تحميل البحث: الافتتاحية
ما هي المبررات الموضوعية التي تدفع إلى البحث عن علاقة مفترضة بين الدين والفن والتصوّف؟ وكيف يمكن التعامل منهجيًّا مع هذه المجالات والنظر إليها وفق مقاييس ىلية واحدة أو متقاربة رغم ما قد يبدو بينها من تغاير وتباين؟ ثمّ ما الذي يمكن أن يترتّب معرفيًّا على مثل هذا الخوض المنهجي في هذه المجالات ووضعها في خانة بحثيّة مشتركة مع اختلاف الفضاء المعرفي والموضوعي الذي يتكامل وينفعل فيه كلّ واحد منها؟
بدايةً، لا بدّ من القول: إنّ الإجابة على الأسئلة المشار إليها تفترض مسبقًا تحديد ماهويات كلّ ضلع من أضلاع ثلاثيّة الدين والفنّ والتصوّف انطلاقًا من الفهم السائد والمألوف إزاءها بعيدًا عن الرؤى الخاصّة والتصوّرات الاجتهاديّة. إذ في هذه الحال، يبدو العمل على مقاربة مكوّنات ومحدّدات هذه الثلاثيّة – وتحديدًا من جهة الموضوع والمنهج والمعرفة – جهدًا مبرّرًا وضروريًّا، انطلاقًا من البحث في الترابط الماهوي بين اضلاعها وصولًا إلى الدور المشترك – فيما إذا كان متوفرًا – الموكل إليها بلحاظ الوظيفة والغاية.
ورغم ما تستبطنه من أهمية فائقة، دراسة كل من الدين والفن والتصوّف – بنحو يدرس فيه كل واحد بمعزل عن الآخر – وما تنطوي عليه من تأثير على تفكير الإنسان وسلوكياته، فإنّ الأهميّة – بحسب ما نرى – تبدو مضاعفة وأكثر إلحاحًا إذا ما تمّت دراسة هذه المجالات ومعالجتها على أساس ضمّها إلى بعضها البعض والبحث عن مبادئها وغاياتها المشتركة، والتثبّت فيما إذا كان ثمّة اتساق وانسجام يجمع بينها، وبالتالي النظر في مدى إمكانية انتزاع رؤية مشتركة تفسح في المجال أمام اندراج الدين والفن والتصوّف في منظومة وجوديّة واحدة تتطابق أبعادها المعرفية والغائيّة رغم اختلافها في التعبيرات والطرائق والتجلّيات.
بناءً على ما تقدّم، نحاول فيما يلي إجراء مقاربة سريعة وأولية للإطار العام الذي يجمع بين الدين والفن والتصوّف، وذلك انطلاقًا من طبيعة العلاقة التي تربط بين هذه الأمور الثلاثة من جهة الموضع، المنهج، المعرفة، حيث سينكشف أمامنا، نتيجة ذلك، عمق الترابط – وربما التطابق – الكلّي، الموضوعي والمنهجي والمعرفي، رغم التغاير بينها في التفاصيل والجزئيّات.
أوّلًا: في الموضوع:
ثمّة تشابه في العلاقة بين الدين والفن والتصوّف من جهة الموضع، بنحو يصحّ القول معه: إنّ العلاقة بين هذه الثلاثيّة تقوم على وحدة في الجوهر مستمدة من الوحدة في الموضوع.
موضوع الدين: الله الواحد هو الموضوع الذي تتمحور حوله كافة المسائل الدينيّة، غذ لا يمكن الوقوف على قضية دينية من دون أن تكون على صلة، بنحو ما، بالألوهية، وبالتالي فإنّ الأديان تهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان وتعريفه على الخالق وهدايته إلى الطرق التي تؤدي به إلى طاعة الله من حيث هو – الإنسان – مخاطب الوحي الإلهي.
موضوع الفن: أما الفن فموضوعه هو الجمال، وتحديدًا، هو الجمال المطلق الذي منه يستمدّ كلّ جمال وجوده، فيسعى الفنان، من خلال ملكاته الإنسانية الكامنة فيه، إلى البحث عن تجليات محدودة للجمال اللامتناهي الذي يتمثّل ويحضر في الشياء، ومن ثم التشبّه به عن طريق إعادة إبداع محدود لتجليات الجمال المطلق الذي يكون الله تعالى مصداقه ومصدره في آن، بحيث يقف الفنان، بحسب المفترض، في نهاية الأمر على وحدة الجمالية الكونية.
موضوع التصوّف: كذلك الأمر في التصوّف إذ موضوعه هو الوجود الأحدي المطلق الذي لا وجود لسواه، وكلّ عمل الصوفي إنّما يهدف إلى الوصول إلى هذا الوجود والتوحّد به التخلّي عن كل الموجودات الظلّية الموهومة حيث تنعدم الفاصلة بين السالك بما هو إنسان محدود والمقصد المطلق الوجود والكمال، وبذلك تتحقّق السعادة للصوفي.
على هذا، يبدو واضحًا أنّ الموضوع الذي يشكّل محور تلاقٍ جوهري بين الدين والفن والتصوّف إنّما هو واحد لا اختلاف فيه، ولكن يعبر عنه بتعبيرات مختلفة وينظر غليه من حيثيّات متعدّدة؛ وهذا الموضوع هو الله تعالى من حيث وجدانيّته وإطلاقه وجماله.
هذا مع ضرورة ملاحظة تلاقي الإنسان (في هذه الأطر الثلاث) بما هو ذات جامحة نحو موضوعها الواحد، عند هدفية الوصول إلى الله وملاقاته، مع اختلاف في طرق الكدح المؤدّية إلى ذلك وتباين مستوياتها.
ثانيًا: في المنهج
رغم التباين المنهجي في مجالات الدين والفن والتصوّف إذ لكل مجال طريقته المنهجيّة المعتمدة في سبيل الوصول إلى المطلوب، إلّا أنّ ذلك لا يمنع البتة من التعامل مه هذه المجالات وفق رؤية منهجية موحدة بمعزلعن المنهج المتبع في كل واحد منها.. فهناك فرق بين العمل المنهجي الموحّد على الدين والفن والتصوّف والعمل المنهجي المتبع في كلّ دائرة من هذه الدوائر…
من هنا، يمكن مقاربة هذه الدوائر على خلفية منهجية موحدة انطلاقًا من رؤية فلسفيّة.. إذ النظر إلى أمرين متباينين وفق منهجية فلسفيّة من شأنه تحديد مدى التقارب في الكلّيات والغايات والموضوعات والمباني والمفاهيم والعلل من دون الاستغراق في التفاصيل والجزئيّات والمصاديق التي هي محل تباين في كلّ حال.
وعليه، فإنّ ثمة إمكانية لتشكيل دائرة بحثية واحدة تشتمل على الدين والفن والتصوّف ويمكن تناولها بمنهجية فلسفية موحدة، يصار من خلالها إلى البحث حول فلسفة الدين وفلسفة الفن وفلسفة التصوّف، وصولًا غلى رؤية كلية يتحدّد معها التماهي في المبادئ والمقاصد والغايات والماورائيات.
وهنا، تجدر الإشارة، إلى أنّ البعد الفلسفي في هذه الثلاثية يمثل بعدًا حاضرًا في كافة جوانبها ومتلبسًا في هويتها ومحايثًا لمكوناتها من دون أن يكون منفصلًا عنها أو مغايرًا لها من خلال اصطفافه إلى جانبها كبعد رابع قائم بذاته.
ثالثًا: في المعرفة:
يمكن مقاربة المسألة المعرفية في هذه الثلاثية انطلاقًا من المنابع المعرفية التي تشكل منهلًا في المعرفة لكل من الدين والفن والتصوّف، وبالتالي النظر في مدى التقارب في المعطيات المعرفية على أساس التقارب معرفيًّا في المنابع والمصادر.
المعرفة الدينيّة: رغم تعدّد مصادر المعرفة الدينيّة (عقل، وحي، حسّ..) إلا أنّه لا خلاف في أنّ الفطرة تشكل منبعًا أساسيًّا في هذه المعرفة، فالفطرة السليمة تفضي إلى التدين والدين السليم يحاكي الفطرة (أقم وجهك للدين حنيفًا فطرة..).
المعرفة في الفن: يعتبر الإلهام شرطًا أساسيًّا ولازمًا في المعرفة الفنيّة ومنجزاتها. والهام هنا، وإن حاول البعض تمييزه عن الفطرة، فهو في كلّ الأحوال هبة غلهيّة يعطيها الله لبعض عباده، وتكون الفطرة محلها ومتعلقها، إذ الإلهام ملكة فطرية تنمو بالتجربة والممارسة، غلا أنّ التجربة ليست مصدرًا لها أو علة.
المعرفة الصوفية: أمّا منبع المعرفة عند المتصوّف فهو الفطرة ولا شيء غيرها، وفي الأساس إن حركة السالك تهدف أساسًا ىإلى العودة إلى الفطرة وإزالة ما يعلق بها من رواسب وكدورات.. وإن كلن للفطرة عند المتصوف تعبيرات عديدة (الحدس المعرفي، النور، الكشف المعرفي، المعرفة المباشرة..) إلا ان الفطرة تشكل مرجعًا أو منشأ لكل هذه التعبيرات.
وبالعموم يمكن القول: لا معرفة عرفانية وصوفية من دون التمسك بالفطرة السليمة…
وإذا كان التلاقي في منابع المعرفة بين الدين والفن والتصوف يكاد يبلغ هذا المبلغ من التوحّد، فليس من المستغرب أن تكون المفضيات والمترتبات المعرفية الناتجة عن كل ذلك واحدة أيضًا، رغم الاختلاف في التجليات والتعبيرات؛ فالمعرفة الدينيّة تقوم على معرفة الإله الواحد وطاعته، والمعرفة الصوفية تنشد الوصول إلى الوجود المطلق (الله) والتوحد به، كما إن المعرفة في الفن تتطلع إلى الكشف عن الجمال المطلق والواحد والاتصال به والتشبه بجماله.
وخلاصة ما تقدم أن العلاقة بين الدين والفن والتصوف إنما هي علاقة مشتركة بين الإنسان بسلوكياته وفعالياته المختلفة وبين المطلق الواحد بتجلياته المتعدّدة، حيث إن المقصد النهائي لهذه العلاقة رفع النقص لدى الإنسان، وبلوغه الكمال، وحصوله على السعادة.
ونحن في مجلة المحجة إذ نفرد محور هذا العدد للعلاقة بين الدين والفن والتصوف، فإنما نهدف من وراء ذلك إلى مقاربة رؤية تأسيسيّة نستطيع من خلالها التعامل مع هذه المجالات من منظور فلسفي، وصولًا إلى تحديد مكامن الالتقاء في المبادئ والغايات والوظائف، من دون أن يعني ذلك، الادعاء بأن موضوعات المحور تفي بالغرض وتؤدي إلى المطلوب كله، بل هي مجرد خطوة تحتاج إلى خطوات عديدة شاقة وصعبة، وهي رهن بجهود الباحثين والمتخصصين… والله من وراء المقصد.