افتتاحية العدد 38

نُبحرُ من جديد مع الرمز في هذا العدد، أو هكذا نتصوّر، لأنّ الخوف يبقى ماثلًا أمامنا من عدم مغادرة المرفأ، فيحصل معنا ما حصل مع باحثي مؤتمر “أشكال الفعل الرمزيّ”، إذ خرج عليهم “ميلفورد سبايرو Milford Spiro ليقول في نهايته: “إنّ كلّ البحوث التي نُوقِشَت في الندوة لم تتعرّض من قريب أو بعيد لتعريف كلمة “الرمز”، أو تحاول التمييز بدقّة بين فئة الرموز وفئة “غير الرموز”…على الرغم من أنّ معظم الّذين اشتركوا في الندوة كانوا علماء، لهم مكانتهم الرفيعة في مجال الأنثربولوجيا، ووقد عُدّت البحوث التي قدّموها إسهامات طيّبة في ذلك العلم، فإنّه لم يستطع أن يتبيّن تمامًا لماذا كان أصحاب هذه البحوث يتوهّمون أنّهم كانوا يُعالجون مشكلة الرمز والرمزيّة (أبو زيد، 1985، ص 583). فنحن أمام موضوع إشكاليّ، يحتاج إلى جهد كبير. فكثيرٌ من الأمور التي نتصوّرها رموزًا تخرج عن معناها، فتُفصِح عن حقيقة، فعندما أقِفُ أمام سماء متلبّدة بغيوم، أشعر أنّها رمزٌ لهطول المطر، ولكن إذا تفرّقت الغيوم من دون حصول المتوقّع، هل أستطيع أن أتحدّث عن الغيوم على أساس أنّها رمز، أم أنّ استحضاري للمطر كان ناشئًا عن عادة؟ وفي هذه الحال الأخيرة، هل يمكن عدّ ذلك رمزًا؟

ويعيدنا الكلام السابق إلى ضرورة إعادة تعريف الرمز وماهيّته، فهل كلّ أمرٍ دالٍّ على معنى، يختلف عن مظهره هو رمز؟ وإذا فُهِمت الدلالة منه مباشرة، فأين تكمن الرمزيّة فيه؟ فهل الضوء الأحمر في الإشارات الضوئيّة رمز؟ الدلالة هنا واضحة، وتحيل إلى معنى، والضوء يقوم بفعل الاختزال، وتحويل الكلمات إلى إشارة، يمكن التقاطها. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على ما هو بسيط، وغير مُعقّد، فإنّه من الممكن أن نصل إليه ببساطة، ولكنّه قد يتوسّع باتّجاه الأمور المجرّدة، كأن نستخدم القوسين المعقوفين “[ ]” للدلالة على أنّ الكلمات ليست من أصل النصّ في العمل البحثيّ، أو علامة أكبر “<” للدلالة على أنّ الرقم كذا أكبر من الرقم كذا، كما ينطبق على إشارة الهلال التي تدلّ على الإسلام، وغيرها من الرموز الدينيّة. فهل صحيح أنّ هذه رموز، طالما تؤدّي الدور نفسه الذي تقوم به اللغة؟ سؤال يحتاج إلى تأمّل وتفكير.

وقد يقول قائل: إنّ ما تتحدّث عنه يستدعي التفريق بين الرمز والعلامة، وما أشرت إليه هو خلط بين مصطلحين (العلامة/ الرمز)، مع العلم بأنّ غالبيّة العلماء: “الذين تعرّضوا لهذه النقطة يرون أنّ الرمز يتميّز من العلامة بأنّه يشير إلى مفهوم وتصوّرات وأفكار مجرّدة، في حين أنّ العلامة تشير إلى موضوعات وأشياء ملموسة، أو على الأقلّ إلى أمور أدنى في درجة التجريد، على أساس أنّها لا تفعل شيئًا أكثر من مجرّد الإشارة إلى تلك الأشياء التي ترتبط بها فحسب” (أبو زيد، 1985، ص 585). قد يكون ما أُثير مُهمًّا، ولكنّ المشكلة لم تُحل، لأنّها تفتقد المعياريّة الدقيقة التي تجعل الرموز على ما هي عليه. فالعلامة قد تتحوّل إلى رمز، والعكس صحيح؛ فما هو الشيء الذي يعطي الرمز رمزيّته؟ ولماذ اتُّخذ من دون غيره؟ وهل يمكن استبداله برموز أخرى؟ وكيف يحصل ذلك؟ وهل هي تحمل معانيَ ذاتيّة؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا يختلف الناس في معناها من حضارة إلى أخرى؟

  يضعنا الرمز دائمًا أمام الأسئلة، فهو المختلف الذي يوحي بالوضوح دائمًا، ولكن عند مقاربته تجد أنّ المعنى فيه مؤجّل، ويحتاج إلى مزيد من الكلمات لتصل إليه؛ فهو وإن ظهر “[كـ] شيء يعتبر ممثّلًا لشيء آخر، وبعبارة أكثر تخصيصًا، فإنّ الرمز كلمة أو عبارة أو تعبير آخر، يمتلك مركّبًا من المعاني المترابطة. وبهذا المعنى، يُنظر إلى الرمز باعتباره يمتلك قيمًا تختلف عن قيم أيّ شيء يرمز إليه كائنًا ما كان” (فتحي، 1986، ص 878)، إلا أنّه أبعد من ذلك، فهو يأخذك من مضيق اللغة؛ ليربطك بما هو إنسانيّ، يبدأ من الإنسان في لحظة إبداع، ويستمرّ معه، يولّد المعاني عند مواجهته، فإذا نظرنا بدقّة إلى الرمز نرى: “الخيال هو الأداة الأولى للإبداع في الصورة الرمزيّة، فالنجاح في استخدامها يتعلّق أساسًا بالإيحاء ومقاربة الحقيقة من دون مناقشتها.

إنّ أهميّة توظيف الرمز لا تكون في مجرّد شحن الإشارات الرمزيّة، وعقد المقارنات، وإنّما يتمثّل الإبداع في توظيف دلالات الرمز للتعبير عن القيم والمشاعر الإنسانيّة الأصيلة” (أصلاني، 2011، ص 2). بهذا المعنى، يصبح الرمز حالة، تنقل الكلام من مستوى منطوق أو ظاهريّ إلى مستويات وجوديّة، لا تُعبِّر عن المعنى إلّا من خلال عيشه وانعكاسه على مستويات متعدّدة اعتقاديّة وأخلاقيّة…عند هذا المستوى، يصبح هو الأصل، وليس المعنى القابع فيه، فهو حتّى في ذهن مُلقيه أوسع ممّا أشار إليه، ولو كان قادرًا على التعبير عنه، لاستخدم اللغة العادية. كما أنّ الرمز – ولو كان واضحًا عند ملقيه – يأخذ معانيَ إضافية عند المتلقّي، وهذا ما أشار إليه ت.س. أليوت، عندما قال: “الرمز يقع على في المسافة بين المؤلّف والقارئ، لكن صلته بأحدهما ليست بالضرورة من نوع صلته بالآخر، إذ إنّ الرمز بالنسبة إلى الشاعر محاولة للتغيير، ولكنّه بالنسبة إلى المتلقّي مصدر إيحاء” (فتوح، 1984، ص 233).

ويبقى الرمز هو ذلك العجيب المحيّر الذي قد لا تتّسع صفحات مجلّة للوصول إلى نتيجة واضحة فيه، ويبقى الأمل في تقديم إسهامات حول الموضوع، وهذا ما كُنّا قد بدأنا به في العدد الماضي، وسنستكمله في هذا العدد.

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحتوي الباب الأوّل على ستّة أبحاث. في البحث الأوّل منها، يهدف حسين حسني درگاه وعبد الله راز في بحث “تحليل رؤية هنري كُربن في تأويل الرمز ودور الخيال الفعّال في فهم النصوص الحكميّة الإسلاميّة” إلى بيان رؤية كُربن في ما يرتبط بالرمز والترميز في النصوص الحكمية الإيرانيّة – الإسلاميّة، بنحو منسجم ومتكامل، مستفيدَيْن من المنهج التوصيفي – التحليلي، لإدراك معنى التأويل الكامن في المستوى الأفقي للنصّ، وصولًا إلى مستوى جديد من المرتبة الوجوديّة للمعارف.

وفي البحث الثاني، وعنوانه “الرمز في النصّ الصوفيّ والعرفانيّ”، عمد حسن خليل رضا إلى جعله ثلاثة أقسام: قارب في القسم الأوّل الرمز الصوفي والعرفاني في نسقه الدلالي، وتناول في الثاني تمثّلات الصوفية للرمز في النصّ الصوفي والعرفاني، وأمّا في القسم الثالث فتحدّث عن مسوّغات لوذ العارفين بالرمز في تكوين نصوصهم، ومنها: صون التجارب، واتّقاء الفقهاء، والالتزام بالأمر الإلهي.

وعالج غسّان تويني في بحثه “الرّمز في الشّعر المعاصر“، نصوصًا لثلاثة شعراء، هم: محمود درويش، ومحمّد علي شمس الدين، وكمال خير بك، وأوضح من خلالها كيف تستطيع الرموز، بما تحمل من محمولات دلاليّة، أن تسهم في إنتاج دلالات جديدة، لم تكن متوافرة فيها من قبل؟ وكيف تستطيع كذلك أن تشكّل مصدرًا معرفيًّا ثقافيًّا لرؤية الشاعر الشعريّة والمرحلة التي يعايشها، ليترك بذلك بصمة فريدة في نصّه، لا تشبهها أيّ بصمة أخرى؟

أمّا سكينة أبو حمدان فقد بيّنت في بحثها ” أهميّة تحديد السياق في الكشف عن الرمز الديني“، وكيف أنّه لا يمكن معرفة دلالة الرمز الحقيقيّة من دون تتبّع سياقاته المختلفة، من ظروف القائل والمتلقّي الثقافيّة والبيئيّة وغير ذلك؟ ورأت أنّ الرمز الديني هو لفظ لبس لبوس الدين، فلا يمكن فهمه خارج الإطار الذي حُدّد له، وقد أعطت نماذج من مثل الصراط، والميزان، وبعض أوصاف الجنة، لتدعيم الفكرة.

وفي البحث الخامس من ملف العدد، حاول ليون روزنشتاين بيان “بعض المشكلات الماورائيّة في الأشكال الرمزيّة عند كاسيرر”، مستعرضًا آراء كانط وهيغل اللَّذين ناقشهما من وجهة نظر كاسيرر، فعرض ما توصّلا إليه من فلسفة التفكير والأشكال، وما وافقهما عليه كاسيرر، وما خالفهما فيه، من خلال النماذج التي استعرضها الكاتب، مثل: الأسطورة، والفنّ، واللغة، والدين.

أمّا في البحث الأخير، فقد قدّمت زينب إسماعيل في بحثها “أنوثة الماء: الرمز والبحث عن الأصالة” مسحة تأويليّة لرمزيّة الماء في نصّ النبع لسديف حمادة وفق الإجراءات الأسلوبيّة والسيمائيّة، من خلال رصد بعض التكرارات الأسلوبيّة وسياقاتها النصّيّة، والعمل على رصد المعنى الخفيّ المرتبط بالإحالة المرجعيّة الثابتة خارج النصّ، والثاوية في طيّات المعاني، مستثمرة المرجعيّة الثقافيّة والدينيّة للشاعر، وتوافقها مع السياق الأسلوبيّ للنصّ.

وفي باب “حوارات”، يطرح الشيخ محمّد تقي السبحاني مدى استفادة العلوم الإنسانيّة من علم الكلام في مبحثين: تناول أحدهما تحديد إطار أصل قضيّة العلاقة بين هذين العلمين، أو بتعبير آخر مساعدة علم الكلام للعلوم الإنسانيّة، وأمّا المبحث الثاني فاهتمّ بطريقة تطبيقات هذا البحث، واسعرض قائمة من تفاصيل علم الكلام التي يمكن أن تؤثّر في الفروع والاتجاهات المختلفة للعلوم الإنسانيّة، وتؤثّر في موقف علم الكلام من سائر العلوم.

أمّا باب “بحوث ودراسات”، فقد احتوى ثلاثة أبحاث: الأوّل ليد الله يزدان پناه، بعنوان “إمكانيّة وصف التجارب الشهوديّة العرفانيّة”، وقد استعرض فيه الرأي القائل بإمكانيّة وصف المشاهدات العرفانيّة، بما لها أهميّة خاصّة في فلسفة العرفان، استنادًا إلى الساحات الثلاث: الحقيقة، والمعنى واللغة؛ حيث طرح بعض النصوص العرفانيّة التي تعزّز هذا الرأي.

والبحث الثاني لحسين أترك بعنوان “مسار تطوّر نظريّة الاعتدال في الأخلاق الإسلاميّة”، عرض فيها الكاتب مسار هذه النظريّة في اليونان القديمة وصولًا إلى الأخلاق الإسلاميّة وبعض ما يتعلّق بموضوع العدالة والنفس والعقل، وقاعدة الاعتدال في كلٍّ منها، وتأييد قاعدة الاعتدال بالآيات والروايات الإسلاميّة، وإضافة الفضائل الدينيّة إلى الفضائل الأخلاقية الفلسفيّة، وربط بحث سعادة الإنسان بالله والآخرة.

أمّا البحث الثالث فهو لزهراء عقيل، بعنوان “عقلانيّة هوبز: من إلزاميّة الفعل إلى حريّة الاختيار”. تناولت الكاتبة في ثلاثة فصول نظرة هوبز إلى الاجتماع البشريّ، والسلطة، وبناء الدولة، حيث يرى هوبز أنّ الأخلاق نسبيّة، وأنّ الفوضى هي التي تسبق القانون، وأنّ الحالة الطبيعيّة حافلة بالانقسامات والصراعات بصورة كامنة، وأنّ قانون الطبيعة مبدأ يصل إليه العقل، ويشكّل حالة من الإلزام من الداخل.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل، والممتع، والشاقّ.

المصادر والمراجع

أبو زيد، أحمد (1985). “الرمز والأسطورة والبناء الاجتماعي”، مجلة عالم الفكر (16/ 3). الكويت: وزارة الإعلام.

أصلاني، سردار ونصر الله شاملي، وعسكر علي كرمي (2011 / 1390 ه.ش). “الرمز والأسطورة والصورة الرمزيّة في ديوان إيليا أبو ماضي”. مجلّة الجمعيّة العلميّة الإيرانيّة للغة العربيّة وآدابها (21). طهران: اللجنة الإيرانيّة للغاة العربيّة وآدابها.

فتحي، إبراهيم (1986). معجم المصطلحات الأدبيّة. تونس: تعاضدية العمالية للطباعة والنشر.

فتوح، أحمد محمّد (1984). الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. القاهرة: دار المعارف.

افتتاحيّة العدد 37

افتتاحيّة العدد 37

لا تتأتّى أهميّة دراسة الرمز من الحروف التي يمكن أن يُصاغ منها، بل بما تمثّله من مدلولات، إن على الصعيد اللغويّ الشفهيّ والكتابيّ، أو على صعيد العلامات التي يشير إليها. وهو – أي الرمز -أي  أعمّ ممّا ذُكر كلّه؛ لأنّه يتّخذ شكلًا من أشكال التفكير التجريدي، ويرتبط بشكل مباشر بالمعنى الذي يحمله، سواءً كان هذا المعنى إشارة أم علامة أم شكلًا مكتوبًا أو ملفوظًا.

والرمز مفهوم اعتباريّ يصطلح عليه أهل علمٍ ما، فيستمدّ قوّته من التوافق والاصطلاح الحاصل بشأنه كالرموز الخاصّة بعلم الفيزياء والكيمياء والمنطق والرياضيّات.كما يرتبط مفهومه بعلم الفلسفة ارتباطًا وثيقًا كون الفلاسفة دأبوا على دراسة العلاقة بين الحقيقي والاعتباري، وبين المفهوم والمصداق، وبين اللغة والواقع، وبين صدق الشخصيّات الخياليّة في القصص والأساطير وزيفها. وهو أيضًا أعمّ من علم الدلالة الذي يدرس الرموز اللغويّة فقط، في حين أنّ الرموز تهتمّ بالمعاني، بغضّ النظر عن كونها لغويّة أم لا.

وله مصاديق عديدة: لغويّة، واجتماعيّة أنتربولوجيّة، ودينيّة، وفلسفيّة فكريّة، ولا يسع المقام أن نفصّل في كلٍّ منها. وقد استخدم القرآن الكريم الترميز في النواحي المذكورة جميعًا: في القصص الرمزيّة، كقصّة النبي يوسف (ع)، والخضر، وموسى (ع)، وغيرها، والتي يُراد للإنسان منها أن يفهم المغزى، كلّ بحسب قدرته وطاقته العقليّة، وفي الإشارة إلى صور الجنّة وجهنّم؛ وفي ترسيخ الرمز الاجتماعي الديني، والنموذج الذي يمكن للإنسان أن يتبعه، وكذلك في التركيز على مناحي التفكير التي يسلكها البشر.

وإذا ما عدنا إلى الإنسان الأوّل، ألفيناه قد استخدم الرموز؛ للدلالة على مسمّيات الأشياء، وهو ما توثّقه الصور التي وُجدت منقوشةً على الألواح، ومنها بدأ الإنسان لغته، معبّرًا عمّا يريد؛ لأنّ اللغة هي الوسيلة التي من خلالها يستطيع الإنسان أداء هذا الغرض، إذ يتواصل مع الآخرين، فيفصح عمّا يريد رسمًا أو كلامًا، ويفهم ما يريدون. ومن هنا، أشار العالم اللغوي دو سوسير (De Saussure)، في كتابه علم اللغة العامّ، إلى أنّ اللغة ظاهرة اجتماعيّة، ومجموعة من الرموز، وقد ميّز بين اللغة والكلام، وقوام الرمز عنده أمران: اللفظ أو الحرف بما هو دالّ ،(signifier) والمعنى بما هو مدلول (significant) (را: دوسوسير، 1985، ص 84 – 89).

فالغرض من نَظم الكلام ليس توالي الألفاظ والكلمات، بقدر ما هو تناسقها وانتظامها في جملٍ تؤدّي المعنى المراد منه. ولا سيّما “أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظٌ مجرّدةٌ، ولا من حيث هي كلمٌ مفردةٌ، وأنّ الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، ممّا لا تعلّق له بصريح اللفظ” (الجرجاني، 2005، ص 45).

ولاحقًا، اتُّخذ اللفظ الفصيح في اللغة هو اللفظ الذي ينضوي على أساليب البيان، وأكثره فصاحة هو ما كان على نحو غير صريح، ومباشر كالرمز، والاستعارة، والكناية، وغيرها من أساليب البلاغة؛ وقد عُدّ الرمز أبلغ الكلام؛ لكونه من الكناية التي تقلّ فيه الوسائط، أو تنعدم مع خفاء في اللزوم بين المستعمل فيه والأصل (طبانة، 1988، ص 261).

وفيه، ارتبط الرمز بالدلالة، وبالمراد منه، ارتباطًا وثيقًا، وقد يصبح الرمز في بعض الأحيان أكثر ظهورًا من اللفظ نفسه، فلا تبقى حاجة إلى الإشارة عمّا يدلّ، فحين تقول: “هذا الرجل أسد”، يفهم منها -من دون الحاجة إلى التفكير – أنّ المراد منه الشجاعة والبطولة. فاتخذ الرمز منحًى تجريديًّا، وأصبح وسيلة للتعبير عن المعنى الأقوى تارةً، وعمّا لا يمكن الإفصاح عنه تارةً أخرى، كما في المقاصد التي يحملها الشعر السياسي، والمعاني التي يُراد لها التستّر والخفاء وراء الرمز، إمّا لأهميّة ما يُقال، كالشعر الصوفي والعرفاني، فيومئ إلى التجربة إيماءً لقدسيّتها وفرادتها؛ وإمّا لفتح المجال واسعًا أمام المتلقّي لإعمال الفكر، كالحكايا الشعبيّة، والأساطير التي تعبّر عن هموم وجوديّة، وأسئلة فلسفيّة مصيريّة.

كما بدأ التحوّل الرمزي اللفظي من المذهب الأدبي إلى الدلالة الفلسفيّة مع بودلير في القرن التاسع عشر الميلادي في كتابه أزهار الشرّ (LES FLEURES DU MAL)، حين رسّخ مفهوم التجريد في الأفكار والتعبير عن الأحاسيس والمشاعر من دون تسميتها،  ونحت الرمزيّة بشكل متقنٍ أَوْضَح منحى تفسير الوجود، والخلق، والميتافيزيقا BAUDELAIRE, 1861))؛ (را: بودلير، لا ت).

وقد ميّز إرنست كاسيرر (Ernst Cassirer) الإنسان عن الحيوان بالقدرة على الترميز الذي يُعدّ – في رأيه – أعمّ من الذكاء والتفكير (كاسيرر، 1961، ص 66 و69)، وتحدّث عن فلسفة الأشكال الرمزيّة، ورأى أنّ وظيفة الرمز هي ربط فكرة واعية بفكرة أخرى (مخوخ، 2017، ص 232). وفرّق بين الإشارات والرموز، ووجدها تنتمي إلى عالمين مختلفين من عوالم الخطاب. فالإشارة جزء من عالم الوجود المادّي، وأمّا الرمز فجزء من عالَم المعنى الإنساني (ص 274).

فالرمز هو التعبير الذي يُراد منه إيصال الفكرة، أو إحداث نوع من التحوّل الفكري، من دون الإشارة التي لها كيان جامد فحسب. وهو أيضًا يستحوذ على المعنى، ويسيطر عليه، ويستمدّ قوّته من التوافق والاصطلاح الحاصل بفعل استخداماته المتكرّرة التي تثبّته في ذهن العامّة والخاصّة.

كما تعزّزت الرمزيّة symbolisme)) على صورة مذهب فلسفي غايته التستّر بالرمز والإشارة، من أجل التحلّل من القيم الدينيّة، والابتعاد عن عالم الواقع، والبحث عن عالم مثاليّ، يمكنه سدّ الفراغ المعنوي الذي عاشه بعض المفكّرين، وهو ما له جذور في نظرية المثل عند أفلاطون الذي أراد إيجاد نموذج كامل للتشبّه به، وهذا الأمر لم يكن عائقًا عند العرب، لوجود النموذج الكامل المعصوم المتمثّل بشخص النبي محمّد (ص)، في حين أنّ الغرب عاش، ويعيش نوعًا من فقدان هذا المثل.

ولا يسع المقام عرض آراء المفكّرين في موضوع الرمز من الناحية الأدبيّة واللغويّة والفلسفيّة، وقد ارتأت مجلّة المحجّة تخصيص ملف خاصّ من أعدادها يُعنى بموضوع الرمز وجدليّة العلاقة مع الفلسفة، ساعية إلى عرض مجموعة من الأبحاث حول الموضوع تعبّر عن آراء أصحابها، وتكون بمنزلة إطلالة على الموضوع، مرحّبة بمزيد من الدراسات حوله.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل ثمانية أبحاث: في البحث الأوّل منها، قدّم بحث “الرمز يفضي إلى التفكير” نظرة بول ريكور إلى مفهوم الرمز، وتحليله له، بناءً على نظرتين: الأولى اعتباره من صنف العلامات التي تنضوي على قصديّة مزدوجة:حرفيّة ومقدّسة، والثانية مجازيّة بلاغيّة أدبيّة، وهو بعيد عن مقصود الرمز في المنطق الرمزي الصوري، مقسّمًا فلسفة الرمز إلى ثلاث مراحل، هي: الظاهراتيّة، والتأويل، والرمز الذي يفضي في رأيه إلى التفكير والتفسير الخلّاق المبدع.

أمّا في البحث الثاني، عالج سمير خير الدين “مفهوم الرمز بين المنطق الأرسطيّ والمنطق الرمزيّ”، متوقّفًا عند الفروقات بين الرمز في المنطقين الأرسطي والرمزي. وقد عرض الباحث نماذج من استعمالات الرموز في المنطق الصوريّ، موضّحًا أنّ المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة فيه ممهّدة للمبادئ التصوّريّة والتصديقيّة في العلوم الإنسانيّة، بخلاف المنطق الرمزي الذي يتمحور حول الرمز، لا حول المفاهيم.

وأمّا البحث الثالث، فهو لأحمد ماجد، بعنوان “قراءة تأويليّة لحركيّة الرمز في قصّة سلامان وآبسال لابن سينا“، حيث استقرأ الباحث فيها البُعد العرفاني الرامي إلى ولوج عالم الروح والباطن واستنطق النصّ بغية إيجاد المعاني العميقة، والرموز الدلاليّة التي أرادها الكاتب. وحلّل الشخصيّات، وقارب الأحداث، وزمان تتابعها، ليصل إلى تحليل رمزي لعناصر القصّة، والمبدأ الذي أراده ابن سينا في نصّه.

وتحدّث حسين شمس الدين عن “المقاربة الفينومينولوجيّة لمفهوم الرمز” فعرض ثلاثة اتجاهات أساسيّة اهتمّت بتحليل الرموز في العلوم الإنسانيّة، وهي: الاتّجاه الوضعي المنطقي، ورائده رودولف كارناب، والظاهراتيّة اللغويّة، ورائدها إدموند هوسرل، وفلسفة اللغة العاديّة، ورائدها فتغنشتاين، ثمّ بيّن ارتباط الرمز بالبحث عن التجربة الدينيّة، عبر عرض التحليل الأنتربولوجي للعمارة الدينيّة، وعمارة المسجد بشكل خاصّ.

وعرض جمال زعيتر في بحثه “الشّجرة والإنسان رموزيّة تشابهات وتعالقات وتفاعلات” رمزيّة الشجرة بما جسّدته في الثقافات القديمة والحديثة. وعرّج على ما تمثّله فروع هذه الشجرة من أوراقها وأغصانها وجذوعها وثمرها، وما ترمز إليه في الأديان، حيث بدأ أصل الخلق في الجنَّة التي عاش الإنسان في نعيمها، حتّى أكل من شجرة المعرفة، ظنًّا منه أنّها شجرة الخلد، فكانت الشّجرة هي التي فضحته، وهي التي غطّته.  

كما قدّمت سعاد الحكيم في بحثها “عبد الوهّاب البياتي.. رموز وأقنعة” ما ابتدعه من رموز ودلالات ضمن عناوين أربعة؛ الرمز الصوفي والشعري، والإنسان البطل وأقنعته المتعدّدة، وبغداد وما يربطها بالحلّاج، وجبل قاسيّون وما يربطه بابن عربي.

أمّا ويلبِر م. أُربَن في بحثه “الرمزيّة مبدأً لاهوتيًّا“، فقد تناول الرمز في فلسفة الدين، متحدّثًا عن الصور الشعريّة في لغة الدين عمومًا، وعن الاختلاف الجذري بين اللغة الشعريّة واللغة الدينيّة، من أجل فهم العنصر الرمزيّ الكامن في الدين واللاهوت معًا، وذلك لأنّ لغة الدين تتناول الشيء في ذاته (noumenal)، ولغة الشعر تتناول الظواهريّ (phenomenal).

والبحث الثامن هو لزهرة الثابت، بعنوان “رمزيّتا الماء والنار في الأساطير والأديان”. عرضت فيه الباحثة معاني هذين العنصرين ودلالاتهما في حياة الشعوب عمومًا، وفي الحضارات القديمة، بدءًا بالفكر الإغريقي والمصري والسومري وصولًا إلى دلالتهما في الأساطير، وما تمثّله في النصوص الدينيّة المقدّسة خصوصًا.

وفي باب “حوارات”، حوار مع آية الله السيد يد الله يزدانپناه حول مدى تأثير العرفان الإسلامي في العلوم الإنسانيّة بوصفه منهجًا من مناهج الدراسات، إلى جانب المنهج الوصفي والمنهج التجريبي. ولأنّ الأنتربولوجيا تتعمّق في علم الإنسان اجتماعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا؛ فهي تتقاطع مع العرفان في كون موضوعه الرئيس أعظمَ مظاهر الحقّ تعالى وهو الإنسان الكامل. بدأ الحوار بعرض رأي العلّامة، ثمّ أجاب عن الأسئلة التي وُجّهت إليه حول المسألة.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه ثلاثة أبحاث: الأوّل لفاطمة آل يوسف حول “العلاقة بين لغة العرفان النظري وتطوّر مسائله عند البسطامي والجنيد والحلاّج”، بيّنت فيه أنّ مسائل العرفان النظري التي تتمثّل في حقيقة التوحيد والموحّد قد تطوّرت وتكاملت بتعاضد ثلاث لغات، أو ثلاثة فضاءات فكريّة وروحيّة، هي: لغة البسطامي التي تمثلّت في بيانه حالات الفناء، ولغة الجنيد التي تمركزت على الشريعة، ولغة الحلاّج التي أثارت انتباه الناس إلى الحبّ الإلهي.

أمّا البحث الثاني، فهو لنادر البزري، بعنوان: “مُقَدِّمات في فَلسَفَة جَماليّات الفَنّ”، حيث استهلّ بحثه بتعريف ماهيّة الجَماليّات، ثمّ عرض بعض المقدّمات الفلسفيّة التي توضح بعض العلاقة بين جماليّات الفنون والذوق الفنّيّ، من علم النفس التجريبي، والنظريّات الأخلاقيّة، إلى الجماليّات الفلسفيّة.

والبحث الأخير هو لمحمّد شيا، تناول فيه “تأصيل الفنّ وتحريره في نظريّة كانط الجماليّة”، معتمدًا على كتاب رئيس لكانط هو نقد الحاكمة أو نقد ملكة الحكم (1790)، ومستفيدًا من الترجمة الإنكليزيّة للكتاب critique of judgment.Tr. By J.c Meredith، في محاولة لاستكمال الثلاثيّة الكانطية في المعرفة والأخلاق والوجدان.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل، والممتع، والشاقّ.

فلسفة اللغة والتأويل معنى المعنى، وفهم الفهم

تحميل البحث: فلسفة اللغة والتأويل

نتيجة تطورات خاصّة داخل نطاقَي فلسفة اللغة وفلسفة التأويل، باتَ المعنى، في سياق الفهم الفلسفيّ، حالةً قيميةً ومعياريةً ضابطةً لحركة اللغة في مختلف اتجاهاتها وحيثياتها، وباتَ فهمُ الفهم، بما هو موضوعُ التأويل الفلسفي، حالةَ مراجعة دائمة متلائمة مع حركة وسيولة المعنى، ورافضة للمنهج المؤدلج والمُشبع بإسقاطات صاحبه. على إثر التحوُّلين، ونتيجةً لاجتماع الفلسفتين على خلفية فلسفية واحدة، انبثقت فلسفة اللغة والتأويل كمحاولةٍ متقدّمة للربط بين الفهم والمعنى، فيما يعِدُ باستبدال الفلسفة التقليدية.

Due to special internal developments inherent to the fields of philosophy of language and philosophy of hermeneutics, the meaning became, in the context of philosophicalinterpretation, a criterion of axiological nature determining the movement of language in all its directions. The understanding of understanding, being the subject of philosophical interpretation, became a continuous state of revision suited to the flux of meaning and opposed to the method, replete with ideology and preconceptions. As per the two changes, and due to the combination of the two philosophies on the basis of one background, the philosophy of language and interpretation came to the fore as an advanced attempt to connect meaning to understanding, in what promises to replace traditional philosophy.