افتتاحيّة العدد
تتنوّع طرق التفكير تبعًا لشكل وأسلوب المشكلة الفكريّة المطروحة سعيًا لحلّها. كما يُعرّف علم المنهج (Methodology) بأنّه مجموع الخطوات التي يقوم بها الباحث للوصول إلى الحقيقة.
وإذا كانت طريقة التفكير تتبع اطرادًا أسلوب الباحث في التنقيب عن الحلّ وجمع المعلومات وقراءة الأحداث، فهي بالتالي تتنوّع بتعدّد الباحثين وتعدّد المشكلات. فيبرز حينئذٍ دور المنهج جليًّا في استخلاص النتائج لأنّ الخطوة تلو الخطوة مسيرٌ محدّد يبتني على مجموع المطالعات والمعلومات التي يستقيها الباحث في رحلة كشفه عن مبتغاه.
ويمكن القول حينها إنّ المنهج هو خارطة طريق أو خطّة عمل قائمة على أهداف معيّنة تتطلّب خطوات وأدوات متناسبة مع هذه الأهداف التي قد تتغاير بين باحث وآخر. هذه المغايرة تفتح المجال واسعًا لتأويلات متعدّدة تفضي إلى نتائج متعدّدة أيضًا تغني الآفاق العلميّة والبحثيّة.
ولا يخفى أنّ كلّ باحث هو وليد بيئة ومنظومة فكريّة خاصّة تدفعه نحو نظامٍ خاصّ من التفكير لحلّ إشكاليّة ما. هذا النظام له أثره ودوره في الإنتاج العلمي، إلّا أنّ ذلك لا يمكن أن يكون على نحو من العشوائيّة والمزاجيّة؛ فالمنهج السليم يتناسب مع الموضوع المقروء لكي يكون البحث منتجًا يوصل إلى نتائج سليمة ومقبولة في الوسط العلمي.
والحديث عن منهجيّات تفكير في قراءة وفهم الإسلام عند علماء مسلمين هو حديث عن تأويلات خاصّة وقراءات أيديولوجيّة يُفترض أنّها تعتمد مصادر مشتركة سيّما القرآن الكريم. فما الذي يختلف في قراءة الإسلام عند مسلمين؟
إنّ اعتماد المصادر نفسها في جمع المعلومات لا يؤدّي بالضرورة إلى النتائج نفسها، وخصوصًا إذا كانت الآليّات والأدوات وطريقة الاستدلال مختلفة، وهذا لا يعني أيضًا التباين الحادّ والاختلاف الشديد.
وإنّ ميزة المفكّر والباحث الإسلامي في الفقه والاجتهاد والدولة والاجتماع والأخلاق والنظرة إلى الآخر لا سيّما الغرب وغير ذلك، أنّه ينظر إلى ما يبحث عنه كوسيلة للوصول إلى الله. فالغاية القصوى ممّا يريده هو التكامل الإنساني، وإن اختلفت الأساليب وتعدّدت، أو كانت صائبة في نتائجها أم لا.
وقد أخذ معهد المعارف الحكميّة على عاتقه كمركز بحثي عرض هذه الآراء والأفكار دون أن يكون قد تبنّاها جميعها، مساهمةً منه في مجال البحث العلمي الموضوعي. فجاء هذا العدد من مجلّة المحجّة عددًا خاصًّا يقدّم حصيلة ما طرحه باحثون من منهجيّات تفكير بهذا الخصوص.
مع العدد
تبتني أبحاث هذا العدد على ندوة تخصّصيّة أقامها معهد المعارف الحكميّة في شهر آذار 2019 بعنوان “مناهج البحث عند مفكّري الإسلام المعاصر”، شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين قدّموا قراءاتهم حول شخصيّات متعدّدة من العالـمَين العربي والإسلامي في فهم الإسلام، اخترنا في هذا العدد عشر أبحاث لم تخضع لآليّة معيّنة في اختيار نشرها على أن ينشر ما تبقّى منها في عدد يحدّد لاحقًا.
قدّم سمير زيدان قراءة جديدة في منهجيّة البحث عند الشيخ محمّد رشيد رضا، فاستعرض أسلوبه الحواري في مجلّة المنار الذي يقوم على جدليّة العينيّة والغيريّة، وعرض قراءة موضوعيّة للواقع والاحتكام إلى العقل ومجاوزة الأسلوب التناظري بمنهجيّة الاستنبات الثقافي والتأسيس المقاصدي.
وحملت الورقة البحثيّة الثانية لمحمّد علّوش عنوان “قراءة في فكر راشد الغنوشي” الذي وجد في الدولة مفهومًا أبعد من الهويّة الدينيّة لتصبح جهازًا إداريًّا محايدًا، وأنّ الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطيّة، والتقى مع طروحات فصل الدين عن الدولة، وإبعادها عن التوظيف الديني.
وقرأ أحمد ماجد في الرؤية والمنهج عند جمال الدين الأفغاني الذي حمل مهمّة تقويم الوعي السياسي من وجهة النظر الإسلاميّة، وقدّم تسويغات لمشروحه الإصلاحيّ الجهادي الذي لم يكن سوى انعاس لرؤيته الفلسفيّة المبتنية على الجدليّة بين النصّ والواقع وتعليق الأحكام والتفسيرات المسبقة للآيات والتأويل.
وفي آفاق التعدّد المنهجي في منظومة العقل الوحياني عند العلّامة عبد الله الجوادي الآملي، قرأ كمال لزّيق ارتباط العقل الوحياني بنظريّتي الوجود والمعرفة القائمة على التعدّد والغنى حيث لا ينحصر الوجود في عالم الحسّ والتجربة، بل يتعدّاه إلى عوالم أخرى كالعقل والقلب اللَّذين يستهديان بالوحي.
أمّا عن المنهج الفكري للسيّد محمّد حسين فضل الله في فهم الإسلام، فيشير جعفر فضل الله أنّ ما يمتاز به (رحمة الله عليه) منهجيّته داخل النظام الاستدلالي المعروف؛ فهو لم يشذّ عن أركان الاجتهاد السائد، إلّا أنّه قدّم تعديلات خلق من خلالها حوارًا مشتركًا بين أتباع المدرسة السائدة ومدرسته الفكريّة.
ثمّ عرض حسن رضا بحثه “منهجيّة مالك بن نبي في قراءة الإسلام”، حيث شكّل النصّ القرآني ركيزة بنيويّة، نهل مصاديقها من منجزات الفكر الشرقي والغربي، محاولًا تقديم مقاربات جديدة في فهم الإسلام، وحرصًا على بعث نهضة حضاريّة عربيّة وإسلاميّة محدثة.
وفي بحثٍ لعبد الله جرادي في منهج قراءة إسماعيل الفاروقي للإسلام، ذكر الباحث أنّ الفاروقي كان جزءًا من تيّار دعا إلى أسلمة المعرفة عبر تغيير آليّات التعامل مع العلوم وضرورة إعادة النظر بها. فقدّم لرؤيته مسوّغات منها أنّ ما أنتجه الغرب من العلوم تناسب واقعه ومجتمعاته.
كما وصف محمود حيدر سيّد حسين نصر في بحثه بالمستغرب المحفوظ بأصله الذي سعى لتظهير روح الإسلام وعرضها على العقل المؤسّس لحداثة الغرب المعاصر عبر منهجيّة مركّبة تقوم على التعرّف إلى المجتعات الغربيّة ونقدها من أجل تأسيس فهم عميق للعلاقة بين الدين والطبيعة وربط الوحي بالتراث الإسلامي.
كما قرأ علي فضل الله خصائص المدرسة الفكريّة عند السيّد محمّد باقر الصدر التي تتميّز بالتأصيل النظري، والإبداع والتجديد، والجمع بين المنهج المنطقي والنزعة الوجدانيّة، وبين المنهج العقلي الاستقرائي العلمي والمنهج التاريخي والنقدي، وغيرها من الممّيزات.
ثمّ عرض سمير خير الدين في البحث الأخير منهج العلّامة الطبطبائي في قراءة الإسلام المتوقّف على المراد من الإسلام نفسه المكوّن من الاعتقادات والأخلاق والعمل. فقد استند العلّامة على مبدأ التوحيد وفهم الواقع وسيرورة العالم نحو الغائيّة، أي الكمال الأخير للوصول إلى التكامل.
والحمد لله ربّ العالمين.