تحميل البحث: افتتاحية العدد 35
يُعدّ مبحث الجعل من المباحث الفلسفية التي تتعلّق بمسألة صدور الموجودات عن الواجب بالذات وطبيعة هذا الصدور، والذي أخذ مداه في الوقت الحاضر مع صدر الدين الشيرازي القائل بأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.
والجعل، وهو لغةً الصنع والتصيير والإيجاد والخلق والإنشاء والتبديل والشروع والعمل والتهييئ والاعتقاد والتبيين[1]، فعل أعمّ من ذلك كلّه، فهو يفيد على المستوى الفلسفي الإيجاد والفاعليّة. والجاعل هو العلّة الفاعليّة، أي مفيض الوجود على المعلول وبها يُعرف، يقول الملا صدرا في تعريفه لها: “إذ الحكماء عرفوا العلّة الفاعلة بما يؤثّر في شيء مغاير للفاعل، فتقدّم ذات الفاعل على ذات المعلول تقدّم بالعلّيّة”[2].
إذًا، فالجعل، وهو إيجاد علّة لمعلول، موضوع اختلاف بين الفلاسفة يرتبط بطبيعة المجعول، أي متعلَّق الجعل، هل هو الوجود أم الماهية؟ وهنا أقرّت الفلسفة الصدرائية بأصالة الوجود، وكون حقيقة الوجود واحدة مشكّكة، وأنّ ما يوجد في الخارج تكون له واقعيّة وترتّب آثار، فيقول: “كلّ ما يرتسم من الوجود في النفس وتعرض له الكلّيّة والعموم فهو ليس حقيقة الوجود، بل وجهًا من وجوهه وحيثيّة من حيثيّاته وعنوانًا من عناوينه، فليس عموم ما ارتسم من الوجود في النفس بالنسبة إلى الوجودات عموم معنى الجنس، بل عموم أمر لازم اعتباري انتزاعي كالشيئيّة للأشياء الخاصّة من الماهيّات المتحصّلة المتخالفة المعاني”[3].
فحقيقة الوجود لا تعني الكثرة المتباينة، والاختلاف في الموجودات هو من قبيل الشدّة والضعف، والكمال والنقص، والتقدّم والتأخّر، والعلوّ والدنوّ، والكثرة ما هي إلا تجلّيات الوحدة، وهذا ما يقصده الشيرازي في موضوع التشكيك؛ فالوجود حقيقته واحدة أصيلة، وإن كانت مراتبه مختلفة ومتعدّدة ومتمايزة.
ولأنّ الجعل هو شكل من أشكال الاعتباريات، كما كل الأمور الوضعيّة، ارتأت مجلّة المحجة الجمع بين هذين العنوانين بملف واحد لهذا العدد، وخصّصت الجعل عند صدر الدين الشيرازي، والاعتباريّات عند العلّامة الطبطبائي، والذي يعدّ من المباحث المتميّزة التي تفرّد في طرحها، وأضافها إلى الفلسفة الإسلاميّة.
فالاعتبار هو أمر معنوي ليس له وجود خارجي محسوس، والأمر الاعتباري هو الأمر المبنيّ على الفرض[4].
كما لا يخفى إسهام العلامة الطبطبائي الكبير في عرض نظرية الاعتباريات حيث أفرد له بحثًا أسماه رسالة الاعتباريات ذكر فيه حقيقة الاعتبار وجهة الحاجة إليه. ثمّ عرّف الاعتباريات عن طريق المقارنة بينها وبين الأمور الحقيقيّة، فيقول:” إنّ الإدراكات الحقيقيّة تمثّل ما ينعكس في الذهن وما يكتنفه الواقع ونفس الأمر. أمّا الإدراكات الاعتباريّة فهي عبارة عن فروض يصطنعها الذهن البشري، بغية سدّ حاجات الإنسان الحياتيّة، فهي ذات طابع فرضي جعلي واعتباري ووضعي، وليس له علاقة بالواقع ونفس الأمر”[5].
هذا التعريف الذي أدرجه الطبطبائي إنّما يشير إلى أنّ الاعتباريات هي نوع من التعمّل الذهني لا وجود خارجي له بنفسه بل بما يدلّ عليه، وهي تتلوّن وتتغيّر تبعًا للحاجات والظروف لسدّ الحاجات الضروريّة، والتي منها: اللغة، الأخلاق، علم الأصول للتوصّل إلى القاعدة الفقهية موضوع الابتلاء وغيرها.
فالاعتباري في العلم الحصولي هو ما كان في مقابل الحقيقي. “والحقيقي: هو المفهوم الذي يوجد تارة بوجود خارجي فيترتب عليه آثاره، وتارة بوجود ذهني لا تترتب عليه آثاره، وهذا هو “الماهية”. والاعتباري: ما كان بخلاف ذلك، وهو إما من المفاهيم التي حيثية مصداقها حيثية أنه في الخارج، كالوجود وصفاته الحقيقية كالوحدة والفعلية وغيرهما، فلا يدخل الذهن، وإلا لانقلب، وإما من المفاهيم التي حيثية مصداقها حيثية أنه في الذهن، كمفهوم الكلي والجنس والنوع، فلا يوجد في الخارج، وإلا لانقلب. وهذه المفاهيم إنما يعملها الذهن بنوع من التعمل، ويوقعها على مصاديقها، لكن لا كوقوع الماهية وحملها على أفرادها، بحيث تؤخذ في حدها”[6].
وينسحب مبحث الاعتباريات في كلّ العلوم الوضعيّة – كما ذكرنا سابقًا – فبحث علماء المعاني والبيان الاعتباريات في اللغة في باب الاستعارة والتشبيه، والذي هو تمثيل منطقي، وعملية بل تطبيق عقليّ في مجال الحسّيات والخياليات والوهميّات. والاستعارة أسلوب أقوى في الفرض والاعتبار لأّنه ينقل من المعنى الحقيقي إلى المعنى الاعتباري والمجازي دون توسّط. وبحثها علماء الأصول في علم الأصول في باب التشريع في المعاملات مثلًا كالملكيّة والإجازة وغير ذلك.
ثمّ كان لنظرية الاعتبار مكانتها في فلسفة الأخلاق والإشكال الحاصل بين نسبيّتها أو ذاتيّتها، وقد تطرّق إليه العلامة الطبطبائي في باب الحسن والقبح في موارد الملاءمة وعدم الملاءمة مع الطباع الأخلاقية والنفس البشريّة، وهي من اعتبارات ما قبل الاجتماع العامّة.
فالإنسان هو موجود مختار، وأفعاله وحركاته وسكناته تصدر عن إرادة واختيار، ولكي يقوم بفعل ما لا بدّ من وجوب نسبة ضرورية ما بينه وبين الفعل، فلكي يأكل يجد نسبة الضرورة بين نفسه وإحساسه الداخلي بالشبع وقت الجوع، فكلّ “إنسان أو كائن حيّ يبني مجموعة إدراكات وعلوم، تتوسّط بين قواه الفعّالة وحركاته الحقيقيّة وأفعاله الاختياريّة”[7].
عطفًا على ما قُدّم، فإنّ بحث الجعل عند صدر الدين الشيرازي والاعتباريات عند الطبطبائي بحث مستفيض يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل لا يسع مقام التقديم لذلك، متروك لأمر الأبحاث التي عُرضت في العدد.
مع العدد 35
تندرج أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب؛ أوّلها ملف العدد المعنون بـ”الجعل والاعتبار”، وثانيها هو باب حوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.
يحوي الباب الأوّل أربعة أبحاث؛ في الأوّل يعرض محمّد صادق لاريجاني في بحثه “الاستدلال في الاعتباريّات” ثلاثة أقسام؛ طرح أوّلًا موضوع الارتباط بين الحقائق والاعتباريّات الذي هو من ابتكارات العلّامة الطبطبائي، وتعليقات واستدلالات الشهيد مطهّري عليها. وفي القسم الثاني والثالث عرض دعوى خلط الحقيقة والاعتبار في استدلالات المتكلّمين ثمّ الأصوليّين، والنقود التي قُدّمت عليها والإجابة عنها.
كما ويطرح إحسان تركاشوند و أکبر ميرسپاه في البحث الثاني تفسيرًا جديدًا لاعتبارات العلّامة الطبطبائي لا سيّما في الأمور الأخلاقيّة؛ فبعد تقديم تعريفات لما ينبغي وما لا ينبغي والحسن والقبح وخصائص كلٍّ منهما، تعرّض للإشكالات والشبهات المرتبطة بذلك وفق النظريّة النسبيّة الأخلاقيّة والإجابة عنها وتحقيقها ضمن نظرة مقارنة على رسالة الاعتباريّات وكتاب الميزان في تفسير القرآن للعلّامة.
أمّا علي عابدي الشاهرودي في بحثه “نظريّة الاعتباريّات – شرح ونقد –”، فبدأ في المجال اللغوي ففصّل في الاستعارة من وجهة نظر السكّاكي بما هي قضيّة اعتباريّة وما يخدم ذلك في الاعتبارات الفلسفيّة والكلاميّة وما بعد الطبيعة وعلم أصول الفقه، ليصل بعد ذلك إلى تقييم نظريّة العلّامة الطبطبائي في الاعتبارات وخاصّة في الحسن والقبح العقليّين.
والبحث الرابع هو لعبد المالك بنعثو “الجعل في فلسفة صدر الدين الشيرازي” حيث عرض الكاتب فيه معنى الجعل عند الملّا صدرا، وبيّن الاختلاف في معناه ومبناه بين الفلاسفة لا سيّما في المدرستين المشّائيّة والإشراقيّة، وربط هذا المعنى بمبدأ أصالة الوجود وحقيقته الواحدة المسانخة للموجود.
وفي باب “حوارات”، حوار مع الشيخ غلام رضا فيّاضي حول دائرة إمكان الاستفادة من الفلسفة الإسلاميّة في العلوم الإنسانيّة كون الهدف من الأولى معرفة الإنسان نفسه، وأنّه عين الفقر والحاجة إلى الله تعالى. بدأ الحوار بعرض رأي العلّامة، ثمّ أجاب عن الأسئلة التي وُجّهت إليه حول المسألة.
أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه بحثان. الأوّل لعبد الجواد عبد الرزاق الحسيني، تحدّث فيه عن فلسفة الشيخ الزنجاني الذي تبنّى نظريّة الحركة الجوهريّة التي كان رائدها صدر الدين الشيرازاي. وبعد عرض عام لحياة الشيخ الزنجاني ومنحاه الفلسفي، فصّل الكاتب في أدلّته على أصالة الوجود تحقّقًا وجعلًا، وأبرز ما توصّل إليه من أدلّة في المعاد الجسماني.
والبحث الثاني لسمير خير الدين حول العقل ومرجعيّته في العلوم الدينيّة. عرّف الكاتب العقل في النصوص الدينيّة وفي اللغة والروايات، وبيّن دخالة العقل وحضوره في العلوم الدينيّة والدنيويّة. ففي الأولى، يشكّل العقل دورًا محوريًّا في الكشف عن حقّانيّة الدين، وفي الثانية حاضرٌ في العلوم الاعتباريّة لجهة التحليل المنطقي لإثباتها.
[1] للمزيد، انظر، ابن منظور، لسان العرب (قم: نشر أدب حوزة، 1405 هـ)، الجزء 11، الصفحتان 111 و112.
[2] صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1999)، الجزء 3، الصفحة 257.
[3] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحتان 37 و38.
[4] معجم المعاني، مادة “اعتبار”.
[5] العلّامة الطبطبائي، مجموعة رسائل العلّامة الطبطبائي، تحقيق الشيخ صباح الربيعي، الطبعة 1 (قم: مكتبة فدك لإحياء التراث، 2007 م)، الصفحة 344.
[6] العلّامة الطبطبائي، بداية الحكمة (قم: مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، 1418 هـ)، الصفحة 187.
[7] العلامة الطبطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تقديم وتعليق مرتضى مطهري، ترجمة عمار أبو رغيف (المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع، 1418 هـ)، الجزء 1، الصفحة 569.