التصنيف: العدد 26
إفتتاحية العدد 26
افتتاحيّة العدد
تمخّضت النقلة الديكارتيّة عن ثلاثة آثار رئيسة[1] – أو لعلّها كرّستها. وقد كان لهذه الآثار مجتمعةً وقعها البالغ على فهم الطبيعة البشريّة وتعريف الإنسان. فالارتكاسة إلى الذات غرّبت العالَم، أو قُل اغتربت الذات، حتّى كأنّها اكتفت بذاتها عالَمًا نهائيًّا. ثمّ هي في عالمها الجديد، الذي رمت فيه الكفاية والاستغناء – بالمقدار الذي تشرع منه نحو كلّ آخر (وفي داخلها وخارجها آخرون) – تماهت مع البعد العقليّ فيه، فهو وحده ما تثبّتت منه. وكلّ بعد آخر فهو يحتاج في (إثبات) واقعيّته إلى إجازة من العقل إيّاه، وإلّا كان، في أحسن أحواله، صنيعةً مرحليّةً من صنائع هذا العقل في مساره التطوّريّ. وبعض الصنائع، التي تستقي وجودها من العقل إيّاه – هكذا هي السرديّة – اشتدّت في مفاعيلها حتّى باتت تنافسه. وبات تحدّيه يكمن في إثباته ذاتَه (أو أنّه تمام الذات) في إزاء منافساتِه على استحواذ الإنسان. وهو يفعل ذلك بالعودة إلى صفائه، بالخلوص من كلّ شائبة، وباكتناه حقيقته التي ما فتئت تتجلّى في غواشي من الخوالط. هو العقل المستقلّ بذاته، المستغني عن كلّ ما سواه، الواضح عند نفسه، والذي يحقّق نفسه في التجريد، وفي إبداعات التقانة.
خطوات النقلة، إذًا، هي كما يلي:
- العقل، أو الفكر، دليل على الذات، وعلى كلّ ما سواها بالتبع؛
- الذات تتماهى مع هذا العقل؛
- حقيقة هذا العقل أنّه أداتيّ، يعبّر عن نفسه بإبداع الصنائع واستعمالها (وللصنائع التقنيّة، حتّى في حيّز الفنّ، خصوصيّة بالغة في هذا الصدد)، مع نزوع نحو التجريد هروبًا من ملابِسات الجسم، أو العالَم، أو ما سوى العقل.
وفي واقع الحال، فإنّ ثَمَّ أثرًا رابعًا له محوريّته على المستوى المجتمعيّ. إذ فردانيّة الإنسان اتّخذت لها، هنا، تأسيسًا أنطولوجيًّا وطيدًا. بعبارة ثانية، باتت طبيعة الإنسان تؤخذ بمعزل عن جمعيّته، أو علاقته بالجماعة، إذ هذه الأخيرة لا تعدو كونها شأنًا طارئًا. وهذا تداع واضح لانسلاخ الإنسان عن الطبيعة الخارجيّة، أو جعله الخارجَ (الآخر الإنسانيّ ضمنًا) في إزاء الذات، وسيشكّل مقدّمةً، كما سنرى، لنبذ الطبيعة الإنسانيّة نفسها.
وإذا ما كان موقع الإنسان من نظريّة بعينها يتحدّد بمقتضى المثال الأعلى الذي تجعله لنفسها، فإنّ النقلة الديكارتيّة تتموضع في إطار النظريّات التي احتكمت إلى مثال أعلى عقلانيّ – بالمعنى الذي مرّ. وما يعنينا هنا هو، أوّلًا، ما يرتبط بـ”تعريف” الطبيعة البشريّة بمقتضى ذلك، وثانيًا، ما يرتبط بأدوات معرفة الطبيعة البشريّة بعد انتقالنا إلى عالم معرفيّ مغاير تمامًا. وهذا ليس بمنفكّ عن المسألة الأولى، فقد كانت تجزئة العلوم مقدّمةً لتشظية الذات الإنسانيّة بحيث تضمحلّ الطبيعة مع اضمحلال كلّ ما يعطي الذات تماسكها. ومن هنا، كان أن قامت بعض التيّارات الفلسفيّة التي تندرج في مفاعيل النقلة الديكارتيّة برفض أن يكون للإنسان طبيعة ثابتة، إذ الثبات تقييد يُخلّ بالمعياريّة المطلقة التي جُعلت للحرّيّة، من ناحية، وفيه “شائبة” الإلهيّ، من أخرى. ولا يخفى أنّ الارتياب بهذه “الشائبة” يحرّك حقولًا معرفيّةً بكاملها.
لقد ولّد تعريف الجسد والنفس على أنّهما جوهران في الفلسفة القديمة ضرورة السؤال عن العلاقة بينهما. وإذ احتدّت هذه الجوهرانيّة مع النقلة الديكارتيّة، بات لزامًا إقصاء أحدهما لصالح الآخر، لِتضعضع السؤال عن العلاقة إلى حدّ بات معه لغوًا. وتاريخ الفلسفة بعد ديكارت، بأغلبه، تسويغ لأيّ الإقصاءَين.
إنّها لجوهرانيّة حادّة بالفعل. والجوهرانيّة الحادّة تفاقم التشييء، بخلاف الجوهرانيّة الليّنة التي تحفظ الهويّات الشخصيّة، مع خصوصيّاتها، من غير أن تحول دون سيرورة الأشياء وتفاعلها وتولّدها. بل لا كلام هنا عن أشياء. كلامنا، في واقع الأمر، ينصبّ على لحاظات وحيثيّات[2]؛ أي لحاظات وحيثيّات خاصّة بالطبيعة إيّاها. فهل الطبيعة جوهر سيّال أم جوهر صلب – إن كان ثَمَّ من جواهر صلبة؟ ماذا عن خصوصيّاتها ولوازمها؟ هل من خصوصيّات لازمة؟ وكيف تحفظ هذه اللوازم الهويّة؟ أصلًا، ما العلاقة بين الهويّة والطبيعة؟
على ما في هذه الأسئلة من همّ أنطولوجيّ، فإنّني أجدني مأخوذًا بأبعادها الأخلاقيّة – بالمعنى التأسيسيّ للأخلاق. وسيتّضح لك ما أريد. وإذ أتحرّر، شيئًا ما، من الالتزام بإجابات – في استغلال (صارخ كما العادة؟) لمساحة الافتتاحيّة – فإنّ المحفّز على تكثيف السؤال هو السؤال عينه. إذ الطبيعة مبعث على السؤال، بل لعلّ السؤال أكثر أشيائها ذاتيّةً. و”السؤال المهاجر”[3] أبلغ فعلًا في الإنسان من اليقين البتّيّ. فلنلاحق الطبيعة في أسئلتها. فإنّها مصيغة بخليط من التقييد والإطلاق، من ثوابت ومن مغادِرات. فما هو الثابت، وما الذي يغادر؟ أو ما الذي يلزم، وما الذي ينزع نحو المغادرة؟ وماذا يترتّب على المغادرة؟ هل الذات، في الطبيعة، تنحصر بما لا بدّ له أن يلزم، أم إنّ الذات – حتّى الذات – من السيولة بحيث لا يضيرها لو غادرها ما كان، في وقت من الأوقات، ذاتيَّها؟ فما مساحة الحركة فيها؟
ولعلّ الثابت في الطبيعة الإنسانيّة أنّها سيّالة، متحرّكة؛ يقول الملّا صدرا:
النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، ولا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة والنفسيّة والعقليّة التي كلّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات ودرجات متفاوتة، وما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته، وعسر فهم هويّته[4].
فإذا كان الإنسان أكثر الأشياء حركةً، هل نستغني فيه عن بُعد إلهيّ؟
من الواضح أنّ للإنسان خصوصيّة. فهو (أوّلًا) في حركته، قادر على تفعيل ذاته، وفي غير اتّجاه؛ إنّ الإنسان إذا ما استشعر في نفسه نزوعَين، هما الغاية في الخلاف والتضادّ – وهو يستشعر من نفسه ذلك – فإنّه يجد في نفسه القدرة على تحقيق أيِّهما. فما كان قادرًا على أن يفعّل في نفسه من المنازع ما هو بهذه الدرجة من الاختلاف فهو إلى الإلهيّ أقرب.
ثمّ (ثانيًا) هو صاحب وجهة. فإذا كان النزوعُ، على سعته، وتفعيلُه، ممّا يختصّ به، فإنّ تحديد الوجهة على عاتقه كذلك. وهو مزوّد بأدوات التوجيه في قبالة كلّ ما يحاول أن يشظّيه، أو أن يجعله ساكنًا عند وجهة لا تليق به، والحال أنّ الوجهة التي ينبغي أن تلائمه، أو تلائم طبيعته، هي الوجهة التي تأبى كلّ سكونيّة. وفي واقع الأمر، فإنّ الفطرة، في كثير من الأدبيّات الإسلاميّة هي هذه، أي التوجّه نحو المطلق، وإباء السكونيّة المعدِمة.
لذا كان الإنسان متوجّهًا بالضرورة. وأريد من التوجّه الفعل، بل الفعل الذي يحدّد الهويّة ضمن جهة التقييد في الطبيعة. الطبيعة، إذًا، هي (1) مِلاك التوجّه، وهي (2) المصيغة بمقتضيات التوجّه. وعلى هذا، لعلّ الخيال أكثر فاعليّةً في تكوين التوجّه من العقل. فالعقل يهذّب، والخيال يُطلق ويفسح. والجدل، الذي يؤرّق كلّ سؤال عن الطبيعة، هو الجدل بين التهذيب والإفساح بما يفعّل قابليّات الطبيعة، ويعيّن هويّتها، أي ما تستقرّ عليه الذات استقرارًا معتدًّا به. فهما (التهذيب والإفساح) من عناصر الطبيعة من حيث هي مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها. ولا تخفى محوريّة الإرادة في تفعيل ما ينفتح عليه الخيال، ويهذّبه العقل (ولا نحصره هنا بالعقل الأداتيّ). كما لا تخفى محوريّة الشعور في تلمّس مسارات الاكتمال والتفعُّل، والتحفيز نحو مواصلة المسير.
فالمسير نحو المطلق لا يُتصوَّر فيه الوصول. إنّه وجه الله، بالعبارة القرآنيّة، الذي يَهلَك كلّ شيء إلّاه[5]. الوجهة، إذًا، وجه الله. ووجه الله هو الإنسان الكامل، أي الطبيعة البشريّة التي اكتملت، فصارت إلهيّة؛ تفعّل فيها الإلهيّ الكامن إلى أبعد مداه فَظَهَر. ولأنّه مطلق فإنّ أبعد مداه ليس غاية مداه. وإذا كانت الأشياء تُعرف بالوجه، فالله، إذًا، يُعرَف بالإنسان، ولذلك خلقه؛ لأنّه ذاك المتحرّك بالسؤال – بسؤال “ألست”[6] – المتوجّه نحو أبعد مديات الـ”بلى”، مخلَّصًا إيّاها من كلّ ترديد مبعثه الـ”لا” التي تريد تأكيد الذات، أي الطبيعة في بعض مستقرّاتها، في مقابل الوجه، أو الوجهة، أي الطبيعة في أبعد مداها.
الله ظاهر في كلّ الأشياء. لا خلاف. المراد هنا أنّ ظهوره في الإنسان هو الأكمل، لأنّه ظهور لكلّ أسمائه. فهو ظهور على حدّ الاستواء، بتعبير الملّا صدرا[7].
مجدّدًا، إذًا. ليس الكلام في أشياء استقرّت على جوهريّة حادّة. بل الكلام في حيثيّات، في مراتب، أي إنّ العلاقة بين الطبيعة الإنسانيّة والطبيعة الإلهيّة مَصيغة بالتسانخ بينهما. وإذا أقرّينا بهذا التسانخ، دون إحلالهما مرتبةً واحدة، فإنّا نخرج من عدد من الإشكالات المرتبطة بالسؤال عن العلاقة.
ولقد حاولنا قراءة مفردات العلاقة (الوحي والإيمان تحديدًا) في عددين سابقين، فلا أكرّر. إلّا أنّ المرء ليلحظ أنّ سيّاليّة الطبيعة البشريّة، في إبائها قبضَ “العقل الأداتيّ المنهجيّ” عليها، تفتتح تحدّيًا معرفيًّا، وفي كلّ تحدٍّ فرصة إذا أُلهمنا صبرًا كافيًا. فالسؤال، مثلًا، عن الوحي، بالصيغة الذي يُسأل بها، أي عن إمكان العلاقة بين المطلق – ترد مفردة “المفارق” في العادة، وهي أكثر إشكاليّةً – والمحايث (المتزمّن إذا ما صحّ الاجتراح)، هو سؤال شبيه بالسؤال عن العلاقة بين الجسد والروح بعد إقرار جوهريّتهما الحادّة. هو سؤال مردود بمجرّد إقرار التعريف. ثمّ إنّ المطلق، إذا ما أراد التواصل مع المتزمّن، أليس هو من جعله في زمنيّته؟ أفلا يرى أن استيعاب المتزمّن لرسالته التواصليّة هو استيعاب مَصِيغ بمقتضيات التزمّن؟ وهل من سبيل آخر؟ إذا ما جوْهَرْنا الزمنيَّ، في مقابل المطلق، بالحدّة التي صبغت فكرنا طويلًا، فلا سبيل إلى ذلك. أمّا إذا ما نظرنا إليه في سيّاليّته، وحركته المنفتحة على قابليّات الصعود والنزول، فإنّ إطار التعارض ينحلّ لصالح جدليّات التكامل.
تكمن الخطوة الأولى، إذًا، في نبذ كلّ معيقات التوجّه. أمّا الثانيّة، بطبيعة الحال، فتكمن في تهذيب قابليّات تشخيص الوجهة. فنحن محكومون بالاختيار – كان سارتر محقًّا. أمّا اختيارنا، فيضعنا على مسار التشبّه بالوجهة (التخلّق بأخلاق الله). وأمّا “التوجّه” الأصيل فينا، فيزوّدنا بالخميرة التي تجعل التخلّق ممكنًا.
نصل، إذًا، إلى محوريّة الأخلاق لأنّها تختطّ مسارات حركة المغادرة والحلول. ولئن كانت هذه الحركة مطويّةً في النفس (الإنسانيّة)، فإنّها ليس بمقطوعة الصلة بالخارج. بل الخارج يعمّ النفس الإنسانيّة وما سواها. وإنّما نأخذ النفس بمعزل عن خارج لمقتضيات الاعتبار المنهجيّ، فلا ينبغي لنا أن نشيّئ هذه القسمة إثر ذلك. فالفضائل التي هي مراتب الحركة الأخلاقيّة الإنسانيّة تحاكي الأسماء المبثوثة والمتغلغلة في كلّ ثنايا الوجود، بحيث يستحيل الكلام على انفكاك للبعد الأخلاقيّ عن الوجود العامّ، أو الوجود الخاصّ (الإنسانيّ).
بعبارة صدرائيّة، مجدّدًا،
اعلم أنّ الله اسم للذات الإلهيّة باعتبار جامعيّته لجميع النعوت الكماليّة، وصورته الإنسان الكامل، وإليه أشير بقوله، صلّى الله عليه وآله، “أوتيت جوامع الكلم”[.] والرحمان هو المقتضي للوجود المنبسط على الكلّ بحسب ما يقتضيه الحكمة، والرحيم هو المقتضي للكمال المعنويّ للأشياء، بحسب النهاية […]، فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم: بالصورة الكاملة الجامعة للرحمة الخاصّة والعامّة، التي هي مظهر الذات الإلهيّة، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بقوله: “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، لأنّ مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الجامعة الإنسانيّة[8].
تتجلّى هذه الحقيقة كرقائق في الطبيعة الإنسانيّة المتفعّلة في الدرجات الوجوديّة المختلفة، كتجلّيها في الوجود الخارجيّ. إلّا أنّ الإنسان يتميّز بجامعيّته التي بها استحقّ الخلافة. وطبيعته تقتضي التوجّه نحو هذه الجامعيّة، بل لعلّها التوجّه عينه. وعليه، فإنّنا نقرأ في كلام الملّا صدرا، بوضوح، الجمعيّة العضويّة التي تربط الوجود بعضه ببعض، مع لحاظ المحوريّة الخاصّة للإنسان. وكذلك نجد أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بما أوتي من جامعيّة، فإنّه بُعث ليستحثّ الحركة نحو الجامعيّة الكامنة في النوع البشريّ.
لا غرو، إذًا، أن تحار العقول في طبيعة الإنسان، وأن تذهب بها المشارب بعيدًا في كلّ اتّجاه. وإن كان كلّ اتّجاه يعبّر عن بُعد أصيل في الإنسان، إلّا أنّ الاتّجاه القادر على محاكاة – ولا أقول إحاطة – الجامعيّة الإنسانيّة مخفيّ في ثنايا السؤال الإنسانيّ القلق أبدًا. بل إنّ الاتّجاه العامّ قد فرض قراءةً أحاديّةً على الإنسان تقصي كلّ إحالة على المقدّس، وتستثني الإلهيّ. وفي زمن المراجعات، تمثّل مقولة الطبيعة البشريّة فرصةً لصياغة كبرى تتعلّم من الإقصائيّات المتقدّمة وتنفتح على التقليد. فلا نراوغ عموميّةَ المفردة وإبهامها – وهذا متأصّل فيها – بالإجابات النهائيّة. وإن كان لا بدّ من تلمّس المفردة في مفردات من قبيل الهويّة، والشخص، والذات، والنفس، والعقل، والروح، والأنا، فلنراجعها كلّها على ضوء المنفسح الفكريّ الراهن.
مع العدد
يلج شفيق جرادي مبحث الطبيعة بمعاينة هويّة القلب الإنسانيّ الذي تتنازعة وجوهه المتعدّدة، فلا تستقيم إلّا عند إنسان الدهر، صاحب القلب البرزخيّ، والرؤية التوحيديّة. ومن منطلق فلسفيّ إسلاميّ جامع، كذلك، يعرض وليام تشيتيك لإشكاليّة تغيبب الطبيعة البشريّة، ويقترح التوحيد كصيغة تأمّليّة تعين على فهم الإنسان، على سعته. ويقترح سمير خير الدين، بعد المقابلة بين مفردتَي الطبيعة البشريّة والطبيعة الإنسانيّة، أن نتوسّل الإنسان لفهم الطبيعة، في تعارض مع المقاربة التقليديّة التي تجعل فهم الطبيعة مقدّمةً لفهم الإنسان. ويعترض حسن بدران على تغييب الحقيقة الوحيانيّة التي تصرّ على طينيّة الإنسان في عين إصرارها على رفعة مرتبته. ويرى أنّ تغييب أيّ بعد من أبعاد الكائن البشريّ يجعل الإخفاق في فهم طبيعته لازمًا.
أمّا السيّد حسين نصر، فيجعل مقابلةً بين الإنسان، بمعناه التقليديّ، أي بما هو رابط بين الأرض والسماء، والإنسان الذي اصطنعه التنوير على ركن القطيعة مع السماء. ويرى أنّ طمس الصبغة الإلهيّة في الإنسان لا بدّ أن يترك أثره على العالم كلّه لما لهذا الإنسان من محوريّة فيه. وإذ تستعرض آن ماري شيمل القراءات الصوفيّة التقليديّة لحقيقة الإنسان، ولمدخليّة الشيطان إليه، فإنّها تقف على خصوصيّة الإرادة الإنسانيّة وقابليّات الخير والشرّ عنده.
في المقالة السابعة، يتقدّم عليّ يوسف بقراءة للطبيعة البشريّة كما هي حاضرة عند مدرِكها، محاولًا إقامة علاقة رابطة بين أبعادها المتبدّية. وبعدها يتناول مهدي مهريزي مسألة تضمّن الخطاب الإلهيّ للإنسان نحوًا من القراءة المجازيّة في سرديّاتها القصصيّة، كمقدّمة لفهم أبعاد قصّة خلق آدم في القرآن، وبما لها من تداعيات على فهم الطبيعة الإنسانيّة.
أمّا ماري ميدجلي، فتشرع من الإشكاليّات التي اعترت فلسفة الأخلاق جرّاء الاختزاليّة الفكريّة الحاكمة لتصرّ على وحدة الفاعل الإنسانيّ في كلّ حكم أخلاقيّ. وفي مقالة حول المدرسة التفكيكيّة، يدرس موسى ملايري تداعيات القول بمادّيّة النفس على فهم الهويّة الإنسانيّة.
وختامًا، يعرض موريس بلوخ لأسباب فقدان علم الإناسة لموضوعه، أي الطبيعة البشريّة، والأثر المترتّب جرّاء ذلك على فهم الطبيعة نفسها.
والحمد لله كما هو أهله
[1] المصادر، حول هذه “النقلة” الديكارتيّة، أكثر من أن نحصيها في عجالتنا هذه. ولكن انظر، على سبيل القراءة النقديّة،
- Gellner, The Devil in Modern Philosophy, 2nd edn. (London and New York: Routledge and Kagan-Paul, 2003), pp. 2-7; C. Taylor, “Overcoming Epistemology,” in Philosophical Arguments (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1995), pp. 1-19; P. Ricœur, “The Crisis of the ‘Cogito,’” Synthese 106: 1 (Jan., 1996): 57-66.
[2] انظر افتتاحيّتنا للعدد 21، “عودة المِتافيزيقا”.
[3] انظر، شفيق جرادي، “الدين والفلسفة والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة 12 (2009): الصفحات 89 إلى 94.
[4] نقلًا عن، حسن بدران، “المسارات الكلّيّة في قراءة الطبيعة الإنسانيّة”، هذا العدد.
[5] سورة القصص، الآية 88.
[6] انظر، سورة الأعراف، الآية 172؛ “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ”.
[7] صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق السيّد جلال الدين الآشتياني (قم: دفتر تبليغات، 1419ه.ق)، الصفحة 86.
[8] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحتان 85 و86.
الإنسان في ثوب كماله
فصّل الصوفيّون الكلام القرآنيّ المجمل حول منزلة الإنسان في العالم (العوالم)، ورأوا إلى ملكاته المتعدّدة رؤيةً تنسجم والتراتبيّة في نظام الكون، على أنّ الإنسان متحرّك في هذه التراتبيّة بإرادته التي تبقى محفوظةً في إرادة الله بالحبّ، فلا تخرج الطبيعة الإنسانيّة عن مقتضيات الخلقة إذا كانت ذات إرادة خاصّة. هذا، وقد أولى علم النفس الصوفيّ “الشيطان”، وموقعه من الإنسان، عنايةً خاصّةً، إذ “يجري من ابن آدم مجرى الدم”. فتعدّدت الآراء بين من يرى فيه موحّدًا خالصًا (الحلّاج، السنائي، العطّار)، وبين من يعيبه في درجة عشقه (الرومي)، وبين من يرى فيه كلّ هذه الأبعاد (إقبال)، مدفوعًا، من خلالها، بمحرّكيّة الإسلام على يدَي من يراه مستحقًّا من الآدميّين.
trans. Muhammad Ali Jaradi & Fatima Zaraket
The general remarks made, in the Qurʾān, about the status of man in the world(s) were, at a later stage, expounded by the Muslim mystics. Their view of man’s powers is in consistence with the hierarchy they believed existed in the cosmic order. In such a hierarchy, man acts with a special will which is preserved within God’s Will through love. Having a special will does not make human nature an exception to the world of creation. Yet it makes man’s situation special in the sense that he entertains the above mentioned maneuverability within the cosmic hierarchy. The Sufi psychology, moreover, paid close attention to the position of the devil as to the human being, for he (the devil) “sits in the blood of human beings.” The points of view range over the whole spectrum, where some (al-Ḥallāj, as-Sanāʾī, al-ʿAṭṭār) view the devil as the ultimate believer, refusing to bow but before Allah, others (ar-Rūmī) who accuse him of false love, and still others (ʾIqbāl) who detect different dimensions in his nature – which explains the multiplicity of opinions towards him – and see him driven, through these dimensions, by a desire to submit (to became a Muslim; a submitter) to the human being he sees fit.
القلب وسائر الأعضاء
البُعد الأخلاقيّ في الإنسان، كسائر أبعاده، مركّب وغنيّ. ولا يُخلّ هذا التركّب في وحدة الكائن الإنسانيّ – ووحدة الحياة الإنسانيّة – بل يقوّمها. إلّا أنّ فصل الأحكام الأخلاقيّة، وبترها عن كافّة الحيّز العقليّ، قد أدّى إلى بترها عن كلّ شأن حياتيّ، بحجّة سيادة الأخلاق، وتمسّكًا بضابطة عدم الانتقال الاستدلاليّ من الوقائع إلى القيم، فعدمت الأحكام الأخلاقيّة كلّ دعامة، بعدما كان الهاجس العثور على الدعامة الوحيدة الممكنة. ولا بدّ من تقويم هذا الخلل من خلال إعادة النظر في طبيعة الإنسان، واحترام وحدته عند كلّ تنظير أخلاقيّ.
The moral dimension in humans, like all their other dimensions, is complex and rich. Such complexity does not damage their unity – or the unity of the human life, for that matter; it rather makes it stronger. Yet, the separation, from the intellectual realm, of moral judgments has led to the total severing of ethics from life’s affairs. The concern was to preserve the sovereignty of ethics, and to avoid any accusation of committing the naturalistic fallacy when deducing the values from the facts. Being consumed – by the philosophical fashions of the day – with arriving at the only possible foundation, moral judgment lost all possible foundations. What is herein suggested is that the situation can be fixed through rethinking the human nature, and respecting the unity of the human being in moral theorizing.
استعادة الطبيعة البشريّة
التوحيد أساس الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، والمعرفة التوحيديّة هي التي ترتبط بالطبيعة البشريّة بصرف النظر عن كلّ العوامل المشكِّلة للمعرفة النقليّة. فالغاية من المعرفة النقليّة الاستفادة من تراكم الاشتغال المعرفيّ الإنسانيّ، أمّا المعرفة العقليّة فهدفها الوصول إلى تحقّق الذات. وفي حين لا يسع المعرفة النقليّة إلّا أن تعرّف الإنسان بالسلب، فإنّ التوحيد يوفّر الصيغة التأمّليّة التي تمكّن الإنسان من التفكّر في الأسماء والصفات التي يُشكّل (الإنسان) صورتها الأشمل، بحيث يكون صورةً للّامُتصوَّر – ومن هنا صعوبة القبض على طبيعته.
Tawḥīd is the basis of the Islamic Weltanschauung. Tawḥīdī knowledge, in fact, is the one more closely entwined with the human nature. Whereas transmitted knowledge aims at making use of the accumulation of human epistemic endeavors, the intellectual knowledge aims at self-actualization. Through transmitted knowledge a negative definition of man is, at best, attained. Tawḥīd, however, provides a contemplative, intellectual, mode whereby we are capable of thinking in terms of Divine Names and Attributes of which man is the most encompassing image – to the extent that he is the image of the imageless. This, essentially, explains why human nature is so difficult to grasp.
خلق الإنسان في تفسير الميزان
يرى العلّامة الطباطبائي أنّ الوصول إلى مغازي القصص القرآنيّ، وبخاصّة ما يرتبط بفهم قصّة خلق آدم، وهي كثيرة التعلّقات والتداعيّات، يقتضي الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم، في بعض موارده، يتوسّل التمثيل والتشبيه الرمزيّ في إيصال مراميه، مراعاةً لحاجة البشر لأن يُخاطبوا بهذا النحو، ولأنّ السنّة الإلهيّة قد اقتضت أن تُبرَز المعاني المعقولة بالصور الحسّيّة، وأن تُبيّن الأمور المعنويّة في قالب الألفاظ. وإن كانت موادّ القصص بكلّها حقيقيّةً وواقعيّةً، فإنّ تراكيبها وبياناتها تشير إلى كون بعضها قصصًا تمثيليًّا. وما كان منها كذلك، لا بدّ له من دليل، وإلّا فلا موجب لصرف القصّة عن ظاهرها.
According to Al-ʿAllāmah aṭ-Ṭabāṭabāʾī, the arrival at a proper understanding of the significance of the Qurʾānic narratives, especially what relates to the creation of ʾĀdam, with all its corollaries and implications, requires a comprehension of the fact that the Qurʾān, throughout, resorts to allegory in order to convey its aims. This is in full compliance with the human need to be addressed in such a manner, and the Divine will’s intention that meanings be shown in sensory (tangible) terms, and spiritual issues be communicated through words. While the material of such narratives is real, the way they are framed alludes to the fact that some of them are allegoric. To be proven as such requires extra evidence. Otherwise, we stick to the apparent narrative.
الهويّة الإنسانيّة المخدوشة في المدرسة التفكيكيّة
تندرج المدرسة التفكيكيّة في إطار المدارس الريبيّة بعامّة، وتتّخذ موقفًا سلبيًّا من الفلسفة، بل من المعارف البشريّة كلّها، محاولةً تخليص المعارف الوحيانيّة من شائبة التدخّل البشريّ. والتفكيك الذي تنتهجه المدرسة المذكورة بين المعارف البشريّة والمعارف الوحيانيّة قائم على تعريف للإنسان يُنكر تجرّد النفس، ويحيل كلّ اختيار وإدراك وشعور على العقل الذي قد سلبته عن حقيقة الإنسان، وفصلته عنها.
trans. Ali Al-Hajj Hasan
Maktab Tafkīk is, in general terms, a skeptic school of thought whose attitude towards philosophy, even all human-based knowledge, is a negative one. It labors towards purifying scriptural knowledge from human interference. Tafkīk (lit. deconstruction) between human and scriptural knowledge, as per the said school, is based on a definition of man which denies the abstraction of the soul, and renders each act of will and feeling a product of the intellect, which it, in a separate move, severs from the human reality.
الإنسان الحَبْريّ والإنسان البروميثيّ
كان للانقلاب البروميثيّ على السماء أثرًا وبيلًا على هذه الحياة الأرضيّة. فالإنسان، في قابليّاته التألّهيّة، محوريّ في هذا العالم، ويؤثّر في تناغمه. لذا يُطلق عليه، في العقائد الحكميّة، اسم الإنسان الحبريّ، أي الجسر بين الأرض والسماء. ولا يمكن فهم الإنسان، في غنى أبعاده، بمعزل عن التقليد الذي يرى فيه (1) حقيقةً أوّليّةً بُني العالم على صورتها، و(2) واسطة تنزّل الوحي، و(3) النموذج الأكمل للحياة المعنويّة. بالتالي، لا يمكن الكلام على الإنسانيّ بمعزل عن الإلهيّ المطبوع على جبينه، ولا يستطيع الإنسان تلمّس طريقه من دون هدي الشريعة ذات الوظيفة الكونيّة في نشر نور العرش وحفظ التناغم في هذا العالم.
The Promethean rebellion against the Divine had a detrimental effect on this earthly life. Man, in his theomorphic capacities, is central to this world, and very crucial to its harmony. The role he plays, according to sapiential literature, is that of a pontiff, a bridge between the earth and the heavens. It is this literature, the tradition, that paves the way towards understanding man in the multiplicity of his dimensions, inasmuch as it sees in him (1) a primordial truth upon whose image the universe was created, (2) a means for the relaying of revelation, and (3) the most perfect archetype of spiritual life. Accordingly, man cannot be tackled while the Divine mark impregnated in him is ignored. Man cannot find his way without the guidance of a Divine law, whose cosmic function it is to spread the light of the Divine throne, and preserve the harmony of the universe
إلام آل علم الإناسة؟
كان من آثار الاستقطاب الحادّ بين مقولتَي الطبيعة والثقافة أن فقدت الإناسة موضوعها، وبالتالي تماسكها، فعدمت سُبُل التواصل مع الحقول المعرفيّة الأخرى. فالإناسة كانت قد انطلقت من أسس تطوّريّة تفهم الطبيعة البشريّة فهمًا ساذجًا، وتعطي التاريخ البشريّ طابعًا حتميًّا وأحاديًّا. فكان أن أطاح النقد الانتشاريّ لهذا النحو من الاشتغال الإناسيّ كلّ إحالة تفسيريّة على الطبيعة البشريّة. فالثقافة، بتركيبها، وعشوائيّة مساربها، هي ما يجعل الإنسان ما هو عليه، لا الطبيعة. يكمن المخرج من هذا الاستقطاب، في التوسّل بالوظيفيّة من حيث هي موقف يعترف بخصوصيّات الأوضاع البشريّة، دون أن يستغرق في النسبيّة المعرفيّة والمثاليّة.
Having started from evolutionary grounds with only a naïve understanding of human nature, and a deterministic, linear rendering of history, anthropology couldn’t face up to the diffusionist attack which actually proscribed any allusion to a fixed human nature as an explanatory device. The sharp polarization between the notions of culture and nature, in terms of what shapes man, could only allow for a single victor, and with nature out of the race, anthropology lost its subject matter, and as a result, its consistency as a field of inquiry, and its capacity to communicate with other such fields. Functionalism is one way out of this impasse conditioned that it is taken as an attitude admitting of the peculiarities of human conditions without being absorbed in epistemic or idealistic relativism
الطبيعة البشريّة في إدراك شخصيّ مباشر
هذه العجالة محاولة لتكوين فكرة واضحة ومتميّزة، ما أمكن، عن الطبيعة البشريّة عبر تحليلها – كما تتجلّى في ولآحاد الناس – إلى مكوّناتها الجسديّة والانفعاليّة والإدراكيّة والاجتماعيّة والروحيّة في تفاعلها وتكاملها وتضافرها في كينونة ديناميّة، واحدة، ووحيدة، مؤهّلة لممارسة فاعليّاتها بحرّيّة نسبيّة تجعلها مسؤولةً بنسبة كبيرة عن مصيرها.
An attempt is made, herein, to arrive at an understanding of human nature, as precise and lucid as possible, through analyzing nature – as it is present to, and within, individuals – to its various constituents: the bodily, the emotional, the apprehensive, the social and the spiritual. These are then taken insofar as they constitute, in their complementarity and harmonization, a single, dynamic whole. This dynamic whole is, consequently, ready to take action within the limits of a relative freedom which renders it (the dynamic whole), to a large extent, responsible as to its destiny.