عودة المِتافيزيقا
فمن جَهِلَ بمعرفةِ الوجود يسري جهلُهُ في أمّهات المطالب ومُعظماتها
– صدر المتألّهين
يقترن السؤال بذات الإنسان مهاجرًا بها إلى حيث يستقرّ معها في مراتع اليقين[1]. ولا تثريب على صاحب المسألة ولو تمرَّدَ، بل لو لم يتمرّد لم يكن فيلسوفًا. بيد أنّ آفّة الفلسفة المُقامةَ في تمرّد السؤال وعدمَ الانتقال إلى اليقين المُسائل، أو القناعة المُسائلة. فلا بدّ للفيلسوف، في كلّ حال، من حسّ سؤالٍ ومُساءلة، إلّا أنّه ينبغي له الولوج من السؤال المتمرّد إلى مَحكَمٍ يحتكم إليه، وإن لم يجز له التخلّي عن مساءلته (المحكَم) في عزّ تيقُّنه به، وإلّا لبث في رعونة السؤال أبدًا.
وقديمًا درج الفلاسفة على تخصيص الأسئلة الأولى بعلمٍ أسموه ‘الفلسفة الأولى’، وتلبّسَ بـ‘المِتافيزيقا’. ولعلّ الجامع بين هذه الأسئلة الأولى هو تمحورها حول الوجود، العامّ والخاصّ (الإنسانيّ)[2]، والغاية منه. وقد بنوا لهذا العلم صروحًا آخذُ ما تكون بالتعقيد، منهجًا ولغةً، وتباينت آراؤهم فيه حتّى تضادّت، أو كادت. وانهمك أهل الحميّة من الفلاسفة في إصلاح هذا العلم، أو هذا الفنّ أو هذه الصناعة – ما شئت فسمِّ –، وكان لبعض أصحاب النوايا الحسنة دورٌ في مفاقمة متاعب المِتافيزيقا.
لقد رأوا إلى العلم الوضعيّ، في صعوده المبهر، كمعيارٍ ومحكٍّ ينبغي للمِتافيزيقا الاقتداء به كيما تنجو من عُقَد المنهج وتكلُّف اللغة. أمّا منجهه (العلم الوضعيّ) فقد كان أنيقًا دقيقًا يتوسّل التجربة، ويعوّل عليها في صياغة حقله المعرفيّ، وأمّا اللغة فكانت جليّةً مُنسابةً انسياب البرهان الرياضيّ. والحقُّ أنّ بعض أرباب المِتافيزيقا أغلقوا الأبواب على غيرهم، وفضّوا الأنصار من حولهم، بلغتهم العصيّة، ومواقفهم الجازمة المتعجرفة في إقصائيّتها[3].
ربّما كان هذا ما دعا كانط إلى مناشدة ‘كلّ مِتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا’[4]، ودعوتها إلى الكمال بالتأسّي بالعلم الوضعيّ. ثمّ كانت دعوة هُسِرل إلى فلسفةٍ بقامةِ العلم المُحكَم[5]. لا بدّ، أوّلًا، أنّهما، وغيرهما، توسّما في لغة العلم ما يلمّ شتات المعرفة، ويوحّد لغةَ مُباشرتِها ومقاربتِها. ولا بدّ، كذلك، أنّ توافق العلماء على رأي، واجتماعهم على قول، تبدّى لهما، ولغيرهما كذلك، مشهدًا أكثر جاذبيّة – حين كانت الحقيقة لا تزال واحدة (!) – من تنافر الفلاسفة وتناحر المِتافيزيقيّين.
وفي كلّ الأحوال، لا بدّ من مَحكَم. ومع ضمور شرعيّة المَحكَم الماقبليّ، والمَحكَم الخُلُقيّ، والمحكَم الدينيّ، صارت المَحكَميّة للعلم وحده، وقد كان، عصرَذاك، المصدرَ لكلِّ ثبات. أمّا وقد نرى تحلُّلَه من الثبات في شتّى المضامير[6]، فلا بدّ لنا من عودةٍ إلى ما يُعطينا ثابتًا، نشرَعُ منه إلى مُباشرةِ المتغيّر وقراءته؛ لا بدّ لنا من عودةٍ إلى المِتافيزيقا.
وإذا أردت فهمَ المِتافيزيقا من تعريفاتها، فلكَ أن تجدها وفيرةً في الدراسات المنشورة في هذا العدد – أوليست هي محوره؟ أمّا لغاياتنا هنا، فيكفيني أن أقول إنّها فلسفة الوجود (أو الواقع)، وقد استعملوا لها، مؤخّرًا (القرن السابع عشر)، لفظ الأنطُلوجيا[7] حينما أُقصيت المِتافيزيقا، أو انتشرت، فترهّلت، شأنها شأن الفلسفات المضافة فصار لكلِّ حيِّزٍ فلسفيٍّ مِتافيزيقاه. والوجود المقصود هنا هو الوجود المطلق – أو الوجود القِسميّ باللغة الصدرائيّة – وليس هو الوجود المتعيّن، أو الموجودات، أي الوجود المتلبّس بالماهيّات. والوجود المطلق هو أشمل المفاهيم وأوسعها، فتناله النفس دونما واسطة، وتظفر به دونما تروّي؛ بل هو واسطة التعرُّف على الموجودات. إنّه محكَمُنا الأوّل. هو المبدأ الأوّل، بتعبير ابن سينا[8]، فلا حقّ لنا في تجاهله، أو نسيانه، أو تعليقه، كما ارتأت المنهجيّة التأمُّليّة الشكّيّة عند ديكارت. وقد وجدت هذه المنهجيّة توسعةً هائلة في فِنُمِنُلوجيا هُسِرل الذي رأى أنّ تعليق epoché الواقع، ومباشرةَ الأشياء في تبدّياتها لذواتنا، هو سبيل فهمِه (الواقع) الأنسب.
وليست الذات، أو العقل – أو اللغة بالتَّبَعِ والاشتقاق – مبدأ سابقًا على الواقع، بل هي جزؤه، وهو مشتملٌ عليها. وقد نرى المآلات التي أوصلتنا إليها انعطافة ديكارت نحو الذات – وقد ساهم فيها، وغذّاها، لوك وهيوم وكانط – “والانعطافة اللغويّة” التي وَلَتها في الحاكميّة على الاشتغال الفلسفيّ الغربيّ. إنّ تأخير الواقع – وهو أكثر الأشياء حضورًا وظهورًا – لا يولّد إلّا الرَّيبيّات والمثاليّات التي تفتك بالمتسالَمات الفكريّة.
ولا مشاحّةَ في مركزيّة العقل، بيد أنّ العقل نفسه يروم ما يحتكم إليه[9]؛ وما يُجلّي العقلَ الكلّيَّ عندنا، إنّما هو أثَرةٌ نأخذها عن معصوم. ولئن نَحَت الفلسفةُ الغربيّةُ منحى اللغة العلميّة في تكميل لغتها لأنّها ترى في اللغة العلميّة كمالَ اللغة، فإنّنا نرى في القرآن الكريم، وفي نصّ المعصومين، اللغةَ الكاملة والناظمة لكلِّ إطارٍ لغويّ في أيِّ الميادين المعرفيّة اتّفق تداولُه. فالقرآن، والنصّ المعصوم، الذي يؤسِّس، في الوسط الإسلاميّ، لزخم الانطلاقة المعرفيّة المُوجَّهة، ثمّ يُنشؤ حولها دوائر يكون التفاعل مع كلّ فكرٍ متناظرٍ من ضمنها، هو الناظم والمعيار والمصفاة لكلِّ فكرٍ يريدُ لنفسه لقبَ ‘إسلاميّ’، وكذلك، لكلِّ لغةٍ تريد أن تُسمّي نفسها ‘ملتزمة’ و‘إسلاميّة’. ومتى ما اتّضح لدينا المَحكَمُ في الفلسفة الإسلاميّة، فإنّنا نقفُ الفيلسوف موقفَ المُسائل والمُراجِع الذي لا ينفكّ يتفحّص الموروث الفلسفيّ الإسلاميّ مهذِّبًا إيّاه من كلّ دخيلٍ ذي سلطةٍ، ولو كان من قامة أفلاطون. لا أقول هنا برفض التفاعل مع النتاج الإنسانيّ بعامّة، لأنّه ليس بنتاجِ مُشتغلةِ المسلمين، بل ما أرمي إليه هو التفاعل معه على أساسٍ خلفيّةٍ ما، يصوغها، في الإطار الفلسفيّ الإسلاميّ، ما وَصَلنا عن طريق الوحي متى ما تثبّتنا من مصدريّته.
أمّا مناوءةُ المِتافيزيقا من بابِ عدم انسجام أربابها، فربّما قدّمت له نفس طبيعة المبحث المِتافيزيقيّ تسويغًا. ولا يقدح تكثُّر الأنساق والإجابات المِتافيزيقيّة في قيمتها كمبحثٍ معرفيٍّ إنسانيّ. فللمِتافيزيقا جنبةٌ تُذكِّرُ بالدراسات الأدبيّة وسرديّات الذات من حيث يرتبط الحاصل الفلسفيّ بتجربة الكاتب التي لا تنفكّ عن ذاتيّته، وإن كانت الأدوات المعرفيّة الأخرى في متناول الفلاسفة جميعًا على حدٍّ سواء. من هنا، فإنّ الكتاب الأدبيّ لا يفقد قيمته مع الزمن – ومن شَكَّ في الإنتاجيّة المعرفيّة لهذا النحو من الاشتغال العقليّ، فهو ممّن قرأ الأدب ولم يتذوّقه. بالتالي، لا تزال مُصنّفات أرسطو وأفلوطين والكندي وابن سينا وغيرهم تثيرُ فينا ما تُثيره مؤلّفات العباقرة ممّن قرض الشعر وروى الذات أدبًا.
وكذا، للمِتافيزيقا جنبةٌ تذكّر بالعلم الوضعيّ من حيث تراكمُ معطياتها وانبناءُ المُحدَث من نظريّاتها على ما سلف، وهذا ما يجعل العودة، مثلًا، إلى كتابات أرسطو العلميّة مدفوعةً بهمٍّ تاريخ-علميّ، وليس علميًّا صرفًا، أمّا العودة إلى ما بثّه من فلسفةِ وجودٍ وسياسةٍ وأخلاق، فقد يكون أولى، أحيانًا بالطبع، من العودة إلى ما يُكتبُ اليوم في هذا المجالات.
وقد كان لانسحابِ بعض المباحث الفلسفيّة، واندراجها في المجالات العلميّة، أثرُ تحفيزِ بعض المتفائلين العلمويّين على القول بخاتمةٍ مشابهة لكلِّ المباحث الفلسفيّة، حيث تضمُر الفلسفة وتتراجع إلى الخلف إذ يتقدّم العلم مالئًا كلّ المساحات. بلى، تتقدّم المِتافيزيقا، وتتراكم مع تقدُّمها المعرفة التي تعطيناها. وثمّة، في تاريخ المِتافيزيقا، محطّات تحدث فيها تحوّلات تتّسع على إثرها معرفتنا بالوجود وبأنفسنا، وتتراكم كمًّا ونوعًا، وإن كان التراكم، لا محالة، انتقائيًّا.
وهنا سؤال. إذا كانت المعرفة الإنسانيّة مَشيدةً بحسب الاجتماع، ومَصيغةً بحسب التاريخ، ومحكومةً للسياقات[10]، فهل من مسوّغٍ للعودة إلى الفلسفات القديمة في محاولة الإجابة عن أسئلة معاصرة؟ هل من جدوى تُرتجى؟ أظنّ قويًّا أنّه بلى. لماذا؟ لأنّ الحقّ واحدٌ غير قابل للقسمة! غاية الأمر أنّنا نحيط، كلٌّ من زاويته، بمقدارٍ منه، يزداد أو يتضاءل بمقدار سعة وعائنا الوجوديّ المعرفيّ. وهذا لا يدعونا إلى الوقوف عند الأنساق الفلسفيّة القديمة كمنجزات نهائيّة محيطة بكلّ ما يمكن أن يُقال. فقد يضعنا العقل الفاحص للفيلسوف المتخطّي لكلِّ اختلاجات الزمان أمام “زوايا” جديدة، نرى معها أنّ الواقع المترامي أكثر عمقًا ممّا حسبنا.
ولربّما قيل إنّ تقدُّمَ المِتافيزيقا يأتي مع تطوّر مناهجها التي يبتدعها عباقرة الفلاسفة. وللمنهج دوره، بيد أنّه اصطبغ، على الأكثر، بصبغة الإقصائيّة والقَصريّة. أي إنّه غالبًا ما وقف بإزاء الأنساق المختلفة موقفَ المبايَنة التامّة فرفضها برمّتها، وقَصَر الحقيقة على ما يستطيل عليه، متعاميًا عن كلّ ما خرج عن متناول أدواته، ومعلِّقًا إيّاه إلى اللاحين.
إذًا، ما منشؤ تقدّم المبحث المِتافيزيقي؟ هو بالطبع يأتي مع بروز عبقريّةٍ ما تعيش أقصى مديات تمرّد السؤال، وتنخلع عن كلّ معوّقاته من هيبةِ الأنساق السائدة وسلطتها، ونفوذ الرجعيّات والجمادات الشائعة والضغوط الاجتماعيّة المتفشيّة، ووطأة التفلُّت من ربقة الأستاذ المؤسّس، ونزعة الفرادة والتميّز وغير ذلك ممّا لا يجد سوى الفيلسوف الحكيم حقًّا طاقةً على تخطّيه. ولربّما أتت (العبقريّة المذكورة) بمنهجها الخاصّ. أمّا إذا صحّ ما قيل، “لولا الحيثيّات لفسدت الحكمة”، فإنّ الحكيم، قيد التقريظ، هو من تسلّط على الحيثيّات، وحَكَم بسؤدده عليها، واتّساعُ حَدَقة الحيثيّات خصيمُ انغلاق المنهجيّات – بالمعنى الإقصائيّ للكلمة.
عن أيّ الحيثيّات كلامُنا؟
إذا سلّمنا بكون المِتافيزيقا هي البحث عن أكثر بنى الواقع أساسيّةً، وهو تعريفٌ يلقى رواجًا متجدِّدًا، بل إذعانًا هو يفرضه من ذاته، فإنّ الحيثيّات المقصودة هي حيثيّات الواقع. بالتالي، الأقدرُ على الإحاطة بالواقع هو من شحذ حدسه، وكافّة أدواته، لتترصد الواقع في حيثيّاته.
قبل هذا، وليس ببعيدٍ عن زخمِ عودة المِتافيزيقا، فإنّها [المِتافيزيقا]، في سعيها لاستعادة المشروعيّة، قد كابدت عناء تبيان حيثيّاتها هي، وتمييزها عن حيثيّات كلّ من المنطق والعلم الوضعيّ. فالمنطق لا يعفينا من عناء البحث في المِتافيزيقا، ولا يغنينا عنه، لتغايرهما، فهما مجالان للاشتغال الفكريّ لهما حيّزهما الخاصّ. ومن مميّزات المبحث العلميّ الإسلاميّ، تاريخيًّا أقلّه، أنّه يعتني بتبيان مجالات العلوم وموراد اهتمامها. وهاهنا سبيلان لتمييز المنطق عن الفلسفة. أحدهما يميّز بين نوعين من الضرورة (أو الوجوب) هما الضرورة الذاتيّة (الفلسفيّة) التي تكون بمقتضى الطبائع، أو الماهيّات[11]، والضرورة المنطقيّة القائمة على أصول الهويّة وعدم التناقض والثالث المرفوع[12]، وقديمًا ماهت الفلسفة الإسلاميّة بينهما. وثانيهما التمييز بين المعقولات الثانية المنطقيّة والمعقولات الثانية الفلسفيّة، وهو من إبداعات الفلسفة الإسلاميّة[13].
والمعقولات الثانية هي أحكام ذهنيّة على الوجود، مبتوتة الصلة بالخارج إلّا من حيث هي (بعضُها كما سنرى) صفات للأعيان الخارجيّة. فحضور صور هذه الأعيان في الذهن، في كلّيّتها، ينتج المعقولات الأولى من قبيل الإنسان والنور والماء والبياض والدائرة وما إلى ذلك. وبتعبيرهم، فإنّ المعقولات الأولى عروضها واتّصافها في الخارج. ثمّ إنّ الذهن يحكم على هذه المعقولات الأولى فتتحصّل لدينا المعقولات الثانية التي جعلها الفارابيّ وابن سينا حقل اشتغال المنطق. فجاء الإشكال بأنّ بعض المعقولات الثانية، من مثل العلّة والمعلول، والإمكان والامتناع والشيئيّة وغيرها لا يمكن أن تكون موردًا لاهتمام المنطق الذي يُعنى بالقضايا الذهنيّة والحال أنّها من مختصّات القضايا الحقيقيّة. هنا ينبري نصير الدين الطوسيّ ليقعّد لحيثيّتَي المعقولات الثانية مفسحًا في المجال، شيئًا ما، لقسمةٍ لن تلبث أن تنضج مع الملّا صدرا. إذًا، ثمّة معقولات ثانية منطقيّة، تكون مظروفةً للذهن بالمطلق، ومن أمثلتها النوع والجنس، والكلّيّ والجزئيّ… وثمّة معقولات ثانية فلسفيّة لها نحو انطباقٍ على الخارج وإن كان عروضها في الذهن، وقد مرّ معك من أمثلتها[14]. بأيّ الأحوال، فإنّ مردّ كلّ تمييز بين المنطق والمِتافيزيقا يكون إلى الفارق بين الأساس الصوريّ المفهوميّ، وهو مورد اشتغال المنطق، والأساس الأنطُلوجيّ الذاتيّ، وهو مورد الاهتمام المِتافيزيقيّ.
أمّا تمييز العلم عن الفلسفة فسُبُله شتّى. فقد يُقال إنّ الاختلاف يكمن في الطبيعة التجريبيّة للعلم والطبيعة التأمُّليّة والحدسيّة والبرهانيّة للفلسفة، وقد يقال هو المائز بين الاستقراء والقياس وما إلى ذلك. بيد أنّ العلم يقتضي الفلسفة[15] – لاحظ معي أن استعمال مفردة الفلسفة دونما قيد، غالبًا ما يُقصد منه فلسفة الوجود – إذ ما لم تتحوّل المقدّمات الاستقرائيّة إلى مقدّمات قياسيّة فيستحيل تحقُّق اليقين الذي يأتينا به العلم. وهذه مسألة أستوقفت كثيرين من الفلاسفة – انطلاقًا من هيوم – تربّصوا بدوائرها المِتافيزيقا ليدحضوها. هنا تستعين الفلسفة الصدرائيّة بمقولة “الفرد بالذات” لتعلن أنّ لنا سبيلًا إلى المطلق وهو الفرد متى ما نزعنا عنه ما به التمايز وحافظنا على ما به الامتياز. على سبيل المثال، إنّنا عندما نرى الأبيض لأوّل مرّة، فإنّنا نصل من خلاله إلى الأبيض المطلق، فكلّما رأينا هذا اللون عرفناه مع عدم احتياجنا إلى تتبّع كلّ أفراده لنحيط علمًا به في إطلاقه، وذلك بمقتضى القاعدة: “كلّ ما صحّ على الفرد [بالذات] صحّ على الطبيعة”[16].
5.
بالعودة إلى حيثيّات الواقع، فإنّي لا أجد بدًّا، في محاولة بيان المسألة، من التمثيل بمثال. وسألجأ إلى ما عُرِف بالسؤال الأبِستِمُلوجيّ الذي طُرح في إزاء نظريّة المطابقة، أي النظريّة التي عُنيت بقراءة علاقة الذات والموضوع، والذهن والخارج، والمفهوم والمصداق. يقول الشيخ شفيق جرادي،
علينا أن نميِّز بين متن الواقع ونفس الأمر، وهو الوجود المصاحب بوحدته للكلِّ فكرًا وذاتًا وخارجًا وواقعًا – بوحدةٍ حقّة – وبين تقسيم مبنيٍّ على ما نسمّيه بـ”الما بإزاء”، ونقصد به أنّ الذات بحقيقتها موضوع، لكنّنا، حينما نريد أن نقيس على قاعدة المغايرة، فإنّنا نسمّي الذات بإزاء غيرها ذاتًا ونسمّي غيرها بإزائها، أي بما يقابلها، موضوعاً، وهكذا الفارق بين الذهن والخارج. لذا، فإنّ الثنائيّة التي دمَّرت الذات وشيّأتها، بعد أن أهملتها، هي ثنائيّة افتراضيّة أوجبَتها الضروراتُ المنهجيّة، ثمّ ما لبثنا أن حكمنا عليها باعتبارها ضرورة مسلّمة لا تقبل الجدل…[17]
إذًا، كيف ترتبط الذات بالموضوع؟ أيّهما أولى؟ هل الموضوع صنيعة الذات، أم هي تقف إزاءه موقف من لا يملك إلّا أن ينساب معه، وإن استطاع أن يقرأه؟ كيف تكون هذه الثنائيّة افتراضيّة وعليها تقتات آلاف الأوراق الفلسفيّة التي صيغت في غيرٍ عصرٍ وحقبة؟
يبدو أنّ المِتافيزيقا اليوم، في عصر ما بعد الرَّيبيّة، مدعوّة لإعادة صياغة العلاقة بين الذهن والحقائق الخارجيّة، ولا محيص عن صياغةٍ واقعيّة لهذه العلاقة قائمة على قبول الذهن جزءًا من الواقع، وإن كان جزءًا له خاصّيّة الحكاية عنه. وما لم نلحظ في الذهن تينك الحيثيّتان، فإنّ أسئلة الذات والموضوع لن تفتأ تفسد نظرتنا الفلسفيّة للعالم مع ما لهذه من تداعيات على مجمل واقعنا.
يقول مايكل دومت، وهو من مبرَّزي الفلاسفة المعاصرين،
لقد مرّت الفلسفة التحليليّة [وليست القارّيّة بأحسن حال كذلك!] مؤخّرًا، بمرحلةٍ تدميريّة؛ قلّة، بالفعل، من لم تخرج منها بعد. في تلك المرحلة، بدا أنّ المهمّة المشروعة الوحيدة للفلسفة هي التدمير. أمّا اليوم، فمعظمنا يؤمن بأنّ للفلسفة، مجدّدًا، دورها التشييديّ؛ أمّا وقد كان التدمير شاملًا، فإنّ التشييد، ولا بدّ، سيكون بطيئًا[18].
يعزو جون سيرل هذه التدميريّة إلى فقدان الثقة بالواقع وبتراكم المعرفة الموضوعيّ، ويرى أنّه لا بدّ لنا اليوم من التسليم جدلًا بالواقع الخارجيّ إذا ما أردنا الخروج من مآزق الفلسفة الراهنة ومتاهاتها. وأظنّ أنّ المسار الذي أدّى إلى ما وصلنا إليه، هو الذي بدأ بإقامة الثنائيّة الحادّة بين الذهن والخارج، ورأى للذهنِ والمعرفةِ قيوميّةً على الخارج، فما عادت، معه، المِتافيزيقا علمَ الوجود، بل غدت العلم المعنيّ بتحديد قابليّات العقل وحدود المعرفة الإنسانيّة (كانط)، وهذا ما صيّرها، في أحسن الأحوال، وصيفةً تعمل لحساب علوم المعرفة واللغة.
أمّا في الفلسفة الإسلاميّة فقد حال اجتراح الحلّ الأنطُلوجيّ للمسألة دون بقاء الوضع الإبِستِمُلوجيّ مهتزًّا، فكان أن خرج إلينا ابن سينا بعددٍ من المقولات مثل الماهيّة والمعقولات والوجود الذهنيّ، التي وفّرت، لمن تلاه، مادّةً للخروج بنسقٍ فلسفيٍّ مُحكَم يرفض الواحديّات دون أن يغرق في الثنائيّات[19]. وفي الواقع، فإنّ الاشتغال الفلسفيّ المعاصر بات يرى أن لا مفرّ له من الحلول الأنطُلوجيّة[20] لهذه المسألة الإبِستِمُلوجيّة، لذا تراه يطرح موضوعاتٍ من قبيل الوجود القصديّ intentional existence، وأنطُلوجيا المتكلِّم first-person ontology والموضوعات (الأشياء) الذهنيّة mental objects وسوف أشرح هذه المتلازمات وتداعياتها توًّا. بعبارةٍ أخرى، لقد بات أكثر اهتمامًا في تمييز الحيثيّات الوجوديّة للمسائل قيد المعالجة.
أولى النقلات المتقنة لابن سينا كانت تمييزُه بين الوجود والماهيّة[21]. ثمّ قسّم الوجود إلى عينيّ وذهنيّ. والماهيّة محايدة بالنسبة لهما. فالوجود ليس ذاتها ولا جزء ذاتها، وإلّا لما انفكّ عنها، والحال أنّ كلّ المعاناة الفلسفيّة تنصبّ على إثبات الوجود لماهيّةٍ بعينها، أو نفيه عنها! تُعينُنا القسمة المذكورة على استبيان علاقة الذهن بالخارج. فما يحضر في الذهن إنّما هو نفس الماهيّة التي تتلبّس الوجود عينًا، وإن كان أثرها في الخارج غير أثرها في الذهن – دفع الجهل.
ثمّ يميّز في الموجودات الذهنيّة بين معقولات أولى ومعقولات ثانية – وقد مرّ شرحهما. ويرى أنّ معاني المعقولات الثانية هي “مقاصد للنفس” تعبّر عنها بواسطة اللغة[22]. هنا يبدأ مشوارٌ فلسفيّ طويل سيكون له، في يومنا، أبلغ الأثر في إعادة الاعتبار إلى المِتافيزيقا. فما معنى أن يكون للنفس مقاصد؟ والنفس، هنا، تؤخذ بلحاظ كونها المعلوم[23]. أو فقل ما معنى أن يكون للوجود الذهنيّ مقاصد؟ إن كان عصيًّا تصوُّر ذلك، فمن المفيد أن نسأل عن الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ، مستكملين بذلك تفريعات الوجود في الفلسفة الإسلاميّة المابعد سينويّة (لاحظ انهمامَها بالوجود). ما ملاك كونها وجودات؟ أعتقد أنّ القصديّة التي تشتمل عليها هي محكُّ تسميتها وجودًا، فهي تشير إلى ما سواها. هي تنقل أذهاننا إلى حقائق الأشياء لاتّحادها معها. لقد فطن ابن سينا إلى أنّ من أبرز ما يميّز الذهنيّ عن المادّيّ، أو ما في الذهن عن ما في العين، هو تخطّي الذهنيّ ذاتَهُ ليشير إلى خارجها، وهذه هي الخاصّيّة التي تجعل من المبحث مبحثًا مثيرًا لكلّ أنواع الأسئلة في الفلسفة المعاصرة، وبخاصّة تلك الأسئلة المرتبطة بالمادّيّ والمجرّد.
6.
بغضّ النظر عن التباينات الطفيفة بين المفاهيم والمعقولات والماهيّات، فإنّ ابن سينا – والسينويّة – ظلّ منسجمًا مع قسمته المُحدَثة فآثر لغة الماهيّات على لغة المعقولات. أمّا غربًا، عند القروسطيّين، فقد كان أثر ابن رشد أبلغ. وهو الذي نبذ القسمة السينويّة من أصلها، وإن راقَهُ الحيّزُ الذي افتتحه ابن سينا في المعقولات، فكانت لغة المعقولات عنده، وبالتالي عند القروسطيّين (توما الأكوينيّ ودونس سكوتُس تحديدًا)، أكثر رواجًا. وقد وجد المترجم اللاتينيّ في خاصّيّة القصد في المعقولات ما يلفته، فكان أن ترجم مُفردَتَي “معنى” و”معقول” بـ”intentio” وهي تعني “القصد”. وبذا صارت المعقول الأوّل قصدًا أوّلًا “prima intentio“، والمعقول الثاني قصدًا ثانيًا “secunda intentio“. أمّا الوجود الذهنيّ فصار “وجودًا قصديًّا esse intentionale“.
وقد استعان ابن سينا بمفردة “معنى” ليدلّ على المدرَكات من حيث هي مدرَكات. وهذا معيارٌ في غاية الأهمّيّة، إذ هو الرابط بين وجهتَي النظر الأنطُلوجيّة والمعرفيّة. “عندما يكون الشيءُ الخارجيّ غرضَ إدراك أو تعقُّل، فإنّه يتمتّع بحالَتَين [إقرأ حيثيّتين]، حالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’ وحالة كونه ‘شيئًا مُدرَكًا’. في الحالة الأولى، فهو موجودٌ قبل فعل الإدراك، وباستقلالٍ عنه، أمّا في الثانية فإنّ نحوَ وجوده يقوم على الإدراك؛ إنّه لا شيء سوى ‘كونه مُدرَكًا’”[24].
أمّا الفلسفة المعاصرة فلا تمتلك هذه الجرأة الأنطُلوجيّة، وهذا ما يفرض مبحث القصديّة بقوّة[25]. إنّه عصيٌّ على الاختزال الأنطُلوجيّ، بخاصّة لأنّه يُنشؤ علاقةً لا تناظريّة بين الذهن والموجودات، أو بين الذهن واللاموجودات (في الخارج)![26] ولا تجده خارج إطار الذهن إلّا على نحوٍ اشتقاقيّ – كما في حالتَي الوجود اللفظيّ والوجود الكتبيّ. أمّا الإطار المعرفيّ العلمويّ الذي وجد أيّما صعوبة في قبول الوعي – في ذاتيّته ووحدته وبساطته – في العالم المادّيّ، فإنّه كان أكثر تلكّؤًا فيما خصّ القصديّة. هذا علمًا أنّ المبحث أنطُلوجيٌّ منذ استدعاه برِنتانو Brentano أوّل الأمر في دراسته النفسيّة. لقد التفت برِنتانو إلى هذا المبحث، معترفًا بفضل القروسطيّين، لأنّه رأى أنّ “الوجود ‘القصديّ’ للشيء، في إزاء وجوده الخارجيّ… يؤخَذُ كنحوٍ (نمطٍ) وافٍ (مكتفٍ) من الوجود”[27].[28]
يقول وِليام لايكان،
القصديّة عائقٌ أمام المادّيّة أكبر من أيّ شيءٍ له صلة بالوعيّ، بالكيفات qualia، بالطابع الفِنُمِنُلوجيّ، بالذاتيّة، إلخ. إذا ما استطعنا طبعنة naturalization القصديّة، فإنّ كلّ تلك المشاكل تنحلّ معها[29].
ويشرح بيير جاكوب الصعوبة التي تُثيرها القصديّة في وجه المادّيّة،
أوّلًا، لقد كانوا شديدي الحرص على تفادي الالتزامات الأنطُلوجيّة الثقيلة التي تفرضها النظريّات القصديّة. ثانيًا، كان من الصعب المواءمة بين أنطُلوجيا الأشياء اللاموجودة والأشياء المجرّدة وبين أنطُلوجيا العلوم الطبيعيّة المعاصرة التي لا ترى في العالم سوى المحسوسات القائمة في الزمان والمكان[30].
من هنا، فإنّنا نضع اليد على عددٍ من المفردات تفرض المبحث الوجوديّ ومعظمها يصدر عن الاشتغال في فلسفة الذهن المعاصرة philosophy of mind. فلقد انهمكت الفلسفة الغربيّة، طيلة القرن الماضي، بالمعرفة واللغة والمعنى. بيد أنّ الحفريّات المكثّفة في هذه المجالات، أفضت إلى إبراز الذهن كمستوًى أوّليّ سابق عليها، لا بدّ من التعاطي معه في سبيل فضّ ما انغلق أمام الباحثين في الإبِستِمُلوجيا والسِمانطيقا والتأويل. هنا وصلنا إلى معضلتين رئيستَين: الوعي والقصديّة. وقد كانتا ممّا استدعى تفحُّصَ الأنساق الفلسفيّة القديمة سعيًا وراء حلول. ولئن تردّد الفلاسفة في قبول مقولةٍ أنطُلوجيّة صارخة من قبيل الوجود الذهنيّ – أو القصديّ – فإنّهم بدأوا بالتعاطي مع موضوعات من قبيل “الأشياء الذهنيّة”، وهي، من حيث كونها أشياء، فلها حيثيّتها الوجوديّة البارزة، وكذلك من قبيل “أنطُلوجيا المتكلِّم”، أي ما يُشكِّل خطوةً أولى في الابتعاد عن الأنطُلوجيا التسطيحيّة للمعرفيّة القائمة على تقديس العلوم الوضعيّة. عنيتُ إقصاء كلّ ما هو ذاتيّ، أي كلّ ما لا يطاله مسبارُ التجريب، من حقل المعرفة الشرعيّة.
إنّ إعادة طرح مسألة الذات والموضوع بهذا الزخم، وعلى هذا النحو، يُفسح في المجال لعودة المباحث المِتافيزيقيّة بكلّها. هذا لا يعني أنّ المِتافيزيقا كانت خارج التداول بالمطلق، فهذا غير ممكن؛ بل قد هي عولجت حتّى في أعتى مراتع الوضعيّة المنطقيّة، وإن بعناوين مختلفة وبأقلام مُحرَجة. أمّا اليوم، فإنّها تعيش، بحسب تعبير جوناثن لوو، عصرًا فضيًّا[31] (وليس ذهبيًّا، إذ هو يعقد المقارنة مع اليونان القديمة) يُبشّر بقلبِ العمليّة التدميريّة التي مرّ ذكرها، وبعودة الاعتبار إلى عددٍ من المباحث التي أحيلت، في وقت من الأوقات، إلى العَبَث الكلاميّ والخرافة والغنّوصيّة والتي لا تجد، بين أتباعها، سوى الغاوين.
بعبارةٍ أخرى، فإنّ البذرةَ الفلسفيّة التي وُضعت في عصرَي النهضة والتنوير أثمرت إعادة قراءةٍ لكلِّ مسلَّمٍ وأفضَت إلى صياغاتٍ وبنًى جديدة. وعلى ما في هذا الأمر من تحريكٍ للذهن البشريّ، إيجابًا حينًا، وسلبًا أحيانًا، فإنّها وصلت إلى إعلان موت كلّ ما يرتبط بمركَزَي الثبات في المِتافيزيقا القديمة (العقل والوحي). ولأنّ العقل البشريّ يأبى إلّا السعيَ إلى مصادر اليقين، فإنّ الرَّيبيّة والتفكيكيّة واللاأدريّة وغيرها بدأت تُخلي مطارحَها لحساب نوعٍ مختلفٍ من العقلانيّة الواقعيّة التي جاءت لتضع حدًّا لجنون “النهايات”، ولتفتح باب “الاستعادات”، في عودةٍ لمباحث الأُنطُلوجيا والذات والقِيم والغاية، والماقبل، وكلِّ المبحث الخُلُقيّ والدينيّ، إلخ.
أقول، إنّ الظرف الراهن يوفّر فرصةً للفلسفة الإسلاميّة، بما تحتضنه كذلك في مباحثها الدينيّة، وبخاصّة في علم الأصول، وفي مباحثها القيميّة والخُلُقيّة، وبخاصّة في الحكمة العمليّة والعرفان النظريّ والعمليّ، لتتقدم دون وجل، بعد تطوير لغتها بما يتناسب مع هموم الاشتغال الفلسفيّ اليوم، وتطرح حلولها في كلّ المجالات، ولتمتحن ذاتها في جدل تقابل الفكر والفكر، دونما استحياء، ولتزاول المِتافيزيقا، كما اعتادت، بما هي إلهيّات، بمعنييها الإعمّ والأخصّ[32]. إنّنا نعيش عصرًا فلسفيًّا مثيرًا بالفعل!
[1] عن السؤال المهاجر، انظر، شفيق جرادي، “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2009)، العدد 19، الصفحات 89 إلى 94.
[2] تجد، في هذا العدد، أحد أبرز الأمثلة على مَفصَلةِ المِتافيزيقا لتكون على قياس الوجود الخاصّ. انظر، إيمانويل لِفيناس، “الأنطُلوجيا: هل هي تأسيسيّة؟”، ترجمة عليّ يوسف. وهذا تيّارٌ رائجٌ في الفلسفات الفرنسيّة والألمانيّة، ترفضه الفلسفة التحليليّة بشكلٍ عامّ. فهي تتبنّى بقوّة تعريف غوتلوب فريغه Gottlob Frege للوجود إذ يماهيه بالعدد 1، فيكون خلافه (العدم) العدد صفر (وهذا امتدادٌ لتأثير كانط في حصره للوجود بالوجود الرابط copula). وهذا ما يُسمّيه بيتر فان إنواغِن بالمفهوم الرفيع للوجود thin conception، في مقابل الوجود الكثيف thick conception عند القارّيّين، وهي قسمةٌ أخذها عن أستاذه ويلارد كواين، أبرز الفلاسفة الأميركيّين في القرن الماضي. انظر،
- van Inwagen, Ontology, Identity and Modality: Essays in Metaphysics (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), 4.
[3] انظر، في هذا العدد، خنجر حميّة، “إشكاليّة المِتافيزيقا وأزمة تجاوزها في فلسفة العلم المعاصرة: جدل الفكر والواقع عند غاستون باشلار”.
[4] في إشارة إلى كتابه Prolegomena zu einer jeden künftigen Metaphysik، الذي تُرجم إلى العربيّة تحت عنوان، مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا، ترجمة الدكتورة نازلي اسماعيم حسين، مراجعة عبد الرحمن بدوي (القاهرة: دار الكتاب العربيّ، الطبعة 1، 1967).
[5] في إشارةٍ إلى كتابه Philosophie als strenge Wissenschaft وقد تُرجم إلى العربيّة. انظر، هُسّرل، الفلسفة علمًا دقيقًا، ترجمة وتقديم محمود رجب (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002).
[6] تجد تحليلًا قيّمًا لهذه المسألة في المقالة المترجمة في هذا العدد لإدوارد نيكول. انطر، “العودة إلى المِتافيزيقا”.
[7] انظر،
- van Inwagen, Ontology, Identity and Modadility, Ibid. p. 1, fn. 2.
[8] يقول إدوار نيكول، “المبدأ الأوّل هو الدليل الحضوريّ. والمبدأ ليس إيجادًا بل حيازة دائمة”. “العودة إلى المِتافيزيقا”، مصدر سابق.
[9] عن محظورات الاحتكام إلى العقل وحده، انظر، في هذا العدد، محمّد مصباحيّ، “المِتافيزيقا في مواطنها الأصليّة: حوار الفلسفة والتصوُّف”.
[10] انظر،
- Searle, Philosophy in New Century: Selected Essays (Cambridge: Cambridge University Press, 2008), 8-9; W. Sweet (ed.), Approaches to Metaphysics (Dordrecht: Kluwer Academic Press, 2004), 6, 17.
[11] من قبيل قولنا “النار تحرق بالضرورة” بمقتضى طبيعتها.
[12] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، “الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”؛ وأيضًا، جوناثن لوو، “إمكان المِتافيزيقا”. يقول الشيخ بدران، في بيانه للهجمة على المِتافيزيقا، “ولم يقتصر النقد على شيئيّة الوجود، وإنّما امتدّ إلى النظام المنطقيّ الذي انبثق عنه”. وبالفعل، فإنّ عمليّة نزع الشرعيّة عن المِتافيزيقا، راكمت زخمها الأساسيّ على إثر الهجمات التي انصبّت على مبدإ عدم التناقض، فزلزلت التوافق التاريخيّ عليه. ومع العودة التي تشهدها مباحث المِتافيزيقا، فإنّ مباحث المنطق المصاحب لها تشهد تعافيًا ملحوظًا، كذلك. انظر، على سبيل المثال،
- N. Zalta, “In Defense of the Law of Non-Contradiction”, in G. Priest and B. Armour-Garb (eds.), The Law of Non-Contradiction: New Philosophical Essays (Oxford: Oxford University Press, 2004); M. Dummett, The Logical Basis of Metaphysics (Cambridge: Harvard University Press, 1991).
[13] انظر، مرتضى المطهري، شرح المنظومة، ترجمة عمار أبو رغيف (مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1417هـ)، الصفحات 110 إلى 141.
[14] المصدر نفسه، الصفحات 138 إلى 141.
[15] “ما من علمٍ يعول نفسه بنفسه” بعبارة نيكول. انظر، أيضًا، “إمكان المِتافيزيقا” لجوناثن لوو.
[16] مهدي الحائريّ اليزديّ، هرم الوجود، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقانيّ (بيروت: دار الروضة، 1990)، الصفحة 158.
[17] “الدين، الفلسفة، والسؤال المهاجر”، مصدر سابق، الصفحة 92.
[18] انظر،
- Dummett, The Logical Basis of Metaphysics, op. cit., Intro.
[19] انظر، في هذا العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.
[20] ثمّة حلّ منطقيّ للمسألة، تقدّم به الملّا صدرا، يقوم على التمييز بين نوعين من الحمل: الحمل الأوّليّ الذاتي، أو الحمل المفهوميّ، والحمل الشايع الصناعيّ، أو الحمل المصداقيّ. انظر، للاستزادة، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 68 إلى 73.
[21] يرى روبرت ويزنوفسكي أنّ الإنجاز الأساسيّ عند ابن سينا كان في مبحث الموادّ الثلاث (الوجود، العدم، الإمكان)، وهو يقابل مبحث الجهات الثلاث في المنطق. وهذا دليلٌ آخر على أنّ عبقريّة ابن سينا كانت في بيانه وتفصيله لحيثيّات الواقع (والجهة هي الحيثيّة) بما فسح في المجال لتقدُّم فلسفيٍّ هائل. ومبحث الجهات modalities يحتلّ حيّزًا واسعًا في المنطق الغربيّ المعاصر بعكس المنطق القروسطيّ أو الأرسطيّ. أمّا بعد ابن سينا، عند الفلاسفة المسلمين، فقد صار عمدة المبحث المنطقيّ هو الجهات والموجّهات – يُسمّيها طلبة المنطق “الموجّعات”، في دليلٍ آخر على أنّ أكثر ما يُجهد ذهن طالب الفلسفة وحدسَه، إنّما هو تقصّي المسائل في حيثيّاتها. انظر،
- Wisnovsky, “Avicenna and the Avicennan Tradition”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), 113-115; T. Street, “Logic”, in P. Adamson and R. Taylor (eds.), op. cit. 256-257.
كما وانظر، في هذا العدد، نادر البزريّ، “السينويّة ونقد هايدِغر لتاريخ المِتافيزيقا”. وهذه قراءة مقارنة تبرز إسهامات ابن سينا في المِتافيزيقا بعد تخليصها من بعض الأخطاء التاريخيّة. قارن، في العدد، توشيهيكو إيزوتسو، “البنية الأساسيّة للتفكير المِتافيزيقيّ في الإسلام”.
[22] ابن سينا، الشفاء: المنطق 3، العبارة، تحقيق محمود الخضيري، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور (القاهرة: دار الكاتب العربيّ، 1970)، الصفحات، 2-3.
[23] على مبنى اتّحاد العلم والعالم والمعلوم، وهو في خصوص النفس لا مأخذ لابن سينا عليه، يكون العلم والعالم والمعلوم اعتبارات يجترحها الذهن وهي النفس في أحوالها.
[24] انظر،
- M. De Rijk, Giraldus Odonis O.F.M. Opera Philosophica. Volume Two : De Intentionbus (Leiden – Boston : Brill, 2005), 2-3.
[25] الوعي، فلنكتف بتعريف سيرل على سبيل المرونة، “يتكوّن من حالات شعورٍ أو إدراكٍ باطنيّة، ذاتيّة، كيفيّة”. وهذه الخصائص الثلاث هي ما يجعل من الوعيّ “المشكلة الكبرى”، بتعبير دايفِ تشالمرز، وما يخلق، بتعبير جوزِف ليفين، “فجوةً تفسيريّةً” تعجز الأطر الفلسفيّة الراهنة عن ردمها. وثمّة، هنا، نقاشٌ محموم حول ما يُشكّل علامة الذهنيّ the mark of the mental في إزاء المادّيّ. وقد برز إلى الساح مرشّحان: الوعي والقصديّة؛ فكان من أنصار المرشّح الأوّل، جون سيرل، على نحوٍ ملحوظ، أمّا “القصديّون” فكثر وأشهرهم ألِكسيوس ماينونغ، رودريك تشيزولم، وويلارد كواين، ومؤخّرًا، ويليام لايكان وتيم كراين. هذا علمًا أنّ أكثر الفلاسفة القارّيّين، وبخاصّة هُسِرل وسارتر، لا يرون بونًا بين القصديّة والوعي إذ “كلّ وعيٍ يتوجّه نحو غرَضٍ (موضوعٍ) ما؛ بكلامٍ آخر، كلّ وعيٍ هو وعيٌ بأمرٍ ما”. انظر،
- Searle, “Consciousness”, Annu. Rev. Neurosci. (2000) 23: 557–578; D. Chalmers, 1995. “Facing up to The Problem of Consciousness” Journal of Consciousness Studies 2: 200-219; R. Chisholm, Perceiving: a Philosophical Study (Cornell University Press, 1957), ch. 11; W.V.O. Quine, Word and Object (Cambridge, Mass.: MIT Press), ch. 6; W. Lycan, Judgment and Justification (Cambridge: Cambridge university press, 1988; T. Crane, Intentionality as a Mark of the Mental in A. O’Hear, Current Issues in Philosophy of Mind, Royal Institute of Philosophy Supplement: 43 (Cambridge: Cambridge University Press, 1998), 229-252; T. Crane, Elements of Mind (Oxford: Oxford University Press, 2001) ch. 1 and 3; M. P. Banchetti-Robino, “Ibn Sīnā and Husserl on Intention and Intentionality”, Philosophy East and West (Jan., 2004), 54 (1): 76.
[26] وقد كان هذا عنصرًا محرّكًا عند ابن سينا نفسه. فقد دعته محاولات المعتزلة، برأيه، تشيئةَ العدم، إلى الإصرار على واقعيّة الوجود الذهنيّ لتبرير معرفتنا بالّلاموجودات. فما لا حظَّ له من الوجود الخارجيّ، فهو موجودٌ ذهنيّ، وأحكام الوجودين تختلف بلا ريب. انظر، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحات 147 إلى 157. وأيضًا، D. Black, “Intentionality in Medieval Arabic Philosophy”,.
[27] انظر،
- M. De Rijk, De Intentionbus, op. cit. 23.
[28] لقد كان لمحوريّة فرانتز برِنتانو (1838-1917) Franz Brentano في الفلسفة الغربيّة أثر الترويج لمبحث القصديّة في الفلسفتين القاريّة – من خلال تلميذه هُسِرل – والتحليليّة – من خلال ماينونغ تحديدًا. في الواقع، فإنّ البعض يعتبره رائد التقليدَين الغربيّين، القاريّ والتحليليّ.
[29] انظر،
- Lycan, “Giving Dualism its Due,” Aust. J. Phil. (Dec. 2009) 87 (4): 551-563, fn. 8.
[30] انظر،
- Jacob, “Intentionality”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition), E. N. Zalta (ed.), URL = <http://plato.stanford.edu/archives/fall2008/entries/intentionality/>.
[31] انظر،
- J. Lowe, “New Directions in Metaphysics and Ontology”, Axiomathes (2008), 18:273–288
[32] انظر، في هذا العدد، حسن بدران، ” الحقيقة المِتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود”، حيث يبيّن أسباب ترجمة المِتافيزيقا، في الوسط الفلسفيّ الإسلاميّ، بالإلهيّات.