إفتتاحية العدد 32

افتتاحية العدد 32

قد يصعب على المفكرين والعلماء من أهل الإيمان الديني الرضوخ لواقع التعاطي مع ظاهرة الإلحاد كظاهرة تأويلية جديرة بالاصطفاف في صفٍ مقابلٍ لصف طروحاتهم الإيمانية الدينية، كيف لا والإلحاد – على اختلاف مستوياته وتفاوت طروحاته – لم يقم في نظرهم إلا على رفات وهمية اصطنعتها نفوس الملحدين لما ظنوا أنهم هدموه من مبتنيات المنظومات الدينية المحكمة. وبعبارة أخرى، لم تكتسب أي من طروحات الملحدين مشروعية القول إلا بإقصائها لما يقابلها من مقولات الإيمان، فلا تكون طروحات الإلحاد بالنسبة لأهل الإيمان أكثر من مجموعة مقولات عدمية يتوهم صاحبها لها الموجودية لضعفٍ في التمييز بين الوجودات الحقيقية والعدميات الخاصة. فما كان لأصل الثبوت فاقدًا، فإنه لأي نحو من أنحاء الإثبات أشد فقدًا، وهذا على أهل الإيمان إملاء ضروري تفرضه ضوابط المنطق العقلي الذي يوقف الخوض في الهَليات المركبة على تحقق الإيجاب في جواب الهَليات البسيطة.

وعلى المقلب الآخر، لم يهنأ لدعاة الإلحاد يومًا الارتكان إلى أي نوع من أنواع التهميش الذي سعى ويسعى المتدينون – من ربوبيين وكتابيين – إلى إرسائه والبناء عليه. حيث ذهب المتقدمون منهم إلى تبنّي موقف حاد وجذري يحيل كل إيمان ديني إلى تبريرات خاوية تصطنعها نفس الإنسان الجاهل بتفسير أحوال الكون المحيط به وشؤونه تارةً، وإلى موهومات تخلقها واهمة الإنسان المأخوذ بحس الأسطرة أخرى، وإلى موروثات ومسبقات تختزنها حافظة الإنسان الجهول المتواني عن إعمال عاقلته ثالثةً، وغير ذلك من التفاسير التي توسّل به أولاء في سبيل ضرب أي أساس اعتقادي تقوم عليه المنظومات الإيمانية والدينية، ما حدا بهم إلى ادعاء التفرّد في حيازة العقلانية، أو لا أقل التفرّد في كسر كل قيود الإيمان عن النزعة العقلانية، حتى انتهت النوبة إلى دعاة الإلحاد الجدد، الذين توخّوا في سبيل الغاية نفسها سبيلًا آخر؛ وهو الاستناد إلى النتائج الحسية اليقينية التي تثبتها العلوم التجريبية الحديثة، الأصل نفسه الذي يستند إليه بعض الدينيين في إثبات مواقفهم!

وفي حين نجدنا رافضين للموقف الثاني، لما يعتريه من إفراط صريح ومغالاة واضحة يجدها المنصف في ادعاءات الملحدين التفرد في النزوع نحو العقلانية، فإن حالنا يختلف مع الموقف الأول، فإننا وإن كنا نوافق وإلى حد بعيد على مقدماته، إلا أننا لا نوافق على عدم أهلية مقولات الإلحاد للنقاش والبحث نفيًا أو إثباتًا، ذاك أن الفلاسفة – ووفق الضوابط المنطقية نفسها – أقروا أن للأعدام الخاصة حظًّا من الوجود، ما يعني أن المقولات الإلحادية المدّعاة العدمية قد يصح الوقوف عليها والعمل على تفنيدها.

وانطلاقًا مما تقدم نقول: لقد بات وجود ظاهرة الإلحاد واقعًا لا يمكن تجاوزه، بل ثبت أن لهذه الظاهرة، لما انكشف من قدرتها على التوالد والانتشار في كل عصرٍ ومِصر، أسسًا ذاتيةً وموضوعيةً ينبغي الوقوف عليها وبحثها في سبيل الخلوص إلى فهم صحيح لحقيقة هذه الظاهرة.

نعم، قد لا يجد الباحث في كثير مما تنتجه هذه الظاهرة من مقولاتٍ حقلًا خصبًا للنقاش العلمي الحقيقي – ولسنا في هذه العجالة بصدد استعراض أو دحض أي من الطروحات الفكرية للملحدين – إلا أن أصل وجود هذه الظاهرة والتثبّت من وجود ميل قوي عند كثيرين إلى تبنيها والمحاربة تحت لوائها يفرض على الباحث إعادة السؤال عن نوابعها ودوافعها في سبيل الوصول إلى بر يقين في تفسير واقعها، خصوصًا مع وجود طرح واسع مناوئ لها – وهو الطرح الإيماني على اختلاف مدارسه – يدعي لنفسه ما تدعيه لنفسها من الاستناد إلى ضرورات العقل وحتمياته، ما يجعلنا أمام معيار وحيد مشترك بين الاتجاهين، هو معيار العقل.

وفي سبيل الخوض في هذا السؤال – أعني السؤال عن نوابع ظاهرة الإلحاد – وغيره مما يترتب عليه من الأسئلة، فإن معيار العقل المذكور أعلاه هو الأرضية الوحيدة التي يصلح الانطلاق منها، لما له من حجية على كلا الطرفين، وإلا فلن يصح بوجه من الوجوه معالجة ظاهرة بالاستناد إلى مبان منهجية مرفوضة في تمثّلات تلك الظاهرة.

والكلام على معيار عقلي هذه حاله، إنما يفرض على الخائض امتلاك روحية بحثية حيادية، تتيح لصاحبها الوقوف على كل ما يتطلبه البحث من استحضار لمقولات الطرح الإلحادي – كما والديني عند اقتضاء الضرورة –، وترفع عن كاهله كل الأحكام المسبقة، وتضع عنه كل أوزار الضغائن والأحقاد النفسية، مما قد يمنعه عن الوصول إلى نتائج صائبة.

وفي سياق ما تقدم، تحمل المحجة في عددها هذا على عاتقها مهمة الخوض في هذا السؤال. وإنها إذ تطرح موضوعة الإلحاد على بساط البحث، فهي إنما تعمد إلى ذلك لأسباب أهمها:

– إيمانها بضرورة الوصول إلى فهم دقيق لهذه الظاهرة، ما يمهد للتوغل تاليًا في تأسيس فهم فلسفي أوضح للطبيعة الإنسانية، وهو ما عمدت المحجة في كثير من أعدادها السابقة إلى تحقيقه.

– السعي إلى توفير الأرضية المشتركة السابق ذكرها عبر تقديم أبحاث تتوافر على المعايير العلمية الرصينة والحيادية.

– التأكيد على مركزية الإيمان العقلاني الذي تجده سبيل الخلاص الوحيد، والسعي إلى تقديم إجابات على كثير من إشكالات الملحدين، وهو المؤمل مما سيرد في طيات أبحاث الملف في هذا العدد.

– دعوة أهل الإلحاد، من دعاة ومنظرين ومتبنين، إلى حوار علمي هادئ ورصين يفترض له أن يساهم في استنقاذ هؤلاء من غياهب الاغتراب الذي يكتنفهم، مدفوعةً بالتزامها الدائم بقضايا الإنسان كموجود كرمته المشيئة الإلهية.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن بابَين، أولهما ملف العدد المعنون بـ”الإلحاد واغتراب الإنسان”، وثانيهما باب الدراسات والأبحاث، حيث حوى الأول سبعة بحوث، فيما حوى الثاني بحثين اثنين.

يُستهل العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يحاول فيها الإضاءة على جوهر حقيقة الإنسان كمحور أساسي للنقاش الفكري المحتدم بين دعاة الدين ودعاة الإلحاد، فيذهب في طرحه إلى استنطاق مقولات أساسية تبني عليها دعوات الإلحاد ركائزها، كمبدأ “الإرادة الحرة” مثلًا، ليبدد التعاند الموهوم بينها وبين حقيقة الإيمان، ويحدد أطرها الفكرية المفترضة في انتظام حياة الإنسان، ما يجنّب من الوقوع في مغبّة “بتر” الأخير عن الدور الذي يريده الدين له.

ثم نقف مع طرح بحثي لحسن بدران، نتساءل فيه بإلحاح عن الحدود المعرفية الواقعية التي يمكن للقول الإلحادي السريان إليها، ونستعرض معه إمكان اكتناه أصالة حقيقية للدعوة الإلحادية في مقابل الدعوات الدينية، عبر استجلاء المعالم الفكرية للطروحات الإلحادية المختلفة، وذلك باستنطاق هذه المنظومات ومساءلتها عن رؤيتها لجملة من المفاهيم المركزية، كمفهوم “الله” و”الدين” و”الطبيعة”.

ثم يلي ذلك وقفةٌ مع آلفن بلاتينغا نطالع فيها افتقاد فريقَي نزاع “الإيمان” و”الإلحاد” إلى أرضية مشتركة للنقاش يجنّب الانطلاق منها الانجرار إلى واقع من التراشق اللفظي الدفاعي أو الهجومي، النابع من تشكيك كل من الطرفين بالحيثيات المعرفية والعقلية للطرف الآخر، ونصل معه إلى اقتراح حلٍ للخروج من هذه الدوامة، وذلك بلحاظ الاتساق الأنطولوجي الذي يشغله إنسان الإيمان وإنسان الإلحاد، سعيًا إلى الوصول إلى تثبيت خطوط النزاع والبحث تاليًا في أسس الخلاف النظرية بين الفريقين.

وبعده، يطالعنا مشير عون بدراسة يحاول فيها تحديد المبتنيات الفكرية والنظرية للفيلسوف الألماني “فريدريخ نيتشه”، الذي قدم في أطروحته المناوئة للمنظومة الدينية الكنسية جهدًا سعى فيه، من جهة، إلى تهديم أواصر البناء الديني ونبذ إله الكنيسة الذي أعلن – بحسبه – عن موته بأكثر من صورة، ومن جهة أخرى إلى بناء مفهوم جديد للإنسان يكون الأخير فيه متحرّرًا من القيود الدينية الآسرة، متجرّدًا عن المسبقات الإيمانية المحددة، سيدًا قويًا مطلق الإرادة.

ونخوض بعد ذلك، مع أحمد ماجد، في بحث إشكالي نقدي يطال لغة الإلحاد، التي يتبدى فيها العجز عن استيفاء مشروعيةٍ حقيقية للقول الإلحادي، ما حدا بها إلى السعي إلى ضرب النسق البنيوي الذي تقوم عليه لغة الإيمان، بل اللغة عمومًا، في إغفال منها للتداعيات الخطيرة لهذا المسعى، والتي تؤسس لمفهوم مبتور للإنسان، الذي تعتبر اللغة عنصرًا أساسيًا في تكوين أبعاده الوجودية.

وننتقل بعدها إلى مقاربة سمير خير الدين لواقع النقاش القائم بين الدين والإلحاد، ففي حين يتسالم كثير من أهل الفكر على أساسيات المنهج العقلي المنطقي، إلا أن واقع الخلاف إنما يتبدى في استطلاع طبيعة المواد التي تتشكل منها مقدمات البرهان عند الطرفين، والذي يشي – في كثير من الحالات – بقيام الجدال الإلحادي على إلزام الآخر بمقدمات لم يلتزمها، ما يقوي الاعتقاد بكون الإلحاد نابعًا – أول الأمر – من دوافع نفسية.

أما مع عبد الله زيعور، فإننا نقف على نوعٍ من المطارحات العلمية القائمة على أساس محاكمة الخصم انطلاقًا من مبتنياته، ففي حين يعمد كثير من دعاة الإلحاد الجدد إلى توظيف نتائج العلوم التجريبية الحديثة في سبيل التأكيد على نفي وجود خالق للكون، ينطلق زيعور من النتائج نفسها ليؤسس عليها فهمًا ما ورائيًا مختلفًا، تكون فيه هذه النتائج مقدمّات ضروريةً للإيمان اليقيني بوجود صانع للكون.

أما باب الأبحاث والدراسات، فنطالع فيه ورقتين بحثيتين لكل من كمال لزيق وأحمد جابر، تعالج الأولى البعد الوجودي للمعرفة في فلسفة صدر الدين الشيرازي، عبر الإضاءة على المعاني الجديدة التي قدمها صدرا لكل من العلمين الحضوري والحصولي، والتأكيد على أصالة الأول واعتبارية الثاني في منظومته المعرفية؛ فيما تتناول الثانية مسألة أصالة الوجود كما طرحها صدر الدين الشيرازي، عبر تحديد الأطر الصحيحة لمعنى أصالة الوجود، وتجاوز ذلك لاستعراض تفسيرات جديدة لها قدمها شرّاح متأخرون لفلسفة الحكمة المتعالية.

وهما – أي الورقتان البحثيتان الأخيرتان – جزء من النتاج العلمي الذي تمخّض عن ندوة إقليمية أقامها معهد المعارف الحكمية في العام المنصرم، تحت عنوان “النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية”، سيصار إلى نشر ما نتج عنها من أبحاث في الأعداد القادمة من المحجة.

والحمد لله رب العالمين.

إفتتاحية العدد 31

شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين حراكًا فكريًا فريدًا تمثّل بانفتاح المؤسسات الحوزوية على أنظومات الفكر المناوئ – الغربي منه أو العربي –، وقد كان هذا الانفتاح أثرًا طبيعيًا لاجتياح بعض المدارس المادية واللادينية للساحة الفكرية في بلاد المسلمين، نتيجة إرهاصات سياسية تاريخية لا مجال لبسطها، حيث كان لهذا التحول آثاره الهادمة لبنية المجتمع الإسلامي، فتنطّح إذ ذاك بعض أساتذة الحوزات العلمية للدفاع عن تعاليم الدين ومواجهة الطروحات النظرية لتلك المدارس. وقد لزم في هذا المسعى أن يتمسك روّاد هذا الحراك بخلفيات التأصيل الفكري التي توفرها الحوزة من جهة، وبميسم الاجتهاد الفكري الذي يتخطى السائد من المعالجة ويفتح للعاقلة آفاقًا علميةً جديدة من جهة أخرى، بحيث يضحي المفكر متوفّرًا على دافع الخوض في حقول وميادين جديدة ولكن برؤية ونفس أصيل ورؤيوي.

ولكن مساعي هذه الزمرة لم تنجُ من نقودات علماء الداخل، وبالداخل أعني المنظومة الإسلامية، لأنه إن كان من خطير الادّعاء القول إن ارتكان الفلسفة إلى مقولات الدين – أي دين كان – هو عامل إقصاء لحيوية تلك الفلسفة وتحديدٍ لمدياتها الغائية في استقراء الوجود، فإن الأخطر منه ادّعاء أن الفلسفة ومطالبها علوم غريبة عن الدين، مشوهة لصورته وحقيقته، نازعة سمة القداسة والإلهية عنه. وهذان تياران كان على أصحاب التوجه المذكور التصدي لهما.

ولإن كنا سنخوض في مسعًى استشرافي لأهم أعلام هذا الحراك، فإننا سنجد العلامة الطباطبائي على رأس قائمة أولئك العلماء، لما اضطلع به من دور مركزي في ذاك السياق. فقد خرج الرجل في عصر كانت الفلسفة تنحو فيه نحو عملية بتر لكل ما هو ديني فيها، لا سيما في العالم الإسلامي، والحوزات تنحو نحو إقصاء لكل مشتغل أو مهتم بالفلسفة، فخرج إذ ذاك ليعيد نسج خارطة العقل الإسلامي والفلسفي على حد سواء، مثبتًا – أو ساعيًا إليه بالحد الأدنى – أن الفلسفة لا يمكن أن تحاكي واقعًا تُغيّبُ منه عالم ما وراء الطبيعة، وما يتعلّق به من مقولات الغيب والإلهام والشهود وغيرها، ومثبتًا من جهة أخرى أن الفهم الديني الحقيقي لا يمكن أن يصبح منتجًا حقيقةً ومعايشًا لهواجس العاقلة الإنسانية المتأخرة ما لم يكن على اضطلاع بمقولات الفلسفة، باسطًا لوجهته فيها، ليعيد بذلك إرساء لُحمة بين هذين الحقلَين.

إلا أن حصر الجهد المعرفي للعلّامة بهذا الحقل قد يكون من الإجحاف بمكان، حيث إن مساحة عمل الرجل تتخطى مجرد دور المدافع في إزاء الطروحات الهجينة، فقد كان له دور ريادي في التأسيس لإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية حول الله والإنسان والعالم، وذلك عبر إسهاماته التي قدّمها في سائر مجالات العلوم الدينية والعقلية، وإنجازاته التي يشهد له بها كل مطّلع؛ فقد أرسى – رحمه الله – منهجًا مستحدثًا في تفسير القرآن، يعتمد آيات القرآن نفسها منطلقًا لتفسير سائر النص القرآني؛ كما وسعى إلى إعادة تقديم النظام الفلسفي لملا صدرا بمرتكزات جديدة، مضيفًا إليه بعض الإبداعات الجديدة كبحثه حول الإدراكات الاعتبارية، وطروحاته في نظرية المعرفة، وغيرها؛ كما وعمل على صياغة نسق عقائدي مواده اليقينيات من القضايا وعناصر هيئته الاستدلال بالتلازم؛ كما وقدم بحوثًا في العرفان والولاية يقع الإنسان فيها أصلًا موضوعيًا يُلحظ في سياق علاقته بالمطلق؛ ذاك كله مضافًا إلى مباحثه في التاريخ والسيرة.

وبذلك، فقد كان لهذا العالم قدم السبق على سائر علماء عصره، وهذا مردّه إلى ما توفرت عليه منظومته الفكرية من مميزات فريدة. فقد اتّسمت تلك الشخصية أولًا بالموسوعية والشمولية، حيث كان ضليعًا في الفلسفة والعقائد طويل باع في الفقه والأصول والحديث متمرّسًا في علوم القرآن والتفسير محيطًا بحقول السيرة والتأريخ، إلى غير ذلك من المجالات؛ واتّمست شخصيته ثانيًا بالعمق والغزارة، حيث كان في كل واحد من تلك المجالات عميق التناول غزير الطرح، يقف على دقائق القضايا ويسائل المركوز فيها فلا يتلهى بالسطحي منها مغمضًا عينه عن لبها وأسِّها؛ ثم اتّسمت شخصيته ثالثًا بالجدة والريادة، حيث كان في كل القضايا العلمية رائدًا في طرح الجديد الذي يفتح آفاق الفكر على موضوعات مفصلية لم يكن قد سبق الخوض في طرحها؛ واتّسمت رابعًا بمسيم الإحيائية لمفهوم الأصالة الإنسانية، حيث جُعل الإنسان في فلسفة الطباطبائي وفكره أصلًا ترتكز عليه فروع المطالب وبلحاظه ترتسم الأفكار وتخاض النقاشات؛ واتّسمت أخيرًا بالواقعية الموضوعية، حيث استندت معظم استدلالاته الفلسفية أو العقائدية أو غيرها على أصول موضوعية هي القضايا اليقينية، وبهذا فإن طروحات الطباطبائي موافقة لما بإزائها في الخارج، أي مطابقة للواقع ونفس الأمر، سواء كان الواقع خارجًا أو ذهنًا أو شيئًا غيرهما.

والمحجة إذ تعمد في عددها هذا إلى استعادة أهم المرتكزات والأسس المنظومية لفكر العلامة الطباطبائي، فهذا مسعًى منها ينصبّ في سياق السعي إلى إعادة قراءة الذات بغية تكوين هوية إسلامية أصيلة ومشخّصة، ذاك أن موضوع الهوية مماسّ ولصيق بموضوع الثقافة ودورها في بناء الذات، خصوصًا مع ثقافة كتلك التي أرساها العلّامة الطباطبائي، الذي جعل التوحيد محورًا دارت حوله كل طروحاته، واتخذ القرآن قاعدةً ارتكز إليها في كل فتوحاته العلمية؛ ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذه الاستعادة.

ولا يفوتنا الإشارة في هذه العجالة إلى أنه سيصار في أعداد قادمة من المحجة إلى نشر أبحاث علمية تقع في إطار مشروع فكري ينطلق من نفس التوجيه المذكور أعلاه، يعمل الباحثون خلاله على بناء نظام منهجي لفكر العلامة الطباطبائي الفلسفي بالاستناد إلى كتابه نهاية الحكمة، فيضحي هذا العدد مثابة مقدمة لمشروع بحثي طويل تباشره المحجة في أعدادها القادمة.

 

مع العدد

يُستفتح العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يقدم فيها رؤيةً تأسيسيةً لمفهوم العبودية كما يطرحها الطباطبائي، يُرى إلى الإنسان “العبد” فيها بما هو رابط ومظهر لحقيقة القيومية الإلهية، ممهدًا بعد ذلك إلى طرح أساس نظري لنظام قيميّ يرتكز عليه مفهوم العبادة في الإسلام. ثم نطالع بعدها مقاربةً لمحمد ليغنهاوزن ينطلق فيها من حاشية العلّامة الطباطبائي على برهان الصديقين كما طرحه صدر الدين الشيرازي في كتاب الأسفار التي أرسى فيها أصالة الواقع ليواجه طروحات التيار الطبيعاني وبالتحديد آراء ويلارد كواين.

ثم نقف بعدها على طرح بحثي لحسن بدران يتمحور حول فهم الطباطبائي للإنسان تكون الركيزة فيه رؤية الطباطبائي للاعتباريات – بما تختزنه من دلالات على حقائق وجودية تحتها – في سبيل إعادة تشريح البنية الإنسانية على أساس أنثروبولوجيا النفس والروح عند العلّامة.

بعد ذلك نستطلع مع أحمد ماجد الأبعاد المعرفية لمقولة اللغة وماهيتها ودورها عند الطباطبائي، منتقلين منه إلى تناول مفردات اللسان والقول والكلام مع تفريق بينها، لنصل إلى دراسة العلاقة بين الكلام والفكر، مختتمين المطاف ببحث الروابط بين القرآن الكريم واللغة والفكر.

ونعبر بعد ذلك مع سمير خير الدين على دراسة المنهج الاستدلالي العقائدي عند الطباطبائي والذي يرتكز بشكل أساس على السير التلازمي، مطالعين لأهم خصائص هذا السير، متعرضين بعدها لبعض صيغ تطبيق هذا السير على القضايا العقائدية. وننتقل بعدها إلى معالجة إبراهيم بدوي الذي يقدم قراءةً استشرافيةً حول مفهوم السعادة، باسطًا لأهم الآراء المطروحة في سياق معالجته، مختتمًا برأي العلّامة ووجهته، مشعّبًا البحث في وجهتين، أولاهما البحث في نفس معنى مفهوم السعادة، وثانيهما البحث في كيفية تحصيلها.

ثم بعده يقدّم لنا مازن المطوري قراءةً موجزةً في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للعلّامة الطباطبائي يقف فيها على كل مقالات الكتاب ليقدم الفكرة الأساس لكل منها، لاحظًا الكتاب بما يشكل من أرضية لفهم منازل الفلسفة الغربية في فكر العلّامة الطباطبائي. ونختتم عددنا بدراسة بيبلوغرافية يبسط فيها أمير رضا أشرفي أهم المنجزات العلمية المقدمة في إيران حول العلّامة الطباطبائي وتفسيره الشهير الميزان في تفسير القرآن، من مؤتمرات وكتب وطروحات وغيرها.

والحمد لله رب العالمين.