلى الفارق بين الأساس الصوريّ المفهوميّ، وهو مورد اشتغال المنطق، والأساس الأنطُلوجيّ الذاتيّ، وهو مورد الاهتمام المِتافيزيقيّ.

أمّا تمييز العلم عن الفلسفة فسُبُله شتّى. فقد يُقال إنّ الاختلاف يكمن في الطبيعة التجريبيّة للعلم والطبيعة التأمُّليّة والحدسيّة والبرهانيّة للفلسفة، وقد يقال هو المائز بين الاستقراء والقياس وما إلى ذلك. بيد أنّ العلم يقتضي الفلسفة[15] – لاحظ معي أن استعمال مفردة الفلسفة دونما قيد، غالبًا ما يُقصد منه فلسفة الوجود – إذ ما لم تتحوّل المقدّمات الاستقرائيّة إلى مقدّمات قياسيّة فيستحيل تحقُّق اليقين الذي يأتينا به العلم. وهذه مسألة أستوقفت كثيرين من الفلاسفة – انطلاقًا من هيوم – تربّصوا بدوائرها المِتافيزيقا ليدحضوها. هنا تستعين الفلسفة الصدرائيّة بمقولة “الفرد بالذات” لتعلن أنّ لنا سبيلًا إلى المطلق وهو الفرد متى ما نزعنا عنه ما به التمايز وحافظنا على ما به الامتياز. على سبيل المثال، إنّنا عندما نرى الأبيض لأوّل مرّة، فإنّنا نصل من خلاله إلى الأبيض المطلق، فكلّما رأينا هذا اللون عرفناه مع عدم احتياجنا إلى تتبّع كلّ أفراده لنحيط علمًا به في إطلاقه، وذلك بمقتضى القاعدة: “كلّ ما صحّ على الفرد [بالذات] صحّ على الطبيعة”[16].

 

5.

بالعودة إلى حيثيّات الواقع، فإنّي لا أجد بدًّا، في محاولة بيان المسألة، من التمثيل بمثال. وسألجأ إلى ما عُرِف بالسؤال الأبِستِمُلوجيّ الذي طُرح في إزاء نظريّة المطابقة، أي النظريّة التي عُنيت بقراءة علاقة الذات والموضوع، والذهن والخارج، والمفهوم والمصداق. يقول الشيخ شفيق جرادي،

علينا أن نميِّز بين متن الواقع ونفس الأمر، وهو الوجود المصاحب بوحدته للكلِّ فكرًا وذاتًا وخارجًا وواقعًا – بوحدةٍ حقّة – وبين تقسيم مبنيٍّ على ما نسمّيه بـ”الما بإزاء”، ونقصد به أنّ الذات بحقيقتها موضوع، لكنّنا، حينما نريد أن نقيس على قاعدة المغايرة، فإنّنا نسمّي الذات بإزاء غيرها ذاتًا ونسمّي غيرها بإزائها، أي بما يقابلها، موضوعاً، وهكذا الفارق بين الذهن والخارج. لذا، فإنّ الثنائيّة التي دمَّرت الذات وشيّأتها، بعد أن أهملتها، هي ثنائيّة افتراضيّة أوجبَتها الضروراتُ المنهجيّة، ثمّ ما لبثنا أن حكمنا عليها باعتبارها ضرورة مسلّمة لا تقبل الجدل…[17]

إذًا، كيف ترتبط الذات بالموضوع؟ أيّهما أولى؟ هل الموضوع صنيعة الذات، أم هي تقف إزاءه موقف من لا يملك إلّا أن ينساب معه، وإن استطاع أن يقرأه؟ كيف تكون هذه الثنائيّة افتراضيّة وعليها تقتات آلاف الأوراق الفلسفيّة التي صيغت في غيرٍ عصرٍ وحقبة؟

يبدو أنّ المِتافيزيقا اليوم، في عصر ما بعد الرَّيبيّة، مدعوّة لإعادة صياغة العلاقة بين الذهن والحقائق الخارجيّة، ولا محيص عن صياغةٍ واقعيّة لهذه العلاقة قائمة على قبول الذهن جزءًا من الواقع، وإن كان جزءًا له خاصّيّة الحكاية عنه. وما لم نلحظ في الذهن تينك الحيثيّتان، فإنّ أسئلة الذات والموضوع لن تفتأ تفسد نظرتنا الفلسفيّة للعالم مع ما لهذه من تداعيات على مجمل واقعنا.

يقول مايكل دومت، وهو من مبرَّزي الفلاسفة المعاصرين،

لقد مرّت الفلسفة التحليليّة [وليست القارّيّة بأحسن حال كذلك!] مؤخّرًا، بمرحلةٍ تدميريّة؛ قلّة، بالفعل، من لم تخرج منها بعد. في تلك المرحلة، بدا أنّ المهمّة المشروعة الوحيدة للفلسفة هي التدمير. أمّا اليوم، فمعظمنا يؤمن بأنّ للفلسفة، مجدّدًا، دورها التشييديّ؛ أمّا وقد كان التدمير شاملًا، فإنّ التشييد، ولا بدّ، سيكون بطيئًا[18].

يعزو جون سيرل هذه التدميريّة إلى فقدان الثقة بالواقع وبتراكم المعرفة الموضوعيّ، ويرى أنّه لا بدّ لنا اليوم من التسليم جدلًا بالواقع الخارجيّ إذا ما أردنا الخروج من مآزق الفلسفة الراهنة ومتاهاتها. وأظنّ أنّ المسار الذي أدّى إلى ما وصلنا إليه، هو الذي بدأ بإقامة الثنائيّة الحادّة بين الذهن والخارج، ورأى للذهنِ والمعرفةِ قيوميّةً على الخارج، فما عادت، معه، المِتافيزيقا علمَ الوجود، بل غدت العلم المعنيّ بتحديد قابليّات العقل وحدود المعرفة الإنسانيّة (كانط)، وهذا ما صيّرها، في أحسن الأحوال، وصيفةً تعمل لحساب علوم المعرفة واللغة.

أمّا في الفلسفة الإسلاميّة فقد حال اجتراح الحلّ الأنطُلوجيّ للمسألة دون بقاء الوضع الإبِستِمُلوجيّ مهتزًّا، فكان أن خرج إلينا ابن سينا بعددٍ من المقولات مثل الماهيّة والمعقولات والوجود الذهنيّ، التي وفّرت، لمن تلاه، مادّةً للخروج بنسقٍ فلسفيٍّ مُحكَم يرفض الواحديّات دون أن يغرق في الثنائيّات[19]. وفي الواقع، فإنّ الاشتغال الفلسفيّ المعاصر بات يرى أن لا مفرّ له من الحلول الأنطُلوجيّة[20] لهذه المسألة الإبِستِمُلوجيّة، لذا تراه يطرح موضوعاتٍ من قبيل الوجود القصديّ intentional existence، وأنطُلوجيا المتكلِّم first-person ontology والموضوعات (الأشياء) الذهنيّة mental objects وسوف أشرح هذه المتلازمات وتداعياتها توًّا. بعبارةٍ أخرى، لقد بات أكثر اهتمامًا في تمييز الحيثيّات الوجوديّة للمسائل قيد المعالجة.

أولى النقلات المتقنة لابن سينا كانت تمييزُه بين الوجود والماهيّة[21]. ثمّ قسّم الوجود إلى عينيّ وذهنيّ. والماهيّة محايدة بالنسبة لهما. فالوجود ليس ذاتها ولا جزء ذاتها، وإلّا لما انفكّ عنها، والحال أنّ كلّ المعاناة الفلسفيّة تنصبّ على إثبات الوجود لماهيّةٍ بعينها، أو نفيه عنها! تُعينُنا القسمة المذكورة على استبيان علاقة الذهن بالخارج. فما يحضر في الذهن إنّما هو نفس الماهيّة التي تتلبّس الوجود عينًا، وإن كان أثرها في الخارج غير أثرها في الذهن – دفع الجهل.

ثمّ يميّز في الموجودات الذهنيّة بين معقولات أولى ومعقولات ثانية – وقد مرّ شرحهما. ويرى أنّ معاني المعقولات الثانية هي “مقاصد للنفس” تعبّر عنها بواسطة اللغة[22]. هنا يبدأ مشوارٌ فلسفيّ طويل سيكون له، في يومنا، أبلغ الأثر في إعادة الاعتبار إلى المِتافيزيقا. فما معنى أن يكون للنفس مقاصد؟ والنفس، هنا، تؤخذ بلحاظ كونها المعلوم[23]. أو فقل ما معنى أن يكون للوجود الذهنيّ مقاصد؟ إن كان عصيًّا تصوُّر ذلك، فمن المفيد أن نسأل عن الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ، مستكملين بذلك تفريعات الوجود في الفلسفة الإسلاميّة المابعد سينويّة (لاحظ انهمامَها بالوجود). ما ملاك كونها وجودات؟ أعتقد أنّ القصديّة التي تشتمل عليها هي محكُّ تسميتها وجودًا، فهي تشير إلى ما سواها. هي تنقل أذهاننا إلى حقائق الأشياء لاتّحادها معها. لقد فطن ابن سينا إلى أنّ من أبرز ما يميّز الذهنيّ عن المادّيّ، أو ما في الذهن عن ما في العين، هو تخطّي الذهنيّ ذاتَهُ ليشير إلى خارجها، وهذه هي الخاصّيّة التي تجعل من المبحث مبحثًا مثيرًا لكلّ أنواع الأسئلة في الفلسفة المعاصرة، وبخاصّة تلك الأسئلة المرتبطة بالمادّيّ والمجرّد.

6.

بغضّ النظر عن التباينات الطفيفة بين المفاهيم والمعقولات والماهيّات، فإنّ ابن سينا – والسينويّة – ظلّ منسجمًا مع قسمته المُحدَثة فآثر لغة الماهيّات على لغة المعقولات. أمّا غربًا، عند القروسطيّين، فقد كان أثر ابن رشد أبلغ. وهو الذي نبذ القسمة السينويّة من أصلها، وإن راقَهُ الحيّزُ الذي افتتحه ابن سينا في المعقولات، فكانت لغة المعقولات عنده، وبالتالي عند القروسطيّين (توما الأكوينيّ ودونس سكوتُس تحديدًا)، أكثر رواجًا. وقد وجد المترجم اللاتينيّ في خاصّيّة القصد في المعقولات ما يلفته، فكان أن ترجم مُفردَتَي “معنى” و”معقول” بـ”intentio” وهي تعني “القصد”. وبذا صارت المعقول الأوّل قصدًا أوّلًا “prima intentio“، والمعقول الثاني قصدًا ثانيًا “secunda intentio“. أمّا الوجود الذهنيّ فصار “وجودًا قصديًّا esse intentionale“.

وقد استعان ابن سينا بمفردة “معنى” ليدلّ على المدرَكات من حيث هي مدرَكات. وهذا معيارٌ في غاية الأهمّيّة، إذ هو الرابط بين وجهتَي النظر الأنطُلوجيّة والمعرفيّة. “عندما يكون الشيءُ الخارجيّ غرضَ إدراك أو تعقُّل، فإنّه يتمتّع بحالَتَين [إقرأ حيثيّتين]، حالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’ وحالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’. في الحالة الأولى، فهو موجودٌ قبل فعل الإدراك، وباستقلالٍ عنه، أمّا في الثانية فإنّ نحوَ وجوده يقوم على الإدراك؛ إنّه لا شيء سوى ‘كونه مُدرَكًا’”[24].

أمّا الفلسفة المعاصرة فلا تمتلك هذه الجرأة الأنطُلوجيّة، وهذا ما يفرض مبحث القصديّة بقوّة[25]. إنّه عصيٌّ على الاختزال الأنطُلوجيّ، بخاصّة لأنّه يُنشؤ علاقةً لا تناظريّة بين الذهن والموجودات، أو بين الذهن واللاموجودات (في الخارج)![26] ولا تجده خارج إطار الذهن إلّا على نحوٍ اشتقاقيّ – كما في حالتَي الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ. أمّا الإطار المعرفيّ العلمويّ الذي وجد أيّما صعوبة في قبول الوعي – في ذاتيّته ووحدته وبساطته – في العالم المادّيّ، فإنّه كان أكثر تلكّؤًا فيما خصّ القصديّة. هذا علمًا أنّ المبحث أنطُلوجيٌّ منذ استدعاه برِنتانو Brentano أوّل الأمر في دراسته النفسيّة. لقد التفت برِنتانو إلى هذا المبحث، معترفًا بفضل القروسطيّين، لأنّه رأى أنّ “الوجود ‘القصديّ’ للشيء، في إزاء وجوده الخارجيّ… يؤخَذُ كنحوٍ (نمطٍ) وافٍ (مكتفٍ) من الوجود”[27].[28]

يقول وِليام لايكان،

القصديّة عائقٌ أمام المادّيّة أكبر من أيّ شيءٍ له صلة بالوعيّ، بالكيفات qualia، بالطابع الفِنُمِنُلوجيّ، بالذاتيّة، إلخ. إذا ما استطعنا طبعنة naturalization القصديّة، فإنّ كلّ تلك المشاكل تنحلّ معها[29].

ويشرح بيير جاكوب الصعوبة التي تُثيرها القصديّة في وجه المادّيّة،

أوّلًا، لقد كانوا شديدي الحرص على تفادي الالتزامات الأنطُلوجيّة الثقيلة التي تفرضها النظريّات القصديّة. ثانيًا، كان من الصعب المواءمة بين أنطُلوجيا الأشياء اللاموجودة والأشياء المجرّدة وبين أنطُلوجيا العلوم الطبيعيّة المعاصرة التي لا ترى في العالم سوى المحسوسات القائمة في الزمان والمكان[30].

من هنا، فإنّنا نضع اليد على عددٍ من المفردات تفرض المبحث الوجوديّ ومعظمها يصدر عن الاشتغال في فلسفة الذهن المعاصرة philosophy of mind. فلقد انهمكت الفلسفة الغربيّة، طيلة القرن الماضي، بالمعرفة واللغة والمعنى. بيد أنّ الحفريّات المكثّفة في هذه المجالات، أفضت إلى إبراز الذهن كمستوًى أوّليّ سابق عليها، لا بدّ من التعاطي معه في سبيل فضّ ما انغلق أمام الباحثين في الإبِستِمُلوجيا والسِمانطيقا والتأويل. هنا وصلنا إلى معضلتين رئيستَين: الوعي والقصديّة. وقد كانتا ممّا استدعى تفحُّصَ الأنساق الفلسفيّة القديمة سعيًا وراء حلول. ولئن تردّد الفلاسفة في قبول مقولةٍ أنطُلوجيّة صارخة من قبيل الوجود الذهنيّ – أو القصديّ – فإنّهم بدأوا بالتعاطي مع موضوعات من قبيل “الأشياء الذهنيّة”، وهي، من حيث كونها أشياء، فلها حيثيّتها الوجوديّة البارزة، وكذلك من قبيل “أنطُلوجيا المتكلِّم”، أي ما يُشكِّل خطوةً أولى في الابتعاد عن الأنطُلوجيا التسطيحيّة للمعرفيّة القائمة على تقديس العلوم الوضعيّة. عنيتُ إقصاء كلّ ما هو ذاتيّ، أي كلّ ما لا يطاله مسبارُ التجريب، من حقل المعرفة الشرعيّة.

إنّ إعادة طرح مسألة الذات والموضوع بهذا الزخم، وعلى هذا النحو، يُفسح في المجال لعودة المباحث المِتافيزيقيّة بكلّها. هذا لا يعني أنّ المِتافيزيقا كانت خارج التداول بالمطلق، فهذا غير ممكن؛ بل قد هي عولجت حتّى في أعتى مراتع الوضعيّة المنطقيّة، وإن بعناوين مختلفة وبأقلام مُحرَجة. أمّا اليوم، فإنّها تعيش، بحسب تعبير جوناثن لوو، عصرًا فضيًّا[31] (وليس ذهبيًّا، إذ هو يعقد المقارنة مع اليونان القديمة) يُبشّر بقلبِ العمليّة التدميريّة التي مرّ ذكرها، وبعودة الاعتبار إلى عددٍ من المباحث التي أحيلت، في وقت من الأوقات، إلى العَبَث الكلاميّ والخرافة والغنّوصيّة والتي لا تجد، بين أتباعها، سوى الغاوين.

بعبارةٍ أخرى، فإنّ البذرةَ الفلسفيّة التي وُضعت في عصرَي النهضة والتنوير أثمرت إعادة قراءةٍ لكلِّ مسلَّمٍ وأفضَت إلى صياغاتٍ وبنًى جديدة. وعلى ما في هذا الأمر من تحريكٍ للذهن البشريّ، إيجابًا حينًا، وسلبًا أحيانًا، فإنّها وصلت إلى إعلان موت كلّ ما يرتبط بمركَزَي الثبات في المِتافيزيقا القديمة (العقل والوحي). ولأنّ العقل البشريّ يأبى إلّا السعيَ إلى مصادر اليقين، فإنّ الرَّيبيّة والتفكيكيّة واللاأدريّة وغيرها بدأت تُخلي مطارحَها لحساب نوعٍ مختلفٍ من العقلانيّة الواقعيّة التي جاءت لتضع حدًّا لجنون “النهايات”، ولتفتح باب “الاستعادات”، في عودةٍ لمباحث الأُنطُلوجيا والذات والقِيم والغاية، والماقبل، وكلِّ المبحث الخُلُقيّ والدينيّ، إلخ.

أقول، إنّ الظرف الراهن يوفّر فرصةً للفلسفة الإسلاميّة، بما تحتضنه كذلك في مباحثها الدينيّة، وبخاصّة في علم الأصول، وفي مباحثها القيميّة والخُلُقيّة، وبخاصّة في الحكمة العمليّة والعرفان النظريّ والعمليّ، لتتقدم دون وجل، بعد تطوير لغتها بما يتناسب مع هموم الاشتغال الفلسفيّ اليوم، وتطرح حلولها في كلّ المجالات، ولتمتحن ذاتها في جدل تقابل الفكر والفكر، دونما استحياء، ولتزاول المِتافيزيقا، كما اعتادت، بما هي إلهيّات، بمعنييها الإعمّ والأخصّ[32]. إنّنا نعيش عصرًا فلسفيًّا مثيرًا بالفعل!

[1] عن السؤال المهاجر، انظر، شفيق جرادي، “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2009)، العدد 19، الصفحات 89 إلى 94.

[2] تجد، في هذا العدد، أحد أبرز الأمثلة على مَفصَلةِ المِتافيزيقا لتكون على قياس الوجود الخاصّ. انظر، إيمانويل لِفيناس، “الأنطُلوجيا: هل هي تأسيسيّة؟”، ترجمة عليّ يوسف. وهذا تيّارٌ رائجٌ في الفلسفات الفرنسيّة والألمانيّة، ترفضه الفلسفة التحليليّة بشكلٍ عامّ. فهي تتبنّى بقوّة تعريف غوتلوب فريغه Gottlob Frege للوجود إذ يماهيه بالعدد 1، فيكون خلافه (العدم) العدد صفر (وهذا امتدادٌ لتأثير كانط في حصره للوجود بالوجود الرابط copula). وهذا ما يُسمّيه بيتر فان إنواغِن بالمفهوم الرفيع للوجود thin conception، في مقابل الوجود الكثيف thick conception عند القارّيّين، وهي قسمةٌ أخذها عن أستاذه ويلارد كواين، أبرز الفلاسفة الأميركيّين في القرن الماضي. انظر،

  1. van Inwagen, Ontology, Identity and Modality: Essays in Metaphysics (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), 4.

[3] انظر، في هذا العدد، خنجر حميّة، “إشكاليّة المِتافيزيقا وأزمة تجاوزها في فلسفة العلم المعاصرة: جدل الفكر والواقع عند غاستون باشلار”.

[4] في إشارة إلى كتابه Prolegomena zu einer jeden künftigen Metaphysik، الذي تُرجم إلى العربيّة تحت عنوان، مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا، ترجمة الدكتورة نازلي اسماعيم حسين، مراجعة عبد الرحمن بدوي (القاهرة: دار الكتاب العربيّ، الطبعة 1، 1967).

[5] في إشارةٍ إلى كتابه Philosophie als strenge Wissenschaft وقد تُرجم إلى العربيّة. انظر، هُسّرل، الفلسفة علمًا دقيقًا، ترجمة وتقديم محمود رجب (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002).

[6] تجد تحليلًا قيّمًا لهذه المسألة في المقالة المترجمة في هذا العدد لإدوارد نيكول. انطر، “العودة إلى المِتافيزيقا”.

[7] انظر،

  1. van Inwagen, Ontology, Identity and Modadility, Ibid. p. 1, fn. 2.

[8] يقول إدوار نيكول، “المبدأ الأوّل هو الدليل الحضوريّ. والمبدأ ليس إيجادًا بل حيازة دائمة”. “العودة إلى المِتافيزيقا”، مصدر سابق.

[9] عن محظورات الاحتكام إلى العقل وحده، انظر، في هذا العدد، محمّد مصباحيّ، “المِتافيزيقا في مواطنها الأصليّة: حوار الفلسفة والتصوُّف”.

[10] انظر،

  1. Searle, Philosophy in New Century: Selected Essays (Cambridge: Cambridge University Press, 2008), 8-9; W. Sweet (ed.), Approaches to Metaphysics (Dordrecht: Kluwer Academic Press, 2004), 6, 17.

[11] من قبيل قولنا “النار تحرق بالضرورة” بمقتضى طبيعتها.

[12] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، “الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”؛ وأيضًا، جوناثن لوو، “إمكان المِتافيزيقا”. يقول الشيخ بدران، في بيانه للهجمة على المِتافيزيقا، “ولم يقتصر النقد على شيئيّة الوجود، وإنّما امتدّ إلى النظام المنطقيّ الذي انبثق عنه”. وبالفعل، فإنّ عمليّة نزع الشرعيّة عن المِتافيزيقا، راكمت زخمها الأساسيّ على إثر الهجمات التي انصبّت على مبدإ عدم التناقض، فزلزلت التوافق التاريخيّ عليه. ومع العودة التي تشهدها مباحث المِتافيزيقا، فإنّ مباحث المنطق المصاحب لها تشهد تعافيًا ملحوظًا، كذلك. انظر، على سبيل المثال،

  1. N. Zalta, “In Defense of the Law of Non-Contradiction”, in G. Priest and B. Armour-Garb (eds.), The Law of Non-Contradiction: New Philosophical Essays (Oxford: Oxford University Press, 2004); M. Dummett, The Logical Basis of Metaphysics (Cambridge: Harvard University Press, 1991).

[13] انظر، مرتضى المطهري، شرح المنظومة، ترجمة عمار أبو رغيف (مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1417هـ)، الصفحات 110 إلى 141.

[14] المصدر نفسه، الصفحات 138 إلى 141.

[15] “ما من علمٍ يعول نفسه بنفسه” بعبارة نيكول. انظر، أيضًا، “إمكان المِتافيزيقا” لجوناثن لوو.

[16] مهدي الحائريّ اليزديّ، هرم الوجود، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقانيّ (بيروت: دار الروضة، 1990)، الصفحة 158.

[17] “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مصدر سابق، الصفحة 92.

[18] انظر،

  1. Dummett, The Logical Basis of Metaphysics, op. cit., Intro.

[19] انظر، في هذا العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.

[20] ثمّة حلّ منطقيّ للمسألة، تقدّم به الملّا صدرا، يقوم على التمييز بين نوعين من الحمل: الحمل الأوّليّ الذاتي، أو الحمل المفهوميّ، والحمل الشايع الصناعيّ، أو الحمل المصداقيّ. انظر، للاستزادة، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 68 إلى 73.

[21] يرى روبرت ويزنوفسكي أنّ الإنجاز الأساسيّ عند ابن سينا كان في مبحث الموادّ الثلاث (الوجود، العدم، الإمكان)، وهو يقابل مبحث الجهات الثلاث في المنطق. وهذا دليلٌ آخر على أنّ عبقريّة ابن سينا كانت في بيانه وتفصيله لحيثيّات الواقع (والجهة هي الحيثيّة) بما فسح في المجال لتقدُّم فلسفيٍّ هائل. ومبحث الجهات modalities يحتلّ حيّزًا واسعًا في المنطق الغربيّ المعاصر بعكس المنطق القروسطيّ أو الأرسطيّ. أمّا بعد ابن سينا، عند الفلاسفة المسلمين، فقد صار عمدة المبحث المنطقيّ هو الجهات والموجّهات – يُسمّيها طلبة المنطق “الموجّعات”، في دليلٍ آخر على أنّ أكثر ما يُجهد ذهن طالب الفلسفة وحدسَه، إنّما هو تقصّي المسائل في حيثيّاتها. انظر،

  1. Wisnovsky, “Avicenna and the Avicennan Tradition”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), 113-115; T. Street, “Logic”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), op. cit. 256-257.

كما وانظر، في هذا العدد، نادر البزريّ، “السينويّة ونقد هايدِغر لتاريخ المِتافيزيقا”. وهذه قراءة مقارنة تبرز إسهامات ابن سينا في المِتافيزيقا بعد تخليصها من بعض الأخطاء التاريخيّة. قارن، في العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.

[22] ابن سينا، الشفاء: المنطق 3، العبارة، تحقيق محمود الخضيري، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور (القاهرة: دار الكاتب العربيّ، 1970)، الصفحات، 2-3.

[23] على مبنى اتّحاد العلم والعالم والمعلوم، وهو في خصوص النفس لا مأخذ لابن سينا عليه، يكون العلم والعالم والمعلوم اعتبارات يجترحها الذهن وهي النفس في أحوالها.

[24] انظر،

  1. M. De Rijk, Giraldus Odonis O.F.M. Opera Philosophica. Volume Two : De Intentionbus (Leiden – Boston : Brill, 2005), 2-3.

[25] الوعي، فلنكتف بتعريف سيرل على سبيل المرونة، “يتكوّن من حالات شعورٍ أو إدراكٍ باطنيّة، ذاتيّة، كيفيّة”. وهذه الخصائص الثلاث هي ما يجعل من الوعيّ “المشكلة الكبرى”، بتعبير دايفِ تشالمرز، وما يخلق، بتعبير جوزِف ليفين، “فجوةً تفسيريّةً” تعجز الأطر الفلسفيّة الراهنة عن ردمها. وثمّة، هنا، نقاشٌ محموم حول ما يُشكّل علامة الذهنيّ the mark of the mental في إزاء المادّيّ. وقد برز إلى الساح مرشّحان: الوعي والقصديّة؛ فكان من أنصار المرشّح الأوّل، جون سيرل، على نحوٍ ملحوظ، أمّا “القصديّون” فكثر وأشهرهم ألِكسيوس ماينونغ، رودريك تشيزولم، وويلارد كواين، ومؤخّرًا، ويليام لايكان وتيم كراين. هذا علمًا أنّ أكثر الفلاسفة القارّيّين، وبخاصّة هُسِرل وسارتر، لا يرون بونًا بين القصديّة والوعي إذ “كلّ وعيٍ يتوجّه نحو غرَضٍ (موضوعٍ) ما؛ بكلامٍ آخر، كلّ وعيٍ هو وعيٌ بأمرٍ ما”. انظر،

  1. Searle, “Consciousness”, Annu. Rev. Neurosci. (2000) 23: 557–578; D. Chalmers, 1995. “Facing up to The Problem of Consciousness” Journal of Consciousness Studies 2: 200-219; R. Chisholm, Perceiving: a Philosophical Study (Cornell University Press, 1957), ch. 11; W.V.O. Quine, Word and Object (Cambridge, Mass.: MIT Press), ch. 6; W. Lycan, Judgment and Justification (Cambridge: Cambridge university press, 1988; T. Crane, Intentionality as a Mark of the Mental in A. O’Hear, Current Issues in Philosophy of Mind, Royal Institute of Philosophy Supplement: 43 (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), 229-252; T. Crane, Elements of Mind (Oxford: Oxford University Press, 2001) ch. 1 and 3; M. P. Banchetti-Robino, “Ibn Sīnā and Husserl on Intention and Intentionality”, Philosophy East and West (Jan., 2004), 54 (1): 76.

[26] وقد كان هذا عنصرًا محرّكًا عند ابن سينا نفسه. فقد دعته محاولات المعتزلة، برأيه، تشيئةَ العدم، إلى الإصرار على واقعيّة الوجود الذهنيّ لتبرير معرفتنا بالّلاموجودات. فما لا حظَّ له من الوجود الخارجيّ، فهو موجودٌ ذهنيّ، وأحكام الوجودين تختلف بلا ريب. انظر، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 147 إلى 157. وأيضًا، D. Black, “Intentionality in Medieval Arabic Philosophy”,.

[27] انظر،

  1. M. De Rijk, De Intentionbus, op. cit. 23.

[28] لقد كان لمحوريّة فرانتز برِنتانو (1838-1917) Franz Brentano في الفلسفة الغربيّة أثر الترويج لمبحث القصديّة في الفلسفتين القاريّة – من خلال تلميذه هُسِرل – والتحليليّة – من خلال ماينونغ تحديدًا. في الواقع، فإنّ البعض يعتبره رائد التقليدَين الغربيّين، القاريّ والتحليليّ.

[29] انظر،

  1. Lycan, “Giving Dualism its Due,” Aust. J. Phil. (Dec. 2009) 87 (4): 551-563, fn. 8.

[30] انظر،

  1. Jacob, “Intentionality”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition), E. N. Zalta (ed.), URL = <http://plato.stanford.edu/archives/fall2008/entries/intentionality/>.

[31] انظر،

  1. J. Lowe, “New Directions in Metaphysics and Ontology”, Axiomathes (2008), 18:273–288

[32] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، ” الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”، حيث يبيّن أسباب ترجمة المِتافيزيقا، في الوسط الفلسفيّ الإسلاميّ، بالإلهيّات.

افتتاحية العدد 38

نُبحرُ من جديد مع الرمز في هذا العدد، أو هكذا نتصوّر، لأنّ الخوف يبقى ماثلًا أمامنا من عدم مغادرة المرفأ، فيحصل معنا ما حصل مع باحثي مؤتمر “أشكال الفعل الرمزيّ”، إذ خرج عليهم “ميلفورد سبايرو Milford Spiro ليقول في نهايته: “إنّ كلّ البحوث التي نُوقِشَت في الندوة لم تتعرّض من قريب أو بعيد لتعريف كلمة “الرمز”، أو تحاول التمييز بدقّة بين فئة الرموز وفئة “غير الرموز”…على الرغم من أنّ معظم الّذين اشتركوا في الندوة كانوا علماء، لهم مكانتهم الرفيعة في مجال الأنثربولوجيا، ووقد عُدّت البحوث التي قدّموها إسهامات طيّبة في ذلك العلم، فإنّه لم يستطع أن يتبيّن تمامًا لماذا كان أصحاب هذه البحوث يتوهّمون أنّهم كانوا يُعالجون مشكلة الرمز والرمزيّة (أبو زيد، 1985، ص 583). فنحن أمام موضوع إشكاليّ، يحتاج إلى جهد كبير. فكثيرٌ من الأمور التي نتصوّرها رموزًا تخرج عن معناها، فتُفصِح عن حقيقة، فعندما أقِفُ أمام سماء متلبّدة بغيوم، أشعر أنّها رمزٌ لهطول المطر، ولكن إذا تفرّقت الغيوم من دون حصول المتوقّع، هل أستطيع أن أتحدّث عن الغيوم على أساس أنّها رمز، أم أنّ استحضاري للمطر كان ناشئًا عن عادة؟ وفي هذه الحال الأخيرة، هل يمكن عدّ ذلك رمزًا؟

ويعيدنا الكلام السابق إلى ضرورة إعادة تعريف الرمز وماهيّته، فهل كلّ أمرٍ دالٍّ على معنى، يختلف عن مظهره هو رمز؟ وإذا فُهِمت الدلالة منه مباشرة، فأين تكمن الرمزيّة فيه؟ فهل الضوء الأحمر في الإشارات الضوئيّة رمز؟ الدلالة هنا واضحة، وتحيل إلى معنى، والضوء يقوم بفعل الاختزال، وتحويل الكلمات إلى إشارة، يمكن التقاطها. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على ما هو بسيط، وغير مُعقّد، فإنّه من الممكن أن نصل إليه ببساطة، ولكنّه قد يتوسّع باتّجاه الأمور المجرّدة، كأن نستخدم القوسين المعقوفين “[ ]” للدلالة على أنّ الكلمات ليست من أصل النصّ في العمل البحثيّ، أو علامة أكبر “<” للدلالة على أنّ الرقم كذا أكبر من الرقم كذا، كما ينطبق على إشارة الهلال التي تدلّ على الإسلام، وغيرها من الرموز الدينيّة. فهل صحيح أنّ هذه رموز، طالما تؤدّي الدور نفسه الذي تقوم به اللغة؟ سؤال يحتاج إلى تأمّل وتفكير.

وقد يقول قائل: إنّ ما تتحدّث عنه يستدعي التفريق بين الرمز والعلامة، وما أشرت إليه هو خلط بين مصطلحين (العلامة/ الرمز)، مع العلم بأنّ غالبيّة العلماء: “الذين تعرّضوا لهذه النقطة يرون أنّ الرمز يتميّز من العلامة بأنّه يشير إلى مفهوم وتصوّرات وأفكار مجرّدة، في حين أنّ العلامة تشير إلى موضوعات وأشياء ملموسة، أو على الأقلّ إلى أمور أدنى في درجة التجريد، على أساس أنّها لا تفعل شيئًا أكثر من مجرّد الإشارة إلى تلك الأشياء التي ترتبط بها فحسب” (أبو زيد، 1985، ص 585). قد يكون ما أُثير مُهمًّا، ولكنّ المشكلة لم تُحل، لأنّها تفتقد المعياريّة الدقيقة التي تجعل الرموز على ما هي عليه. فالعلامة قد تتحوّل إلى رمز، والعكس صحيح؛ فما هو الشيء الذي يعطي الرمز رمزيّته؟ ولماذ اتُّخذ من دون غيره؟ وهل يمكن استبداله برموز أخرى؟ وكيف يحصل ذلك؟ وهل هي تحمل معانيَ ذاتيّة؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا يختلف الناس في معناها من حضارة إلى أخرى؟

  يضعنا الرمز دائمًا أمام الأسئلة، فهو المختلف الذي يوحي بالوضوح دائمًا، ولكن عند مقاربته تجد أنّ المعنى فيه مؤجّل، ويحتاج إلى مزيد من الكلمات لتصل إليه؛ فهو وإن ظهر “[كـ] شيء يعتبر ممثّلًا لشيء آخر، وبعبارة أكثر تخصيصًا، فإنّ الرمز كلمة أو عبارة أو تعبير آخر، يمتلك مركّبًا من المعاني المترابطة. وبهذا المعنى، يُنظر إلى الرمز باعتباره يمتلك قيمًا تختلف عن قيم أيّ شيء يرمز إليه كائنًا ما كان” (فتحي، 1986، ص 878)، إلا أنّه أبعد من ذلك، فهو يأخذك من مضيق اللغة؛ ليربطك بما هو إنسانيّ، يبدأ من الإنسان في لحظة إبداع، ويستمرّ معه، يولّد المعاني عند مواجهته، فإذا نظرنا بدقّة إلى الرمز نرى: “الخيال هو الأداة الأولى للإبداع في الصورة الرمزيّة، فالنجاح في استخدامها يتعلّق أساسًا بالإيحاء ومقاربة الحقيقة من دون مناقشتها.

إنّ أهميّة توظيف الرمز لا تكون في مجرّد شحن الإشارات الرمزيّة، وعقد المقارنات، وإنّما يتمثّل الإبداع في توظيف دلالات الرمز للتعبير عن القيم والمشاعر الإنسانيّة الأصيلة” (أصلاني، 2011، ص 2). بهذا المعنى، يصبح الرمز حالة، تنقل الكلام من مستوى منطوق أو ظاهريّ إلى مستويات وجوديّة، لا تُعبِّر عن المعنى إلّا من خلال عيشه وانعكاسه على مستويات متعدّدة اعتقاديّة وأخلاقيّة…عند هذا المستوى، يصبح هو الأصل، وليس المعنى القابع فيه، فهو حتّى في ذهن مُلقيه أوسع ممّا أشار إليه، ولو كان قادرًا على التعبير عنه، لاستخدم اللغة العادية. كما أنّ الرمز – ولو كان واضحًا عند ملقيه – يأخذ معانيَ إضافية عند المتلقّي، وهذا ما أشار إليه ت.س. أليوت، عندما قال: “الرمز يقع على في المسافة بين المؤلّف والقارئ، لكن صلته بأحدهما ليست بالضرورة من نوع صلته بالآخر، إذ إنّ الرمز بالنسبة إلى الشاعر محاولة للتغيير، ولكنّه بالنسبة إلى المتلقّي مصدر إيحاء” (فتوح، 1984، ص 233).

ويبقى الرمز هو ذلك العجيب المحيّر الذي قد لا تتّسع صفحات مجلّة للوصول إلى نتيجة واضحة فيه، ويبقى الأمل في تقديم إسهامات حول الموضوع، وهذا ما كُنّا قد بدأنا به في العدد الماضي، وسنستكمله في هذا العدد.

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحتوي الباب الأوّل على ستّة أبحاث. في البحث الأوّل منها، يهدف حسين حسني درگاه وعبد الله راز في بحث “تحليل رؤية هنري كُربن في تأويل الرمز ودور الخيال الفعّال في فهم النصوص الحكميّة الإسلاميّة” إلى بيان رؤية كُربن في ما يرتبط بالرمز والترميز في النصوص الحكمية الإيرانيّة – الإسلاميّة، بنحو منسجم ومتكامل، مستفيدَيْن من المنهج التوصيفي – التحليلي، لإدراك معنى التأويل الكامن في المستوى الأفقي للنصّ، وصولًا إلى مستوى جديد من المرتبة الوجوديّة للمعارف.

وفي البحث الثاني، وعنوانه “الرمز في النصّ الصوفيّ والعرفانيّ”، عمد حسن خليل رضا إلى جعله ثلاثة أقسام: قارب في القسم الأوّل الرمز الصوفي والعرفاني في نسقه الدلالي، وتناول في الثاني تمثّلات الصوفية للرمز في النصّ الصوفي والعرفاني، وأمّا في القسم الثالث فتحدّث عن مسوّغات لوذ العارفين بالرمز في تكوين نصوصهم، ومنها: صون التجارب، واتّقاء الفقهاء، والالتزام بالأمر الإلهي.

وعالج غسّان تويني في بحثه “الرّمز في الشّعر المعاصر“، نصوصًا لثلاثة شعراء، هم: محمود درويش، ومحمّد علي شمس الدين، وكمال خير بك، وأوضح من خلالها كيف تستطيع الرموز، بما تحمل من محمولات دلاليّة، أن تسهم في إنتاج دلالات جديدة، لم تكن متوافرة فيها من قبل؟ وكيف تستطيع كذلك أن تشكّل مصدرًا معرفيًّا ثقافيًّا لرؤية الشاعر الشعريّة والمرحلة التي يعايشها، ليترك بذلك بصمة فريدة في نصّه، لا تشبهها أيّ بصمة أخرى؟

أمّا سكينة أبو حمدان فقد بيّنت في بحثها ” أهميّة تحديد السياق في الكشف عن الرمز الديني“، وكيف أنّه لا يمكن معرفة دلالة الرمز الحقيقيّة من دون تتبّع سياقاته المختلفة، من ظروف القائل والمتلقّي الثقافيّة والبيئيّة وغير ذلك؟ ورأت أنّ الرمز الديني هو لفظ لبس لبوس الدين، فلا يمكن فهمه خارج الإطار الذي حُدّد له، وقد أعطت نماذج من مثل الصراط، والميزان، وبعض أوصاف الجنة، لتدعيم الفكرة.

وفي البحث الخامس من ملف العدد، حاول ليون روزنشتاين بيان “بعض المشكلات الماورائيّة في الأشكال الرمزيّة عند كاسيرر”، مستعرضًا آراء كانط وهيغل اللَّذين ناقشهما من وجهة نظر كاسيرر، فعرض ما توصّلا إليه من فلسفة التفكير والأشكال، وما وافقهما عليه كاسيرر، وما خالفهما فيه، من خلال النماذج التي استعرضها الكاتب، مثل: الأسطورة، والفنّ، واللغة، والدين.

أمّا في البحث الأخير، فقد قدّمت زينب إسماعيل في بحثها “أنوثة الماء: الرمز والبحث عن الأصالة” مسحة تأويليّة لرمزيّة الماء في نصّ النبع لسديف حمادة وفق الإجراءات الأسلوبيّة والسيمائيّة، من خلال رصد بعض التكرارات الأسلوبيّة وسياقاتها النصّيّة، والعمل على رصد المعنى الخفيّ المرتبط بالإحالة المرجعيّة الثابتة خارج النصّ، والثاوية في طيّات المعاني، مستثمرة المرجعيّة الثقافيّة والدينيّة للشاعر، وتوافقها مع السياق الأسلوبيّ للنصّ.

وفي باب “حوارات”، يطرح الشيخ محمّد تقي السبحاني مدى استفادة العلوم الإنسانيّة من علم الكلام في مبحثين: تناول أحدهما تحديد إطار أصل قضيّة العلاقة بين هذين العلمين، أو بتعبير آخر مساعدة علم الكلام للعلوم الإنسانيّة، وأمّا المبحث الثاني فاهتمّ بطريقة تطبيقات هذا البحث، واسعرض قائمة من تفاصيل علم الكلام التي يمكن أن تؤثّر في الفروع والاتجاهات المختلفة للعلوم الإنسانيّة، وتؤثّر في موقف علم الكلام من سائر العلوم.

أمّا باب “بحوث ودراسات”، فقد احتوى ثلاثة أبحاث: الأوّل ليد الله يزدان پناه، بعنوان “إمكانيّة وصف التجارب الشهوديّة العرفانيّة”، وقد استعرض فيه الرأي القائل بإمكانيّة وصف المشاهدات العرفانيّة، بما لها أهميّة خاصّة في فلسفة العرفان، استنادًا إلى الساحات الثلاث: الحقيقة، والمعنى واللغة؛ حيث طرح بعض النصوص العرفانيّة التي تعزّز هذا الرأي.

والبحث الثاني لحسين أترك بعنوان “مسار تطوّر نظريّة الاعتدال في الأخلاق الإسلاميّة”، عرض فيها الكاتب مسار هذه النظريّة في اليونان القديمة وصولًا إلى الأخلاق الإسلاميّة وبعض ما يتعلّق بموضوع العدالة والنفس والعقل، وقاعدة الاعتدال في كلٍّ منها، وتأييد قاعدة الاعتدال بالآيات والروايات الإسلاميّة، وإضافة الفضائل الدينيّة إلى الفضائل الأخلاقية الفلسفيّة، وربط بحث سعادة الإنسان بالله والآخرة.

أمّا البحث الثالث فهو لزهراء عقيل، بعنوان “عقلانيّة هوبز: من إلزاميّة الفعل إلى حريّة الاختيار”. تناولت الكاتبة في ثلاثة فصول نظرة هوبز إلى الاجتماع البشريّ، والسلطة، وبناء الدولة، حيث يرى هوبز أنّ الأخلاق نسبيّة، وأنّ الفوضى هي التي تسبق القانون، وأنّ الحالة الطبيعيّة حافلة بالانقسامات والصراعات بصورة كامنة، وأنّ قانون الطبيعة مبدأ يصل إليه العقل، ويشكّل حالة من الإلزام من الداخل.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل، والممتع، والشاقّ.

المصادر والمراجع

أبو زيد، أحمد (1985). “الرمز والأسطورة والبناء الاجتماعي”، مجلة عالم الفكر (16/ 3). الكويت: وزارة الإعلام.

أصلاني، سردار ونصر الله شاملي، وعسكر علي كرمي (2011 / 1390 ه.ش). “الرمز والأسطورة والصورة الرمزيّة في ديوان إيليا أبو ماضي”. مجلّة الجمعيّة العلميّة الإيرانيّة للغة العربيّة وآدابها (21). طهران: اللجنة الإيرانيّة للغاة العربيّة وآدابها.

فتحي، إبراهيم (1986). معجم المصطلحات الأدبيّة. تونس: تعاضدية العمالية للطباعة والنشر.

فتوح، أحمد محمّد (1984). الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. القاهرة: دار المعارف.

افتتاحيّة العدد 37

افتتاحيّة العدد 37

لا تتأتّى أهميّة دراسة الرمز من الحروف التي يمكن أن يُصاغ منها، بل بما تمثّله من مدلولات، إن على الصعيد اللغويّ الشفهيّ والكتابيّ، أو على صعيد العلامات التي يشير إليها. وهو – أي الرمز -أي  أعمّ ممّا ذُكر كلّه؛ لأنّه يتّخذ شكلًا من أشكال التفكير التجريدي، ويرتبط بشكل مباشر بالمعنى الذي يحمله، سواءً كان هذا المعنى إشارة أم علامة أم شكلًا مكتوبًا أو ملفوظًا.

والرمز مفهوم اعتباريّ يصطلح عليه أهل علمٍ ما، فيستمدّ قوّته من التوافق والاصطلاح الحاصل بشأنه كالرموز الخاصّة بعلم الفيزياء والكيمياء والمنطق والرياضيّات.كما يرتبط مفهومه بعلم الفلسفة ارتباطًا وثيقًا كون الفلاسفة دأبوا على دراسة العلاقة بين الحقيقي والاعتباري، وبين المفهوم والمصداق، وبين اللغة والواقع، وبين صدق الشخصيّات الخياليّة في القصص والأساطير وزيفها. وهو أيضًا أعمّ من علم الدلالة الذي يدرس الرموز اللغويّة فقط، في حين أنّ الرموز تهتمّ بالمعاني، بغضّ النظر عن كونها لغويّة أم لا.

وله مصاديق عديدة: لغويّة، واجتماعيّة أنتربولوجيّة، ودينيّة، وفلسفيّة فكريّة، ولا يسع المقام أن نفصّل في كلٍّ منها. وقد استخدم القرآن الكريم الترميز في النواحي المذكورة جميعًا: في القصص الرمزيّة، كقصّة النبي يوسف (ع)، والخضر، وموسى (ع)، وغيرها، والتي يُراد للإنسان منها أن يفهم المغزى، كلّ بحسب قدرته وطاقته العقليّة، وفي الإشارة إلى صور الجنّة وجهنّم؛ وفي ترسيخ الرمز الاجتماعي الديني، والنموذج الذي يمكن للإنسان أن يتبعه، وكذلك في التركيز على مناحي التفكير التي يسلكها البشر.

وإذا ما عدنا إلى الإنسان الأوّل، ألفيناه قد استخدم الرموز؛ للدلالة على مسمّيات الأشياء، وهو ما توثّقه الصور التي وُجدت منقوشةً على الألواح، ومنها بدأ الإنسان لغته، معبّرًا عمّا يريد؛ لأنّ اللغة هي الوسيلة التي من خلالها يستطيع الإنسان أداء هذا الغرض، إذ يتواصل مع الآخرين، فيفصح عمّا يريد رسمًا أو كلامًا، ويفهم ما يريدون. ومن هنا، أشار العالم اللغوي دو سوسير (De Saussure)، في كتابه علم اللغة العامّ، إلى أنّ اللغة ظاهرة اجتماعيّة، ومجموعة من الرموز، وقد ميّز بين اللغة والكلام، وقوام الرمز عنده أمران: اللفظ أو الحرف بما هو دالّ ،(signifier) والمعنى بما هو مدلول (significant) (را: دوسوسير، 1985، ص 84 – 89).

فالغرض من نَظم الكلام ليس توالي الألفاظ والكلمات، بقدر ما هو تناسقها وانتظامها في جملٍ تؤدّي المعنى المراد منه. ولا سيّما “أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظٌ مجرّدةٌ، ولا من حيث هي كلمٌ مفردةٌ، وأنّ الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، ممّا لا تعلّق له بصريح اللفظ” (الجرجاني، 2005، ص 45).

ولاحقًا، اتُّخذ اللفظ الفصيح في اللغة هو اللفظ الذي ينضوي على أساليب البيان، وأكثره فصاحة هو ما كان على نحو غير صريح، ومباشر كالرمز، والاستعارة، والكناية، وغيرها من أساليب البلاغة؛ وقد عُدّ الرمز أبلغ الكلام؛ لكونه من الكناية التي تقلّ فيه الوسائط، أو تنعدم مع خفاء في اللزوم بين المستعمل فيه والأصل (طبانة، 1988، ص 261).

وفيه، ارتبط الرمز بالدلالة، وبالمراد منه، ارتباطًا وثيقًا، وقد يصبح الرمز في بعض الأحيان أكثر ظهورًا من اللفظ نفسه، فلا تبقى حاجة إلى الإشارة عمّا يدلّ، فحين تقول: “هذا الرجل أسد”، يفهم منها -من دون الحاجة إلى التفكير – أنّ المراد منه الشجاعة والبطولة. فاتخذ الرمز منحًى تجريديًّا، وأصبح وسيلة للتعبير عن المعنى الأقوى تارةً، وعمّا لا يمكن الإفصاح عنه تارةً أخرى، كما في المقاصد التي يحملها الشعر السياسي، والمعاني التي يُراد لها التستّر والخفاء وراء الرمز، إمّا لأهميّة ما يُقال، كالشعر الصوفي والعرفاني، فيومئ إلى التجربة إيماءً لقدسيّتها وفرادتها؛ وإمّا لفتح المجال واسعًا أمام المتلقّي لإعمال الفكر، كالحكايا الشعبيّة، والأساطير التي تعبّر عن هموم وجوديّة، وأسئلة فلسفيّة مصيريّة.

كما بدأ التحوّل الرمزي اللفظي من المذهب الأدبي إلى الدلالة الفلسفيّة مع بودلير في القرن التاسع عشر الميلادي في كتابه أزهار الشرّ (LES FLEURES DU MAL)، حين رسّخ مفهوم التجريد في الأفكار والتعبير عن الأحاسيس والمشاعر من دون تسميتها،  ونحت الرمزيّة بشكل متقنٍ أَوْضَح منحى تفسير الوجود، والخلق، والميتافيزيقا BAUDELAIRE, 1861))؛ (را: بودلير، لا ت).

وقد ميّز إرنست كاسيرر (Ernst Cassirer) الإنسان عن الحيوان بالقدرة على الترميز الذي يُعدّ – في رأيه – أعمّ من الذكاء والتفكير (كاسيرر، 1961، ص 66 و69)، وتحدّث عن فلسفة الأشكال الرمزيّة، ورأى أنّ وظيفة الرمز هي ربط فكرة واعية بفكرة أخرى (مخوخ، 2017، ص 232). وفرّق بين الإشارات والرموز، ووجدها تنتمي إلى عالمين مختلفين من عوالم الخطاب. فالإشارة جزء من عالم الوجود المادّي، وأمّا الرمز فجزء من عالَم المعنى الإنساني (ص 274).

فالرمز هو التعبير الذي يُراد منه إيصال الفكرة، أو إحداث نوع من التحوّل الفكري، من دون الإشارة التي لها كيان جامد فحسب. وهو أيضًا يستحوذ على المعنى، ويسيطر عليه، ويستمدّ قوّته من التوافق والاصطلاح الحاصل بفعل استخداماته المتكرّرة التي تثبّته في ذهن العامّة والخاصّة.

كما تعزّزت الرمزيّة symbolisme)) على صورة مذهب فلسفي غايته التستّر بالرمز والإشارة، من أجل التحلّل من القيم الدينيّة، والابتعاد عن عالم الواقع، والبحث عن عالم مثاليّ، يمكنه سدّ الفراغ المعنوي الذي عاشه بعض المفكّرين، وهو ما له جذور في نظرية المثل عند أفلاطون الذي أراد إيجاد نموذج كامل للتشبّه به، وهذا الأمر لم يكن عائقًا عند العرب، لوجود النموذج الكامل المعصوم المتمثّل بشخص النبي محمّد (ص)، في حين أنّ الغرب عاش، ويعيش نوعًا من فقدان هذا المثل.

ولا يسع المقام عرض آراء المفكّرين في موضوع الرمز من الناحية الأدبيّة واللغويّة والفلسفيّة، وقد ارتأت مجلّة المحجّة تخصيص ملف خاصّ من أعدادها يُعنى بموضوع الرمز وجدليّة العلاقة مع الفلسفة، ساعية إلى عرض مجموعة من الأبحاث حول الموضوع تعبّر عن آراء أصحابها، وتكون بمنزلة إطلالة على الموضوع، مرحّبة بمزيد من الدراسات حوله.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل ثمانية أبحاث: في البحث الأوّل منها، قدّم بحث “الرمز يفضي إلى التفكير” نظرة بول ريكور إلى مفهوم الرمز، وتحليله له، بناءً على نظرتين: الأولى اعتباره من صنف العلامات التي تنضوي على قصديّة مزدوجة:حرفيّة ومقدّسة، والثانية مجازيّة بلاغيّة أدبيّة، وهو بعيد عن مقصود الرمز في المنطق الرمزي الصوري، مقسّمًا فلسفة الرمز إلى ثلاث مراحل، هي: الظاهراتيّة، والتأويل، والرمز الذي يفضي في رأيه إلى التفكير والتفسير الخلّاق المبدع.

أمّا في البحث الثاني، عالج سمير خير الدين “مفهوم الرمز بين المنطق الأرسطيّ والمنطق الرمزيّ”، متوقّفًا عند الفروقات بين الرمز في المنطقين الأرسطي والرمزي. وقد عرض الباحث نماذج من استعمالات الرموز في المنطق الصوريّ، موضّحًا أنّ المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة فيه ممهّدة للمبادئ التصوّريّة والتصديقيّة في العلوم الإنسانيّة، بخلاف المنطق الرمزي الذي يتمحور حول الرمز، لا حول المفاهيم.

وأمّا البحث الثالث، فهو لأحمد ماجد، بعنوان “قراءة تأويليّة لحركيّة الرمز في قصّة سلامان وآبسال لابن سينا“، حيث استقرأ الباحث فيها البُعد العرفاني الرامي إلى ولوج عالم الروح والباطن واستنطق النصّ بغية إيجاد المعاني العميقة، والرموز الدلاليّة التي أرادها الكاتب. وحلّل الشخصيّات، وقارب الأحداث، وزمان تتابعها، ليصل إلى تحليل رمزي لعناصر القصّة، والمبدأ الذي أراده ابن سينا في نصّه.

وتحدّث حسين شمس الدين عن “المقاربة الفينومينولوجيّة لمفهوم الرمز” فعرض ثلاثة اتجاهات أساسيّة اهتمّت بتحليل الرموز في العلوم الإنسانيّة، وهي: الاتّجاه الوضعي المنطقي، ورائده رودولف كارناب، والظاهراتيّة اللغويّة، ورائدها إدموند هوسرل، وفلسفة اللغة العاديّة، ورائدها فتغنشتاين، ثمّ بيّن ارتباط الرمز بالبحث عن التجربة الدينيّة، عبر عرض التحليل الأنتربولوجي للعمارة الدينيّة، وعمارة المسجد بشكل خاصّ.

وعرض جمال زعيتر في بحثه “الشّجرة والإنسان رموزيّة تشابهات وتعالقات وتفاعلات” رمزيّة الشجرة بما جسّدته في الثقافات القديمة والحديثة. وعرّج على ما تمثّله فروع هذه الشجرة من أوراقها وأغصانها وجذوعها وثمرها، وما ترمز إليه في الأديان، حيث بدأ أصل الخلق في الجنَّة التي عاش الإنسان في نعيمها، حتّى أكل من شجرة المعرفة، ظنًّا منه أنّها شجرة الخلد، فكانت الشّجرة هي التي فضحته، وهي التي غطّته.  

كما قدّمت سعاد الحكيم في بحثها “عبد الوهّاب البياتي.. رموز وأقنعة” ما ابتدعه من رموز ودلالات ضمن عناوين أربعة؛ الرمز الصوفي والشعري، والإنسان البطل وأقنعته المتعدّدة، وبغداد وما يربطها بالحلّاج، وجبل قاسيّون وما يربطه بابن عربي.

أمّا ويلبِر م. أُربَن في بحثه “الرمزيّة مبدأً لاهوتيًّا“، فقد تناول الرمز في فلسفة الدين، متحدّثًا عن الصور الشعريّة في لغة الدين عمومًا، وعن الاختلاف الجذري بين اللغة الشعريّة واللغة الدينيّة، من أجل فهم العنصر الرمزيّ الكامن في الدين واللاهوت معًا، وذلك لأنّ لغة الدين تتناول الشيء في ذاته (noumenal)، ولغة الشعر تتناول الظواهريّ (phenomenal).

والبحث الثامن هو لزهرة الثابت، بعنوان “رمزيّتا الماء والنار في الأساطير والأديان”. عرضت فيه الباحثة معاني هذين العنصرين ودلالاتهما في حياة الشعوب عمومًا، وفي الحضارات القديمة، بدءًا بالفكر الإغريقي والمصري والسومري وصولًا إلى دلالتهما في الأساطير، وما تمثّله في النصوص الدينيّة المقدّسة خصوصًا.

وفي باب “حوارات”، حوار مع آية الله السيد يد الله يزدانپناه حول مدى تأثير العرفان الإسلامي في العلوم الإنسانيّة بوصفه منهجًا من مناهج الدراسات، إلى جانب المنهج الوصفي والمنهج التجريبي. ولأنّ الأنتربولوجيا تتعمّق في علم الإنسان اجتماعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا؛ فهي تتقاطع مع العرفان في كون موضوعه الرئيس أعظمَ مظاهر الحقّ تعالى وهو الإنسان الكامل. بدأ الحوار بعرض رأي العلّامة، ثمّ أجاب عن الأسئلة التي وُجّهت إليه حول المسألة.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه ثلاثة أبحاث: الأوّل لفاطمة آل يوسف حول “العلاقة بين لغة العرفان النظري وتطوّر مسائله عند البسطامي والجنيد والحلاّج”، بيّنت فيه أنّ مسائل العرفان النظري التي تتمثّل في حقيقة التوحيد والموحّد قد تطوّرت وتكاملت بتعاضد ثلاث لغات، أو ثلاثة فضاءات فكريّة وروحيّة، هي: لغة البسطامي التي تمثلّت في بيانه حالات الفناء، ولغة الجنيد التي تمركزت على الشريعة، ولغة الحلاّج التي أثارت انتباه الناس إلى الحبّ الإلهي.

أمّا البحث الثاني، فهو لنادر البزري، بعنوان: “مُقَدِّمات في فَلسَفَة جَماليّات الفَنّ”، حيث استهلّ بحثه بتعريف ماهيّة الجَماليّات، ثمّ عرض بعض المقدّمات الفلسفيّة التي توضح بعض العلاقة بين جماليّات الفنون والذوق الفنّيّ، من علم النفس التجريبي، والنظريّات الأخلاقيّة، إلى الجماليّات الفلسفيّة.

والبحث الأخير هو لمحمّد شيا، تناول فيه “تأصيل الفنّ وتحريره في نظريّة كانط الجماليّة”، معتمدًا على كتاب رئيس لكانط هو نقد الحاكمة أو نقد ملكة الحكم (1790)، ومستفيدًا من الترجمة الإنكليزيّة للكتاب critique of judgment.Tr. By J.c Meredith، في محاولة لاستكمال الثلاثيّة الكانطية في المعرفة والأخلاق والوجدان.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل، والممتع، والشاقّ.

افتتاحية العدد 36

تحميل البحث: افتتاحية العدد 36

يأخذك “ويليام تشيتك” في رحلة إلى عوالم الفكر، تقف معه عند بوابة الكلام، تأخذك الدهشة من ارتسام الحروف المحفورة على عتبة القول، فتنبهر كثيرًا، وتصبح كقمر يدور في فلك كوكبه، حتى إذا ما وعيت، أدركت أنّك كنت تسمع حديثًا، يحتاج إلى مراجعة وتدقيق، فتنهال عليك رسوم السؤال، فتقف عندها، تحاول أن تتخطّاها، لكنّها سرعان ما تجرفك إلى ساحل شاطئ، فتلحّ عليك بأن تكون القطرة التي تريد أن ترفد البحر بما تصوّرته أنّه الماء. فتقرّر في نهاية الأمر أن تستريح، وتبوح بما يجول في خاطرك.

افتتاحية العدد 8

تحميل البحث: افتتاحية العدد 8

فلسفة الدين مفهوم حديث في قاموس الفلسفة، وهو يحاول أن يشقّ طريقه، ويثبت خطاه إلى جانب الكثير من العلوم المضافة كفلسفة الجمال، وفلسفة القانون … ومع أن موضوعاته قديمة بقدم الفلسفة. إلا أنه يحمل الكثير من الأسئلة، بعضها يتعلق بأصل العلاقة بين الدين والفلسفة، وهذه المسألة تعود بجذورها إلى  بداية التفكير الفلسفي.

افتتاحية العدد 35

تحميل البحث: افتتاحية العدد 35

يُعدّ مبحث الجعل من المباحث الفلسفية التي تتعلّق بمسألة صدور الموجودات عن الواجب بالذات وطبيعة هذا الصدور، والذي أخذ مداه في الوقت الحاضر مع صدر الدين الشيرازي القائل بأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.

والجعل، وهو لغةً الصنع والتصيير والإيجاد والخلق والإنشاء والتبديل والشروع والعمل والتهييئ والاعتقاد والتبيين[1]، فعل أعمّ من ذلك كلّه، فهو يفيد على المستوى الفلسفي الإيجاد والفاعليّة. والجاعل هو العلّة الفاعليّة، أي مفيض الوجود على المعلول وبها يُعرف، يقول الملا صدرا في تعريفه لها: “إذ الحكماء عرفوا العلّة الفاعلة بما يؤثّر في شيء مغاير للفاعل، فتقدّم ذات الفاعل على ذات المعلول تقدّم بالعلّيّة”[2].

إذًا، فالجعل، وهو إيجاد علّة لمعلول، موضوع اختلاف بين الفلاسفة يرتبط بطبيعة المجعول، أي متعلَّق الجعل، هل هو الوجود أم الماهية؟ وهنا أقرّت الفلسفة الصدرائية بأصالة الوجود، وكون حقيقة الوجود واحدة مشكّكة، وأنّ ما يوجد في الخارج تكون له واقعيّة وترتّب آثار، فيقول: “كلّ ما يرتسم من الوجود في النفس وتعرض له الكلّيّة والعموم فهو ليس حقيقة الوجود، بل وجهًا من وجوهه وحيثيّة من حيثيّاته وعنوانًا من عناوينه، فليس عموم ما ارتسم من الوجود في النفس بالنسبة إلى الوجودات عموم معنى الجنس، بل عموم أمر لازم اعتباري انتزاعي كالشيئيّة للأشياء الخاصّة من الماهيّات المتحصّلة المتخالفة المعاني”[3].

فحقيقة الوجود لا تعني الكثرة المتباينة، والاختلاف في الموجودات هو من قبيل الشدّة والضعف، والكمال والنقص، والتقدّم والتأخّر، والعلوّ والدنوّ، والكثرة ما هي إلا تجلّيات الوحدة، وهذا ما يقصده الشيرازي في موضوع التشكيك؛ فالوجود حقيقته واحدة أصيلة، وإن كانت مراتبه مختلفة ومتعدّدة ومتمايزة.

ولأنّ الجعل هو شكل من أشكال الاعتباريات، كما كل الأمور الوضعيّة، ارتأت مجلّة المحجة الجمع بين هذين العنوانين بملف واحد لهذا العدد، وخصّصت الجعل عند صدر الدين الشيرازي، والاعتباريّات عند العلّامة الطبطبائي، والذي يعدّ من المباحث المتميّزة التي تفرّد في طرحها، وأضافها إلى الفلسفة الإسلاميّة.

فالاعتبار هو أمر معنوي ليس له وجود خارجي محسوس، والأمر الاعتباري هو الأمر المبنيّ على الفرض[4].

كما لا يخفى إسهام العلامة الطبطبائي الكبير في عرض نظرية الاعتباريات حيث أفرد له بحثًا أسماه رسالة الاعتباريات ذكر فيه حقيقة الاعتبار وجهة الحاجة إليه. ثمّ عرّف الاعتباريات عن طريق المقارنة بينها وبين الأمور الحقيقيّة، فيقول:” إنّ الإدراكات الحقيقيّة تمثّل ما ينعكس في الذهن وما يكتنفه الواقع ونفس الأمر. أمّا الإدراكات الاعتباريّة فهي عبارة عن فروض يصطنعها الذهن البشري، بغية سدّ حاجات الإنسان الحياتيّة، فهي ذات طابع فرضي جعلي واعتباري ووضعي، وليس له علاقة بالواقع ونفس الأمر”[5].

هذا التعريف الذي أدرجه الطبطبائي إنّما يشير إلى أنّ الاعتباريات هي نوع من التعمّل الذهني لا وجود خارجي له بنفسه بل بما يدلّ عليه، وهي تتلوّن وتتغيّر تبعًا للحاجات والظروف لسدّ الحاجات الضروريّة، والتي منها: اللغة، الأخلاق، علم الأصول للتوصّل إلى القاعدة الفقهية موضوع الابتلاء وغيرها.

فالاعتباري في العلم الحصولي هو ما كان في مقابل الحقيقي. “والحقيقي: هو المفهوم الذي يوجد تارة بوجود خارجي فيترتب عليه آثاره، وتارة بوجود ذهني لا تترتب عليه آثاره، وهذا هو “الماهية”. والاعتباري: ما كان بخلاف ذلك، وهو إما من المفاهيم التي حيثية مصداقها حيثية أنه في الخارج، كالوجود وصفاته الحقيقية كالوحدة والفعلية وغيرهما، فلا يدخل الذهن، وإلا لانقلب، وإما من المفاهيم التي حيثية مصداقها حيثية أنه في الذهن، كمفهوم الكلي والجنس والنوع، فلا يوجد في الخارج، وإلا لانقلب. وهذه المفاهيم إنما يعملها الذهن بنوع من التعمل، ويوقعها على مصاديقها، لكن لا كوقوع الماهية وحملها على أفرادها، بحيث تؤخذ في حدها”[6].

وينسحب مبحث الاعتباريات في كلّ العلوم الوضعيّة – كما ذكرنا سابقًا – فبحث علماء المعاني والبيان الاعتباريات في اللغة في باب الاستعارة والتشبيه، والذي هو تمثيل منطقي، وعملية بل تطبيق عقليّ في مجال الحسّيات والخياليات والوهميّات. والاستعارة أسلوب أقوى في الفرض والاعتبار لأّنه ينقل من المعنى الحقيقي إلى المعنى الاعتباري والمجازي دون توسّط. وبحثها علماء الأصول في علم الأصول في باب التشريع في المعاملات مثلًا كالملكيّة والإجازة وغير ذلك.

ثمّ كان لنظرية الاعتبار مكانتها في فلسفة الأخلاق والإشكال الحاصل بين نسبيّتها أو ذاتيّتها، وقد تطرّق إليه العلامة الطبطبائي في باب الحسن والقبح في موارد الملاءمة وعدم الملاءمة مع الطباع الأخلاقية والنفس البشريّة، وهي من اعتبارات ما قبل الاجتماع العامّة.

فالإنسان هو موجود مختار، وأفعاله وحركاته وسكناته تصدر عن إرادة واختيار، ولكي يقوم بفعل ما لا بدّ من وجوب نسبة ضرورية ما بينه وبين الفعل، فلكي يأكل يجد نسبة الضرورة بين نفسه وإحساسه الداخلي بالشبع وقت الجوع، فكلّ “إنسان أو كائن حيّ يبني مجموعة إدراكات وعلوم، تتوسّط بين قواه الفعّالة وحركاته الحقيقيّة وأفعاله الاختياريّة”[7].

عطفًا على ما قُدّم، فإنّ بحث الجعل عند صدر الدين الشيرازي والاعتباريات عند الطبطبائي بحث مستفيض يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل لا يسع مقام التقديم لذلك، متروك لأمر الأبحاث التي عُرضت في العدد.

مع العدد 35

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب؛ أوّلها ملف العدد المعنون بـ”الجعل والاعتبار”، وثانيها هو باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل أربعة أبحاث؛ في الأوّل يعرض محمّد صادق لاريجاني في بحثه “الاستدلال في الاعتباريّات” ثلاثة أقسام؛ طرح أوّلًا موضوع الارتباط بين الحقائق والاعتباريّات الذي هو من ابتكارات العلّامة الطبطبائي، وتعليقات واستدلالات الشهيد مطهّري عليها. وفي القسم الثاني والثالث عرض دعوى خلط الحقيقة والاعتبار في استدلالات المتكلّمين ثمّ الأصوليّين، والنقود التي قُدّمت عليها والإجابة عنها.

كما ويطرح إحسان تركاشوند و أکبر ميرسپاه في البحث الثاني تفسيرًا جديدًا لاعتبارات العلّامة الطبطبائي لا سيّما في الأمور الأخلاقيّة؛ فبعد تقديم تعريفات لما ينبغي وما لا ينبغي والحسن والقبح وخصائص كلٍّ منهما، تعرّض للإشكالات والشبهات المرتبطة بذلك وفق النظريّة النسبيّة الأخلاقيّة والإجابة عنها وتحقيقها ضمن نظرة مقارنة على رسالة الاعتباريّات وكتاب الميزان في تفسير القرآن للعلّامة.

أمّا علي عابدي الشاهرودي في بحثه “نظريّة الاعتباريّات – شرح ونقد –”، فبدأ في المجال اللغوي ففصّل في الاستعارة من وجهة نظر السكّاكي بما هي قضيّة اعتباريّة وما يخدم ذلك في الاعتبارات الفلسفيّة والكلاميّة وما بعد الطبيعة وعلم أصول الفقه، ليصل بعد ذلك إلى تقييم نظريّة العلّامة الطبطبائي في الاعتبارات وخاصّة في الحسن والقبح العقليّين.

والبحث الرابع هو لعبد المالك بنعثو “الجعل في فلسفة صدر الدين الشيرازي” حيث عرض الكاتب فيه معنى الجعل عند الملّا صدرا، وبيّن الاختلاف في معناه ومبناه بين الفلاسفة لا سيّما في المدرستين المشّائيّة والإشراقيّة، وربط هذا المعنى بمبدأ أصالة الوجود وحقيقته الواحدة المسانخة للموجود.

وفي باب “حوارات”، حوار مع الشيخ غلام رضا فيّاضي حول دائرة إمكان الاستفادة من الفلسفة الإسلاميّة في العلوم الإنسانيّة كون الهدف من الأولى معرفة الإنسان نفسه، وأنّه عين الفقر والحاجة إلى الله تعالى. بدأ الحوار بعرض رأي العلّامة، ثمّ أجاب عن الأسئلة التي وُجّهت إليه حول المسألة.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه بحثان. الأوّل لعبد الجواد عبد الرزاق الحسيني، تحدّث فيه عن فلسفة الشيخ الزنجاني الذي تبنّى نظريّة الحركة الجوهريّة التي كان رائدها صدر الدين الشيرازاي. وبعد عرض عام لحياة الشيخ الزنجاني ومنحاه الفلسفي، فصّل الكاتب في أدلّته على أصالة الوجود تحقّقًا وجعلًا، وأبرز ما توصّل إليه من أدلّة في المعاد الجسماني.

والبحث الثاني لسمير خير الدين حول العقل ومرجعيّته في العلوم الدينيّة. عرّف الكاتب العقل في النصوص الدينيّة وفي اللغة والروايات، وبيّن دخالة العقل وحضوره في العلوم الدينيّة والدنيويّة. ففي الأولى، يشكّل العقل دورًا محوريًّا في الكشف عن حقّانيّة الدين، وفي الثانية حاضرٌ في العلوم الاعتباريّة لجهة التحليل المنطقي لإثباتها.

[1]  للمزيد، انظر، ابن منظور، لسان العرب (قم: نشر أدب حوزة، 1405 هـ)، الجزء 11، الصفحتان 111 و112.

[2]  صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1999)، الجزء 3، الصفحة 257.

[3]  المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحتان 37 و38.

[4]  معجم المعاني، مادة “اعتبار”.

[5] العلّامة الطبطبائي، مجموعة رسائل العلّامة الطبطبائي، تحقيق الشيخ صباح الربيعي، الطبعة 1 (قم: مكتبة فدك لإحياء التراث، 2007 م)، الصفحة 344.

[6]  العلّامة الطبطبائي، بداية الحكمة (قم: مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، 1418 هـ)، الصفحة 187.

[7]  العلامة الطبطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تقديم وتعليق مرتضى مطهري، ترجمة عمار أبو رغيف (المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع، 1418 هـ)، الجزء 1، الصفحة 569.