إفتتاحية العدد 23

الافتتاحيّة

افتتاحيّة العدد

كان لا بدّ لمجمل المباحث التي تعاطتها المحجّة في أعدادها الأخيرة (الزمن، عودة المِتافيزيقا، المعاد) أن تصل بنا إلى تخوم مبحث الجسد. فالمبحث يشتمل في تضاعيفه على مكنون ما اندمجت عليه التيّارات الفلسفيّة المختلفة، ولطالما كان الأرض التي خيضت عليها المعارك الفكريّة، وتناحرت عليها الـمُسبقات الفلسفيّة. مغلوبٌ على أمره الجسدُ في تاريخ الفلسفة؛ وعندما ترى كيف يُنتَصَرُ له اليوم، فلسفيًّا، فإنّك أحيانًا قد ترجو له دوام التعاسة. ودعك من اعتداد الفلسفة بنفسها، واستعلائها على الدين والأسطورة، فإنّنا نجد اليوم مناخًا عارمًا لا يتحرّج من القول بمُسبقات حاكمة على الفلسفة، وعلى كلّ اشتغالٍ فكريّ. يكفيك في ذلك التيّارات الواسعة التي حكمت على الفلسفةِ بقدرٍ لغويّ – أو، لا أقلّ، أحكمت الربط بين الفلسفة واللغة بما لا يطيق الانفصام – فإنّ “فلسفةً تنطلق من مِلء اللغة، هي فلسفة مع مُسبَقات”[1].

بيد أنّ الفلسفة أكثر تجذُّرًا في المسبقات. وبالتحديد، الفلسفة التي صيغت في اليونان، وصارت مصدرًا لمشروعيّة كلّ ما تسمّى فلسفة فيما بعد. فقد قام أفلاطون، في مواجهة السفسطة، بالاستعانة بالأورفيوسيّة كيما يسوّغ خلود النفس وهدفيّتها. وعلى أساس هذه الأسطورة، يتماهى الإنسان مع النفس ويغاير الجسد؛ تصير النفس هي الأنا، ويصير الجسد هو الآخر. ومن يومها، صارت “الأورفيوسيّة من مستلزمات الفلسفة”[2]؛ من مُسبقاتها، إذا جاز لي القول.

إنّه الحدث الفلسفيّ الأكثر تأسيسيّة. هنا انقسمت الأنطولوجيا إلى أنطولوجيا روح وأنطولوجيا جسد. وهذا ما مهّد إلى تجزئة العالم فيما بعد إلى واقع موضوعيّ خارجيّ، وواقع آخر ذاتيّ[3] مع أولويّة للموضوعيّ تحملنا على تحويل الذات إلى موضوع إذا ما شئنا أن نعرفها أو ندرسها. وإنّها لمفارقة أن تحتاج الفلسفة التي تزعم تزويدنا برؤية كونيّة إلى ما سواها – في هذه الحالة أسطورة – لتستقي منه عناصر رؤية كونيّة. لكن، هل يمكن خلاف ذلك؟

وماذا عن أرسطو؟

صحيحٌ أنّ الأفلاطونيّة، بما هي رؤية للواقع، تستدعي الأرسطيّة بما هي رؤية مغايرة للواقع – إذا أخذنا بالمقاربة التي تجعلهما طرفا طيف الرؤى الفلسفيّة – ومأزق الأفلاطونيّة، حيث جعلت الروحانيّ في مقابل المادّيّ، يستدعي رؤيةً للواقع في وحدته كما تقدّم بها أرسطو. إلّا أنّ البرنامج الأفلاطونيّ المحدَث الذي أخذ على عاتقه “مصالحة” هاتين الرؤيتَين للعالم، فاقم القسمة الأولى، فصرنا أفلاطونيّين في مثاليّاتنا، وأرسطيّين في واقعنا المعيش[4]. بأيّ الأحوال، فقد كان لهذا البرنامج أن يكتمل إثر التفاعل والتخالط الواسع الذي جرى بين الأفلاطونيّة المحدَثة وبين التيّارات المسيحيّة التي تشكّلت في صيغ رسميّة وبخاصّة مع بولس وأوغسطينوس. فللأفلاطونيّة إطار تفسيريّ رحب لا يُقصي الروح بل يراعي حقّها، ويرى في الإنسان حقيقةً تتخطّى حيّزه الوجوديّ الضيّق في هذا العالم. هذا من ناحية. أمّا من أخرى، فقد كان لها دور تسويغيّ في تبرئة الإنسان من الخطيئة الأصليّة بإحالتها على الجسد.

فلنُجمِل. تقول الأورفيوسيّة بأصلين في الإنسان، أحدهما إلهيّ خيّر، وثانيهما هو محلّ الشرّ. النقلة الثانية تأتي مع الأفلاطونيّين حيث صارت النفس هي البُعد الإلهيّ في الإنسان، والجسد هو البُعد الدنيويّ. وعلى النفس دَينٌ تؤدّيه كي تكمُل، وإلى حين تأديته فهي أسيرة الجسد السجن[5].

كان على النقلة التالية أن تنتظر قدوم ديكارت الذي جعل من الأنا المفكّرة ذاتًا أسمى، بل لقد حصر فيها ذاتيّة الإنسان. “نجد هذا التوكيد، اللوغوس، منذ البداية مع أرسطو، فقد كان معيارَ تعيّن المقولات، أي كينونة الكائنات. بيد أنّ هذا المعيار – العقل البشريّ، العقل بشكل عامّ – لم يكن يوصف بأنّه ذاتيّة الذات. أمّا الآن [مع ديكارت]، يتقدّم العقل، بصراحة، على أنّه ’الأنا أفكّر‘ في المبدإ الأعلى، وكمعيار ومحكّ لتعيّنات الكينونة”[6].

لم يعد للجسد – المنحصر، منذ الآن، في حيّز الامتداد المكانيّ – أيّ نصيب من ذاتيّة الإنسان. بل لقد تكرّس بما هو جسم – وفارقٌ ما بين الجسد والجسم[7] – في مقابل الذهن الذي استبدل الروح في الأدبيّات الفلسفيّة التي تلت.

ومع توجّه الإنسان إلى داخله كي يُحرز اليقين، يتّخذ الخارج صبغةً أجنبيّة بالكامل. تصير الذات المنفكّة disengaged self محور كلّ حراك معرفيّ، وتصير الإبستمولوجيا، بما هي ضابط حركة العلوم المتقصّية للخارج، تمامَ الفلسفة. هذا عطفًا على إيمانٍ، كأنّما أوحي إليهم[8]، بأنّ الداخل (الذهن-الذات) البرهانيّ، الآليّ، والأداتيّ يضاهي الخارج الذرّيّ atomistic المتفاصل.

إنّ ثنائيّةً مماثلةً، مأخوذةً مع نظرةٍ ميكانيكيّة إلى العالم، ونزوعٍ مادّيّ صارخ، لن تفتأ تولّد ثنائيّات وتجاذبات وجدليّات تراوح بين تشيئة الإنسان وعزله عن الحياة. ومع اتّضاح التهافت الداخليّ لهذه المنظومة، وعدم انسجام ثنائيّتها المؤسِّسة مع ما أفسحت له المجال من مناهج علميّة وفلسفيّة دفعت بالمادّيّات لتملأ كلّ حيّز، رُدمت الهوّة بين النفس والجسد (أو الذهن والجسم)، وصرنا نردّد مع ميرلوبونتي، “أنا جسدي”[9]. لقد حُبي الجسد، من ثمّ، بكلّ المثاليّات والقدسيّات التي حازتها الروح فيما مضى.

أعتقد أنّنا هنا أمام مشكلةٍ تختصر في رمزيّاتها كلّ الجدليّات: المقدّس والمدنّس، المفارق والمحايث، الذات والموضوع. ولا أرى حال هذه الجدليّات مستقيمًا إلّا برفعها، والنظر إلى الإنسان بكليّته.

من الملائم هنا أن نسأل: ماذا عن الدين؟ ألم يُتعارف على الأورفيوسيّة دينًا؟ أليس الدين هو مُسبَقةَ الفلسفة التي ازدرت الجسد وجعلت الكمال للروح وحده؟

من الواضح أوّلًا أنّ تأثير الأفلاطونيّة تناهى إلى المعاقل الدينيّة، وبخاصّة عند التيّارات الغنوصيّة. وليس صعبًا أن نفهم انجذاب بعض الاتّجاهات النسكيّة، في كلّ الأديان، باتّجاه تمثّل الأفلاطونيّة، أو بعض نسخها، في مضامينها العقديّة. وكان التأثير جليًّا في الإسلام وفي المسيحيّة. حاولت المسيحيّة، مع توما الأكوينيّ، تبديد هذه الثنائيّة المفروضة من خلال التأسيس على ما في الكتاب المقدّس من إشارات إلى الإنسان في وحدته الوجوديّة، والاستثمار مجدّدًا في تعريف أرسطو للنفس بأنّها كمالٌ أوّل للجسم، وتطوير مقولة “الشخص” الوثيقة الصلة بالأقنوم، والتي كان لها أن تتحرّك في اتّجاهات مختلفة لما فيها من زخم منفتح على الكثير من البؤر المفهوميّة[10]. إلّا أنّ تكثّر المقولات (النفس، الروح، الشخص) دون تبيان الفوارق والتداخلات في المعنى لم يساعد المطلب في كثيرٍ من الأحيان؛ يقول جوزيف راتزينغر [البابا بنديكتوس السادس عشر]: “النفس تنتمي إلى الجسد كـ’صورة‘ [بالمعنى الفلسفيّ] له، إلّا أنّ الذي يكون صورةً للجسد هو أيضًا روح. إنّه يجعل الإنسان شخصًا […]”[11]. وكذلك نجد في معجم الإيمان المسيحيّ، لدى تعداد معاني النفس: “النفس هي الشخص الحيّ”[12].

إنّ فوضًى مماثلةً نجدها في الأدبيّات الإسلاميّة حين التعاطي مع مصطلحَي النفس والروح – لم تجد مفردة الشخص هذا النوع من الاصطلاحيّة هنا، وإن كانت من المفردات الفلسفيّة المتداولة.

ومع إصرارنا على عدم وجود فلسفة عارية عن المسبقات، نرى التداخل بين الدين والفلسفة عصيًّا على الفضّ غالبًا. وأظنّ قويًّا أنّ المدخل الملائم لمعالجة هذه المسألة هو اللغة، لا لأنّ اللغة تختزل المضامين الفكريّة المحرّكة، بل لأنّها تختزنها، لا على نحو الحياد “إذ من المتعذّر على الرويّة [الفكر] أن ترتّب المعاني من غير أن تتخيّل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الرويّة مناجاةً من الإنسان ذهنَه بألفاظ متخيَّلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني حتّى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن[13]، بل على نحو التفاعل. وبالتالي قد ترقى بنا إلى حيث يلتقي المجالان [الدين والفلسفة] في الآفاق التعبيريّة.

يقول هايدغر: “بالطبع، لا تنشأ المسألة دائمًا حيث تظهر الكلمة أوّل ظهورها. لكنّنا مع الإغريق، الذين عنهم صدرت الكلمة، نستطيع أن نقوم بهذا الافتراض دونما تردّد”[14]. مع صعوبة الوقوف على طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، لسنا مضطرّين لأن نقطع للغةٍ بعينها باستثنائيّة قد تشوبها شائبة المفاضلة العرقيّة، بيد أنّنا لا نرى عائقًا  في الإقرار بمحوريّة لغاتٍ دون أخرى من حيث تقاطعاتها التاريخيّة التي جعلت منها لغةً للاشتغال الفكريّ والتداول الثقافيّ. وهذا هو حال اللغة العربيّة التي سادت لفترةٍ طويلة كاللغة العقليّة لهذه المنطقة الحضاريّة.

فالفلاسفة، عربًا وغير عرب، الذين استعملوا اللغة العربيّة كأداة عقليّة لهم في التفكير والكتابة، كافحوا من جهة أولى لبناء معجم جديد بالعربيّة يمكن له أن يعبّر بدقّة عن الأفكار والمفاهيم الإغريقيّة، فضلًا عن أنّهم حاولوا من جهة أخرى ربط هذا المعجم بالتعاليم القرآنيّة. ومن ها هنا كانت الطبيعة الخصوصيّة جدًّا للمعاني العلاقيّة التي نمت حول المصطلحات القرآنيّة[15].

فلنعد إلى موضوعنا. أترك المقاربة اللغويّة المباشرة للجسد لصالح المعالجات الواردة في الملفّ[16]، وأقارب الجسد من باب النفس.

النفس، بحسب معجم ألفاظ القرآن الكريم، هي معنًى في الإنسان يوجّهه إلى أفعاله من الخير والشرّ[17]، أو معنًى به يكون التمييز والإدراك والإحساس بالمحيط، وهي، بَعْدُ، تقعُ موقعَ القلب والضمير، فتكون محلًّا للسرّ، وموطنًا للخاطر[18]. بيد أنّ النفس، على الأغلب، هي ذات الشيء وحقيقته[19]. ولا تعارض بين هذه المعاني. فحقيقة الشيء، إن كان لنا أن ندركها في الحدّ التامّ، هي مورد تمايزه عن حقائق الأشياء الأخرى، وإنّما تُسمّى بالحقيقة من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأهمّ. والنفس هي أثمن ما لدى ذوات النفوس. إذ النفس من النفاسة، “وهي رفعة الشيء وعظم مكانته”. وملاك نفاستها ناطقيَّتُها، أي كونها مدركة، لذاتها ولما سواها، وموجِّهة إلى مواطن الخير، لا أنّها مقصورة على العقلانيّة الأداتيّة.

وبما أنّ النفس هي حقيقة الإنسان، بالمعنى الذي مرّ، فإنّ كمال الإنسان الخاصّ يكون بكمال نفسه. وقد عرّف الحكماء كمال الشيء بأنّه صدور خاصّته عنه على أتمّ وجه[20]. والخاصّة، أو الفصل المقوّم، للإنسان هي نفسه الناطقة.

هل ينفي ذلك مدخليّة الجسد في كمال الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة، على وجه الدقّة، بين النفس والجسد؟

إنّ لحسم مسألة العلاقة بين النفس والجسد، ثمرة أخلاقيّة بالغة الأهمّيّة. فلقد درج عددٌ من علماء الأخلاق والفلاسفة، وبتأثيرٍ من مشارب فلسفيّة ودينيّة شتّى، على نفي أيّة مدخليّة للجسد في تعريف النفس، فجعلوه حقيقة مغايرة مستقلّة، تقف في إزاء حقيقةٍ أخرى مستقلّة هي النفس. ولهذا الأمر تبعاته حتّى عندما نتجاوز عنه لدواعٍ منهجيّة. إذ يصير الكمال عندها هو بنبذ الجسد، وربّما بمعاقبته، لأنّه مكمن الخطيئة والبُعد. وتنسحب هذه النظرة على التعاطي مع الدنيا لِما لا يخفى من كون الجسد (أي البدن العنصريّ الطبيعيّ) هو جزء الإنسان الممتدّ في الزمان والمكان، وبالتالي، المتّصل مع الدنيا. فتصير الدنيا مذمومةً في كلّ الأحوال، والحال أنّها مذمومة حينًا وممدوحة حينًا، والمِلاك في كلّ ذلك هو النفس الإنسانيّة في إقبالها على الدنيا وإدبارها عنها، وفي مرادها من ذا وذاك.

وإذا كان البدن هو جزء الذات الإنسانيّة، بل وجزؤها الممتدّ مع الطبيعة الخارجيّة، فهو حلقة الاتّصال بين الإنسان والعالم من حوله. وهذا ما ينبئ بمدخليّة للبدن ذات جنبة معرفيّة؛ فهل تنفكّ الحقيقة الإنسانيّة المعبَّر عنها بالنفس عن هذا البدن، أم هو جزؤها المشمول في كلّ إشارةٍ إليها؟ يقول الملّا صدرا: “إنّ نفسيّة النفس [هي] نحوُ وجودها الخاصّ الذي يلزمه الإضافة إلى البدن الطبيعيّ، وليست هذه الإضافة كإضافة الأشياء التي عرضت لها الإضافةُ بعد تمام وجودها وهويّتها”[21]. البدن، إذًا، هو بدنها، ولا تكون النفس بحالٍ دونما بدن، وإن كنا نحكي عن بدنٍ عنصريّ طبيعيّ هو لها في هذه النشأة – نُسمّيه الجسد – فإنّ لها في النشآت الأخرى بدنًا ملائمًا.

على هذا، فإنّني أصل إلى التعريف الوارد بحقّ النفس ولعلّه التعريف الجامع: النفسُ “جملةُ الإنسان، والجنى من الروح والجسد”[22]. بيد أنّ هذا التعريف لا يحول دون الوقوع في الالتباس حين الكلام على النفس، إذ يتعدّد المراد منها بحسب اختلاف الموارد. فكيف تكون النفس موردًا للذمّ في محلّ، وموردًا للمدح في آخر؟ أيكون للحقيقة الواحدة هذا النحو من التفاوت وهي بعد حقيقة واحدة؟

المورد الأوّل للالتباس يكمن في إشارتنا إلى الحقيقة الإنسانيّة المذكورة بتسميات شتّى، بلحاظ الحيثيّة التي نُقاربها من خلالها، وهذه الحيثيّات تُشير، في واقع الأمر، إلى أبعاد مختلفة للنفس. يقول الفيض الكاشاني:

وقد يُسمّى هذا الجوهر الملكوتيّ [النفس] بالروح لتوقّف حياة البدن عليه، وبالقلب لتقلّبه في الخواطر، وبالعقل لاكتسابه العلوم واتّصافه بالمدركات، وقد تستعمل هذه الألفاظ الأربعة [النفس والقلب والعقل والروح] في معانٍ أخر تُعرف بالقرائن[23].

بعبارةٍ فلسفيّة:

النفس تمام البدن؛ يحصل منها ومن المادّة نوع كامل جسمانيّ. وجوهر النفس باعتبار ربوبيّته للبدن يُسمّى روحًا، والبدن تجسُّدُ الروح وتجسُّمُه، ومظهرُه ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة [أي في هذه الدنيا][24].

أمّا مورد الالتباس الثاني فهو أنّ هذه النفس ليست قارّةً بغير حراك. فهي تشتدّ وتقوى وتتكامل في كلّ واحدٍ من أبعادها المذكورة. فمن حيث هي روح، فهي قد تشتدّ في روحانيّتها حتّى تصير أمر الله؛ ومن حيث هي قلب، فقد تخلو من كلّ خاطرٍ ما سوى الله، وتطهّر سرّها، فتكون عرشَ الرحمن؛ ومن حيث هي عقل، فقد تكتمل بالمعارف والعلوم لتصير عقلًا قدسيًّا، وعالمـًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ. فهل يمكن مقارنة النفوس الأمريّة، العرشيّة، القُدسيّة بالنفوس المنكوسة المـُخلِدةِ إلى الأرض، المكتفية بها؟

إنّ القسمة السالفة الذكر بين الذات والموضوع في الحيّز الأنطولوجيّ ولّدت القسمة بين الوقائع والقيم fact/value split في الحيّز الأخلاقيّ. باتت القيمة “تعبّر عن ردّ فعلنا الذاتيّ تجاه الموضوع من دون أن يكون للموضوع ارتباط واقعيّ بتوليد ردّ الفعل المذكور”[25]، فتساوت كلّ الأشياء. ومع “موت الذاتيّة” في حتميّات المسار الفلسفيّ المذكور ضاعت القيمة تمامًا. ومع ضمور القيم تتهافت الأسس الأخلاقيّة لانعدام القدرة على تأسيسها على عقلٍ أداتيّ منبتّ الصلة بالخارج. وتتهافت معه، بل وقبله، كلّ إمكانيّة لإقامة مجتمع إنسانيّ تواصليّ.

إن كان الدليل الأوّليّ [على الواقع] موجودًا في وعي الذات وحدها، فلن يكون ممكنًا أن نؤسّسَ انطلاقًا منه، وبنفس القيمة الحضوريّة، الواقعيّةَ المستقلّة للأشياء الأخرى. أضف إليه أنّ التواصل بين الذوات يصير مستحيلًا؛ إذ لو عرّفنا الأنا ego على أنّه الوعي، يصير جسدا الأنا ego والأنا الآخر alter ego عوائق أنطولوجيّة مزدوجة يستعصي تخطّيها. وليس هذا فحسب، بل يصير الجسد نفسه مشكلة: كيف نفسّر التعبير، إذ يظهر في الجسد، في الوقت الذي لا نجد له أثرًا، بأيّ نحو، في الخصائص الأنطولوجيّة للأجساد بما هي أجساد[26]؟

من هنا انصبّ نقدُ المعترضين على المسار الفلسفيّ المذكور على إيلاء الأولويّة للمجتمع بما هو بؤرة الهويّة الفرديّة، وأكثر ما توسّلوه في دخول هذا المدخل فهو التقصّي المتأنّي لدور اللغة في حياة الإنسان. باتت المهمّة بين أيدينا تقوم على

تجاوز المعتقدات الأنثروبولوجيّة الفاسدة [الرؤية إلى الإنسان القائمة على أساس الفصل بين الذات والموضوع] من خلال نقد – وتقويم – المباني المعرفيّة المتعلّقة بها، والتي لعبت دورًا كبيرًا في إيلائها [المعتقدات الأنثروبولوجيّة] رصيدًا لا تستحقّه. بعبارة أخرى، من خلال توضيح شروط القصديّة، نفهم أنفسنا أكثر بما نحن فواعل معرفيّة – وبالتالي كائنات لغويّة – ومن ثمّ نحرز فهمًا لعدد من الأسئلة الأنثروبولوجيّة التي تتأسّس عليها معتقداتنا الأخلاقيّة والروحيّة[27].

إنّ الإشارة الواردة إلى القصديّة قد تنحصر – في هذا السياق – باللغة، إلّا أنّ القصديّة في الإنسان تتجاوز كونها من خصائص فكره أو لغته، بل هي تشير إلى أنّه كائنٌ متجاوزٌ بكلّه، لا ينحصر في ذاته، بل يتخطّى إلى ما سواه تخطّي تفاعل وتكامل. أمّا الإشارة الأوسع إلى التغيّرات الأنثروبولوجيّة فتشير إلى ما بات كثير التداول في يومنا، ويُطلق عليه “الانعطافة الأنثروبولوجيّة” في ربطٍ له بالانعطافات الكبرى في تاريخ الفلسفة الحديث (الانعطافة المعرفيّة، الانعطافة اللغويّة، وغير ذلك). ويبدو أنّ كثرة الانعطافات ستعود بنا إلى المحلّ الأوّل. بيد أنّه من المعيب أن نصل إلى هناك دون أن نكون قد تعلّمنا واستفدنا من كلّ التجارب والإخفاقات.

إنّ الفكر الإسلاميّ مدعوّ اليوم، ومن موقع منهجه التوحيديّ الأرحب، إلى خوض هذا الغمار تأسيسًا على موقعيّة القيم منه، ومحوريّة المعنى عنده، إذ الروح هي المعنى. وكلّ تعاطٍ مع الإنسان يأخذه بمعزل عن تماهيه مع العالم ومع غاياته، ويريد أن يردّه إلى مكوّنات مادّيّة فيه، يستطيع من خلاله أن يؤطّره في معادلات رياضيّة، ويدرسه بحسب برامج حاسوبيّة، هو تعاطٍ لا يرى الحياة في الإنسان. والحياة لا تخلو من التعقيد، لا تخلو من تعدّد السياقات وتمازجها، واختلاف أدوار المكوّنات بحسب اختلاف السياقات[28]، كما لو أنّ الحياة نصٌّ لا قيوميّة فيه على المعنى إلّا لمرادات الناصّ وسياقات القراءة. بهذا اللحاظ ندرك المغزى ممّا ورد أعلاه بأنّ النفس معنى، إذ عنها تصدر أفعال الحياة، والجسد من حروفها، لا نفهمه إن عزلنا ما بين السطور، ولا نقبض عليه إن لم نقرّ للرمزيّات بغنى المعنى. إنّ الحياة لا تُفهم إن لم نمتلك قدرة لنؤوّل، وخيالًا لنتجاوز.

هذه تلميحات أكتفي بها لكي نظلّ في حدود افتتاحيّة – وهذا مطعون فيه – عسى أن تتمكّن المحجّة من تظهيرها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر،

  1. Ricœur, The Symbolism of Evil (New York: Harper & Row, 1969), p. 357.

بالطبع، نحن لا نرى، كذلك، أنّ ارتباط الفلسفة باللغة هو أقلّ وثاقة. انظر أدناه.

[2]

Ibid, p. 279; J. Ratzinger, Eschatology: Death and Eternal Life, tr. Michael Waldestein, 2nd ed. (Washington D.C.: The Catholic University of America Press, 1988), p.141.

الأسطورة الأورفيوسيّة معروفة إلى حدٍّ بعيد: يقوم الجبابرة (أو التياتنة Titans) بقتل الإله الطفل ديونيسوس، ويغلونه في قدر، ويأكلونه. وليعاقبهم، يرميهم زوس بالصواعق، ويخلق من رمادهم الجنس البشريّ. وهكذا، يُشارك الإنسان في الطبيعة الإلهيّة لديونيسوس، والطبيعة الشرّيرة للجبابرة.

[3] انظر، في هذا العدد، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتخطّي جدال العلم والدين”.

[4] انظر، مثلًا،

  1. D’Ancona, “Greek into Arabic: Neoplatonism in Translation”, in P. Adamson and R. C. Taylor, The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), pp. 10-31.

لوجهة النظر المغايرة،

  1. E. Karamanolis, Plato and Aristotle in Agreement? Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry (Oxford: Oxford University Press, 2006).

[5] المعنى الحرفيّ لكلمة سوما sôma – أي الجسد – اليونانيّة هو السجن، “[و]لا يلزم تغيير ولا حتّى حرف واحد في الكلمة”، كما يقول أفلاطون. أفلاطون، محاورة أفلاطون، ترجمة عزمي طه السيّد أحمد (عمّان: وزارة الثقافة، 1995)، الصفحة 125.

[6] انظر،

  1. Heidegger, What is a Thing? tr. W. B. Barton, Jr., and V. Deutsch, with an analysis by E. T. Gendlin (Chicago: Henry Regnery Co., 1967), p. 106. Original edition: M. Heidegger, Die Frage nach dem Ding (Tübingen: Max Niemeyer Verlag, 1962).

[7] انظر، في هذا العدد، أحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[8] بعبارة تشارلز تايلر: “المسألة كانت كما لو أنّهم تلقّوا وحيًا، قبليًّا a priori، بأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يجري بمقتضى الحساب الصوريّ. الآن، أنا أذعن بأنّ جذور هذا الوحي تضرب في أعماق حضارتنا [الحضارة الغربيّة] والنموذج الإبستمولوجيّ المرفق بها”. يُلمّح تايلر هنا إلى تكثّف البُعد العقلانيّ، بالمعنى الأداتيّ، في الفكر الغربيّ، ويُقدّم معالجةً طيّبة لهذه المسألة. وللمزيد حول هذه المسألة انظر، في هذا العدد، مقالة ألستر كروك “القيم الغربيّة: حكاية السيّد الذي أطاح به خادمه”. المقالة تستقي من كتابٍ لإيان ماكغيلكرايست يبيّن فيه أسبقيّة بُعدٍ معرفيّ، في الإنسان، قائم على القبض المباشر على الواقع، على بُعد يتوسّل الصور والتمثّلات [غير المباشرة] لمعرفة الواقع. وهذا هو محور النقد الذي تقدّم به نيتشه وهايدغر وآخرون للإبستمولوجيا التقليديّة إذ جعلوا الجمعيّة في الخارج في مقابل الذرّيّة، ورفضوا مقولة الذات المنفكّة لحساب الذات المنخرطة – “الكائن-في-العالم”. أمّا في الفلسفة الإسلاميّة، فقد قامت الإبستمولوجيا على الاعتراف بهذين النحوين من المعرفة، الحضوريّ والحصوليّ. انظر،

  1. Taylor, Philosophical Arguments (Harvard University Press, 1995), ch. 1 “Overcoming Epistemology”, p. 6; I. McGilchrist, The Master and his Emissary: The Divided Brain and the Making of the Western World (New Haven and London: Yale University Press, 2009); M. Hai’ri Yazdi, The Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence (New York: SUNY Press, 1992).

[9] انظر، في هذا العدد، جوزيف معلوف، “مفهوم الجسد عند موريس ميرلوبونتي”؛ أظنّ أنّ مفردة “جسم” أليق، كترجمة، من “جسد”. وأيضًا، وجيه قانصو، “الجسد في الفلسفة الوجوديّة”.

[10] انظر،

Eschatology, op. cit., pp. 108, 155-158.

[11]

Ibid, p. 149.

[12] الأب صبحي حموي اليسوعيّ، معجم الإيمان المسيحيّ، أعاد النظر فيه من الناحية المسكونيّة الأب جان كوربون، الطبعة 2 (بيروت: دار المشرق، 1998)، الصفحة 514.

[13] ابن سينا، الشفاء: المنطق، 1- المدخل، تصدير طه حسين، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأساتذة الأب قنواتي، محمود الخضيري، فؤاد الإهواني (القاهرة: وزارة المعارف العموميّة، 1953)، الصفحتان 22 و23. التسويد ليس في الأصل.

[14]

What is a Thing? Op. cit., p. 249.

[15] توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمّد الجهاد (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2007)، الصفحة 92.

[16] انظر، تحديدًا، شفيق جرادي، “ابن الطين وغسق الذات المجهولة”، وأحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[17] مجمع اللغة العربيّة (القاهرة)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الطبعة 2 (انتشارات ناصر خسرو، 1363 ش. ق.)، الجزء 2، الصفحة 709.

[18] المصدر نفسه. وقد وردت في الآيات القرآنيّة شواهد بكلّ هذه المعاني. على سبيل المثال: سورة البقرة، الآيتان 233 و281؛ سورة آل عمران، الآيتان 161 و185؛ سورة المائدة، الآيتان 32 و45؛ سورة يونس، الآيات 30، 54 و100؛ سورة الإسراء، الآية 33؛ سورة الكهف، الآية 15؛ سورة الأنبياء 47؛ سورة السجدة، الآيتان 13 و17، وغيرها.

[19] المصدر نفسه، الصفحة 710.

[20] الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ترجمه عن الفارسيّة ووضع الدراسات والتحليلات العلميّة الدكتور محمّد صادق فضل الله (بيروت: دار الهادي، 2008)، الصفحة 121.

[21] صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات، تقديم وتصحيح محمّد خواجوى (بيروت: دار الصفوة، 1993)، الصفحتان 145 و146. إنّ العمق الفلسفيّ لهذا الاستنتاج يكمن في القاعدة القائلة بأنّ النفس جسمانيّة الحدوث، روحانيّة البقاء. ولكن لا مجال لتفصيل القول في ذلك هنا.

[22] معجم ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 708.

[23] الفيض الكاشاني، الحقايق في محاسن الأخلاق، الطبعة 2 (بيروت: دار البلاغة، 2004)،  الصفحة 50.

[24] آية الله حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون [عيون مسائل النفس] (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1421 هـ. ق.)، الصفحة 13.

[25]

  1. McInerny, A Student’s Guide to Philosophy, with a bibliographical appendix by J. P. Hochschild (Delaware: Intercollegiate Studies Institute Books, 1999), p. 46.

[26] إدوارد نيكول، “العودة إلى المِتافيزيقا”، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2010)، العدد 21.

[27]

“Overcoming Epistemology”, op. cit., p. 14.

[28] انظر،

  1. Talbott, “What Do Organisms Mean?” The New Atlantis 31, Winter 2011.

اترك تعليقاً