افتتاحية العددين 41 و42

افتتاحية

يعود سؤال المنطق من جديد ليحتل مساحة واسعة في ساحة الفكر، فهذا العلم الآلي الذي يحمل في طياته سؤال العقل الذي يتحوّل موضوعًا له، يضعنا أمام إشكالية كيف يمكن للسائل أن يضع نظامًا لذاته، ثم يعيد قراءته ويقوم بنقده؟ ويتعمق هذا الأمر، مع التوسع الذي طرأ على فهم المنطق، إذ لم يقتصر هذا النظام على كونه موضوعًا للعقل، بل تعدّى ليكون منطقًا للعلوم، بل وميزانًا للمعرفة. وهذا الأمر يستدعي فحص الإشكالية والبحث فيها، لننظر إليها، خاصة أنّ هذا التصور، تعرض لهزات عنيفة منذ التحوّلات التي شهدتها المجتمعات منذ عهد النهضة الغربية وصولا إلى الراهن، حيث عمل الفلاسفة على تعديل صورته، أو حتى محوها بدءَا من “فرنسيس بيكون” الذي عمل على إنشاء “أورغانون جديد” وصولا إلى التطورات المتتالية حتى في علم المنطق نفسه.

إذًا، نحن أمام مشهدية معقدة، يقف على طرفيها طرفان، الأول يجعل من المنطق آلة عاصمة من الزلل، وتخضع العقل لمقولاته، والثانية تراه لا يقدم جديدًا، بل إنّه يثبت النتائج التي توصل إليها العقل مسبقًا، من هنا، تأتي أهميّة هذا الموضوع، الذي ينطلق من ذات العلم نفسه ومسائله وما تركه من آثار على تاريخ الفكر؛ الأمر الذي يستلزم تعميق البحث فيها والوصول إلى نتائج. وهذا ما ينتج مجموعة من الأسئلة، منها:

– هل بقي المنطق يحمل صفة المعياريّة للعلوم عمومًا، وللعلوم الدينية خصوصًا؟

–  كيف يمكن قراءة خريطة العلاقة بين أنواع المنطق وتطوراته من المنطق الأرسطيّ والرمزيّ والوضعيّ والفينومينولوجيّ؟ وما هي طبيعة ارتباط العلوم المنطقيّة بالعلوم الإنسانيّة؟

ثمّ ألا يمكن للمعالجة المفهوميّة تحليلاً ومقارنة أن تكون أكثر حفرًا ودقّة في النتائج لمسائل من قبيل: تعميق البحث في مفهوم البداهة والضرورة عمومًا في العلوم، ودور القضايا البديهية في تكوثر المعرفة وتناميها، وقيمتها في القراءات الفلسفية والمنطقية المعاصرة؟ ويتوسّع الأمر للسؤال حول أهميّة دراسة مباني الحجاج وصناعة المغالطة، وكيفية تطور البحث المنطقيّ في نظام المغالطة في الدراسات المعاصرة؟

وكذلك، تبرز الحاجة إلى التعمّق في دراسة المفاهيم المنطقية الثانية، وكيفية فاعليّة الذهن في انتزاعه لها، كمفاهيم ذهنيّة تحكي عن مفاهيم ذهنيّة؛ ومقارنتها بالمفاهيم الفلسفية الثانية كمفاهيم تحكي عن نحو وجود الشيء؛ لما لها من آثار في قراءة وتحليل المنظومات الفكرية والفلسفية. وأيضًا القراءة في بنية القضية المنطقية وتطبيقاتها في النصوص الدينية، والبحث في كيفية انتزاع الذهن لمفهوم العدم رغم كونه أمرًا اعتباريًّا وعدم وجود أيّ مصداق له، وكذلك البحث الدلالي في المنطق مقارنة بالهرمنوطيقا، وتحليل مفهوم الكلّي مقارنة بالمدرسة الاسمية، بالإضافة إلى القراءات المنطقية النقدية والتجديدية.

كل هذه المسائل تؤكّد الضرورة لإعادة البحث في المسائل المنطقية بوجهة معاصرة، في ضوء تنامي العلوم وظهور علوم جديدة، من هنا جاء اختيار موضوع المنطق في هذا العدد لطرح مقاربات معاصرة في المنطق تحاول أن تعالج العديد من المسائل المنطقية.

وبالتالي، تكون الإشكالية التي سوف يحاول العدد أن يركّز عليها متمحورة حول الآتي: كيف يمكن إعادة النظر في منهجيّة البحث في علم المنطق بما هو قضايا ومسائل أكثر من العمل عليه بما هو علم؛ نظرًا لقيمة النتائج العلميّة والعمليّة للمسائل في العلوم من قبيل: مسألة تعريف المفاهيم والقضايا، ومعيار ذلك في العلوم الحقيقية والاعتبارية، وفلسفة التعريف وتطبيقاتها في العلوم المعاصرة، وعلاقة التعاريف بإنشاء المصطلحات، وأثر ذلك في تطور المفاهيم والمصطلحات؟ ويتفرّع عن ذلك سؤال: كيف يمكن تقييم موقعيّة مسائل المنطق كمسائل وعلم المنطق كعلم في سياق العلوم المعاصرة والمتنامية تناميًا لا يهدأ؟

في الطرح المنطقي

الملاحظ عمومًا أن هناك نوعًا من الجمود في الطروحات المنطقية، ويبدو هذا الجمود من خلال النظر في طبيعة الموضوعات التي يتم طرحها، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن بعض الملاحظات:

أولاً: غلبة سمة العلم على المسائل المنطقية

يبدو أن الغالب في الطروحات المنطقية هي طروحات لعلم المنطق كعلم، لا كموضوعات ومسائل منطقية، رغم أنّ كل مسألة من مسائل علم المنطق ذات تاريخ وقيمة خاصّة؛ الأمر الذي جعل المشكلة مع العلم ككل، حتى صار بعضهم يرفضه كلّه، أو يقبله كلّه، مع أن مسائل العلم يمكنها أن تكون أقوى حضورًا في مجالات شتّى من حضور العلم كلّه؛ بل إن ما طرحه أرسطو عند تأسيس هذا العلم كان بنحو الموضوعات التي تم جمعها بعد أرسطو، من هذا المنطلق يشير التاريخ إلى أن أرسطو لم يصنّف مؤلفًا بعينه يحمل عنوان المنطق، ولكنه كتب أبحاث المنطق في مواضع متعدّدة ومختلفة: (المقولات، التأويل، التحليلات الأولى، التحليلات الثانية، كتاب الجدل أو الطوبيقا، كتاب تفنيد الأغاليط).

ثانيًا: غلبة الانشغال على النصوص القديمة

ويتبيّن ذلك من النظر في طبيعة المعالجات التي تمّ العمل عليها وهي: الترجمة، والنسخ، والشروح، والنظم والحواشي، والمختصرات، والتشجير، بل ويمكن الاعتبار بأن تعليم المنطق كان من خلال تلك النصوص، فمتون التعليم لم تكتب للتعليم غالبًا، وهي مطروحة بمنهج علميّ صارم، ولم تلحظ خصوصية المدى والتتابع التربويّ وفق النظام التربوي، من هنا غلب على تعليم المنطق الطابع التكراريّ لمسائل هذا العلم، مع إمكانية الاستثمار إلى الحد الأقصى من قوة المفاهيم المنطقية، مع ملاحظة أن تعليم المنطق تمّ كقواعد منفكّة عن الحياة؛ الأمر الذي جعل مادة المنطق مادة جامدة بشدة قاعدتها وصرامتها، رغم أن علم المنطق يشكّل منطق العلوم، لكن خلال دراسته يتمّ طرحه كعلم قواعديّ مجرد عن العلوم.

ثالثًا: تنامي الانشغال المنطقيّ المعاصر

رغم الملاحظات التي طُرحت يظهر أن النتاج المنطقيّ كان حيويًّا ومحوريًّا في بناء المنظومة الفكريّة والفلسفية لدى مجموعة من الفلاسفة المنطقيّين المعاصرين في العالم الإسلاميّ والعربيّ من قبيل: العلامة الطباطبائي، زكي نجيب محمود، طه عبد الرحمن؛ وذلك رغم تباعد فلسفاتهم ورؤاهم؛ إلّا أن أصل الانشغال المنطقيّ كان نقطة اشتراك جوهرية بينهم.

وهنا، تجدر الإشارة إلى الأمور التالية:

1- يشترك العلامة الطباطبائيّ وزكي نجيب محمود وطه عبد الرحمن في الانشغال الفكريّ والبحثيّ المنطقيّ انشغالاً منهجيًّا تأسيسيًّا، لناحية الماهية، والغاية، والمسائل، والدور، والعلاقة مع العلوم والمفاهيم الأخرى، ولكنه برز بشدّة بوجهته الوضعيّة مع زكي نجيب، لا سيّما في كتابه المنطق الوضعيّ وبعض كتبه الأخرى، وبوجهته البرهانيّة الأرسطيّة مع العلامة الطباطبائيّ، لا سيّما في كتابه البرهان وتطبيقاته في مجمل كتبه الأخرى، وبوجهته التكوثريّة مع طه عبد الرحمن، لا سيّما في كتابه اللسان والميزان أو التكوثر العقليّ، ومن ثم ربطه بفكرة الأخلاق العالمية.

من أجل ذلك، بقي السؤال المنطق حاضرًا بقوّة، وفي صلب الاهتمامات المعرفيّة والمنهجيّة، على الرغم من الاختلاف الذي يصل – أحيانًا – إلى حدّ التنافي، بل التناقض في النظرة إلى ماهية المنطق وقيمته، على مستوى تشكيل الرؤية الكليّة للنظام الوجوديّ.

2_ ربما يصحّ القول بأن زكي نجيب محمود قد ذهب إلى المنطق الوضعيّ من الباب الفلسفيّ ببعده اللغويّ؛ فهو أراد أن يقرأ العالم من خلال عدّة هذا المنطق وآليّاته، ومن ذلك التحليل اللغويّ، حيث أخذ به كطريقة في قراءة أشياء العالم، فكان التحليل اللغويّ مرآة تحكي قصَّة هذا الوجود لديه، وهذا يعني تغيّرًا جذريًّا في دور اللغة وغايتها، باعتبار انتقال اللغة من رتبة الوجود الأداتيّ حيث وضعه الواضع لها، إلى رتبة الوجود الذاتيّ؛ من هنا انزاح موضوع الفلسفة من الوجود إلى اللغة، فصارت الفلسفة متمحورة حول اللغة، وصار الكون مشهودًا بنظّارة اللغة.

أمّا بناء على مبنى العلامة الطباطبائي فتكون اللغة وجودًا أداتيًّا، وتكمن فلسفة هذا الوجود الأداتيّ في حكاية المعاني والمفاهيم والحقائق لإفهامها للآخرين أو فهمها من قبلهم؛ وهنا تتجلّى الوظيفة الاجتماعية التعبيريّة للّغة، فالألفاظ تُحضِر الأشياء بألفاظها بدلاً من إحضارها بذواتها.

والألفاظ تلك في مسيرتها اللغويّة وضعًا واستعمالاً كانت في أصل إنشائها اعتبارًا، وفي سعتها كانت اعتبارًا، وفي منتهاها كانت اعتبارًا، فهي اعتباريّة من ألفها إلى يائها، وكذلك في بقائها، فتبقى اللغة في رتبتها الاعتباريّة، ويبقى الوجود الذهنيّ والخارجيّ في رتبتهما الحقيقية، تلك الرتبة التي تترتب عليها الآثار بحسب كلّ منهما. فاللغة بألفاظها تكون دالّة على المعنى، ويكون المعنى مطابقًا للواقع، وواقع كل شيء بحسبه، ويكون الميزان المنطقيّ ميزانًا فكريًّا معنويًّا، قبل أن يكون ميزانًالفظيًّا لغويًّا، كما ذهبت إليه الوضعية المنطقيّة.

وتشتدّ المشكلة عندما تصير اللغة معيارًا لفهم النظام الوجوديّ، -كما اختار المنطق الوضعيّ- وهذا معناه الخلط بين عالم الاعتبار وعالم الحقيقة والواقع، والطبيعي أن يكون الأمر الحقيقي منشأ للأمر الاعتباريّ، ولا يمكن أن يكون الاعتبار أصلاً للحقيقيّ، لاستحالة تقوّم الأمر الحقيقي بالأمر الاعتباري!

3_ يبدأ العلامة الطباطبائي باليقين المنطقيّ كنقطة ارتكاز للمقولات الفلسفيّة التي تقرأ الوجود وشؤونه العامة، فتكون البديهيات المنطقية أصلاً للنظريات الفلسفية التي يتكثّر فيها اليقين باليقين؛ فتكون البداية لديه منطقية، ويكون المقبول فلسفيًّا هو مقبولاً منطقيًّا لجهة البرهان المكوّن من قضايا يقينيّة، والتي تستلزم يقينًا بالضرورة، والعلاقة بين موضوع القضية اليقينيّة وبين محمولها هي علاقة لزوميّة يستحيل انفكاكها؛ لذا كانت فلسفة العلامة الطباطبائي فلسفة منصبغة بالطابع البرهانيّ الذي يُعنى باكتشاف الحقائق عن طريق البرهان الكاشف عن الواقع، فتكون الحقيقة لديه صفة للإدراكات الذهنية من حيث مطابقتها للواقع.

من هنا، تمسّك بالتنظير للمنطق الأرسطيّ والدفاع عنه، وتبنّي منهجيّته في الاستدلال والبرهان؛ ولم يطبق منهجية المنطق الرمزي أو الحديث في بنائه للنظرة الكليّة للنظام الوجودي، أو في تشكيل منظومة مفاهيم معرفية استنادًا لذلك؛ معدًّا أن دعوة القرآن كانت للفكر الصحيح، غير أنه لم يعيّن الطريق، وأحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية؛ فهو بذلك يكون قد جعل الفطرة ميزانًا لقبول المنطق؛ وبالتالي تكون قيمة المنطق كامنة في فطريّته، على أن اليقين بالواقعيات يستند إلى اليقين بالبديهيات من خلال ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا، يلحظ شروطًا معيّنة فيوضع الحد الأوسط، فتتكوّن الأشكال وفقًا لذلك.

وبالتالي، لم تكن تقليديّة المنطق الأرسطيّ مسقِطة لقيمته الاستدلالية عنده، وهذا يعني أنه ليس كل منهج أو علم تقليديّ يكون فاقدًا لقيمته لأنه تقليديّ، كما ليس كل منهج أو علم حديث يكون ذا قيمة علميّة يمكن البناء عليها، والخلط بينهما مغالطة ينبغي التنبّه إليها.

هذا العدد، سيعمل على إعادة تفعيل السؤال المنطقيّ، ويعيده إلى ساحة النقاش، في وقت يعمل معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية  على مكنزه التخصصي في المنطق تقديرًا منه لأهمية هذا العلم وضرورة تفعيله في المؤسسات العلمية، وهو يأمل أن يجدّ هذا العدد الاستجابة من القارىء الكريم.

 

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن بابين؛ أوّلها ملف العدد، وثانيها هو باب حوارات.

يحوي الباب الأوّل ثلاثة عشر بحثًا.

في البحث الأوّل، قسّم حسن عبدي في بحثه “دراسة ماهية أصل عدم التّناقض وآثاره المعرفيّة بحسب نظر أرسطو” بيانات أرسطو إلى فئتين كلّيّتين: التّقرير الوجوديّ والتّقرير المنطقيّ. ورأى أنّ أصل عدم التّناقض – في نظر أرسطو – يتمتّع بأولويّة مطلقة في سياق وجود المعرفة بالقياس إلى أيّ نوع معرفة سواء كانت تصوريّة أم تصديقيّة.

ثمّ تطرّق ديبورا بلاك في بحثه “المنطق في الفلسفة الإسلامية” لخمسة موضوعات، هي: موضوع المنطق وأهدافه، وعلاقة المنطق واللغة والنحو، والتصور والتصديق، والكليات الخمسة والمقولات والقضايا، ونظرية الحجاج.

كما عرض يحيى يثربي في بحثه “التّعريفُ بالحدّ ومشاكله” نقدًا للتعريف بالحدّ، ونقل الإشكالات عليه، وبيّن عيوبًا أخرى فيه، ثمّ أيّد رؤية الفارابي، واقترح تجاوزَ “الحد” ولوازمَه.

أمّا الأب سميح رعد، فقد قسّم بحثه “المنطق الأرسطيُّ في اللاهوت المسيحيِّ والفلسفة المدرسيَّة توما الإكوينيّ نموذجًا” إلى قسمين: الأوّل سرد تاريخيٌّ لعلاقة الكنيسة، وبعض جامعاتها، مع كتب أرسطو، والثاني هو موقف القديس توما الإكويني منها.

كما قسّم موسى أكرمي بحثه “من المنطق في الإسلام إلى المنطق الإسلامي” إلى ثلاثة أقسام: العقل والتعقل في الدين الإسلامي، والمنطق في الدين الإسلامي، والمنطق الإسلامي مع التركيز على علاقته بالمنطق في الدين الإسلامي بما يتضمن من نصوص مقدسة من جهة، ومن قضايا نظرية وتطبيقية من جهة أخرى.

وفي بحث “أنطولوجية العلاقات المنطقيّة المنظومة الفكرية الإسلامية نموذجًا”، ركّز محمّد باقر طيار على إظهار أنطولوجيّة المنطق الرياضي بأدوات ربطه أو بمفهوم الدالّة المنطقيّة. وقدّم الباحث تطبيقات على ما ادّعاه من المنظومة الفكريّة الإسلاميّة في حقول عدّة، منها: فلسفة المعرفة، الإلهيّات، الحقل العقدي، الفطرة.

وفي البحث السادس “تكثّر الأنظمة المنطقيّة: مقارنة بين آراء علماء المنطق القديم والجديد”، حاولت فرشته نباتي أن تشير إلى رأي علماء المنطق في باب رأي القائلين بالواقعيّة المنطقيّة والمعتقدين بكون القواعد والقوانين المنطقيّة جزءًا من المعقولات الثّانية المنطقيّة.

أمّا البحث السابع، فهو للودفيغ لاندغريبه في “التجربة والحكم مباحث في جنيالوجيا المنطق”، وهو عبارة عن مقدّمة أُضيفت إلى كتاب إدموند هوسرل ERFAHRUNG UND URTEIL UNTERSUCHUNGEN ZUR GENEALOGIE DER LOGIK ، واستُلهم اختيار العنوان من عنوان مخطوطة عام 1929 التي تتناول المشكلات الأساسية للمنطق الفينومينولوجي.

كما عالج حسن رضا في بحثهأثر المنطق الرياضيّ في الفلسفة المعاصرة” فكرة اندفاع فريق من الفلاسفة المعاصرين إلى استعمال مبادئ المنطق الرياضي وقواعده وأنساقه في إعادة صوغ الحجج الفلسفيّة التي تثبت وجود الله.

وقارن سمير خير الدين في “الرّوابط المنطقيّة بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزيّ” نظرة كلّ من المنطقين إلى الروابط، مع لحاظ الحضور اللغويّ للرابط، من خلال أوجه ثلاثة: الاختلاف في مفهوم الرابط في المنطقَين، والحاجة التعبيريّة والحاجة الصناعيّة، والمعنى الحرفيّ والاستقلاليّ، ودعّم فكرته عبر نماذج عمليّة.

أمّا سمير الزبيدي فعرض في “نظرات في الأسس المنطقية للاستقراء” اعتراضات السيد مرتضى الشيرازي على اعتراضات على تطبيق السيد محمّد باقر الصدر (قدس) للحساب الرياضي في موارد التواتر والإجماع وغيرها في كتابه الأسس المنطقيّة للاستقراء.

وعرّف عسكري سليماني أميري في بحثه “التعريف بفلسفة المنطق” فلسفة المنطق وموضوعها، ومبادئها، ومنهجها ومسائلها، وعالج بإسهاب المسائل المتعلّقة بالمنطق قبل تقسيمه إلى منطق التعريف ومنطق الاستدلال، وعلاقة المنطق بالعلوم كافّة.

وعرضت اللجنة العلميّة مشروعَ مكنزٍ للمنطق يقوم معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينيّة والفلسفيّة بإعداده، وشرح أهميّته العلميّة. وأوضحت أنّه سوف يكون مربوطًا ببنك معلومات أوّليّ مع قابلية التطوير بالاشتراك مع المؤسسات العلمية والأكاديمية، والمشاركة الجمعيّة في سبيل عملية التنمية المستمرة عبر منصة إلكترونيّة خدمة للعلم والمتعلّمين.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الدكتور خنجر حمية، أجاب عن الأسئلة، من قبيل: الخصائص العامّة للمنطق الفينومينولوجي عند هوسرل، وكيف يمكن أن يتقاطع علم النفس معه، وكيف يمكن الاستفادة من المنطق الفينومينولوجي في المجال الفلسفي والمعرفي، وغيرها من الأسئلة.

وتأمل مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

إفتتاحية العدد 23

الافتتاحيّة

افتتاحيّة العدد

كان لا بدّ لمجمل المباحث التي تعاطتها المحجّة في أعدادها الأخيرة (الزمن، عودة المِتافيزيقا، المعاد) أن تصل بنا إلى تخوم مبحث الجسد. فالمبحث يشتمل في تضاعيفه على مكنون ما اندمجت عليه التيّارات الفلسفيّة المختلفة، ولطالما كان الأرض التي خيضت عليها المعارك الفكريّة، وتناحرت عليها الـمُسبقات الفلسفيّة. مغلوبٌ على أمره الجسدُ في تاريخ الفلسفة؛ وعندما ترى كيف يُنتَصَرُ له اليوم، فلسفيًّا، فإنّك أحيانًا قد ترجو له دوام التعاسة. ودعك من اعتداد الفلسفة بنفسها، واستعلائها على الدين والأسطورة، فإنّنا نجد اليوم مناخًا عارمًا لا يتحرّج من القول بمُسبقات حاكمة على الفلسفة، وعلى كلّ اشتغالٍ فكريّ. يكفيك في ذلك التيّارات الواسعة التي حكمت على الفلسفةِ بقدرٍ لغويّ – أو، لا أقلّ، أحكمت الربط بين الفلسفة واللغة بما لا يطيق الانفصام – فإنّ “فلسفةً تنطلق من مِلء اللغة، هي فلسفة مع مُسبَقات”[1].

بيد أنّ الفلسفة أكثر تجذُّرًا في المسبقات. وبالتحديد، الفلسفة التي صيغت في اليونان، وصارت مصدرًا لمشروعيّة كلّ ما تسمّى فلسفة فيما بعد. فقد قام أفلاطون، في مواجهة السفسطة، بالاستعانة بالأورفيوسيّة كيما يسوّغ خلود النفس وهدفيّتها. وعلى أساس هذه الأسطورة، يتماهى الإنسان مع النفس ويغاير الجسد؛ تصير النفس هي الأنا، ويصير الجسد هو الآخر. ومن يومها، صارت “الأورفيوسيّة من مستلزمات الفلسفة”[2]؛ من مُسبقاتها، إذا جاز لي القول.

إنّه الحدث الفلسفيّ الأكثر تأسيسيّة. هنا انقسمت الأنطولوجيا إلى أنطولوجيا روح وأنطولوجيا جسد. وهذا ما مهّد إلى تجزئة العالم فيما بعد إلى واقع موضوعيّ خارجيّ، وواقع آخر ذاتيّ[3] مع أولويّة للموضوعيّ تحملنا على تحويل الذات إلى موضوع إذا ما شئنا أن نعرفها أو ندرسها. وإنّها لمفارقة أن تحتاج الفلسفة التي تزعم تزويدنا برؤية كونيّة إلى ما سواها – في هذه الحالة أسطورة – لتستقي منه عناصر رؤية كونيّة. لكن، هل يمكن خلاف ذلك؟

وماذا عن أرسطو؟

صحيحٌ أنّ الأفلاطونيّة، بما هي رؤية للواقع، تستدعي الأرسطيّة بما هي رؤية مغايرة للواقع – إذا أخذنا بالمقاربة التي تجعلهما طرفا طيف الرؤى الفلسفيّة – ومأزق الأفلاطونيّة، حيث جعلت الروحانيّ في مقابل المادّيّ، يستدعي رؤيةً للواقع في وحدته كما تقدّم بها أرسطو. إلّا أنّ البرنامج الأفلاطونيّ المحدَث الذي أخذ على عاتقه “مصالحة” هاتين الرؤيتَين للعالم، فاقم القسمة الأولى، فصرنا أفلاطونيّين في مثاليّاتنا، وأرسطيّين في واقعنا المعيش[4]. بأيّ الأحوال، فقد كان لهذا البرنامج أن يكتمل إثر التفاعل والتخالط الواسع الذي جرى بين الأفلاطونيّة المحدَثة وبين التيّارات المسيحيّة التي تشكّلت في صيغ رسميّة وبخاصّة مع بولس وأوغسطينوس. فللأفلاطونيّة إطار تفسيريّ رحب لا يُقصي الروح بل يراعي حقّها، ويرى في الإنسان حقيقةً تتخطّى حيّزه الوجوديّ الضيّق في هذا العالم. هذا من ناحية. أمّا من أخرى، فقد كان لها دور تسويغيّ في تبرئة الإنسان من الخطيئة الأصليّة بإحالتها على الجسد.

فلنُجمِل. تقول الأورفيوسيّة بأصلين في الإنسان، أحدهما إلهيّ خيّر، وثانيهما هو محلّ الشرّ. النقلة الثانية تأتي مع الأفلاطونيّين حيث صارت النفس هي البُعد الإلهيّ في الإنسان، والجسد هو البُعد الدنيويّ. وعلى النفس دَينٌ تؤدّيه كي تكمُل، وإلى حين تأديته فهي أسيرة الجسد السجن[5].

كان على النقلة التالية أن تنتظر قدوم ديكارت الذي جعل من الأنا المفكّرة ذاتًا أسمى، بل لقد حصر فيها ذاتيّة الإنسان. “نجد هذا التوكيد، اللوغوس، منذ البداية مع أرسطو، فقد كان معيارَ تعيّن المقولات، أي كينونة الكائنات. بيد أنّ هذا المعيار – العقل البشريّ، العقل بشكل عامّ – لم يكن يوصف بأنّه ذاتيّة الذات. أمّا الآن [مع ديكارت]، يتقدّم العقل، بصراحة، على أنّه ’الأنا أفكّر‘ في المبدإ الأعلى، وكمعيار ومحكّ لتعيّنات الكينونة”[6].

لم يعد للجسد – المنحصر، منذ الآن، في حيّز الامتداد المكانيّ – أيّ نصيب من ذاتيّة الإنسان. بل لقد تكرّس بما هو جسم – وفارقٌ ما بين الجسد والجسم[7] – في مقابل الذهن الذي استبدل الروح في الأدبيّات الفلسفيّة التي تلت.

ومع توجّه الإنسان إلى داخله كي يُحرز اليقين، يتّخذ الخارج صبغةً أجنبيّة بالكامل. تصير الذات المنفكّة disengaged self محور كلّ حراك معرفيّ، وتصير الإبستمولوجيا، بما هي ضابط حركة العلوم المتقصّية للخارج، تمامَ الفلسفة. هذا عطفًا على إيمانٍ، كأنّما أوحي إليهم[8]، بأنّ الداخل (الذهن-الذات) البرهانيّ، الآليّ، والأداتيّ يضاهي الخارج الذرّيّ atomistic المتفاصل.

إنّ ثنائيّةً مماثلةً، مأخوذةً مع نظرةٍ ميكانيكيّة إلى العالم، ونزوعٍ مادّيّ صارخ، لن تفتأ تولّد ثنائيّات وتجاذبات وجدليّات تراوح بين تشيئة الإنسان وعزله عن الحياة. ومع اتّضاح التهافت الداخليّ لهذه المنظومة، وعدم انسجام ثنائيّتها المؤسِّسة مع ما أفسحت له المجال من مناهج علميّة وفلسفيّة دفعت بالمادّيّات لتملأ كلّ حيّز، رُدمت الهوّة بين النفس والجسد (أو الذهن والجسم)، وصرنا نردّد مع ميرلوبونتي، “أنا جسدي”[9]. لقد حُبي الجسد، من ثمّ، بكلّ المثاليّات والقدسيّات التي حازتها الروح فيما مضى.

أعتقد أنّنا هنا أمام مشكلةٍ تختصر في رمزيّاتها كلّ الجدليّات: المقدّس والمدنّس، المفارق والمحايث، الذات والموضوع. ولا أرى حال هذه الجدليّات مستقيمًا إلّا برفعها، والنظر إلى الإنسان بكليّته.

من الملائم هنا أن نسأل: ماذا عن الدين؟ ألم يُتعارف على الأورفيوسيّة دينًا؟ أليس الدين هو مُسبَقةَ الفلسفة التي ازدرت الجسد وجعلت الكمال للروح وحده؟

من الواضح أوّلًا أنّ تأثير الأفلاطونيّة تناهى إلى المعاقل الدينيّة، وبخاصّة عند التيّارات الغنوصيّة. وليس صعبًا أن نفهم انجذاب بعض الاتّجاهات النسكيّة، في كلّ الأديان، باتّجاه تمثّل الأفلاطونيّة، أو بعض نسخها، في مضامينها العقديّة. وكان التأثير جليًّا في الإسلام وفي المسيحيّة. حاولت المسيحيّة، مع توما الأكوينيّ، تبديد هذه الثنائيّة المفروضة من خلال التأسيس على ما في الكتاب المقدّس من إشارات إلى الإنسان في وحدته الوجوديّة، والاستثمار مجدّدًا في تعريف أرسطو للنفس بأنّها كمالٌ أوّل للجسم، وتطوير مقولة “الشخص” الوثيقة الصلة بالأقنوم، والتي كان لها أن تتحرّك في اتّجاهات مختلفة لما فيها من زخم منفتح على الكثير من البؤر المفهوميّة[10]. إلّا أنّ تكثّر المقولات (النفس، الروح، الشخص) دون تبيان الفوارق والتداخلات في المعنى لم يساعد المطلب في كثيرٍ من الأحيان؛ يقول جوزيف راتزينغر [البابا بنديكتوس السادس عشر]: “النفس تنتمي إلى الجسد كـ’صورة‘ [بالمعنى الفلسفيّ] له، إلّا أنّ الذي يكون صورةً للجسد هو أيضًا روح. إنّه يجعل الإنسان شخصًا […]”[11]. وكذلك نجد في معجم الإيمان المسيحيّ، لدى تعداد معاني النفس: “النفس هي الشخص الحيّ”[12].

إنّ فوضًى مماثلةً نجدها في الأدبيّات الإسلاميّة حين التعاطي مع مصطلحَي النفس والروح – لم تجد مفردة الشخص هذا النوع من الاصطلاحيّة هنا، وإن كانت من المفردات الفلسفيّة المتداولة.

ومع إصرارنا على عدم وجود فلسفة عارية عن المسبقات، نرى التداخل بين الدين والفلسفة عصيًّا على الفضّ غالبًا. وأظنّ قويًّا أنّ المدخل الملائم لمعالجة هذه المسألة هو اللغة، لا لأنّ اللغة تختزل المضامين الفكريّة المحرّكة، بل لأنّها تختزنها، لا على نحو الحياد “إذ من المتعذّر على الرويّة [الفكر] أن ترتّب المعاني من غير أن تتخيّل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الرويّة مناجاةً من الإنسان ذهنَه بألفاظ متخيَّلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني حتّى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن[13]، بل على نحو التفاعل. وبالتالي قد ترقى بنا إلى حيث يلتقي المجالان [الدين والفلسفة] في الآفاق التعبيريّة.

يقول هايدغر: “بالطبع، لا تنشأ المسألة دائمًا حيث تظهر الكلمة أوّل ظهورها. لكنّنا مع الإغريق، الذين عنهم صدرت الكلمة، نستطيع أن نقوم بهذا الافتراض دونما تردّد”[14]. مع صعوبة الوقوف على طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، لسنا مضطرّين لأن نقطع للغةٍ بعينها باستثنائيّة قد تشوبها شائبة المفاضلة العرقيّة، بيد أنّنا لا نرى عائقًا  في الإقرار بمحوريّة لغاتٍ دون أخرى من حيث تقاطعاتها التاريخيّة التي جعلت منها لغةً للاشتغال الفكريّ والتداول الثقافيّ. وهذا هو حال اللغة العربيّة التي سادت لفترةٍ طويلة كاللغة العقليّة لهذه المنطقة الحضاريّة.

فالفلاسفة، عربًا وغير عرب، الذين استعملوا اللغة العربيّة كأداة عقليّة لهم في التفكير والكتابة، كافحوا من جهة أولى لبناء معجم جديد بالعربيّة يمكن له أن يعبّر بدقّة عن الأفكار والمفاهيم الإغريقيّة، فضلًا عن أنّهم حاولوا من جهة أخرى ربط هذا المعجم بالتعاليم القرآنيّة. ومن ها هنا كانت الطبيعة الخصوصيّة جدًّا للمعاني العلاقيّة التي نمت حول المصطلحات القرآنيّة[15].

فلنعد إلى موضوعنا. أترك المقاربة اللغويّة المباشرة للجسد لصالح المعالجات الواردة في الملفّ[16]، وأقارب الجسد من باب النفس.

النفس، بحسب معجم ألفاظ القرآن الكريم، هي معنًى في الإنسان يوجّهه إلى أفعاله من الخير والشرّ[17]، أو معنًى به يكون التمييز والإدراك والإحساس بالمحيط، وهي، بَعْدُ، تقعُ موقعَ القلب والضمير، فتكون محلًّا للسرّ، وموطنًا للخاطر[18]. بيد أنّ النفس، على الأغلب، هي ذات الشيء وحقيقته[19]. ولا تعارض بين هذه المعاني. فحقيقة الشيء، إن كان لنا أن ندركها في الحدّ التامّ، هي مورد تمايزه عن حقائق الأشياء الأخرى، وإنّما تُسمّى بالحقيقة من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأهمّ. والنفس هي أثمن ما لدى ذوات النفوس. إذ النفس من النفاسة، “وهي رفعة الشيء وعظم مكانته”. وملاك نفاستها ناطقيَّتُها، أي كونها مدركة، لذاتها ولما سواها، وموجِّهة إلى مواطن الخير، لا أنّها مقصورة على العقلانيّة الأداتيّة.

وبما أنّ النفس هي حقيقة الإنسان، بالمعنى الذي مرّ، فإنّ كمال الإنسان الخاصّ يكون بكمال نفسه. وقد عرّف الحكماء كمال الشيء بأنّه صدور خاصّته عنه على أتمّ وجه[20]. والخاصّة، أو الفصل المقوّم، للإنسان هي نفسه الناطقة.

هل ينفي ذلك مدخليّة الجسد في كمال الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة، على وجه الدقّة، بين النفس والجسد؟

إنّ لحسم مسألة العلاقة بين النفس والجسد، ثمرة أخلاقيّة بالغة الأهمّيّة. فلقد درج عددٌ من علماء الأخلاق والفلاسفة، وبتأثيرٍ من مشارب فلسفيّة ودينيّة شتّى، على نفي أيّة مدخليّة للجسد في تعريف النفس، فجعلوه حقيقة مغايرة مستقلّة، تقف في إزاء حقيقةٍ أخرى مستقلّة هي النفس. ولهذا الأمر تبعاته حتّى عندما نتجاوز عنه لدواعٍ منهجيّة. إذ يصير الكمال عندها هو بنبذ الجسد، وربّما بمعاقبته، لأنّه مكمن الخطيئة والبُعد. وتنسحب هذه النظرة على التعاطي مع الدنيا لِما لا يخفى من كون الجسد (أي البدن العنصريّ الطبيعيّ) هو جزء الإنسان الممتدّ في الزمان والمكان، وبالتالي، المتّصل مع الدنيا. فتصير الدنيا مذمومةً في كلّ الأحوال، والحال أنّها مذمومة حينًا وممدوحة حينًا، والمِلاك في كلّ ذلك هو النفس الإنسانيّة في إقبالها على الدنيا وإدبارها عنها، وفي مرادها من ذا وذاك.

وإذا كان البدن هو جزء الذات الإنسانيّة، بل وجزؤها الممتدّ مع الطبيعة الخارجيّة، فهو حلقة الاتّصال بين الإنسان والعالم من حوله. وهذا ما ينبئ بمدخليّة للبدن ذات جنبة معرفيّة؛ فهل تنفكّ الحقيقة الإنسانيّة المعبَّر عنها بالنفس عن هذا البدن، أم هو جزؤها المشمول في كلّ إشارةٍ إليها؟ يقول الملّا صدرا: “إنّ نفسيّة النفس [هي] نحوُ وجودها الخاصّ الذي يلزمه الإضافة إلى البدن الطبيعيّ، وليست هذه الإضافة كإضافة الأشياء التي عرضت لها الإضافةُ بعد تمام وجودها وهويّتها”[21]. البدن، إذًا، هو بدنها، ولا تكون النفس بحالٍ دونما بدن، وإن كنا نحكي عن بدنٍ عنصريّ طبيعيّ هو لها في هذه النشأة – نُسمّيه الجسد – فإنّ لها في النشآت الأخرى بدنًا ملائمًا.

على هذا، فإنّني أصل إلى التعريف الوارد بحقّ النفس ولعلّه التعريف الجامع: النفسُ “جملةُ الإنسان، والجنى من الروح والجسد”[22]. بيد أنّ هذا التعريف لا يحول دون الوقوع في الالتباس حين الكلام على النفس، إذ يتعدّد المراد منها بحسب اختلاف الموارد. فكيف تكون النفس موردًا للذمّ في محلّ، وموردًا للمدح في آخر؟ أيكون للحقيقة الواحدة هذا النحو من التفاوت وهي بعد حقيقة واحدة؟

المورد الأوّل للالتباس يكمن في إشارتنا إلى الحقيقة الإنسانيّة المذكورة بتسميات شتّى، بلحاظ الحيثيّة التي نُقاربها من خلالها، وهذه الحيثيّات تُشير، في واقع الأمر، إلى أبعاد مختلفة للنفس. يقول الفيض الكاشاني:

وقد يُسمّى هذا الجوهر الملكوتيّ [النفس] بالروح لتوقّف حياة البدن عليه، وبالقلب لتقلّبه في الخواطر، وبالعقل لاكتسابه العلوم واتّصافه بالمدركات، وقد تستعمل هذه الألفاظ الأربعة [النفس والقلب والعقل والروح] في معانٍ أخر تُعرف بالقرائن[23].

بعبارةٍ فلسفيّة:

النفس تمام البدن؛ يحصل منها ومن المادّة نوع كامل جسمانيّ. وجوهر النفس باعتبار ربوبيّته للبدن يُسمّى روحًا، والبدن تجسُّدُ الروح وتجسُّمُه، ومظهرُه ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة [أي في هذه الدنيا][24].

أمّا مورد الالتباس الثاني فهو أنّ هذه النفس ليست قارّةً بغير حراك. فهي تشتدّ وتقوى وتتكامل في كلّ واحدٍ من أبعادها المذكورة. فمن حيث هي روح، فهي قد تشتدّ في روحانيّتها حتّى تصير أمر الله؛ ومن حيث هي قلب، فقد تخلو من كلّ خاطرٍ ما سوى الله، وتطهّر سرّها، فتكون عرشَ الرحمن؛ ومن حيث هي عقل، فقد تكتمل بالمعارف والعلوم لتصير عقلًا قدسيًّا، وعالمـًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ. فهل يمكن مقارنة النفوس الأمريّة، العرشيّة، القُدسيّة بالنفوس المنكوسة المـُخلِدةِ إلى الأرض، المكتفية بها؟

إنّ القسمة السالفة الذكر بين الذات والموضوع في الحيّز الأنطولوجيّ ولّدت القسمة بين الوقائع والقيم fact/value split في الحيّز الأخلاقيّ. باتت القيمة “تعبّر عن ردّ فعلنا الذاتيّ تجاه الموضوع من دون أن يكون للموضوع ارتباط واقعيّ بتوليد ردّ الفعل المذكور”[25]، فتساوت كلّ الأشياء. ومع “موت الذاتيّة” في حتميّات المسار الفلسفيّ المذكور ضاعت القيمة تمامًا. ومع ضمور القيم تتهافت الأسس الأخلاقيّة لانعدام القدرة على تأسيسها على عقلٍ أداتيّ منبتّ الصلة بالخارج. وتتهافت معه، بل وقبله، كلّ إمكانيّة لإقامة مجتمع إنسانيّ تواصليّ.

إن كان الدليل الأوّليّ [على الواقع] موجودًا في وعي الذات وحدها، فلن يكون ممكنًا أن نؤسّسَ انطلاقًا منه، وبنفس القيمة الحضوريّة، الواقعيّةَ المستقلّة للأشياء الأخرى. أضف إليه أنّ التواصل بين الذوات يصير مستحيلًا؛ إذ لو عرّفنا الأنا ego على أنّه الوعي، يصير جسدا الأنا ego والأنا الآخر alter ego عوائق أنطولوجيّة مزدوجة يستعصي تخطّيها. وليس هذا فحسب، بل يصير الجسد نفسه مشكلة: كيف نفسّر التعبير، إذ يظهر في الجسد، في الوقت الذي لا نجد له أثرًا، بأيّ نحو، في الخصائص الأنطولوجيّة للأجساد بما هي أجساد[26]؟

من هنا انصبّ نقدُ المعترضين على المسار الفلسفيّ المذكور على إيلاء الأولويّة للمجتمع بما هو بؤرة الهويّة الفرديّة، وأكثر ما توسّلوه في دخول هذا المدخل فهو التقصّي المتأنّي لدور اللغة في حياة الإنسان. باتت المهمّة بين أيدينا تقوم على

تجاوز المعتقدات الأنثروبولوجيّة الفاسدة [الرؤية إلى الإنسان القائمة على أساس الفصل بين الذات والموضوع] من خلال نقد – وتقويم – المباني المعرفيّة المتعلّقة بها، والتي لعبت دورًا كبيرًا في إيلائها [المعتقدات الأنثروبولوجيّة] رصيدًا لا تستحقّه. بعبارة أخرى، من خلال توضيح شروط القصديّة، نفهم أنفسنا أكثر بما نحن فواعل معرفيّة – وبالتالي كائنات لغويّة – ومن ثمّ نحرز فهمًا لعدد من الأسئلة الأنثروبولوجيّة التي تتأسّس عليها معتقداتنا الأخلاقيّة والروحيّة[27].

إنّ الإشارة الواردة إلى القصديّة قد تنحصر – في هذا السياق – باللغة، إلّا أنّ القصديّة في الإنسان تتجاوز كونها من خصائص فكره أو لغته، بل هي تشير إلى أنّه كائنٌ متجاوزٌ بكلّه، لا ينحصر في ذاته، بل يتخطّى إلى ما سواه تخطّي تفاعل وتكامل. أمّا الإشارة الأوسع إلى التغيّرات الأنثروبولوجيّة فتشير إلى ما بات كثير التداول في يومنا، ويُطلق عليه “الانعطافة الأنثروبولوجيّة” في ربطٍ له بالانعطافات الكبرى في تاريخ الفلسفة الحديث (الانعطافة المعرفيّة، الانعطافة اللغويّة، وغير ذلك). ويبدو أنّ كثرة الانعطافات ستعود بنا إلى المحلّ الأوّل. بيد أنّه من المعيب أن نصل إلى هناك دون أن نكون قد تعلّمنا واستفدنا من كلّ التجارب والإخفاقات.

إنّ الفكر الإسلاميّ مدعوّ اليوم، ومن موقع منهجه التوحيديّ الأرحب، إلى خوض هذا الغمار تأسيسًا على موقعيّة القيم منه، ومحوريّة المعنى عنده، إذ الروح هي المعنى. وكلّ تعاطٍ مع الإنسان يأخذه بمعزل عن تماهيه مع العالم ومع غاياته، ويريد أن يردّه إلى مكوّنات مادّيّة فيه، يستطيع من خلاله أن يؤطّره في معادلات رياضيّة، ويدرسه بحسب برامج حاسوبيّة، هو تعاطٍ لا يرى الحياة في الإنسان. والحياة لا تخلو من التعقيد، لا تخلو من تعدّد السياقات وتمازجها، واختلاف أدوار المكوّنات بحسب اختلاف السياقات[28]، كما لو أنّ الحياة نصٌّ لا قيوميّة فيه على المعنى إلّا لمرادات الناصّ وسياقات القراءة. بهذا اللحاظ ندرك المغزى ممّا ورد أعلاه بأنّ النفس معنى، إذ عنها تصدر أفعال الحياة، والجسد من حروفها، لا نفهمه إن عزلنا ما بين السطور، ولا نقبض عليه إن لم نقرّ للرمزيّات بغنى المعنى. إنّ الحياة لا تُفهم إن لم نمتلك قدرة لنؤوّل، وخيالًا لنتجاوز.

هذه تلميحات أكتفي بها لكي نظلّ في حدود افتتاحيّة – وهذا مطعون فيه – عسى أن تتمكّن المحجّة من تظهيرها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر،

  1. Ricœur, The Symbolism of Evil (New York: Harper & Row, 1969), p. 357.

بالطبع، نحن لا نرى، كذلك، أنّ ارتباط الفلسفة باللغة هو أقلّ وثاقة. انظر أدناه.

[2]

Ibid, p. 279; J. Ratzinger, Eschatology: Death and Eternal Life, tr. Michael Waldestein, 2nd ed. (Washington D.C.: The Catholic University of America Press, 1988), p.141.

الأسطورة الأورفيوسيّة معروفة إلى حدٍّ بعيد: يقوم الجبابرة (أو التياتنة Titans) بقتل الإله الطفل ديونيسوس، ويغلونه في قدر، ويأكلونه. وليعاقبهم، يرميهم زوس بالصواعق، ويخلق من رمادهم الجنس البشريّ. وهكذا، يُشارك الإنسان في الطبيعة الإلهيّة لديونيسوس، والطبيعة الشرّيرة للجبابرة.

[3] انظر، في هذا العدد، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتخطّي جدال العلم والدين”.

[4] انظر، مثلًا،

  1. D’Ancona, “Greek into Arabic: Neoplatonism in Translation”, in P. Adamson and R. C. Taylor, The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), pp. 10-31.

لوجهة النظر المغايرة،

  1. E. Karamanolis, Plato and Aristotle in Agreement? Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry (Oxford: Oxford University Press, 2006).

[5] المعنى الحرفيّ لكلمة سوما sôma – أي الجسد – اليونانيّة هو السجن، “[و]لا يلزم تغيير ولا حتّى حرف واحد في الكلمة”، كما يقول أفلاطون. أفلاطون، محاورة أفلاطون، ترجمة عزمي طه السيّد أحمد (عمّان: وزارة الثقافة، 1995)، الصفحة 125.

[6] انظر،

  1. Heidegger, What is a Thing? tr. W. B. Barton, Jr., and V. Deutsch, with an analysis by E. T. Gendlin (Chicago: Henry Regnery Co., 1967), p. 106. Original edition: M. Heidegger, Die Frage nach dem Ding (Tübingen: Max Niemeyer Verlag, 1962).

[7] انظر، في هذا العدد، أحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[8] بعبارة تشارلز تايلر: “المسألة كانت كما لو أنّهم تلقّوا وحيًا، قبليًّا a priori، بأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يجري بمقتضى الحساب الصوريّ. الآن، أنا أذعن بأنّ جذور هذا الوحي تضرب في أعماق حضارتنا [الحضارة الغربيّة] والنموذج الإبستمولوجيّ المرفق بها”. يُلمّح تايلر هنا إلى تكثّف البُعد العقلانيّ، بالمعنى الأداتيّ، في الفكر الغربيّ، ويُقدّم معالجةً طيّبة لهذه المسألة. وللمزيد حول هذه المسألة انظر، في هذا العدد، مقالة ألستر كروك “القيم الغربيّة: حكاية السيّد الذي أطاح به خادمه”. المقالة تستقي من كتابٍ لإيان ماكغيلكرايست يبيّن فيه أسبقيّة بُعدٍ معرفيّ، في الإنسان، قائم على القبض المباشر على الواقع، على بُعد يتوسّل الصور والتمثّلات [غير المباشرة] لمعرفة الواقع. وهذا هو محور النقد الذي تقدّم به نيتشه وهايدغر وآخرون للإبستمولوجيا التقليديّة إذ جعلوا الجمعيّة في الخارج في مقابل الذرّيّة، ورفضوا مقولة الذات المنفكّة لحساب الذات المنخرطة – “الكائن-في-العالم”. أمّا في الفلسفة الإسلاميّة، فقد قامت الإبستمولوجيا على الاعتراف بهذين النحوين من المعرفة، الحضوريّ والحصوليّ. انظر،

  1. Taylor, Philosophical Arguments (Harvard University Press, 1995), ch. 1 “Overcoming Epistemology”, p. 6; I. McGilchrist, The Master and his Emissary: The Divided Brain and the Making of the Western World (New Haven and London: Yale University Press, 2009); M. Hai’ri Yazdi, The Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence (New York: SUNY Press, 1992).

[9] انظر، في هذا العدد، جوزيف معلوف، “مفهوم الجسد عند موريس ميرلوبونتي”؛ أظنّ أنّ مفردة “جسم” أليق، كترجمة، من “جسد”. وأيضًا، وجيه قانصو، “الجسد في الفلسفة الوجوديّة”.

[10] انظر،

Eschatology, op. cit., pp. 108, 155-158.

[11]

Ibid, p. 149.

[12] الأب صبحي حموي اليسوعيّ، معجم الإيمان المسيحيّ، أعاد النظر فيه من الناحية المسكونيّة الأب جان كوربون، الطبعة 2 (بيروت: دار المشرق، 1998)، الصفحة 514.

[13] ابن سينا، الشفاء: المنطق، 1- المدخل، تصدير طه حسين، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأساتذة الأب قنواتي، محمود الخضيري، فؤاد الإهواني (القاهرة: وزارة المعارف العموميّة، 1953)، الصفحتان 22 و23. التسويد ليس في الأصل.

[14]

What is a Thing? Op. cit., p. 249.

[15] توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمّد الجهاد (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2007)، الصفحة 92.

[16] انظر، تحديدًا، شفيق جرادي، “ابن الطين وغسق الذات المجهولة”، وأحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[17] مجمع اللغة العربيّة (القاهرة)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الطبعة 2 (انتشارات ناصر خسرو، 1363 ش. ق.)، الجزء 2، الصفحة 709.

[18] المصدر نفسه. وقد وردت في الآيات القرآنيّة شواهد بكلّ هذه المعاني. على سبيل المثال: سورة البقرة، الآيتان 233 و281؛ سورة آل عمران، الآيتان 161 و185؛ سورة المائدة، الآيتان 32 و45؛ سورة يونس، الآيات 30، 54 و100؛ سورة الإسراء، الآية 33؛ سورة الكهف، الآية 15؛ سورة الأنبياء 47؛ سورة السجدة، الآيتان 13 و17، وغيرها.

[19] المصدر نفسه، الصفحة 710.

[20] الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ترجمه عن الفارسيّة ووضع الدراسات والتحليلات العلميّة الدكتور محمّد صادق فضل الله (بيروت: دار الهادي، 2008)، الصفحة 121.

[21] صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات، تقديم وتصحيح محمّد خواجوى (بيروت: دار الصفوة، 1993)، الصفحتان 145 و146. إنّ العمق الفلسفيّ لهذا الاستنتاج يكمن في القاعدة القائلة بأنّ النفس جسمانيّة الحدوث، روحانيّة البقاء. ولكن لا مجال لتفصيل القول في ذلك هنا.

[22] معجم ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 708.

[23] الفيض الكاشاني، الحقايق في محاسن الأخلاق، الطبعة 2 (بيروت: دار البلاغة، 2004)،  الصفحة 50.

[24] آية الله حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون [عيون مسائل النفس] (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1421 هـ. ق.)، الصفحة 13.

[25]

  1. McInerny, A Student’s Guide to Philosophy, with a bibliographical appendix by J. P. Hochschild (Delaware: Intercollegiate Studies Institute Books, 1999), p. 46.

[26] إدوارد نيكول، “العودة إلى المِتافيزيقا”، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2010)، العدد 21.

[27]

“Overcoming Epistemology”, op. cit., p. 14.

[28] انظر،

  1. Talbott, “What Do Organisms Mean?” The New Atlantis 31, Winter 2011.

إفتتاحية العدد 32

افتتاحية العدد 32

قد يصعب على المفكرين والعلماء من أهل الإيمان الديني الرضوخ لواقع التعاطي مع ظاهرة الإلحاد كظاهرة تأويلية جديرة بالاصطفاف في صفٍ مقابلٍ لصف طروحاتهم الإيمانية الدينية، كيف لا والإلحاد – على اختلاف مستوياته وتفاوت طروحاته – لم يقم في نظرهم إلا على رفات وهمية اصطنعتها نفوس الملحدين لما ظنوا أنهم هدموه من مبتنيات المنظومات الدينية المحكمة. وبعبارة أخرى، لم تكتسب أي من طروحات الملحدين مشروعية القول إلا بإقصائها لما يقابلها من مقولات الإيمان، فلا تكون طروحات الإلحاد بالنسبة لأهل الإيمان أكثر من مجموعة مقولات عدمية يتوهم صاحبها لها الموجودية لضعفٍ في التمييز بين الوجودات الحقيقية والعدميات الخاصة. فما كان لأصل الثبوت فاقدًا، فإنه لأي نحو من أنحاء الإثبات أشد فقدًا، وهذا على أهل الإيمان إملاء ضروري تفرضه ضوابط المنطق العقلي الذي يوقف الخوض في الهَليات المركبة على تحقق الإيجاب في جواب الهَليات البسيطة.

وعلى المقلب الآخر، لم يهنأ لدعاة الإلحاد يومًا الارتكان إلى أي نوع من أنواع التهميش الذي سعى ويسعى المتدينون – من ربوبيين وكتابيين – إلى إرسائه والبناء عليه. حيث ذهب المتقدمون منهم إلى تبنّي موقف حاد وجذري يحيل كل إيمان ديني إلى تبريرات خاوية تصطنعها نفس الإنسان الجاهل بتفسير أحوال الكون المحيط به وشؤونه تارةً، وإلى موهومات تخلقها واهمة الإنسان المأخوذ بحس الأسطرة أخرى، وإلى موروثات ومسبقات تختزنها حافظة الإنسان الجهول المتواني عن إعمال عاقلته ثالثةً، وغير ذلك من التفاسير التي توسّل به أولاء في سبيل ضرب أي أساس اعتقادي تقوم عليه المنظومات الإيمانية والدينية، ما حدا بهم إلى ادعاء التفرّد في حيازة العقلانية، أو لا أقل التفرّد في كسر كل قيود الإيمان عن النزعة العقلانية، حتى انتهت النوبة إلى دعاة الإلحاد الجدد، الذين توخّوا في سبيل الغاية نفسها سبيلًا آخر؛ وهو الاستناد إلى النتائج الحسية اليقينية التي تثبتها العلوم التجريبية الحديثة، الأصل نفسه الذي يستند إليه بعض الدينيين في إثبات مواقفهم!

وفي حين نجدنا رافضين للموقف الثاني، لما يعتريه من إفراط صريح ومغالاة واضحة يجدها المنصف في ادعاءات الملحدين التفرد في النزوع نحو العقلانية، فإن حالنا يختلف مع الموقف الأول، فإننا وإن كنا نوافق وإلى حد بعيد على مقدماته، إلا أننا لا نوافق على عدم أهلية مقولات الإلحاد للنقاش والبحث نفيًا أو إثباتًا، ذاك أن الفلاسفة – ووفق الضوابط المنطقية نفسها – أقروا أن للأعدام الخاصة حظًّا من الوجود، ما يعني أن المقولات الإلحادية المدّعاة العدمية قد يصح الوقوف عليها والعمل على تفنيدها.

وانطلاقًا مما تقدم نقول: لقد بات وجود ظاهرة الإلحاد واقعًا لا يمكن تجاوزه، بل ثبت أن لهذه الظاهرة، لما انكشف من قدرتها على التوالد والانتشار في كل عصرٍ ومِصر، أسسًا ذاتيةً وموضوعيةً ينبغي الوقوف عليها وبحثها في سبيل الخلوص إلى فهم صحيح لحقيقة هذه الظاهرة.

نعم، قد لا يجد الباحث في كثير مما تنتجه هذه الظاهرة من مقولاتٍ حقلًا خصبًا للنقاش العلمي الحقيقي – ولسنا في هذه العجالة بصدد استعراض أو دحض أي من الطروحات الفكرية للملحدين – إلا أن أصل وجود هذه الظاهرة والتثبّت من وجود ميل قوي عند كثيرين إلى تبنيها والمحاربة تحت لوائها يفرض على الباحث إعادة السؤال عن نوابعها ودوافعها في سبيل الوصول إلى بر يقين في تفسير واقعها، خصوصًا مع وجود طرح واسع مناوئ لها – وهو الطرح الإيماني على اختلاف مدارسه – يدعي لنفسه ما تدعيه لنفسها من الاستناد إلى ضرورات العقل وحتمياته، ما يجعلنا أمام معيار وحيد مشترك بين الاتجاهين، هو معيار العقل.

وفي سبيل الخوض في هذا السؤال – أعني السؤال عن نوابع ظاهرة الإلحاد – وغيره مما يترتب عليه من الأسئلة، فإن معيار العقل المذكور أعلاه هو الأرضية الوحيدة التي يصلح الانطلاق منها، لما له من حجية على كلا الطرفين، وإلا فلن يصح بوجه من الوجوه معالجة ظاهرة بالاستناد إلى مبان منهجية مرفوضة في تمثّلات تلك الظاهرة.

والكلام على معيار عقلي هذه حاله، إنما يفرض على الخائض امتلاك روحية بحثية حيادية، تتيح لصاحبها الوقوف على كل ما يتطلبه البحث من استحضار لمقولات الطرح الإلحادي – كما والديني عند اقتضاء الضرورة –، وترفع عن كاهله كل الأحكام المسبقة، وتضع عنه كل أوزار الضغائن والأحقاد النفسية، مما قد يمنعه عن الوصول إلى نتائج صائبة.

وفي سياق ما تقدم، تحمل المحجة في عددها هذا على عاتقها مهمة الخوض في هذا السؤال. وإنها إذ تطرح موضوعة الإلحاد على بساط البحث، فهي إنما تعمد إلى ذلك لأسباب أهمها:

– إيمانها بضرورة الوصول إلى فهم دقيق لهذه الظاهرة، ما يمهد للتوغل تاليًا في تأسيس فهم فلسفي أوضح للطبيعة الإنسانية، وهو ما عمدت المحجة في كثير من أعدادها السابقة إلى تحقيقه.

– السعي إلى توفير الأرضية المشتركة السابق ذكرها عبر تقديم أبحاث تتوافر على المعايير العلمية الرصينة والحيادية.

– التأكيد على مركزية الإيمان العقلاني الذي تجده سبيل الخلاص الوحيد، والسعي إلى تقديم إجابات على كثير من إشكالات الملحدين، وهو المؤمل مما سيرد في طيات أبحاث الملف في هذا العدد.

– دعوة أهل الإلحاد، من دعاة ومنظرين ومتبنين، إلى حوار علمي هادئ ورصين يفترض له أن يساهم في استنقاذ هؤلاء من غياهب الاغتراب الذي يكتنفهم، مدفوعةً بالتزامها الدائم بقضايا الإنسان كموجود كرمته المشيئة الإلهية.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن بابَين، أولهما ملف العدد المعنون بـ”الإلحاد واغتراب الإنسان”، وثانيهما باب الدراسات والأبحاث، حيث حوى الأول سبعة بحوث، فيما حوى الثاني بحثين اثنين.

يُستهل العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يحاول فيها الإضاءة على جوهر حقيقة الإنسان كمحور أساسي للنقاش الفكري المحتدم بين دعاة الدين ودعاة الإلحاد، فيذهب في طرحه إلى استنطاق مقولات أساسية تبني عليها دعوات الإلحاد ركائزها، كمبدأ “الإرادة الحرة” مثلًا، ليبدد التعاند الموهوم بينها وبين حقيقة الإيمان، ويحدد أطرها الفكرية المفترضة في انتظام حياة الإنسان، ما يجنّب من الوقوع في مغبّة “بتر” الأخير عن الدور الذي يريده الدين له.

ثم نقف مع طرح بحثي لحسن بدران، نتساءل فيه بإلحاح عن الحدود المعرفية الواقعية التي يمكن للقول الإلحادي السريان إليها، ونستعرض معه إمكان اكتناه أصالة حقيقية للدعوة الإلحادية في مقابل الدعوات الدينية، عبر استجلاء المعالم الفكرية للطروحات الإلحادية المختلفة، وذلك باستنطاق هذه المنظومات ومساءلتها عن رؤيتها لجملة من المفاهيم المركزية، كمفهوم “الله” و”الدين” و”الطبيعة”.

ثم يلي ذلك وقفةٌ مع آلفن بلاتينغا نطالع فيها افتقاد فريقَي نزاع “الإيمان” و”الإلحاد” إلى أرضية مشتركة للنقاش يجنّب الانطلاق منها الانجرار إلى واقع من التراشق اللفظي الدفاعي أو الهجومي، النابع من تشكيك كل من الطرفين بالحيثيات المعرفية والعقلية للطرف الآخر، ونصل معه إلى اقتراح حلٍ للخروج من هذه الدوامة، وذلك بلحاظ الاتساق الأنطولوجي الذي يشغله إنسان الإيمان وإنسان الإلحاد، سعيًا إلى الوصول إلى تثبيت خطوط النزاع والبحث تاليًا في أسس الخلاف النظرية بين الفريقين.

وبعده، يطالعنا مشير عون بدراسة يحاول فيها تحديد المبتنيات الفكرية والنظرية للفيلسوف الألماني “فريدريخ نيتشه”، الذي قدم في أطروحته المناوئة للمنظومة الدينية الكنسية جهدًا سعى فيه، من جهة، إلى تهديم أواصر البناء الديني ونبذ إله الكنيسة الذي أعلن – بحسبه – عن موته بأكثر من صورة، ومن جهة أخرى إلى بناء مفهوم جديد للإنسان يكون الأخير فيه متحرّرًا من القيود الدينية الآسرة، متجرّدًا عن المسبقات الإيمانية المحددة، سيدًا قويًا مطلق الإرادة.

ونخوض بعد ذلك، مع أحمد ماجد، في بحث إشكالي نقدي يطال لغة الإلحاد، التي يتبدى فيها العجز عن استيفاء مشروعيةٍ حقيقية للقول الإلحادي، ما حدا بها إلى السعي إلى ضرب النسق البنيوي الذي تقوم عليه لغة الإيمان، بل اللغة عمومًا، في إغفال منها للتداعيات الخطيرة لهذا المسعى، والتي تؤسس لمفهوم مبتور للإنسان، الذي تعتبر اللغة عنصرًا أساسيًا في تكوين أبعاده الوجودية.

وننتقل بعدها إلى مقاربة سمير خير الدين لواقع النقاش القائم بين الدين والإلحاد، ففي حين يتسالم كثير من أهل الفكر على أساسيات المنهج العقلي المنطقي، إلا أن واقع الخلاف إنما يتبدى في استطلاع طبيعة المواد التي تتشكل منها مقدمات البرهان عند الطرفين، والذي يشي – في كثير من الحالات – بقيام الجدال الإلحادي على إلزام الآخر بمقدمات لم يلتزمها، ما يقوي الاعتقاد بكون الإلحاد نابعًا – أول الأمر – من دوافع نفسية.

أما مع عبد الله زيعور، فإننا نقف على نوعٍ من المطارحات العلمية القائمة على أساس محاكمة الخصم انطلاقًا من مبتنياته، ففي حين يعمد كثير من دعاة الإلحاد الجدد إلى توظيف نتائج العلوم التجريبية الحديثة في سبيل التأكيد على نفي وجود خالق للكون، ينطلق زيعور من النتائج نفسها ليؤسس عليها فهمًا ما ورائيًا مختلفًا، تكون فيه هذه النتائج مقدمّات ضروريةً للإيمان اليقيني بوجود صانع للكون.

أما باب الأبحاث والدراسات، فنطالع فيه ورقتين بحثيتين لكل من كمال لزيق وأحمد جابر، تعالج الأولى البعد الوجودي للمعرفة في فلسفة صدر الدين الشيرازي، عبر الإضاءة على المعاني الجديدة التي قدمها صدرا لكل من العلمين الحضوري والحصولي، والتأكيد على أصالة الأول واعتبارية الثاني في منظومته المعرفية؛ فيما تتناول الثانية مسألة أصالة الوجود كما طرحها صدر الدين الشيرازي، عبر تحديد الأطر الصحيحة لمعنى أصالة الوجود، وتجاوز ذلك لاستعراض تفسيرات جديدة لها قدمها شرّاح متأخرون لفلسفة الحكمة المتعالية.

وهما – أي الورقتان البحثيتان الأخيرتان – جزء من النتاج العلمي الذي تمخّض عن ندوة إقليمية أقامها معهد المعارف الحكمية في العام المنصرم، تحت عنوان “النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية”، سيصار إلى نشر ما نتج عنها من أبحاث في الأعداد القادمة من المحجة.

والحمد لله رب العالمين.

إفتتاحية العدد 31

شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين حراكًا فكريًا فريدًا تمثّل بانفتاح المؤسسات الحوزوية على أنظومات الفكر المناوئ – الغربي منه أو العربي –، وقد كان هذا الانفتاح أثرًا طبيعيًا لاجتياح بعض المدارس المادية واللادينية للساحة الفكرية في بلاد المسلمين، نتيجة إرهاصات سياسية تاريخية لا مجال لبسطها، حيث كان لهذا التحول آثاره الهادمة لبنية المجتمع الإسلامي، فتنطّح إذ ذاك بعض أساتذة الحوزات العلمية للدفاع عن تعاليم الدين ومواجهة الطروحات النظرية لتلك المدارس. وقد لزم في هذا المسعى أن يتمسك روّاد هذا الحراك بخلفيات التأصيل الفكري التي توفرها الحوزة من جهة، وبميسم الاجتهاد الفكري الذي يتخطى السائد من المعالجة ويفتح للعاقلة آفاقًا علميةً جديدة من جهة أخرى، بحيث يضحي المفكر متوفّرًا على دافع الخوض في حقول وميادين جديدة ولكن برؤية ونفس أصيل ورؤيوي.

ولكن مساعي هذه الزمرة لم تنجُ من نقودات علماء الداخل، وبالداخل أعني المنظومة الإسلامية، لأنه إن كان من خطير الادّعاء القول إن ارتكان الفلسفة إلى مقولات الدين – أي دين كان – هو عامل إقصاء لحيوية تلك الفلسفة وتحديدٍ لمدياتها الغائية في استقراء الوجود، فإن الأخطر منه ادّعاء أن الفلسفة ومطالبها علوم غريبة عن الدين، مشوهة لصورته وحقيقته، نازعة سمة القداسة والإلهية عنه. وهذان تياران كان على أصحاب التوجه المذكور التصدي لهما.

ولإن كنا سنخوض في مسعًى استشرافي لأهم أعلام هذا الحراك، فإننا سنجد العلامة الطباطبائي على رأس قائمة أولئك العلماء، لما اضطلع به من دور مركزي في ذاك السياق. فقد خرج الرجل في عصر كانت الفلسفة تنحو فيه نحو عملية بتر لكل ما هو ديني فيها، لا سيما في العالم الإسلامي، والحوزات تنحو نحو إقصاء لكل مشتغل أو مهتم بالفلسفة، فخرج إذ ذاك ليعيد نسج خارطة العقل الإسلامي والفلسفي على حد سواء، مثبتًا – أو ساعيًا إليه بالحد الأدنى – أن الفلسفة لا يمكن أن تحاكي واقعًا تُغيّبُ منه عالم ما وراء الطبيعة، وما يتعلّق به من مقولات الغيب والإلهام والشهود وغيرها، ومثبتًا من جهة أخرى أن الفهم الديني الحقيقي لا يمكن أن يصبح منتجًا حقيقةً ومعايشًا لهواجس العاقلة الإنسانية المتأخرة ما لم يكن على اضطلاع بمقولات الفلسفة، باسطًا لوجهته فيها، ليعيد بذلك إرساء لُحمة بين هذين الحقلَين.

إلا أن حصر الجهد المعرفي للعلّامة بهذا الحقل قد يكون من الإجحاف بمكان، حيث إن مساحة عمل الرجل تتخطى مجرد دور المدافع في إزاء الطروحات الهجينة، فقد كان له دور ريادي في التأسيس لإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية حول الله والإنسان والعالم، وذلك عبر إسهاماته التي قدّمها في سائر مجالات العلوم الدينية والعقلية، وإنجازاته التي يشهد له بها كل مطّلع؛ فقد أرسى – رحمه الله – منهجًا مستحدثًا في تفسير القرآن، يعتمد آيات القرآن نفسها منطلقًا لتفسير سائر النص القرآني؛ كما وسعى إلى إعادة تقديم النظام الفلسفي لملا صدرا بمرتكزات جديدة، مضيفًا إليه بعض الإبداعات الجديدة كبحثه حول الإدراكات الاعتبارية، وطروحاته في نظرية المعرفة، وغيرها؛ كما وعمل على صياغة نسق عقائدي مواده اليقينيات من القضايا وعناصر هيئته الاستدلال بالتلازم؛ كما وقدم بحوثًا في العرفان والولاية يقع الإنسان فيها أصلًا موضوعيًا يُلحظ في سياق علاقته بالمطلق؛ ذاك كله مضافًا إلى مباحثه في التاريخ والسيرة.

وبذلك، فقد كان لهذا العالم قدم السبق على سائر علماء عصره، وهذا مردّه إلى ما توفرت عليه منظومته الفكرية من مميزات فريدة. فقد اتّسمت تلك الشخصية أولًا بالموسوعية والشمولية، حيث كان ضليعًا في الفلسفة والعقائد طويل باع في الفقه والأصول والحديث متمرّسًا في علوم القرآن والتفسير محيطًا بحقول السيرة والتأريخ، إلى غير ذلك من المجالات؛ واتّمست شخصيته ثانيًا بالعمق والغزارة، حيث كان في كل واحد من تلك المجالات عميق التناول غزير الطرح، يقف على دقائق القضايا ويسائل المركوز فيها فلا يتلهى بالسطحي منها مغمضًا عينه عن لبها وأسِّها؛ ثم اتّسمت شخصيته ثالثًا بالجدة والريادة، حيث كان في كل القضايا العلمية رائدًا في طرح الجديد الذي يفتح آفاق الفكر على موضوعات مفصلية لم يكن قد سبق الخوض في طرحها؛ واتّسمت رابعًا بمسيم الإحيائية لمفهوم الأصالة الإنسانية، حيث جُعل الإنسان في فلسفة الطباطبائي وفكره أصلًا ترتكز عليه فروع المطالب وبلحاظه ترتسم الأفكار وتخاض النقاشات؛ واتّسمت أخيرًا بالواقعية الموضوعية، حيث استندت معظم استدلالاته الفلسفية أو العقائدية أو غيرها على أصول موضوعية هي القضايا اليقينية، وبهذا فإن طروحات الطباطبائي موافقة لما بإزائها في الخارج، أي مطابقة للواقع ونفس الأمر، سواء كان الواقع خارجًا أو ذهنًا أو شيئًا غيرهما.

والمحجة إذ تعمد في عددها هذا إلى استعادة أهم المرتكزات والأسس المنظومية لفكر العلامة الطباطبائي، فهذا مسعًى منها ينصبّ في سياق السعي إلى إعادة قراءة الذات بغية تكوين هوية إسلامية أصيلة ومشخّصة، ذاك أن موضوع الهوية مماسّ ولصيق بموضوع الثقافة ودورها في بناء الذات، خصوصًا مع ثقافة كتلك التي أرساها العلّامة الطباطبائي، الذي جعل التوحيد محورًا دارت حوله كل طروحاته، واتخذ القرآن قاعدةً ارتكز إليها في كل فتوحاته العلمية؛ ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذه الاستعادة.

ولا يفوتنا الإشارة في هذه العجالة إلى أنه سيصار في أعداد قادمة من المحجة إلى نشر أبحاث علمية تقع في إطار مشروع فكري ينطلق من نفس التوجيه المذكور أعلاه، يعمل الباحثون خلاله على بناء نظام منهجي لفكر العلامة الطباطبائي الفلسفي بالاستناد إلى كتابه نهاية الحكمة، فيضحي هذا العدد مثابة مقدمة لمشروع بحثي طويل تباشره المحجة في أعدادها القادمة.

 

مع العدد

يُستفتح العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يقدم فيها رؤيةً تأسيسيةً لمفهوم العبودية كما يطرحها الطباطبائي، يُرى إلى الإنسان “العبد” فيها بما هو رابط ومظهر لحقيقة القيومية الإلهية، ممهدًا بعد ذلك إلى طرح أساس نظري لنظام قيميّ يرتكز عليه مفهوم العبادة في الإسلام. ثم نطالع بعدها مقاربةً لمحمد ليغنهاوزن ينطلق فيها من حاشية العلّامة الطباطبائي على برهان الصديقين كما طرحه صدر الدين الشيرازي في كتاب الأسفار التي أرسى فيها أصالة الواقع ليواجه طروحات التيار الطبيعاني وبالتحديد آراء ويلارد كواين.

ثم نقف بعدها على طرح بحثي لحسن بدران يتمحور حول فهم الطباطبائي للإنسان تكون الركيزة فيه رؤية الطباطبائي للاعتباريات – بما تختزنه من دلالات على حقائق وجودية تحتها – في سبيل إعادة تشريح البنية الإنسانية على أساس أنثروبولوجيا النفس والروح عند العلّامة.

بعد ذلك نستطلع مع أحمد ماجد الأبعاد المعرفية لمقولة اللغة وماهيتها ودورها عند الطباطبائي، منتقلين منه إلى تناول مفردات اللسان والقول والكلام مع تفريق بينها، لنصل إلى دراسة العلاقة بين الكلام والفكر، مختتمين المطاف ببحث الروابط بين القرآن الكريم واللغة والفكر.

ونعبر بعد ذلك مع سمير خير الدين على دراسة المنهج الاستدلالي العقائدي عند الطباطبائي والذي يرتكز بشكل أساس على السير التلازمي، مطالعين لأهم خصائص هذا السير، متعرضين بعدها لبعض صيغ تطبيق هذا السير على القضايا العقائدية. وننتقل بعدها إلى معالجة إبراهيم بدوي الذي يقدم قراءةً استشرافيةً حول مفهوم السعادة، باسطًا لأهم الآراء المطروحة في سياق معالجته، مختتمًا برأي العلّامة ووجهته، مشعّبًا البحث في وجهتين، أولاهما البحث في نفس معنى مفهوم السعادة، وثانيهما البحث في كيفية تحصيلها.

ثم بعده يقدّم لنا مازن المطوري قراءةً موجزةً في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للعلّامة الطباطبائي يقف فيها على كل مقالات الكتاب ليقدم الفكرة الأساس لكل منها، لاحظًا الكتاب بما يشكل من أرضية لفهم منازل الفلسفة الغربية في فكر العلّامة الطباطبائي. ونختتم عددنا بدراسة بيبلوغرافية يبسط فيها أمير رضا أشرفي أهم المنجزات العلمية المقدمة في إيران حول العلّامة الطباطبائي وتفسيره الشهير الميزان في تفسير القرآن، من مؤتمرات وكتب وطروحات وغيرها.

والحمد لله رب العالمين.

إفتتاحية العدد 30

إفتتاحية 30

 It is quaint to expound upon the very question of pain, as though you are plotting a sort of illumination that would unfold following undermining hardships that are all at variance.

As though the clay engrained in man’s body is in need for an injury to reveal what is engrained in it. Such pain would then attack you to introduce you unto light out of the darkness of you clay, to reach upon illumination.

In order to branch off your clay you need an injury that begets in your self a communion following after separation, to transcend the very body towards what is higher. Pain as such has an aim. It is the very injury that renders man awake afar from heedlessness, bringing man towards communion. This is the very notion of trial that Allah expounded upon in the Qurʾan, declaring “We will surely test you with a measure of fear and easure of fear and hunger and a loss of wealth, lives, and fruits; and give good news to the patient.”[1]

Hence, divergent are the opinions towards pain. Hasan Jaber commences the Issue writing upon the role pain occupies in establishing civilizations. In the second paper, Hasan Badran suggests his twofold approach towards pain, consisting of (1) a philosophical and (2) mystic aspects, expounding upon the identity of pain qua pain, and the representations thereof. Samir Bustros however plots the concept of pain that is a central part of human nature as per Christian literature, whereby the glory of God manifests.

 

 

ولكي تنفصل عن طينك الأرضيّ تحتاج إلى جرح يولد في ذاتك وصلًا بعد فصل، وديمومةً بعض انقطاع، فتفارق، حينها، الجسد لتكالم ما هو أعلى. فالألم، إذ ذاك، ليس عبثيًّا، بل هو الندب الذي يحقّق فيك يقظةً تخرجك من سنة الغفلة، آخذًا إيّاك نحو وصال، وهذا هو عين مفهوم الابتلاء الذي حدّث الله به الإنسان في القرآن قائلًا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[2].

وعليه، تختلف الآراء حيال مفهوم الألم وتتعدّد.

يستهلّ حسن جابر ملفّ هذا العدد باسطًا للدور الذي يضطلع به الألم في صميم تشكيل الحضارة. ومن ثمّ يطوّر حسن بدران في المقالة الثانية مقاربته للألم ببعدين اثنين، بعد فلسفيّ وعرفانيّ، متناولًا هويّة الألم بما هو هو، وتمثّلاته الكامنة في بنية الإنسان النفسيّة والعقليّة والجسديّة. وثالثًا، يعرض لنا سليم بسترس النظرة المسيسحيّة للألم بما هو جزء من حياة الإنسان ومن طبيعته، عبره يظهر مجد الله ومحبّته. أمّا أحمد ماجد فيقدّم قراءةً لموقعيّة الألم في الأساطير القديمة التي تتبدّل بتبدّل السياقات الحضاريّة، مبيّنًا الدلالات الطقوسيّة والشعيريّة في ذلك.

ومن ثمّ يلج عليّ الموسوي في مبحث الألم، مختطًّا إيّاه بما هو فعل إلهيّ من جهة، يسلب من الإنسان الرفاه واللذّة، وارتقاء بشريّ من جهة أخرى، يوصله إلى الكمال. أمّا حسن رضا فيعالج موقعيّة الألم في حفر المبدإ الأخلاقيّ وتشذيبه، مشكّلًا، تاليًا، فيصلًا لا محيد عنه في بنية الفكر الأخلاقيّ. وفي الورقة الأخيرة من الملفّ، يبسط سمير خير الدين للألم بما هو ارتباط بالشعور باللحظة نفسها، اللحظة التي تغدو معياريّةً في مآلات الإنسان ونشآته.

وأمّا باب “دراسات وأبحاث”، فيشتمل على ثلاث دراسات. يعالج جورج خوّام في أولاها مفهوم النفس عند غريغوريوس أسقف نيصة، مبيّنًا منشأها، وطبيعتها، وعلاقتها بالجسد، دائمًا وفق غريغوريوس. ويختطّ محمّد عليّ شمس الدين، تاليًا، بعض ملاحظات له في الشعر بما هو نشوة حسّيّة، وفي الفلسفة بما هي نشوة عقليّة، ولكن، إن كليهما إلّا تجلّ لمستور مِتافيزيقيّ واحد. وفي الدراسة الأخيرة نقدّم ترجمةً لمقال “المحايثة: حياة”، لجيل دولوز، يعرض فيها فهمه للمحايثة، معتبرًا أنّها حياة ولا شيء سوى ذلك.

[1] Sūrat al- Baqarah (The Heifer), v. 155. Cf,The Qurʾān, With a Phrase-by-Phrase English Translation, trans. ʿAlī Qulī Qarāʾī (London: ICAS Press, 2005).

[2]  سورة البقرة، الآية 155

إفتتاحية العدد 29

إفتتاحية العدد 29

1.

هي الطفولة، إذًا، تأخذك إلى عالم آخر، غلى أفكار أخرى حبلى بالحياة: الحياة على سجيّتها الأولى. لكلّ منّا، كلّ الكلّ، في غسق ذاته الراشدة تكيّة يقبع فيها طفل ما، كان يرى إلى الوجود، بدهشة محيّرة. يضجّ فرحًا، تارةً، ويتألّم حزنًا أخرى، ويعرف، بل يوقن، إن شئت، معنى الحزن والفرح، كليهما، بإيعاز من مجسّاته التي، بها، يملك النفاذ إلى العالم.

وعليه، فالراشد هو من الطفولة بحيث لا يضيره لو بقيت ذاته الطفلة قابعةً هناك، في عمق وجدانه، تمتشقه، كلّ حين، نحو أصالته الأولى.

يعجز الطفل، في نظر بعض الفلاسفة عن إدراك الحقيقة، فهو يرى الوجود بحواسّه التي تأخذ في التطوّر بفعل من سيّاليّة الزمن والتجربة في آن. يطرح الأطفال أسئلة وجوديّة فلسفيّة، ميافيزيقيّة حتّى، ذلك أن عنصر الدهشة عندهم يشكّل ملاك وجودهم. هم ذات أصيلة، ورقة بيضاء، تسأل بصرافة، لا تعرف الانقطاع، عن كلّ ما تسبره الحواسّ.

ولمّا كانت الدهشة هي التي تولّد أسئلة الأطفال، يحاجج البعض أنّ الطفل غير قادر على الإبداع الفلسفي، أو على الحجاج. يطرح أسئلة عابرة، بنت اللحظة: لحظة دهشة، لا لحظة تأمّل. ولأنّ الفلسفة تتعدّى حدود السؤال إلى البحث عن إجابات، ولأنّ الفيلسوف يطرح الأسئلة على ذاته التي يمرّسها بذاك السؤال إيّاه، بعكس الطفل الذي يطرح أسئلته على غيره من الراشدين، لا يمكن اعتبار أسئلة الأطفال فلسفيّة، يعتقد البعض.

ولكن، ثمّ من يبرهن أنّ الأطفال قادرون على التفلسف والإبداع. إذ عندما يحجم الفيلسوف الراشد عن الدهشة، الناضجة ها هنا، تخفت جذوة فلسفته، ما يؤكّد أنّ خميرة الفلسفة تكمن في سؤال الدهشة الذي يطرحه الطفل.

لا نندب في هذا العدد، إلى معالجة الشرخ غيّاه، بل نترك الحكم للقارئ بتقديم قراءات عن كيفيّة فهم الأطفال لبعض الماورائيّات التي تحيط بهم. نلاحق أسئلة الأطفال، إذًا، لنفهم كيف ينظرون إلى العالم، وإلى الحياة، وكيف يقاربون الفلسفة، وكيف يرون إليها.

2.

تنظر كارين موريس K. Murris في مدى مقدور الأطفال على الضلوع بالاشتغال الفلسفيّ، مختطةً، من ثمّ، مؤثريّة هذا الاشتغال على الاشتغال الفلسفيّ عند الراشدين أنفسهم. ويقارب جان بياجيه J. Piaget مفهوم الحياة من منظار الطفل، مبيّنًا كيف يفهم الطفل الحياة من حيث هو غير راشد، ليلج، من ثمّ إلى مفهوم تشكّل الوعي عند الطفل، وكيف، بلحاظه، يغيّر مفهومه إلى الحياة بما هي هي.

أمّا محمّد علّيق، فيتأمّل في رمزيّة العقل والتربية والجمال التي، لترابطها، تصوغ ذات الطفل بطريقة تتجاوز البعد المعرفي العقليّ الملموس، لتمنحه تجربةً جماليّةً – عقليّة في آن. وتدعو وفاء شعبان، في ورقتها، إلى نقل الممارسة الفلسفيّة، مع الأطفال، من المحتوى إلى الطريقة، مقترحةً تحويل المعرفة المعلّمة إلى موضوع نقاش فلسفيّ محاكاة لمنهج سقراط.

وتقترح زينة ناصر الدين، بعد عرضها الشرخ الحاصل بين الطفل والفلسفة، باستقراء القصص التي تدمل ذاك الشرخ إيّاه. أمّا على ستاري، فيجعل مقابلةً ما بين برنامج الفلسفة للأطفال، الذي طوّره ماثيو ليبمان، وبين تعاليم مدرسة الحكمة المتعالية التي بسط لها الملّا صدرا.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على ثلاث دراسات. يصدّر، نادر البزري في الدراسة الأولى، للمباحث المنطقيّة في فِنومنولوجيا هوسرل مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة. ويطالع شفيق جرادي، في الدراسة الثانية، مفهوم الحبّ الإلهيّ في الأدبيّات الشيعيّة التأسيسيّة، مبيّنًا محوريّة الحبّ في المنظومة الشيعيّة. ومع ميريل دافيس، نلج إلى مبحث أسلمة العلوم الإنسانيّة من حيث هو سعي إلى إيجاد موفّقيّة بين نظرتين للعلوم، إحداها ذات نزعة غربيّة، وأخراها تلحظ ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة.

وفي باب “حكماء”، نقارب سيرة الخواجة نصير الدين الطوسي، مقدّمين قراءةً تبسط لشخصيّته وفكره.

والله وليّ التوفيق

إفتتاحية العدد 28

الإفتتاحية 28

لئن افتتحت مجلّة المحجّة عددها ما قبل الأوّل [العدد صفر] بعرض مدرسة الحكيم المتألّه صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرزاي بعنوان “فلسفة الملّا صدرا”، فها هي الآن، وبعد مرور سنوات وأعداد عدّة، تعاود البسط للفكر الفلسفيّ الصدرائيّ إيّاه لما لهذا الفكر من أهمّيّة بالغة في دنيا الاشتغال الفلسفيّ الإسلاميّ والعالميّ، سواء بسواء. ولكن هذه المرّة نقدّم، أكثر ما نقدّم، قراءةً لأهمّ المباني والمرتكزات الفلسفيّة التي شكّلت ملاك الفكر الصدرائيّ، ساعين إلى بيان اللبنة الأولى التي شكّلت مرتكزًا لمدرسة الحكمة المتعالية والفكر الصدرائيّ.

يلج السيّد حسين نصر إلى مبحث الحكمة المتعالية بعرض غير مسهب عن تاريخ إدراج هذا اللفظ حتّى قبل الملّا صدرا الشيرازي، الذي هو نفسه قد استفاض في عرضه وبسطه في ما بعد، بزمن. ومن ثمّ ينتقل إلى عرض مرتكزات هذه المدرسة في فيء الفكر الصدرائيّ، ليخلص إلى أنّ الحكمة المتعالية ما هي إلّا أفنون نبت في شجرة الفكر الإسلاميّ ليتمكّن المسلمون، إذ ذاك، من النفاذ إلى رؤية جديدة محدثة للحقائق الخالدة. ومع روبرتس آيفنز نتمكّن، كذلك، من قمش المباني الأساس التي بنى عليها الملّا صدر الدين فلسفته الحكميّة، إذ قدّم آيفنز عرضًا مسهبًا لأهمّ هذه المباني والمرتكزات الفلسفيّة.

أمّا مع عليّ شيرواني، فنغوص في الخصائص المنهجيّة لفلسفة صدر المتألّهين مقارنةً بالفلسفة المشّائيّة والإشراقيّة، كليهما. لنخلص، من ثمّ، إلى أنّ مدرسة الحكمة المتعالية، بما هي هي، مدرسة فلسفيّة مستقلّة بالمعنى الخاصّ للفلسفة. نجحت في الاستفادة من المدارس السابقة عليها، فجمعت بين العرفان، والإشراق، والشهود، والبرهان، جمعًا سالمًا لا جمع تكسير، على حدّ تعبير شيرواني. وبعدها بسط كلّ من رضا أكبريان ونجمه سادات رادفر لمسألة القيامة في الفكر الصدرائيّ من منظور ألمع تلامذة صدرا ألا وهو محسن الفيض الكاشاني.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على دراسات خمس. البحث الأوّل هو تتمّة النقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول مفهوم الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين اللغة والعلوم والسياسة، هذه المرّة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما. وفي الدراسة الثانية يستعرض شفيق جرادي القيم الحضاريّة التراكميّة بما هي ملاك لفهم الحضارات، ليتمّ، بالتالي، النفاذ إلى قراءات إسلاميّة لموضوعة القيم والحداثة والحضارة. ومن ثمّ، مع فرانسوا رانجون، نقدّم ترجمةً لمقال له، بسط فيه للفظ “مجتمع مدنيّ”، عائدًا به إلى جذوره التاريخيّة وتحوّلاته المختلفة التي أدّت إلى اختلاف معناه اختلافًا جذريًّا بفعل مرور الزمن وبفضل التغيّرات الاجتماعيّة. وفي الدراسة الرابعة نقرأ حوارًا سلسًا مع محمّد فنائي الأشكوري يعرض فيه لموضوعة العرفان الشيعيّ بما هو بعد شرّانيّ للدين، ويتحدّث فيه، من ثمّ، عن أهمّيّة الترويج لهذا العرفان إيّاه قبالة العرفان الكاذب، في عيون الأشكوري، الذي يرقى كلّ رواج في بعض أنحاء هذه البسيطة. وننهي هذا العدد مع دراسة لأحمد ماجد، اختطّ فيها فكر الراحل المصريّ عبد الرحمن بدوي، منطلقًا من فلسفته الوجوديّة التي انكبّ على العمل عليها لعرضها خارج الحاضنة الأولى التي ولدت فيها.

إفتتاحية العدد 27

الطبيعة، إذًا، ملاك التوجّه، والـمَصيغة بمقتضياته[1]. ثمّ إنّ أفق التوجّه عند الإنسان يوازي الوجود على إطلاقه. فالإنسان بمثابة “النسخة المنتخبة” من كتاب الوجود[2]. هذا في مقابل الوجودات الأخرى التي لها حصّة وجوديّة منحصرة – إلّا أن تصير إنسانًا[3] – وهو قول الملائكة، على سبيل المثال، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[4]. والطبيعة “مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها[5] – أو على أساس مبدئها؛ لا فرق، إذ الوجهة والمبدأ يتقاطعان على موضوع واحد. وإذ تتأبّى الطبيعة السكون، فإنها تختار لها وجهةً تقصدها (وإلّا اختيرت لها وجهة)، وتتشبّه بها إذ تتحرّك نحوها.

لا يبدأ الإنسان حياته بتوجّهيّة مطلقة، بمعنى أنّه يستطيع أن يصير أيّ شيء. فهو ليس غير محتجب عن كلّ الوجهات المتاحة، وليس مطلق العنان في تشخيص الوجهة، أو تخيّرها، والثبات عليها. بل طبيعته قد تخصّصت بموجب ملاكات مولده في زمان ومكان معيّنَين، وكافّة الحيثيّات المرتبطة به (المولد)، بل السابقة عليه. وهذا منشأ ما يُطلق عليه “الطباع”. إذ لكلّ فرد طبعه الخاصّ الذي منه يشرع بتلمّس الوجهات، ويحاكمها على ضوء الحصّة التي أوتيها، والتي تتمثّل بقابليّات بدنيّة، وعقليّة، وخياليّة، وإراديّة، وشعوريّة محدّدة ابتداءً. إلّا أنّ التوجّهيّة المطلقة، الكامنة في الطبيعة الإنسانيّة الأصليّة، أي السابقة على كلّ تخصّص، تملك أن تهيّئ للإنسان أسباب تجاوز شروط الزمان والمكان، أو، إن شئت، تجاوز طبعه. وإذ يسلك الإنسان مساره الدنيويّ بموجب وجهة حُدِّدت له ابتداءً – ليس ثَمَّ من سبيل آخر[6] – فإنّه، شيئًا فشيئًا، يستعيد زمام وجهته، وإن ظلّ محكومًا للمقتضيات أو الملاكات الأولى – مع قدرته على محاكمتها، فتجاوُزِها، دومًا، وهذه القدرة تضمحلّ وتشتدّ بموجب خياراته وتصريفات إرادته. هنا، يقول الملّا صدرا الشيرازي: “إنّ القوى الفعليّة [في الإنسان] بعضها يحصل بالطباع [وقد عرفتَها]، وبعضها يحصل بالعادة [أي بتكرار أفاعيل غير مقصودة]، وبعضها يحصل بالصناعة [أي مع قصد ومزاولة]، وبعضها يحصل بالاتّفاق [أي جرّاء التقاطع مع نظام الطبيعة العامّ الذي يتّخذ الإنسان فيه موقعًا غير نهائيّ – وهذه اللا-نهائيّة نهائيّة[7] ما دام في مهلته الدنيويّة، فلا تستقرّ إلّا عند الموت الذي هو بمثابة نفاد هذه المهلة]”[8].

إلّا أنّ الأصل، في المسألة، امتلاك الإنسان خيار تحديد الوجهة. ولا أقول بانعدام الاختيار مطلقًا خارج الأفق الإنسانيّ. الأولى أن نتريّث. ولسنا مضطرّين، في سبيل تأكيد الخصوصيّة الإنسانيّة، أن نجعل قطيعةً بين الإنسان وباقي الموجودات. ولكن، بقول عامّ، فإنّ الإنسان يمتاز عن غيره بسعة أفق توجّهه، وبكونه صاحب قول – لا أقلّ – في تحديد الوجهة. أمّا المحكّ فهو الاختيار الصائب للوجهة. وإن كانت كلّ الموجودات متوجّهةً شطر الحقّ بفعل الخميرة المفعّلة لها، والكامنة فيها، أي الطبيعة بما هي مبدأ الحركة، فإنّ الإنسان يندرج في هذا المسار الحتميّ، بلحاظ زمنيّته، أو تزمّنه، ويجافيه – وإن إلى حين – بلحاظ اختياره. فعلاقة طبيعته الخاصّة مع الطبيعة بالعموم، أكثر جدلًا من علاقة الموجودات الأخرى، بطبائعها الخاصّة، مع الطبيعة العامّة، لمحلّ الإنسان من الوجود. فالطبيعة الإنسانيّة تختصر كلّ هذه الطبائع الخاصّة. ومتى تحقّقت في كمالها، فكأنّما كمال الوجود، أو الوجودات، قد تحقّق. وهذا، مرّةً ثانيةً، مغزى كون الإنسان – متى ما اكتمل في طبيعته – وجهَ الله. وهذا سرّ وجاهته عند الله، أي كونه مدخلًا إلى الله، تقف عند أعتابه كافّة مسارات كدح الموجودات إلى الله. وهذا معنى العالم الأصغر، والإنسان الكامل.

هذه، في العموم، هي المترتّبات على فهمنا للطبيعة البشريّة كما عرضنا له في الافتتاحيّة السابقة. ومع تخصيصنا عددين كاملين لموضوعة الطبيعة البشريّة، فإنّ الأسئلة، على ما يبدو، ليست بوارد أن تُشبَع بهذا المقدار، أو أضعافه، من المعالجة. ويبدو أن الأسلم هو حصر الأسئلة على أمل أن يظلّ، في العددين، ما يشكّل، أقلّه، مؤشّرًا لأيّ معالجة تصبو لأن تكون وافيةً. وقد ألمحتُ إلى مركزيّة الارتباط الأخلاقيّ بموضوعة الطبيعة البشريّة، وأريد، في المتيسّر من المساحة – ولعلّ القارئ يعذرني على ما اعتاده من التطويل – أن أردفه بتلميح آخر. كما أريد أن أعرض لإشكاليّة الاكتفاء بالطبيعة في تفسير الطبيعة. ومن هذه المسألة المعرفيّة أشرع، مؤخِّرًا المسألة الأخلاقيّة قليلًا لتقاطع بينهما.

يقرّر الملّا صدرا – انسجامًا مع قوله بالحركة في الجوهر، وبأنّ الحركة هي المتحرّكيّة، وأنّ الزمان مقدارها، لا علّتها – أنّ المبدأ القريب لأفاعيل النفس، وحركاتها المخصوصة، ليس أمرًا مفارقًا عن المادّة[9]، سواء أكانت الحركة طبيعيّةً، أو قسريّةً، أو إراديّةً[10]. وهذا المبدأ هو الطبيعة “التي بسببها يطلب الجسم بالحركة كمالاتها الثانية”[11]. وعليه، فللطبيعة كمالات ثانية مطيّتُها إليها المادّة (الجسم) التي انوجدت معها[12]. وبعد، فهي، لا سواها، سبب الطلب إيّاه، أي طلب الكمالات. وهذا معنى قولنا، مجدّدًا، هي ملاك التوجّه، والمصيغة بمقتضياته.

يتابع الفيلسوف قائلًا:

وكلّ ما يكون من لوازم وجود الشيء الخارجيّ فلم يتخلّل الجعل بينه وبين ذلك اللازم بحسب نحو وجوده الخارجيّ، فيكون وجود الحركة من العوارض التحليليّة لوجود فاعلها القريب؛ فالفاعل القريب للحركة لا بدّ أن يكون ثابت الماهيّة متجدّد الوجود. وستعلم أنّ العلّة القريبة في كلّ نوع من الحركة ليست إلّا الطبيعة، وهي جوهر يتقوّم به الجسم، ويتحصّل به نوعًا، وهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ من حيث هو بالفعل موجود[13].

النصّ، بالتالي، يجعل تمييزًا بين نحو الوجود الخارجيّ ونحو الوجود الذهنيّ (التحليليّ). وحيث المتحرّك ومبدؤه واحد في الخارج، بمقتضى جعل واحد، فإنّ الذهن يحلّل هذه الوحدة، وهي سيّالة متحرّكة في الخارج، إلى مبدإ ومتحرّك ثابتَين، وهكذا تكون الماهيّات على أيّ حال. هذا لا يعني أنّ الطبيعة ليس لها نحو ثبات في الخارج، بل “ثبات الطبيعة الكائنة في الأجسام هو عين تجدّدها الذاتيّ”[14]، تماما كما أنّ العدد واحد في عين أنّه كثير، كما يمثّل الملّا صدرا في محلّ آخر. وهذا الثبات هو ما يهبها هويّةً، أي استقرارًا، إلّا أنّ الملّا صدرا يصف هذه الهويّة بالمتراخية، أو التدريجيّة[15]، إذ تتعاقب عليها الصور بفعل حركتها المطّردة نحو وجهتها، فتصبغها بأطياف من الهويّة. ولا تفاوت في الأمر بين الحركة القسريّة، التي تعمّ الكائنات، والحركة الاختياريّة، التي يتفرّد الكائن البشريّ بها – أو بمرتبتها الخاصّة، إذا ما توخّينا الدقّة. إذًا، الهويّة الإنسانيّة هويّة ما فتأت في طور الإنشاء؛ تزداد وتغيض، تشتدّ وتضعف. لذا كانت، على الدوام، مورد إقلاق للمنهج الفلسفيّ الذي يريد أن يحسم أمرها، مرّةً وللأبد، في توقه المفرط إلى اليقين البتّيّ.

وكملاحظة أخيرة على النصّ، فإنّنا عندما نلاحظ الطبيعة في حيثيّة ثباتها فهي عينها النفس؛ “النفس من حيث ذاتها [فهي] العقليّة [عقليّة]، وأمّا من حيث تعلّقها بالجسم فهي عين الطبيعة”[16]. ولا تكون النفس مبدأً للحركة – إذ لا بدّ لمبدإ الحركة القريب أن يكون متحرّكًا – إلّا باستخدام الطبيعة[17]. ولذا كان تعريف الشيرازي للطبيعة هو عينه التعريف المشهور للنفس[18].

ما ينتابني من سؤال، في هذا الموضع، يتّصل بتداعيات القول بعدم كون مبدإ الحركة (القريب) مفارقًا. فإذا كان مبدأ فاعليّة الطبيعة، أي ملاك الحركة، والتوجّه، وتلمّس المقصد، متضمَّنًا في الطبيعة إيّاها، فهل تكتفي بذاتها، وتنفكّ عن كلّ مفارق؟ هل إنّ القول بمبدإ قريب للحركة، غير مفارق، يجذم الحاجة إلى القول بمبدإ مفارق، أو بمحرّك أوّل متنزّه عن طروء الحركة والحدثان؟

لا ريب أنّ مبنى الملّا صدرا الفلسفيّ يقدّم منظورًا استثنائيًّا فيما خصّ هذه الموضوعات، وما شاكلها. ولعلّنا لم نتوافر بعد على الأدوات التي تمكّننا من تعهّده، بما يليق، لشدّة ما يخالف حدوسنا المشحوذة برؤًى للعالم أسبغتها علينا فلسفات الجوهرانيّة الحادّة والثنائيّات المتصلّبة. فالطبيعة عنده سارية متحوّلة، والأكوان الجوهريّة متجدّدة، والكلّ عنده وجود واحد، متّصل، مترتّب، متصاعد، تدلّ وحدته الجمعيّة على وحدته الشخصيّة. ولقد ولدّ هذا الاعتراف المتأخّر بقابليّات الطبيعة الخلّاقة إحراجًا كبيرًا للبنى الفلسفيّة واللاهوتيّة التقليديّة، وأغرى التيّارات اللاحقة، التي قامت على القطيعة والاختزال والاجتزاء، بحصر الواقع في الطبيعة، والاقتصار عليها لفهم الواقع وتفسيره.

ولذا تطغى الطبيعانيّة naturalism على المشهد الفلسفيّ الراهن. إنّها بمثابة ترويض للوضعيّة، وتطوير لها، مع عدم مخالفتها لها في مسبقاتها الأساسيّة (أصالة المادّة، وما يتفرّع عنها). وهي، بعد، بمثابة الأيديولوجيا الحاكمة في الفلسفة التحليليّة اليوم[19]، وإن تمظهرت المسبقات المذكورة في غير شكل فلسفيّ. للطبيعانيّة جذورها القديمة، بالطبع، لكنّ مقالة كواين “طبعنة الإبستمولوجيا”[20] قد مثّلت محطّة تزخيم بارزة للتيّار الطبيعانيّ – خاصّةً على ضوء مركزيّة الإبستمولوجيا المستجدّة – ولمشاريع الطبعنة التي اكتسحت مجالات نظريّة المعرفة، والمِتافيزيقا، وفلسفة الذهن، ونظريّة المعنى، والفلسفة الأخلاقيّة[21].

تقوم الطبيعانيّة على (1) القول بإغلاق العالم سببيًّا، واكتفاء المادّة بذاتها، وعلى (2) الالتزام بـ”المنهج العلميّ” كمصدر وحيد للمعرفة. وبالتالي، فالعلم (الوضعيّ) لا ينتج المعرفة فحسب، بل يوفّر الأساس (المتافيزيقيّ؟) لها. ويكمن السبيل إلى ذلك في استقراء عمليّة إنتاج المعرفة العلميّة، ومحاكاتها من ثمّ. ولهذه الغاية، ينبغي اختيار حقل علميّ تكون لها حظوة خاصّة – كما فعل كواين مع علم النفس (السلوكيّ)، أو كما حصل مع العلوم الإدراكيّة العصبيّة ونظريّة التطوّر لاحقًا – فنستقرئ آليّاته الداخليّة، لنستنبط منها أحكامًا تبرّر الإنتاج المعرفيّ في حقول أخرى. الهاجس هنا هو تبرير المعرفة على أنّها علميّة؛ فـ”لقد طغى على الإبستمولوجيا[22] الحديثة مفهوم واحد، التبرير، وسؤالان تأسيسيّان يرتبطان به: ما هي الشروط التي تبرّر قبول اعتقاد [معرفيّ] ما على أنّه صادق؟ وأيّ الاعتقادات مبرَّرٌ لنا قبوله في الأصل؟”[23] – إنّه الإرث الديكارتيّ (ديكارت مجدّدًا[24]). وعليه، فما تنهض به الطبيعانيّة هو “صوغ شروط تبرير الاعتقاد على أساس وصفيّ، أو طبيعانيّ، حصرًا، دونما لجوء إلى أيّ أسس تقييميّة، أو معياريّة، سواء أكانت هذه الأسس إبستمولوجيّةً [الماقبليّات a priori مثلًا] أو ما سوى ذلك”[25].

إلّا أنّ معاداة المعياريّة، الصارخة في المقاربة الطبيعانيّة، تسلبنا كلّ سند معرفيّ، ولات حين فلسفة. هذا ناهيك بمشكلة الدور الواضحة (كيف نستخرج من علم ما، علم النفس مثلًا، الضوابط التي نحاكم على أساسها العلم إيّاه؟)، التي تلفّت لها كواين نفسه، ولم يجد لها حلًّا سوى تجاهلها[26]. بأيّ الأحوال، تصدر أغلب الاعتراضات على الطبيعانيّة من مشارب تتشارك وإيّاها عددًا من المسبقات (حول أصالة المادّة، وانحصار الواقع بها)، ولا نراها جذريّةً بما يكفي. ما تفتقر إليه كلّ التفسيرات المادّيّة هو غياب المعنى. فالتحليل (العلميّ) قد يصل بنا إلى توثيق كلّ ما يندرج في العالم المادّيّ، لكنّه لا يخبر شيئًا عن سرّ اندراجه، أو عن مغزى وجوده. ثمّ هو أعمًى فيما خصّ الوجهات التي تتّخذها هذه الموجودات. كيف أمكن لنا أن نفرّط في العلل الغائيّة، أو أن نرى تفسيرًا بالعلّة المادّيّة مفصولًا عنها؟ إنّ أيّ سؤال عن التركيب المخصوص، فلنقل، لكرسيّ ما يستدعي إجاباتين. أولاهما يفسِّر بالموادّ والإعداد، أي بـ”كيف” صنع النجّار الكرسيّ المذكور. والتفاصيل، هنا، لا حدّ لها. أمّا ثانيهما فبسيط، لعلّه يتّخذ صيغةً من قبيل “كيما نستطيع أن نجلس عليه!”. إنّ التفسير بالثاني يسبغ المعنى على التفسير الأوّل ويقوّمه. والسبب في ذلك أنّه تفسير بوجه الخير في الأشياء، أو تفسير بالغاية منها.

وهكذا في حالة العالم. ثمّة، في كلّ شيء، وفي العالم بالجملة، وجه خير يتحرّك نحوه. ما في العالم المادّيّ يشير إليه، ولكنّنا اتّخذنا قرارًا بعدم تلقّف الإشارات. فأيّ إخلال بالإغلاق السببيّ للعالم يوهن قبضة العقل الأداتيّ[27]، ويوحي بتفلّت الأمور من عقالها، والانفتاح على عالم من التفاسير الغيبيّة والخرافيّة.

وثَمَّ، من ناحية ثانية، الخطر المقابل، بأن ننغمس في عالم الغيب، ولا نرى في الطبيعة إلّا أثرًا هابطًا نتعوّذ منه. ففي الحالة الأولى، ليس الإنسان إلّا غريبًا، سقط في هذا العالم (سهوًا؟). أمّا في الحالة الثانية، فلا يعدو كونه إحدى تنويعات المادّة وقد تركّبت اتّفاقًا. إنّه الحَوَل، كما كان ابن العربيّ ليسمّيه[28]. ولا نتفاداه إلّا بأن نعضد التفسير الطبيعيّ، الذي يسلك من أسفل إلى أعلى بمعنًى ما، بتفسير يسلك من أعلى إلى أسفل، أي من الغاية إلى المغيّى. وما دمنا نغرف من عند الملّا صدرا، فإنّه يُطلق على هذا النظام السببيّ، السالك من الغاية إلى المترتّبات عليها، اسم “العناية”، أو، بالأحرى، “الفعل بالعناية”. والعناية عنده اسم لأعلى مراتب العلم الإلهيّ – “العلم بالأشياء التي [الذي] هو عين ذاته المقدّسة”[29] – حيث الإجمال في عين التفصيل، والتفصيل في عين الإجمال[30]. والله، عنده، فاعل بالعناية، أي “يتبع فعلُهُ علمَه بوجه الخير، بحسب نفس الأمر، ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيًا لصدوره عنه، من غير قصد زائد على العلم”[31]، وإلّا طُعن في صرافة الذات الإلهيّة. ويعبّر، في الأسفار، كما يلي: “ومنها [أقسام الفاعل] الفاعل بالعناية، وهو الذي منشأ فاعليّته، وعلّة صدور الفعل عنه، والداعي له على الصدور، مجرّد علمه بنظام الفعل والجود لا غير من الأمور الزائدة على نفس العلم”[32].

الآن، تنفتح المسألة على أفق واسع بالفعل، وتحتمل نقاشًا حادًّا وكثير التفرّع، ولكنّني سأكتفي بملاحظات عامّة – كي لا تكون هذه أطول الافتتاحيّات التي كُتبت (!) – تتجاوز الأفق الذي انفسح أمامنا. وسيكون لنا مجال لطرق المسألة في محلّ آخر[33]، خصوصًا على ضوء اعتراضات العلّامة الطباطبائي، وعلى ضوء تفضيل الملّا صدرا القول بكون الله فاعلًا بالعناية على كونه فاعلًا بالرضا، أي كون “علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، سببًا لوجود الأشياء”[34]. وهذا ما يعني أنّ الله يتوجّه – أقولها بشيء من التسامح – في خلقه العالمَ إلى وجه الخير في العالم، لا إلى ذاته، وإن انتفى التعارض بين الأمرَين من حيثيّة معيّنة، إلّا أن اختلاف زاوية النظر يوجب اختلافًا في المنظور إليه، وله بالغ الأثر فيما خصّ فهمنا للعالم.

ثمّ إنّ المفردة بحدّ ذاتها تنمّ عن علاقة بالعالم هي أبعد الأشياء عن أن تكون ميكانيكيّةً؛ بل قوامها الحبّ الأوّل الذي سرى، من ثمّ، في كلّ ثنايا الوجود. هو الذي أعطى الطبيعة فعاليّتها، وحرّك كوامنها، وأرسى نظامها، وأسبغ المعنى على توجّهيّتها، فكيف يتعارض معها؟ وهذا مغزى إشارتنا في العدد السابق[35] إلى عدم تعارض الأنطولوجيا والأخلاق، والدعوة إلى أخلاق تأسيسيّة تعيننا على فهم العالم وعَيْشِه. فعناية الله، بالعالم وبأشيائه، تعطيه (أي العالم) صبغةً أخلاقيّة لازمة. فالعالم قد بات متقوّمًا بمقولةٍ (العناية) هي أخلاقيّة، اكتماليّة، في صميمها.

وكما أنّ صدور العناية والمعنى عن جذر واحد قد فتح لنا مجالًا للتفكّر في تشكّل العالم سببيًّا بالصورة التي ذكرناها – إذ اللغة، في العالم، مخزون الإشارات إلى مكنوناته – فإنّنا، كذلك، لا نرى سبيلًا إلى المعنى، إلى الفهم والعيش، خارجًا عن المعاناة. إنّها مكابدة الوجد، واحتمال الألم، كي لا تخمد جذوة التسآل، وتنطفىء جمرة الكدح إلى الحقّ. إنّها روح فلسفة البلاء – {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}[36] – التي تصدر عن عالم متقوّم أخلاقيًّا، لا تسلبه الشرورُ المتفشّيةُ المعنى، بل تجعل المعنى ممكنًا بالمعاناة.

بأيّ الأحوال، تولي المحجّة هذا الارتباط الأخلاقيّ اهتمامها في العددين القادمَين (حول الفلسفة الأخلاقيّة [العدد 28]، ونظريّة القيم [العدد 29])، ولا بأس بإعادة طرح بعض الأسئلة التقليديّة بنَفَس جديد.

مع العدد

ينظر شفيق جرادي في رمزيّة الطبيعة الإنسانيّة التي، لبرزخيّتها، بمعنى استجماعها المعنى الكلّيّ والاشتغال الجزئيّ، تعمر الأرض، وتصوغ التاريخ، بمسؤوليّة الاستخلاف الآدميّ. ويدرس حسن بدران ما يعتبره الطبيعة المعلَّقة في الإنسان، التي تمتلك في فطرتها بذور تفعيل حقيقتها، وإقامة وجهها.

أمّا نادر البزري، فيتقدّم، مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة، بقراءة فنمنولوجيّة لفعل الآخر في الذات ومديونيّتها لها. ويقرأ فادي عبد النور في منظومة اللاهوتيّ هانز أُرس فون بالتازار، مستفيدًا من إشاراته حول الله والغشتلت والسرّ، ليتقدّم بمعالجة، للطبيعة الإنسانيّة، ما-وراء-مفهوميّة. وفي ورقته، يدعو حسن جابر إلى إعادة النظر في الاجتماع السياسيّ، عند المسلمين، على ضوء المقاصد القرآنيّة التي التفتت إلى تركّب المسار التكامليّ الإنسانيّ على المستويين المادّيّ والمعنويّ.

ويعرض أنطوان فليفل للاهوت رودلف بولتمان الذي يقول بعدم توافر الطبيعة الإنسانيّة على ما يصل بها إلى معرفة الله، سواء من خلال التفكّر في التاريخ أو الطبيعة، إلّا أن يأتيها الوحي من خارج. أمّا أحمد ماجد فيدرس المنظور الهندوسيّ، على تنوّعه، إلى الطبيعة البشريّة التي باتت تعاني الابتعاد عن أصلها. وفي سياق غير متّصل، وإن تشارك الهواجس إيّاها، تقرأ وفاء شعبان محاولة يورغن هابرماس استعادة الطبيعة الإنسانيّة من ربقة العقل الأداتيّ من خلال ما يسمّيه أخلاقيّات المناقشة. وفي ختام الملّف، نقدّم ترجمةً للنقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين التاريخ واللغة والعلوم والسياسة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما.

كما يشتمل العدد على الورقتَين اللتين قدّمهما كلّ من شفيق جرادي وجورج خضر في ندوة مشتركة بين معهد المعارف الحكميّة وبرنامج أنيس المقدسيّ للآداب في الجامعة الأميركيّة حول مفهومَي – أو لعلّهما مفهوم واحد – الصبغة والمعموديّة في الإسلام والمسيحيّة.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر، محمود يونس، “الافتتاحيّة”، مجلّة المحجّة 26 [العدد السابق، “الطبيعة البشريّة (1)”] (شتاء-ربيع 2013): الصفحات 3 إلى 9. والتوجّه، كما مرّ هناك، فعل مستمرّ، ومتحرّك باتّجاه الوجهة دومًا.

[2] “قليل لفظه، مستوفًى معناه”؛ صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق جلال الدين الآشتياني (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1419ه)، الصفحة 119.

[3] أي أن تصير حقيقتها إنسانيّةً، بمعنى صيرورتها مظهرًا للأسماء الإلهيّة على حدّ الاستواء؛ انظر، “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق..

[4] سورة الصافّات، الآية 164.

[5] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق، الصفحة 6؛ التشديد في الأصل.

[6] أضف إلى ذلك أنّه كائن اجتماعيّ، يحتكم إلى ملاكات مجتمعيّة يتلقّاها، ويفعل فيها فيلقيها إلى من وراءه. ومن هنا، تكون التربية غايةً في الأهمّيّة، وكذلك السياسة بما هي كدح نحو توفير الشروط المجتمعيّة الأمثل لتفعيل قابليّات الإنسان بما ينسجم وحقيقته.

[7] وهذا ما يجعل وجود الإنسان معلّقًا بنحو ما؛ حول الطبيعة المعلّقة، انظر، في هذا العدد، حسن بدران، الإنسان من خلال الطبيعة والشخص والفطرة.

[8] صدر الدين محمّد الشيرازي (1050 ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، الطبعة 4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1990)، الجزء 3، الصفحة 17.

[9] المصدر نفسه، الصفحة 48. وهذه هي حال الطبائع الأخرى سوى الإنسانيّة. فعلّة حركتها متضمَّنة في داخلها. بمعنًى آخر، لم تُجعل الطبيعة، ثمّ كانت لها الحركة بجعل ثان. فلمّا كانت الحركة من ذاتيّات الطبيعة، والجعل لا يتخلّل بين الشيء وذاتيّاته، فإنّ الجعل هاهنا واحد؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحتان 39 و40.

[10] المصدر نفسه، الصفحة 64.

[11] المصدر نفسه، الصفحة 49.

[12] ولا أقول انوجدت فيها، إذ النفوس الإنسانيّة “ليس وجودها في المادّة، ولكن مع المادّة”؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحة 55. والمسألة أكثر تطلّبًا من أن نَرِدَها هنا.

[13] المصدر نفسه، الصفحتان 61 و62.

[14] المصدر نفسه، الصفحة 63.

[15] المصدر نفسه، الصفحة 127.

[16] المصدر نفسه، الصفحة 66.

[17] المصدر نفسه، الصفحة 65.

[18] “النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة”؛ انظر، مثلًا، حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون (قم: دفتر تبليغات، 1421ه)، الصفحة 11.

[19] J. Kim, “The American Origins of Philosophical Naturalism,” J. Phil. Res. 28 (2003): 83-98.

[20] See, W. V. O. Quine, “Epistemology Naturalized,” in Epistemology, An Anthology (Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2000), pp. 292-300.

[21] “The American Origins of Philosophical Naturalism,” op. cit; S. Luper, “Naturalized Epistemology,” in E. Craig (ed.), The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy (New York: Routledge, 2005), p. 721; D. W. Hands, Reflection Without Rules: Economic Methodology And Contemporary Science Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 2001), ch. 4.

حتّى ابن سينا لم يسلم من الطبعنة؛ انظر،

  1. McGinnis, “Avicenna’s Naturalized Epistemology and Scientific Method,” in S. Rahman, T. Street, and H. Tahiri (eds.), The Unity of Science in the Arabic Tradition (Springer Science+Business Media B.V, 2008), pp. 129-152.

[22] ثَمَّ فارق بين نظريّة المعرفة والإبستمولوجيا لا يبيح استعمال المفردة محلّ الأخرة، أو ترجمة الثانية إلى الأولى. ففي حين تعالج نظريّة المعرفة سؤال “كيف نعرف”، أو “كيف تُطابق معارفنا العالمَ”، فإنّ الإبستمولوجيا تدرس شروط صيرورة معرفة ما علميّةً (بالمعنى الوضعيّ، أو الطبيعيّ). هذا، وقد راج استعمالها في السياق الفرنسيّ بمعنى دراسة الشروط التاريخيّة التي بموجبها تصير الأشياء غرضًا للمعرفة. انظر، مثلًا،

  1. J. Rheinberger, On Historicizing Epistemology, An Essay, trans. D. Fernbach (Stanford: Stanford University Press, 2010), p. 2.

[23] J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” in Epistemology, An Anthology, op. cit., p. 301.

[24] لا نريد أن نلوم ديكارت على كلّ مصائب الفلسفة الحديثة. بل كلامنا على الديكارتيّة بما هي وجهة عامّة حسمت الأسئلة الأساسيّة، وفرضت حدود المنهج العامّة، فطبعت الاشتغال الفلسفيّ بطابع محدّد: “الأجندة الإبستمولوجيّة الديكارتيّة هي الأجندة الحاكمة في الإبستمولوجيا الغربيّة إلى يومنا”. هذا علمًا أنّ الإبستمولوجيا، بعد النقلة الديكارتيّة، تبوّأت محلّ الفلسفة الأولى (Ibid.). ولعلّ ديكارت لم يكن – بهذا الاعتبار – ديكارتيًّا أصلًا.

[25] Ibid.

[26] See, J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” op. cit., pp. 301-13; H. Putnam, “Why Reason Can’t Be Naturalized,” in Epistemology, An Anthology, op. cit., pp. 314-24; A. Corraldini, S. Galvan and E. J. Lowe (eds.), Analytic Philosophy without Naturalism (London and New York: Routledge, 2006), intro.; W. L. Craig and J. P. Moreland (eds.), Naturalism, A Critical Analysis (London and New York: Routledge, 2000); J. Beilby (ed.), Naturalism Defeated? (New York: Cornell University Press, 2002).

[27] تجد في الافتتاحيّة السابقة (العدد 26) إشارات نقديّة كافيّة لمركزيّة العقل الأداتيّ، وشبق الصبو إلى اليقين البتّيّ. فالأحرى ألّا أعاود الكلام عليه.

[28] انظر، توشيهيكو إيزوتسو، البنية الأساسيّة للتفكير المتافيزيقيّ في الإسلام، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة 21 (صيف – خريف 2010): الصفحات 141 إلى 163.

[29] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 91.

[30] هذا جريًا على عادته في اعتبار العلم شأنًا وجوديًّا، وإطلاق أحكام الوجود عليه. فالوجود، عند الملّا صدرا، في أعلى مراتبه، كثير في عين أنّه واحد، وواحد في عين أنّه كثير. “اعلم أنّ العلم مثل الوجود، لا يدخل تحت مقولة من المقولات وهو حقيقة واحدة، وله درجات متفاوتة، متفاضلة؛ في مرتبة يكون علمًا بكلّ شيء، غير مشوب بالعدم، [و]في مرتبة يكون علمًا بشيء وجهلًا بشيء آخر. ولـمّا كان ذاته تعالى وجودَ كلّ شيء على النحو الأتمّ، فهو علم بكلّ شيء من دون شوبه بالجهل، وكان ذاته علمًا تفصيليًّا بكلّ شيء، على نحو لا يشذّ عن حيطة علمه ذرّة، فحضور ذاته لذاته علم إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ”؛ المظاهر الإلهيّة، الصفحة 89، الهامش 3 (تعليقة الآشتياني).

[31] المصدر نفسه، الصفحتان 100 و101؛ التشديد ليس في الأصل.

[32] الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 12، التشديد ليس في الأصل.

[33] انظر،

  1. Youness, “The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part II: Care and Meaning,” Theological Review, forthcoming.

وهي الجزء الثاني من  عملنا على نظريّة التطوّر:

“The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part I: Against Parsimony,” Theological Review 33 (2): 107-134.

[34] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 101.

[35] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق.

[36] انظر، سورة البقرة، الآية 155؛ سورة محمّد، الآية 31.

إفتتاحية العدد 26

الافتتاحيّة_العدد 26

افتتاحيّة العدد

تمخّضت النقلة الديكارتيّة عن ثلاثة آثار رئيسة[1] – أو لعلّها كرّستها. وقد  كان لهذه الآثار مجتمعةً وقعها البالغ على فهم الطبيعة البشريّة وتعريف الإنسان. فالارتكاسة إلى الذات غرّبت العالَم، أو قُل اغتربت الذات، حتّى كأنّها اكتفت بذاتها عالَمًا نهائيًّا. ثمّ هي في عالمها الجديد، الذي رمت فيه الكفاية والاستغناء – بالمقدار الذي تشرع منه نحو كلّ آخر (وفي داخلها وخارجها آخرون) – تماهت مع البعد العقليّ فيه، فهو وحده ما تثبّتت منه. وكلّ بعد آخر فهو يحتاج في (إثبات) واقعيّته إلى إجازة من العقل إيّاه، وإلّا كان، في أحسن أحواله، صنيعةً مرحليّةً من صنائع هذا العقل في مساره التطوّريّ. وبعض الصنائع، التي تستقي وجودها من العقل إيّاه – هكذا هي السرديّة – اشتدّت في مفاعيلها حتّى باتت تنافسه. وبات تحدّيه يكمن في إثباته ذاتَه (أو أنّه تمام الذات) في إزاء منافساتِه على استحواذ الإنسان. وهو يفعل ذلك بالعودة إلى صفائه، بالخلوص من كلّ شائبة، وباكتناه حقيقته التي ما فتئت تتجلّى في غواشي من الخوالط. هو العقل المستقلّ بذاته، المستغني عن كلّ ما سواه، الواضح عند نفسه، والذي يحقّق نفسه في التجريد، وفي إبداعات التقانة.

خطوات النقلة، إذًا، هي كما يلي:

  1. العقل، أو الفكر، دليل على الذات، وعلى كلّ ما سواها بالتبع؛
  2. الذات تتماهى مع هذا العقل؛
  3. حقيقة هذا العقل أنّه أداتيّ، يعبّر عن نفسه بإبداع الصنائع واستعمالها (وللصنائع التقنيّة، حتّى في حيّز الفنّ، خصوصيّة بالغة في هذا الصدد)، مع نزوع نحو التجريد هروبًا من ملابِسات الجسم، أو العالَم، أو ما سوى العقل.

وفي واقع الحال، فإنّ ثَمَّ أثرًا رابعًا له محوريّته على المستوى المجتمعيّ. إذ فردانيّة الإنسان اتّخذت لها، هنا، تأسيسًا أنطولوجيًّا وطيدًا. بعبارة ثانية، باتت طبيعة الإنسان تؤخذ بمعزل عن جمعيّته، أو علاقته بالجماعة، إذ هذه الأخيرة لا تعدو كونها شأنًا طارئًا. وهذا تداع واضح لانسلاخ الإنسان عن الطبيعة الخارجيّة، أو جعله الخارجَ (الآخر الإنسانيّ ضمنًا) في إزاء الذات، وسيشكّل مقدّمةً، كما سنرى، لنبذ الطبيعة الإنسانيّة نفسها.

وإذا ما كان موقع الإنسان من نظريّة بعينها يتحدّد بمقتضى المثال الأعلى الذي تجعله لنفسها، فإنّ النقلة الديكارتيّة تتموضع في إطار النظريّات التي احتكمت إلى مثال أعلى عقلانيّ – بالمعنى الذي مرّ. وما يعنينا هنا هو، أوّلًا، ما يرتبط بـ”تعريف” الطبيعة البشريّة بمقتضى ذلك، وثانيًا، ما يرتبط بأدوات معرفة الطبيعة البشريّة بعد انتقالنا إلى عالم معرفيّ مغاير تمامًا. وهذا ليس بمنفكّ عن المسألة الأولى، فقد كانت تجزئة العلوم مقدّمةً لتشظية الذات الإنسانيّة بحيث تضمحلّ الطبيعة مع اضمحلال كلّ ما يعطي الذات تماسكها. ومن هنا، كان أن قامت بعض التيّارات الفلسفيّة التي تندرج في مفاعيل النقلة الديكارتيّة برفض أن يكون للإنسان طبيعة ثابتة، إذ الثبات تقييد يُخلّ بالمعياريّة المطلقة التي جُعلت للحرّيّة، من ناحية، وفيه “شائبة” الإلهيّ، من أخرى. ولا يخفى أنّ الارتياب بهذه “الشائبة” يحرّك حقولًا معرفيّةً بكاملها.

لقد ولّد تعريف الجسد والنفس على أنّهما جوهران في الفلسفة القديمة ضرورة السؤال عن العلاقة بينهما. وإذ احتدّت هذه الجوهرانيّة مع النقلة الديكارتيّة، بات لزامًا إقصاء أحدهما لصالح الآخر، لِتضعضع السؤال عن العلاقة إلى حدّ بات معه لغوًا. وتاريخ الفلسفة بعد ديكارت، بأغلبه، تسويغ لأيّ الإقصاءَين.

إنّها لجوهرانيّة حادّة بالفعل. والجوهرانيّة الحادّة تفاقم التشييء، بخلاف الجوهرانيّة الليّنة التي تحفظ الهويّات الشخصيّة، مع خصوصيّاتها، من غير أن تحول دون سيرورة الأشياء وتفاعلها وتولّدها. بل لا كلام هنا عن أشياء. كلامنا، في واقع الأمر، ينصبّ على لحاظات وحيثيّات[2]؛ أي لحاظات وحيثيّات خاصّة بالطبيعة إيّاها. فهل الطبيعة جوهر سيّال أم جوهر صلب – إن كان ثَمَّ من جواهر صلبة؟ ماذا عن خصوصيّاتها ولوازمها؟ هل من خصوصيّات لازمة؟ وكيف تحفظ هذه اللوازم الهويّة؟ أصلًا، ما العلاقة بين الهويّة والطبيعة؟

على ما في هذه الأسئلة من همّ أنطولوجيّ، فإنّني أجدني مأخوذًا بأبعادها الأخلاقيّة – بالمعنى التأسيسيّ للأخلاق. وسيتّضح لك ما أريد. وإذ أتحرّر، شيئًا ما، من الالتزام بإجابات – في استغلال (صارخ كما العادة؟) لمساحة الافتتاحيّة – فإنّ المحفّز على تكثيف السؤال هو السؤال عينه. إذ الطبيعة مبعث على السؤال، بل لعلّ السؤال أكثر أشيائها ذاتيّةً. و”السؤال المهاجر”[3] أبلغ فعلًا في الإنسان من اليقين البتّيّ. فلنلاحق الطبيعة في أسئلتها. فإنّها مصيغة بخليط من التقييد والإطلاق، من ثوابت ومن مغادِرات. فما هو الثابت، وما الذي يغادر؟ أو ما الذي يلزم، وما الذي ينزع نحو المغادرة؟ وماذا يترتّب على المغادرة؟ هل الذات، في الطبيعة، تنحصر بما لا بدّ له أن يلزم، أم إنّ الذات – حتّى الذات – من السيولة بحيث لا يضيرها لو غادرها ما كان، في وقت من الأوقات، ذاتيَّها؟ فما مساحة الحركة فيها؟

ولعلّ الثابت في الطبيعة الإنسانيّة أنّها سيّالة، متحرّكة؛ يقول الملّا صدرا:

النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، ولا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة والنفسيّة والعقليّة التي كلّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات ودرجات متفاوتة، وما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته، وعسر فهم هويّته[4].

فإذا كان الإنسان أكثر الأشياء حركةً، هل نستغني فيه عن بُعد إلهيّ؟

من الواضح أنّ للإنسان خصوصيّة. فهو (أوّلًا) في حركته، قادر على تفعيل ذاته، وفي غير اتّجاه؛ إنّ الإنسان إذا ما استشعر في نفسه نزوعَين، هما الغاية في الخلاف والتضادّ – وهو يستشعر من نفسه ذلك – فإنّه يجد في نفسه القدرة على تحقيق أيِّهما. فما كان قادرًا على أن يفعّل في نفسه من المنازع ما هو بهذه الدرجة من الاختلاف فهو إلى الإلهيّ أقرب.

ثمّ (ثانيًا) هو صاحب وجهة. فإذا كان النزوعُ، على سعته، وتفعيلُه، ممّا يختصّ به، فإنّ تحديد الوجهة على عاتقه كذلك. وهو مزوّد بأدوات التوجيه في قبالة كلّ ما يحاول أن يشظّيه، أو أن يجعله ساكنًا عند وجهة لا تليق به، والحال أنّ الوجهة التي ينبغي أن تلائمه، أو تلائم طبيعته، هي الوجهة التي تأبى كلّ سكونيّة. وفي واقع الأمر، فإنّ الفطرة، في كثير من الأدبيّات الإسلاميّة هي هذه، أي التوجّه نحو المطلق، وإباء السكونيّة المعدِمة.

لذا كان الإنسان متوجّهًا بالضرورة. وأريد من التوجّه الفعل، بل الفعل الذي يحدّد الهويّة ضمن جهة التقييد في الطبيعة. الطبيعة، إذًا، هي (1) مِلاك التوجّه، وهي (2) المصيغة بمقتضيات التوجّه. وعلى هذا، لعلّ الخيال أكثر فاعليّةً في تكوين التوجّه من العقل. فالعقل يهذّب، والخيال يُطلق ويفسح. والجدل، الذي يؤرّق كلّ سؤال عن الطبيعة، هو الجدل بين التهذيب والإفساح بما يفعّل قابليّات الطبيعة، ويعيّن هويّتها، أي ما تستقرّ عليه الذات استقرارًا معتدًّا به. فهما (التهذيب والإفساح) من عناصر الطبيعة من حيث هي مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها. ولا تخفى محوريّة الإرادة في تفعيل ما ينفتح عليه الخيال، ويهذّبه العقل (ولا نحصره هنا بالعقل الأداتيّ). كما لا تخفى محوريّة الشعور في تلمّس مسارات الاكتمال والتفعُّل، والتحفيز نحو مواصلة المسير.

فالمسير نحو المطلق لا يُتصوَّر فيه الوصول. إنّه وجه الله، بالعبارة القرآنيّة، الذي يَهلَك كلّ شيء إلّاه[5]. الوجهة، إذًا، وجه الله. ووجه الله هو الإنسان الكامل، أي الطبيعة البشريّة التي اكتملت، فصارت إلهيّة؛ تفعّل فيها الإلهيّ الكامن إلى أبعد مداه فَظَهَر. ولأنّه مطلق فإنّ أبعد مداه ليس غاية مداه. وإذا كانت الأشياء تُعرف بالوجه، فالله، إذًا، يُعرَف بالإنسان، ولذلك خلقه؛ لأنّه ذاك المتحرّك بالسؤال – بسؤال “ألست”[6] – المتوجّه نحو أبعد مديات الـ”بلى”، مخلَّصًا إيّاها من كلّ ترديد مبعثه الـ”لا” التي تريد تأكيد الذات، أي الطبيعة في بعض مستقرّاتها، في مقابل الوجه، أو الوجهة، أي الطبيعة في أبعد مداها.

الله ظاهر في كلّ الأشياء. لا خلاف. المراد هنا أنّ ظهوره في الإنسان هو الأكمل، لأنّه ظهور لكلّ أسمائه. فهو ظهور على حدّ الاستواء، بتعبير الملّا صدرا[7].

مجدّدًا، إذًا. ليس الكلام في أشياء استقرّت على جوهريّة حادّة. بل الكلام في حيثيّات، في مراتب، أي إنّ العلاقة بين الطبيعة الإنسانيّة والطبيعة الإلهيّة مَصيغة بالتسانخ بينهما. وإذا أقرّينا بهذا التسانخ، دون إحلالهما مرتبةً واحدة، فإنّا نخرج من عدد من الإشكالات المرتبطة بالسؤال عن العلاقة.

ولقد حاولنا قراءة مفردات العلاقة (الوحي والإيمان تحديدًا) في عددين سابقين، فلا أكرّر. إلّا أنّ المرء ليلحظ أنّ سيّاليّة الطبيعة البشريّة، في إبائها قبضَ “العقل الأداتيّ المنهجيّ” عليها، تفتتح تحدّيًا معرفيًّا، وفي كلّ تحدٍّ فرصة إذا أُلهمنا صبرًا كافيًا. فالسؤال، مثلًا، عن الوحي، بالصيغة الذي يُسأل بها، أي عن إمكان العلاقة بين المطلق – ترد مفردة “المفارق” في العادة، وهي أكثر إشكاليّةً – والمحايث (المتزمّن إذا ما صحّ الاجتراح)، هو سؤال شبيه بالسؤال عن العلاقة بين الجسد والروح بعد إقرار جوهريّتهما الحادّة. هو سؤال مردود بمجرّد إقرار التعريف. ثمّ إنّ المطلق، إذا ما أراد التواصل مع المتزمّن، أليس هو من جعله في زمنيّته؟ أفلا يرى أن استيعاب المتزمّن لرسالته التواصليّة هو استيعاب مَصِيغ بمقتضيات التزمّن؟ وهل من سبيل آخر؟ إذا ما جوْهَرْنا الزمنيَّ، في مقابل المطلق، بالحدّة التي صبغت فكرنا طويلًا، فلا سبيل إلى ذلك. أمّا إذا ما نظرنا إليه في سيّاليّته، وحركته المنفتحة على قابليّات الصعود والنزول، فإنّ إطار التعارض ينحلّ لصالح جدليّات التكامل.

تكمن الخطوة الأولى، إذًا، في نبذ كلّ معيقات التوجّه. أمّا الثانيّة، بطبيعة الحال، فتكمن في تهذيب قابليّات تشخيص الوجهة. فنحن محكومون بالاختيار – كان سارتر محقًّا. أمّا اختيارنا، فيضعنا على مسار التشبّه بالوجهة (التخلّق بأخلاق الله). وأمّا “التوجّه” الأصيل فينا، فيزوّدنا بالخميرة التي تجعل التخلّق ممكنًا.

نصل، إذًا، إلى محوريّة الأخلاق لأنّها تختطّ مسارات حركة المغادرة والحلول. ولئن كانت هذه الحركة مطويّةً في النفس (الإنسانيّة)، فإنّها ليس بمقطوعة الصلة بالخارج. بل الخارج يعمّ النفس الإنسانيّة وما سواها. وإنّما نأخذ النفس بمعزل عن خارج لمقتضيات الاعتبار المنهجيّ، فلا ينبغي لنا أن نشيّئ هذه القسمة إثر ذلك. فالفضائل التي هي مراتب الحركة الأخلاقيّة الإنسانيّة تحاكي الأسماء المبثوثة والمتغلغلة في كلّ ثنايا الوجود، بحيث يستحيل الكلام على انفكاك للبعد الأخلاقيّ عن الوجود العامّ، أو الوجود الخاصّ (الإنسانيّ).

بعبارة صدرائيّة، مجدّدًا،

اعلم أنّ الله اسم للذات الإلهيّة باعتبار جامعيّته لجميع النعوت الكماليّة، وصورته الإنسان الكامل، وإليه أشير بقوله، صلّى الله عليه وآله، “أوتيت جوامع الكلم”[.] والرحمان هو المقتضي للوجود المنبسط على الكلّ بحسب ما يقتضيه الحكمة، والرحيم هو المقتضي للكمال المعنويّ للأشياء، بحسب النهاية […]، فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم: بالصورة الكاملة الجامعة للرحمة الخاصّة والعامّة، التي هي مظهر الذات الإلهيّة، وإلى هذا المعنى أشار النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بقوله: “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، لأنّ مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الجامعة الإنسانيّة[8].

تتجلّى هذه الحقيقة كرقائق في الطبيعة الإنسانيّة المتفعّلة في الدرجات الوجوديّة المختلفة، كتجلّيها في الوجود الخارجيّ. إلّا أنّ الإنسان يتميّز بجامعيّته التي بها استحقّ الخلافة. وطبيعته تقتضي التوجّه نحو هذه الجامعيّة، بل لعلّها التوجّه عينه. وعليه، فإنّنا نقرأ في كلام الملّا صدرا، بوضوح، الجمعيّة العضويّة التي تربط الوجود بعضه ببعض، مع لحاظ المحوريّة الخاصّة للإنسان. وكذلك نجد أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بما أوتي من جامعيّة، فإنّه بُعث ليستحثّ الحركة نحو الجامعيّة الكامنة في النوع البشريّ.

لا غرو، إذًا، أن تحار العقول في طبيعة الإنسان، وأن تذهب بها المشارب بعيدًا في كلّ اتّجاه. وإن كان كلّ اتّجاه يعبّر عن بُعد أصيل في الإنسان، إلّا أنّ الاتّجاه القادر على محاكاة – ولا أقول إحاطة – الجامعيّة الإنسانيّة مخفيّ في ثنايا السؤال الإنسانيّ القلق أبدًا. بل إنّ الاتّجاه العامّ قد فرض قراءةً أحاديّةً على الإنسان تقصي كلّ إحالة على المقدّس، وتستثني الإلهيّ. وفي زمن المراجعات، تمثّل مقولة الطبيعة البشريّة فرصةً لصياغة كبرى تتعلّم من الإقصائيّات المتقدّمة وتنفتح على التقليد. فلا نراوغ عموميّةَ المفردة وإبهامها – وهذا متأصّل فيها – بالإجابات النهائيّة. وإن كان لا بدّ من تلمّس المفردة في مفردات من قبيل الهويّة، والشخص، والذات، والنفس، والعقل، والروح، والأنا، فلنراجعها كلّها على ضوء المنفسح الفكريّ الراهن.

مع العدد

يلج شفيق جرادي مبحث الطبيعة بمعاينة هويّة القلب الإنسانيّ الذي تتنازعة وجوهه المتعدّدة، فلا تستقيم إلّا عند إنسان الدهر، صاحب القلب البرزخيّ، والرؤية التوحيديّة. ومن منطلق فلسفيّ إسلاميّ جامع، كذلك، يعرض وليام تشيتيك لإشكاليّة تغيبب الطبيعة البشريّة، ويقترح التوحيد كصيغة تأمّليّة تعين على فهم الإنسان، على سعته. ويقترح سمير خير الدين، بعد المقابلة بين مفردتَي الطبيعة البشريّة والطبيعة الإنسانيّة، أن نتوسّل الإنسان لفهم الطبيعة، في تعارض مع المقاربة التقليديّة التي تجعل فهم الطبيعة مقدّمةً لفهم الإنسان. ويعترض حسن بدران على تغييب الحقيقة الوحيانيّة التي تصرّ على طينيّة الإنسان في عين إصرارها على رفعة مرتبته. ويرى أنّ تغييب أيّ بعد من أبعاد الكائن البشريّ يجعل الإخفاق في فهم طبيعته لازمًا.

أمّا السيّد حسين نصر، فيجعل مقابلةً بين الإنسان، بمعناه التقليديّ، أي بما هو رابط بين الأرض والسماء، والإنسان الذي اصطنعه التنوير على ركن القطيعة مع السماء. ويرى أنّ طمس الصبغة الإلهيّة في الإنسان لا بدّ أن يترك أثره على العالم كلّه لما لهذا الإنسان من محوريّة فيه. وإذ تستعرض آن ماري شيمل القراءات الصوفيّة التقليديّة لحقيقة الإنسان، ولمدخليّة الشيطان إليه، فإنّها تقف على خصوصيّة الإرادة الإنسانيّة وقابليّات الخير والشرّ عنده.

في المقالة السابعة، يتقدّم عليّ يوسف بقراءة للطبيعة البشريّة كما هي حاضرة عند مدرِكها، محاولًا إقامة علاقة رابطة بين أبعادها المتبدّية. وبعدها يتناول مهدي مهريزي مسألة تضمّن الخطاب الإلهيّ للإنسان نحوًا من القراءة المجازيّة في سرديّاتها القصصيّة، كمقدّمة لفهم أبعاد قصّة خلق آدم في القرآن، وبما لها من تداعيات على فهم الطبيعة الإنسانيّة.

أمّا ماري ميدجلي، فتشرع من الإشكاليّات التي اعترت فلسفة الأخلاق جرّاء الاختزاليّة الفكريّة الحاكمة لتصرّ على وحدة الفاعل الإنسانيّ في كلّ حكم أخلاقيّ. وفي مقالة حول المدرسة التفكيكيّة، يدرس موسى ملايري تداعيات القول بمادّيّة النفس على فهم الهويّة الإنسانيّة.

وختامًا، يعرض موريس بلوخ لأسباب فقدان علم الإناسة لموضوعه، أي الطبيعة البشريّة، والأثر المترتّب جرّاء ذلك على فهم الطبيعة نفسها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] المصادر، حول هذه “النقلة” الديكارتيّة، أكثر من أن نحصيها في عجالتنا هذه. ولكن انظر، على سبيل القراءة النقديّة،

  1. Gellner, The Devil in Modern Philosophy, 2nd edn. (London and New York: Routledge and Kagan-Paul, 2003), pp. 2-7; C. Taylor, “Overcoming Epistemology,” in Philosophical Arguments (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1995), pp. 1-19; P. Ricœur, “The Crisis of the ‘Cogito,’” Synthese 106: 1 (Jan., 1996): 57-66.

[2] انظر افتتاحيّتنا للعدد 21، “عودة المِتافيزيقا”.

[3] انظر، شفيق جرادي، “الدين والفلسفة والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة 12 (2009): الصفحات 89 إلى 94.

[4] نقلًا عن، حسن بدران، “المسارات الكلّيّة في قراءة الطبيعة الإنسانيّة”، هذا العدد.

[5] سورة القصص، الآية 88.

[6] انظر، سورة الأعراف، الآية 172؛ “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ”.

[7] صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق السيّد جلال الدين الآشتياني (قم: دفتر تبليغات، 1419ه.ق)، الصفحة 86.

[8] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحتان 85 و86.

إفتتاحية العدد 34

افتتاحيّة العدد 34

افتتاحيّة العدد

تتنوّع طرق التفكير تبعًا لشكل وأسلوب المشكلة الفكريّة المطروحة سعيًا لحلّها. كما يُعرّف علم المنهج  (Methodology) بأنّه مجموع الخطوات التي يقوم بها الباحث للوصول إلى الحقيقة.

وإذا كانت طريقة التفكير تتبع اطرادًا أسلوب الباحث في التنقيب عن الحلّ وجمع المعلومات وقراءة الأحداث، فهي بالتالي تتنوّع بتعدّد الباحثين وتعدّد المشكلات. فيبرز حينئذٍ دور المنهج جليًّا في استخلاص النتائج لأنّ الخطوة تلو الخطوة مسيرٌ محدّد يبتني على مجموع المطالعات والمعلومات التي يستقيها الباحث في رحلة كشفه عن مبتغاه.

ويمكن القول حينها إنّ المنهج هو خارطة طريق أو خطّة عمل قائمة على أهداف معيّنة تتطلّب خطوات وأدوات متناسبة مع هذه الأهداف التي قد تتغاير بين باحث وآخر. هذه المغايرة تفتح المجال واسعًا لتأويلات متعدّدة تفضي إلى نتائج متعدّدة أيضًا تغني الآفاق العلميّة والبحثيّة.

ولا يخفى أنّ كلّ باحث هو وليد بيئة ومنظومة فكريّة خاصّة تدفعه نحو نظامٍ خاصّ من التفكير لحلّ إشكاليّة ما. هذا النظام له أثره ودوره في الإنتاج العلمي، إلّا أنّ ذلك لا يمكن أن يكون على نحو من العشوائيّة والمزاجيّة؛ فالمنهج السليم يتناسب مع الموضوع المقروء لكي يكون البحث منتجًا يوصل إلى نتائج سليمة ومقبولة في الوسط العلمي.

والحديث عن منهجيّات تفكير في قراءة وفهم الإسلام عند علماء مسلمين هو حديث عن تأويلات خاصّة وقراءات أيديولوجيّة يُفترض أنّها تعتمد مصادر مشتركة سيّما القرآن الكريم. فما الذي يختلف في قراءة الإسلام عند مسلمين؟

إنّ اعتماد المصادر نفسها في جمع المعلومات لا يؤدّي بالضرورة إلى النتائج نفسها، وخصوصًا إذا كانت الآليّات والأدوات وطريقة الاستدلال مختلفة، وهذا لا يعني أيضًا التباين الحادّ والاختلاف الشديد.

وإنّ ميزة المفكّر والباحث الإسلامي في الفقه والاجتهاد والدولة والاجتماع والأخلاق والنظرة إلى الآخر لا سيّما الغرب وغير ذلك، أنّه ينظر إلى ما يبحث عنه كوسيلة للوصول إلى الله. فالغاية القصوى ممّا يريده هو التكامل الإنساني، وإن اختلفت الأساليب وتعدّدت، أو كانت صائبة في نتائجها أم لا.

وقد أخذ معهد المعارف الحكميّة على عاتقه كمركز بحثي عرض هذه الآراء والأفكار دون أن يكون قد تبنّاها جميعها، مساهمةً منه في مجال البحث العلمي الموضوعي. فجاء هذا العدد من مجلّة المحجّة عددًا خاصًّا يقدّم حصيلة ما طرحه باحثون من منهجيّات تفكير بهذا الخصوص.

 

مع العدد

تبتني أبحاث هذا العدد على ندوة تخصّصيّة أقامها معهد المعارف الحكميّة في شهر آذار 2019 بعنوان “مناهج البحث عند مفكّري الإسلام المعاصر”، شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين قدّموا قراءاتهم حول شخصيّات متعدّدة من العالـمَين العربي والإسلامي في فهم الإسلام، اخترنا في هذا العدد عشر أبحاث لم تخضع لآليّة معيّنة في اختيار نشرها على أن ينشر ما تبقّى منها في عدد يحدّد لاحقًا.

قدّم سمير زيدان قراءة جديدة في منهجيّة البحث عند الشيخ محمّد رشيد رضا، فاستعرض أسلوبه الحواري في مجلّة المنار الذي يقوم على جدليّة العينيّة والغيريّة، وعرض قراءة موضوعيّة للواقع والاحتكام إلى العقل ومجاوزة الأسلوب التناظري بمنهجيّة الاستنبات الثقافي والتأسيس المقاصدي.

وحملت الورقة البحثيّة الثانية لمحمّد علّوش عنوان “قراءة في فكر راشد الغنوشي” الذي وجد في الدولة مفهومًا أبعد من الهويّة الدينيّة لتصبح جهازًا إداريًّا محايدًا، وأنّ الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطيّة، والتقى مع طروحات فصل الدين عن الدولة، وإبعادها عن التوظيف الديني.

وقرأ أحمد ماجد في الرؤية والمنهج عند جمال الدين الأفغاني الذي حمل مهمّة تقويم الوعي السياسي من وجهة النظر الإسلاميّة، وقدّم تسويغات لمشروحه الإصلاحيّ الجهادي الذي لم يكن سوى انعاس لرؤيته الفلسفيّة المبتنية على الجدليّة بين النصّ والواقع وتعليق الأحكام والتفسيرات المسبقة للآيات والتأويل.

وفي آفاق التعدّد المنهجي في منظومة العقل الوحياني عند العلّامة عبد الله الجوادي الآملي، قرأ كمال لزّيق ارتباط العقل الوحياني بنظريّتي الوجود والمعرفة القائمة على التعدّد والغنى حيث لا ينحصر الوجود في عالم الحسّ والتجربة، بل يتعدّاه إلى عوالم أخرى كالعقل والقلب اللَّذين يستهديان بالوحي.

أمّا عن المنهج الفكري للسيّد محمّد حسين فضل الله في فهم الإسلام، فيشير جعفر فضل الله أنّ ما يمتاز به (رحمة الله عليه) منهجيّته داخل النظام الاستدلالي المعروف؛ فهو لم يشذّ عن أركان الاجتهاد السائد، إلّا أنّه قدّم تعديلات خلق من خلالها حوارًا مشتركًا بين أتباع المدرسة السائدة ومدرسته الفكريّة.

ثمّ عرض حسن رضا بحثه “منهجيّة مالك بن نبي في قراءة الإسلام”، حيث شكّل النصّ القرآني ركيزة بنيويّة، نهل مصاديقها من منجزات الفكر الشرقي والغربي، محاولًا تقديم مقاربات جديدة في فهم الإسلام، وحرصًا على بعث نهضة حضاريّة عربيّة وإسلاميّة محدثة.

وفي بحثٍ لعبد الله جرادي في منهج قراءة إسماعيل الفاروقي للإسلام، ذكر الباحث أنّ الفاروقي كان جزءًا من تيّار دعا إلى أسلمة المعرفة عبر تغيير آليّات التعامل مع العلوم وضرورة إعادة النظر بها. فقدّم لرؤيته مسوّغات منها أنّ ما أنتجه الغرب من العلوم تناسب واقعه ومجتمعاته.

كما وصف محمود حيدر سيّد حسين نصر في بحثه بالمستغرب المحفوظ بأصله الذي سعى لتظهير روح الإسلام وعرضها على العقل المؤسّس لحداثة الغرب المعاصر عبر منهجيّة مركّبة تقوم على التعرّف إلى المجتعات الغربيّة ونقدها من أجل تأسيس فهم عميق للعلاقة بين الدين والطبيعة وربط الوحي بالتراث الإسلامي.

كما قرأ علي فضل الله خصائص المدرسة الفكريّة عند السيّد محمّد باقر الصدر التي تتميّز بالتأصيل النظري، والإبداع والتجديد، والجمع بين المنهج المنطقي والنزعة الوجدانيّة، وبين المنهج العقلي الاستقرائي العلمي والمنهج التاريخي والنقدي، وغيرها من الممّيزات.

ثمّ عرض سمير خير الدين في البحث الأخير منهج العلّامة الطبطبائي في قراءة الإسلام المتوقّف على المراد من الإسلام نفسه المكوّن من الاعتقادات والأخلاق والعمل. فقد استند العلّامة على مبدأ التوحيد وفهم الواقع وسيرورة العالم نحو الغائيّة، أي الكمال الأخير للوصول إلى التكامل.

والحمد لله ربّ العالمين.