افتتاحية العدد 38

نُبحرُ من جديد مع الرمز في هذا العدد، أو هكذا نتصوّر، لأنّ الخوف يبقى ماثلًا أمامنا من عدم مغادرة المرفأ، فيحصل معنا ما حصل مع باحثي مؤتمر “أشكال الفعل الرمزيّ”، إذ خرج عليهم “ميلفورد سبايرو Milford Spiro ليقول في نهايته: “إنّ كلّ البحوث التي نُوقِشَت في الندوة لم تتعرّض من قريب أو بعيد لتعريف كلمة “الرمز”، أو تحاول التمييز بدقّة بين فئة الرموز وفئة “غير الرموز”…على الرغم من أنّ معظم الّذين اشتركوا في الندوة كانوا علماء، لهم مكانتهم الرفيعة في مجال الأنثربولوجيا، ووقد عُدّت البحوث التي قدّموها إسهامات طيّبة في ذلك العلم، فإنّه لم يستطع أن يتبيّن تمامًا لماذا كان أصحاب هذه البحوث يتوهّمون أنّهم كانوا يُعالجون مشكلة الرمز والرمزيّة (أبو زيد، 1985، ص 583). فنحن أمام موضوع إشكاليّ، يحتاج إلى جهد كبير. فكثيرٌ من الأمور التي نتصوّرها رموزًا تخرج عن معناها، فتُفصِح عن حقيقة، فعندما أقِفُ أمام سماء متلبّدة بغيوم، أشعر أنّها رمزٌ لهطول المطر، ولكن إذا تفرّقت الغيوم من دون حصول المتوقّع، هل أستطيع أن أتحدّث عن الغيوم على أساس أنّها رمز، أم أنّ استحضاري للمطر كان ناشئًا عن عادة؟ وفي هذه الحال الأخيرة، هل يمكن عدّ ذلك رمزًا؟

ويعيدنا الكلام السابق إلى ضرورة إعادة تعريف الرمز وماهيّته، فهل كلّ أمرٍ دالٍّ على معنى، يختلف عن مظهره هو رمز؟ وإذا فُهِمت الدلالة منه مباشرة، فأين تكمن الرمزيّة فيه؟ فهل الضوء الأحمر في الإشارات الضوئيّة رمز؟ الدلالة هنا واضحة، وتحيل إلى معنى، والضوء يقوم بفعل الاختزال، وتحويل الكلمات إلى إشارة، يمكن التقاطها. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على ما هو بسيط، وغير مُعقّد، فإنّه من الممكن أن نصل إليه ببساطة، ولكنّه قد يتوسّع باتّجاه الأمور المجرّدة، كأن نستخدم القوسين المعقوفين “[ ]” للدلالة على أنّ الكلمات ليست من أصل النصّ في العمل البحثيّ، أو علامة أكبر “<” للدلالة على أنّ الرقم كذا أكبر من الرقم كذا، كما ينطبق على إشارة الهلال التي تدلّ على الإسلام، وغيرها من الرموز الدينيّة. فهل صحيح أنّ هذه رموز، طالما تؤدّي الدور نفسه الذي تقوم به اللغة؟ سؤال يحتاج إلى تأمّل وتفكير.

وقد يقول قائل: إنّ ما تتحدّث عنه يستدعي التفريق بين الرمز والعلامة، وما أشرت إليه هو خلط بين مصطلحين (العلامة/ الرمز)، مع العلم بأنّ غالبيّة العلماء: “الذين تعرّضوا لهذه النقطة يرون أنّ الرمز يتميّز من العلامة بأنّه يشير إلى مفهوم وتصوّرات وأفكار مجرّدة، في حين أنّ العلامة تشير إلى موضوعات وأشياء ملموسة، أو على الأقلّ إلى أمور أدنى في درجة التجريد، على أساس أنّها لا تفعل شيئًا أكثر من مجرّد الإشارة إلى تلك الأشياء التي ترتبط بها فحسب” (أبو زيد، 1985، ص 585). قد يكون ما أُثير مُهمًّا، ولكنّ المشكلة لم تُحل، لأنّها تفتقد المعياريّة الدقيقة التي تجعل الرموز على ما هي عليه. فالعلامة قد تتحوّل إلى رمز، والعكس صحيح؛ فما هو الشيء الذي يعطي الرمز رمزيّته؟ ولماذ اتُّخذ من دون غيره؟ وهل يمكن استبداله برموز أخرى؟ وكيف يحصل ذلك؟ وهل هي تحمل معانيَ ذاتيّة؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا يختلف الناس في معناها من حضارة إلى أخرى؟

  يضعنا الرمز دائمًا أمام الأسئلة، فهو المختلف الذي يوحي بالوضوح دائمًا، ولكن عند مقاربته تجد أنّ المعنى فيه مؤجّل، ويحتاج إلى مزيد من الكلمات لتصل إليه؛ فهو وإن ظهر “[كـ] شيء يعتبر ممثّلًا لشيء آخر، وبعبارة أكثر تخصيصًا، فإنّ الرمز كلمة أو عبارة أو تعبير آخر، يمتلك مركّبًا من المعاني المترابطة. وبهذا المعنى، يُنظر إلى الرمز باعتباره يمتلك قيمًا تختلف عن قيم أيّ شيء يرمز إليه كائنًا ما كان” (فتحي، 1986، ص 878)، إلا أنّه أبعد من ذلك، فهو يأخذك من مضيق اللغة؛ ليربطك بما هو إنسانيّ، يبدأ من الإنسان في لحظة إبداع، ويستمرّ معه، يولّد المعاني عند مواجهته، فإذا نظرنا بدقّة إلى الرمز نرى: “الخيال هو الأداة الأولى للإبداع في الصورة الرمزيّة، فالنجاح في استخدامها يتعلّق أساسًا بالإيحاء ومقاربة الحقيقة من دون مناقشتها.

إنّ أهميّة توظيف الرمز لا تكون في مجرّد شحن الإشارات الرمزيّة، وعقد المقارنات، وإنّما يتمثّل الإبداع في توظيف دلالات الرمز للتعبير عن القيم والمشاعر الإنسانيّة الأصيلة” (أصلاني، 2011، ص 2). بهذا المعنى، يصبح الرمز حالة، تنقل الكلام من مستوى منطوق أو ظاهريّ إلى مستويات وجوديّة، لا تُعبِّر عن المعنى إلّا من خلال عيشه وانعكاسه على مستويات متعدّدة اعتقاديّة وأخلاقيّة…عند هذا المستوى، يصبح هو الأصل، وليس المعنى القابع فيه، فهو حتّى في ذهن مُلقيه أوسع ممّا أشار إليه، ولو كان قادرًا على التعبير عنه، لاستخدم اللغة العادية. كما أنّ الرمز – ولو كان واضحًا عند ملقيه – يأخذ معانيَ إضافية عند المتلقّي، وهذا ما أشار إليه ت.س. أليوت، عندما قال: “الرمز يقع على في المسافة بين المؤلّف والقارئ، لكن صلته بأحدهما ليست بالضرورة من نوع صلته بالآخر، إذ إنّ الرمز بالنسبة إلى الشاعر محاولة للتغيير، ولكنّه بالنسبة إلى المتلقّي مصدر إيحاء” (فتوح، 1984، ص 233).

ويبقى الرمز هو ذلك العجيب المحيّر الذي قد لا تتّسع صفحات مجلّة للوصول إلى نتيجة واضحة فيه، ويبقى الأمل في تقديم إسهامات حول الموضوع، وهذا ما كُنّا قد بدأنا به في العدد الماضي، وسنستكمله في هذا العدد.

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحتوي الباب الأوّل على ستّة أبحاث. في البحث الأوّل منها، يهدف حسين حسني درگاه وعبد الله راز في بحث “تحليل رؤية هنري كُربن في تأويل الرمز ودور الخيال الفعّال في فهم النصوص الحكميّة الإسلاميّة” إلى بيان رؤية كُربن في ما يرتبط بالرمز والترميز في النصوص الحكمية الإيرانيّة – الإسلاميّة، بنحو منسجم ومتكامل، مستفيدَيْن من المنهج التوصيفي – التحليلي، لإدراك معنى التأويل الكامن في المستوى الأفقي للنصّ، وصولًا إلى مستوى جديد من المرتبة الوجوديّة للمعارف.

وفي البحث الثاني، وعنوانه “الرمز في النصّ الصوفيّ والعرفانيّ”، عمد حسن خليل رضا إلى جعله ثلاثة أقسام: قارب في القسم الأوّل الرمز الصوفي والعرفاني في نسقه الدلالي، وتناول في الثاني تمثّلات الصوفية للرمز في النصّ الصوفي والعرفاني، وأمّا في القسم الثالث فتحدّث عن مسوّغات لوذ العارفين بالرمز في تكوين نصوصهم، ومنها: صون التجارب، واتّقاء الفقهاء، والالتزام بالأمر الإلهي.

وعالج غسّان تويني في بحثه “الرّمز في الشّعر المعاصر“، نصوصًا لثلاثة شعراء، هم: محمود درويش، ومحمّد علي شمس الدين، وكمال خير بك، وأوضح من خلالها كيف تستطيع الرموز، بما تحمل من محمولات دلاليّة، أن تسهم في إنتاج دلالات جديدة، لم تكن متوافرة فيها من قبل؟ وكيف تستطيع كذلك أن تشكّل مصدرًا معرفيًّا ثقافيًّا لرؤية الشاعر الشعريّة والمرحلة التي يعايشها، ليترك بذلك بصمة فريدة في نصّه، لا تشبهها أيّ بصمة أخرى؟

أمّا سكينة أبو حمدان فقد بيّنت في بحثها ” أهميّة تحديد السياق في الكشف عن الرمز الديني“، وكيف أنّه لا يمكن معرفة دلالة الرمز الحقيقيّة من دون تتبّع سياقاته المختلفة، من ظروف القائل والمتلقّي الثقافيّة والبيئيّة وغير ذلك؟ ورأت أنّ الرمز الديني هو لفظ لبس لبوس الدين، فلا يمكن فهمه خارج الإطار الذي حُدّد له، وقد أعطت نماذج من مثل الصراط، والميزان، وبعض أوصاف الجنة، لتدعيم الفكرة.

وفي البحث الخامس من ملف العدد، حاول ليون روزنشتاين بيان “بعض المشكلات الماورائيّة في الأشكال الرمزيّة عند كاسيرر”، مستعرضًا آراء كانط وهيغل اللَّذين ناقشهما من وجهة نظر كاسيرر، فعرض ما توصّلا إليه من فلسفة التفكير والأشكال، وما وافقهما عليه كاسيرر، وما خالفهما فيه، من خلال النماذج التي استعرضها الكاتب، مثل: الأسطورة، والفنّ، واللغة، والدين.

أمّا في البحث الأخير، فقد قدّمت زينب إسماعيل في بحثها “أنوثة الماء: الرمز والبحث عن الأصالة” مسحة تأويليّة لرمزيّة الماء في نصّ النبع لسديف حمادة وفق الإجراءات الأسلوبيّة والسيمائيّة، من خلال رصد بعض التكرارات الأسلوبيّة وسياقاتها النصّيّة، والعمل على رصد المعنى الخفيّ المرتبط بالإحالة المرجعيّة الثابتة خارج النصّ، والثاوية في طيّات المعاني، مستثمرة المرجعيّة الثقافيّة والدينيّة للشاعر، وتوافقها مع السياق الأسلوبيّ للنصّ.

وفي باب “حوارات”، يطرح الشيخ محمّد تقي السبحاني مدى استفادة العلوم الإنسانيّة من علم الكلام في مبحثين: تناول أحدهما تحديد إطار أصل قضيّة العلاقة بين هذين العلمين، أو بتعبير آخر مساعدة علم الكلام للعلوم الإنسانيّة، وأمّا المبحث الثاني فاهتمّ بطريقة تطبيقات هذا البحث، واسعرض قائمة من تفاصيل علم الكلام التي يمكن أن تؤثّر في الفروع والاتجاهات المختلفة للعلوم الإنسانيّة، وتؤثّر في موقف علم الكلام من سائر العلوم.

أمّا باب “بحوث ودراسات”، فقد احتوى ثلاثة أبحاث: الأوّل ليد الله يزدان پناه، بعنوان “إمكانيّة وصف التجارب الشهوديّة العرفانيّة”، وقد استعرض فيه الرأي القائل بإمكانيّة وصف المشاهدات العرفانيّة، بما لها أهميّة خاصّة في فلسفة العرفان، استنادًا إلى الساحات الثلاث: الحقيقة، والمعنى واللغة؛ حيث طرح بعض النصوص العرفانيّة التي تعزّز هذا الرأي.

والبحث الثاني لحسين أترك بعنوان “مسار تطوّر نظريّة الاعتدال في الأخلاق الإسلاميّة”، عرض فيها الكاتب مسار هذه النظريّة في اليونان القديمة وصولًا إلى الأخلاق الإسلاميّة وبعض ما يتعلّق بموضوع العدالة والنفس والعقل، وقاعدة الاعتدال في كلٍّ منها، وتأييد قاعدة الاعتدال بالآيات والروايات الإسلاميّة، وإضافة الفضائل الدينيّة إلى الفضائل الأخلاقية الفلسفيّة، وربط بحث سعادة الإنسان بالله والآخرة.

أمّا البحث الثالث فهو لزهراء عقيل، بعنوان “عقلانيّة هوبز: من إلزاميّة الفعل إلى حريّة الاختيار”. تناولت الكاتبة في ثلاثة فصول نظرة هوبز إلى الاجتماع البشريّ، والسلطة، وبناء الدولة، حيث يرى هوبز أنّ الأخلاق نسبيّة، وأنّ الفوضى هي التي تسبق القانون، وأنّ الحالة الطبيعيّة حافلة بالانقسامات والصراعات بصورة كامنة، وأنّ قانون الطبيعة مبدأ يصل إليه العقل، ويشكّل حالة من الإلزام من الداخل.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل، والممتع، والشاقّ.

المصادر والمراجع

أبو زيد، أحمد (1985). “الرمز والأسطورة والبناء الاجتماعي”، مجلة عالم الفكر (16/ 3). الكويت: وزارة الإعلام.

أصلاني، سردار ونصر الله شاملي، وعسكر علي كرمي (2011 / 1390 ه.ش). “الرمز والأسطورة والصورة الرمزيّة في ديوان إيليا أبو ماضي”. مجلّة الجمعيّة العلميّة الإيرانيّة للغة العربيّة وآدابها (21). طهران: اللجنة الإيرانيّة للغاة العربيّة وآدابها.

فتحي، إبراهيم (1986). معجم المصطلحات الأدبيّة. تونس: تعاضدية العمالية للطباعة والنشر.

فتوح، أحمد محمّد (1984). الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. القاهرة: دار المعارف.

تحليل رؤية هنري كُربن في تأويل الرمز ودور الخيال الفعّال في فهم النصوص الحكميّة الإسلاميّة

تهدف هذه المقال إلى بيان رؤية كُربن في ما يرتبط بالرمز والترميز في النصوص الحكمية الإيرانيّة – الإسلاميّة، بنحو منسجم ومتكامل، مستفيدة من المنهج التوصيفي – التحليلي. كما يعتقد كُربن أنّ النص يرجع إلى حقيقته، عندما ترجع النفس في سيرها الصعودي إلى حقيقتها التي هي الانتقال عن مستوى الرموز والمجازات. والحاصل أنّه، بناءً على الفهم الرمزي للنصوص الحكميّة، لا يقتصر التأويل على إدراك المعنى الكامن في المستوى الأفقي للنصّ، بل إنّ صعود المؤوِّل إلى مستوى وجودي جديد، وتلقّيه معارف من نوع هذه المرتبة الوجوديّة الجديدة، يصطلح عليه كُربن بـ”تأويل النفس”.

الرّمز في الشّعر المعاصر

عالج الكاتب نصوصًا لثلاثة شعراء، هم: محمود درويش، ومحمّد علي شمس الدين، وكمال خير بك، أوضح من خلالها كيف تستطيع الرموز بما تحمل من محمولات دلاليّة أن تسهم في إنتاج دلالات جديدة، لم تكن متوافرة فيها من قبل؟ وكيف تستطيع هذه الرموز أن تشكّل مصدرًا معرفيًّا ثقافيًّا لرؤية الشاعر الشعريّة والمرحلة التي يعايشها، ليترك بذلك بصمة فريدة في نصّه لا تشبهها أيّ بصمة أخرى؟

كما أوضح أنّ النصّ الشعريّ ما هو إلّا نتاج قلق معرفي لدى الشاعر، وأنّ النظام السيميائي العلامي يبقى في حالة تجدّد دائم عبر الأجيال. لذا، فدراسة الرمز عند جيل من الشعراء كفيلة بإبراز الهمّ الجمعيّ للمجتمعات، بما يكشف عن ثقافة ذلك المجتمع وكيفيّة إغنائه وتطويره.

أهميّة تحديد السياق في الكشف عن الرمز الديني

إنّ الرمز – كلفظ لغوي – يستخدم في إطار أدبي بلاغي، وأصله الصوت الخفي الذي لا يكاد يُفهم. وهو يستخدم تارة لإخفاء الدال، وإلباسه قالبًا من السريّة والغموض، وتارة لإضفاء قدسيّة على المدلول. وقد صوّر الله تعالى لنا بعض مواقف يوم القيامة، كالصراط والميزان والجنّة – بما هي مكانٌ لخلود المؤمنين خاصّة – بأوصاف عديدة، منها: أنهار من لبن وعسل، ومساكن طيّبة، وغيرها، وفصّل في بعض ما يناله المقرّبون في الدار الآخرة. ولاحقًا، أصبحت هذه الأوصاف رموزًا للنعيم الذي يناله هؤلاء، وحافزًا للآخرين إلى عمل الخير الذي يوصلهم إلى هذه الدرجات. فالرمز، لكي يؤدي الدور الذي سيق لأجله، على المتتبّع أن يدرسه ضمن سياقاته الخاصّة، من ظروف القائل والمتلقّي الثقافيّة والبيئيّة وغير ذلك.

وقد صوّر الله تعالى لنا بعض مواقف يوم القيامة، كالصراط والميزان والجنّة – بما هي مكانٌ لخلود المؤمنين خاصّة – بأوصاف عديدة، منها: أنهار من لبن وعسل، ومساكن طيّبة، وغيرها، وفصّل في بعض ما يناله المقرّبون في الدار الآخرة. ولاحقًا، أصبحت هذه الأوصاف رموزًا للنعيم الذي يناله هؤلاء، وحافزًا للآخرين إلى عمل الخير الذي يوصلهم إلى هذه الدرجات. فالرمز، لكي يؤدي الدور الذي سيق لأجله، على المتتبّع أن يدرسه ضمن سياقاته الخاصّة، من ظروف القائل والمتلقّي الثقافيّة والبيئيّة وغير ذلك.

أنوثة الماء: الرمز والبحث عن الأصالة نصّ النبع لسديف حمادة نموذجًا

يحمل نصّ النبع للشاعر والروائيّ سديف حمادة كثيرًا من الإيحاءات والرموز والدلالات السيميائيّة الكاشفة عن رحم نصٍّ أدبيّ يتجاوز حدود الزمان والمكان، يخلق من الماء سرًّا وجوديًّا للحياة والاستمرار والتعلّق الذي يتمثّل بالأنوثة التي هي سرّ العطاء، من القدرة على الإنجاب، إلى المرأة التي تسكّن الجراح، وتشفيها، ثمّ ترسم بفكرها أُطر التمسّك بالحقّ وبالأرض وبالكينونة.

قدّمت هذه الورقة البحثيّة مسحة تأويليّة لرمزيّة الماء وفق الإجراءات الأسلوبيّة والسيمائية، من خلال رصد بعض التكرارات الأسلوبيّة وسياقاتها النصّيّة، والعمل على رصد المعنى الخفيّ المرتبط بالإحالة المرجعيّة الثابتة خارج النصّ، والثاوية في طيّات المعاني، مستثمرة المرجعيّة الثقافيّة والدينيّة للشاعر، وتوافقها مع السياق الأسلوبيّ للنصّ.

رمزيتا الماء والنار في الأساطير والأديان

تبوّأت المياه والنار منزلة مهمّة في حياة الشعوب البائدة، والحضارات القديمة. فالمياه هي مصدر الحياة؛ لذلك قدّسها الإنسان. فالفكر الإغريقي يرى أنّ الماء أصل الكون؛ لذلك حظي بآيات تبجيل دينيّة، واعتقد المصريّون أنّ الإله رع أوّل من خرج من المياه الأولى. وأمّا السومريّون فإنّ البداية المائيّة عندهم موجودة في فكرة الإينوماإليش. باختصار، لقد اعتقد الإنسان الأوّل في قدسيّة المياه، واعتبرها إلهًا، آمن بقوّته وقدرته وسخائه وبطشه، فعلّق المرء استيهاماته على هذا العنصر الطبيعي، وعدّه ملاذه الآمن، فجعله رمزًا دالًّا على الخلق، واستمرار الحياة، أو الطهارة، الجسديّة منها والروحيّة، ورمزًا دالًّا أيضًا على الثواب والعقاب. وهي دلالات حملها الإنسان للماء، مثلما تبرزها الأساطير أو النصوص الدينيّة المقدّسة. كما قدّس الإنسان الدينيّ أيضًا النار كالماء تمامًا، فاعتقد فيها وعدّها رمزًا للحضور الإلهيّ بين البشر، ورمزًا للبعث المتجدّد.

الشّجرة والإنسان رموزيّة تشابهات وتعالقات وتفاعلات

يعرض الكاتب رمزيّة الشجرة بما جسّدته في الثقافات القديمة والحديثة. فهي التي توحّد الأضداد، وتربط السافل بالمتعالي، وهي العالم الحيّ المتجدّد باستمرار. وهي التي غلّفت بوجودها كينونة الإنسان من المبتدأ إلى المنتهى، وتلبَّست حياته بها من أوَّل الخلق إلى آخر مراحل وجوده. كما ترمز أغصان الشّجرة – برأيه – إلى المجتمعات، وترمز أوراقها وثمارها إلى الحياة الجميلة والمتألّقة والهانئة. وترمز شجرة الحياة أيضًا في الأديان إلى مصادر البركة العظيمة في حياة الإنسان، وإلى الفردوس والحياة والمعرفة.

المقاربة الفينومينولوجيّة لمفهوم الرمز إطلالة عامّة بين النظرية والتطبيق

يهدف البحث إلى رصد الرؤى والأفكار التي طرحت حول مفهوم الرمز في العلوم الإنسانيّة والأنتروبولوجيا – في صيغتها الفينومينولوجيّة – بشكل خاص، ولذا فهو يصنّف ضمن البحوث الرصدية الوصفية، من دون البحوث المعيارية التي تهدف إلى بيان الصواب من الخطأ في التعامل مع قضية الرمز ومفهومه.

عرض الكاتب ثلاثة اتجاهات أساسيّة، اهتمّت بتحليل الرموز في العلوم الإنسانية، وهي: الاتجاه الوضعي المنطقي، ورائده رودولف كارناب، والظاهراتيّة اللغويّة، ورائدها إدموند هوسرل، وفلسفة اللغة العاديّة، ورائدها فتغنشتاين. ثمّ بيّن ارتباط الرمز بالبحث عن التجربة الدينيّة، عبر عرض نموذج من تحليل الرموز، وهو التحليل الأنتربولوجي للعمارة الدينيّة، وعمارة المسجد بشكل خاصّ.

قراءة تأويليّة لحركيّة الرمز في قصّة سلامان وآبسال لابن سينا

يعرض البحث قراءة تأويليّة لحركيّة الرمز عند ابن سينا في قصّة سلامان وأبسال، حيث استقرأ الباحث البُعد العرفاني فيها، الرامي إلى ولوج عالم الروح والباطن، واستنطاق النص بغية إيجاد المعاني العميقة والرموز الدلاليّة التي أرادها الكاتب، وتحرّى عنها الباحث.

فالقصّة، بما هي نص كتابي، تخضع لكشف دلالي رمزي من المتلقّي، وإن كانت عبارة عن تجربة ذاتيّة من الكاتب نفسه. بدأ الكاتب بتحليل شكل بناء القصّة، بما يمثّل من مدخليّة سنديّة للنصّ. وحلّل الشخصيّات التي تبنّاها ابن سينا، وكذلك الأحداث، وزمان تتابعها، ليصل إلى تحليل رمزي لعناصر القصّة، والمبدأ الذي أراده ابن سينا في نصّه.

مفهوم الرمز بين المنطق الأرسطيّ والمنطق الرمزيّ

يعالج البحث الفروقات بين الرمز في المنطقين الأرسطي والرمزي. فالمعنى اللغوي للرمز هو المعنى الإشاري، فيما يدلّ استعمال الرمز في المنطق الصوريّ على أنّه أداتيّ، يرتكز على التوضيح والإيجاز، بخلاف ما ذهب إليه المنطق الرمزي الذي حاول أن يتجاوز البعد التوضيحي من خلال ترميز الروابط، وبناء الأنساق. وعرض الباحث نماذج من استعمالات الرموز في المنطق الصوريّ. كما بيّن أنّ المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة في المنطق الصوريّ ممهّدة للمبادئ التصوّريّة والتصديقيّة في العلوم الإنسانيّة، بخلاف المنطق الرمزي الذي يتمحور حول الرمز، لا حول المفاهيم.