من عرف العرفان، فقد عرف…

تحميل الافتتاحيّة : من عرف العرفان فقد عرف

إذا كان العرفانُ تأملًا في الملكوت، وما فوقه، من عوالم الجبروت واللاهوت، وإذا كانت استغاثة أهلِه: “ربي أخرجني من هذه القرية – الدنيا – الظالم أهلها”.. الأمر الذي يعني النزوع نحو الانفصام عن الدنيا..

فهل نحن في هذا العدد من “المحجّة”، ندعو إلى مثل هذا الموقف السلبي من الحياة الدنيا، بكل ما تمثّله من واقعٍ معاش، ونسَقٍ معرفي، وعلاقات إنسانية، للاستغراق هناك‏؛ حيث لا تجربة، ولا مرارة، ولا ألم، ولا اكتراث، ولا نزاع، ولا مسؤولية؟

بل إذا كانت “المحجّة”، فصلية تُعنى بالفكر الديني والفلسفة الإسلامية، وبعض أهل التصوّف والعرفان يعتبرونه حالة من التلبّس أو التجلّي الوجودي، حيث “ظُنَّ خيرًا ولا تسألْ عن الخبرِ”.

وحيث يقول أحدُهُم: ليس هناك تفسير بما بيني وبين الله.

لا برهان ولا علامات إقناع..

فخذ ما تجلّى من انكشاف الله.

مشرقًا في ذاتي كاللؤلؤ الساطع(1)

فكيف يصح إذا الكلام عن العرفان في فصلية، طابعها معرفي؟

****

 بدايةً لا بُدَّ أن نشير، إلى العلاقة الحميمة بين التصوف – كحالة -، وبين العرفان كمقام من مقامات الإدراك‏؛ المُؤسِّس لمستوى من المستويات الإنسانية العالية،.. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(2).

ولقد اعتبر صاحب “منازل السائرين” المعرفة من قسم النهايات.. وعرَّف هذا النوع من المعرفة بأنها: “إحاطةٌ بعين الشي‏ء كما هو”. ويشرحُ عبدُ الرزاق الكاشاني معنى هذا القول: “أي إدراك لحقيقة الشي‏ء بذاته، وصفاته على ما هو عليه بعينه، لا بصورة زائدة مثله. هذا إدراك العرفان، واحترز عن إدراك العلم بقوله: “بعين الشي‏ء”. فإن العلم إدراك الشي‏ء بصورة زائدة مثله في ذات المدرِك، كما رسمه الحكماء بأنه حصول صورة الشي‏ء في النفس. فالمعرفة اتحاد العارف بالمعروف، بكونهما شيئًا واحدًا، أو كون ذات المعروف في العارف، فلا تعرف الشي‏ء إلا بما فيك منه أو بما فيه منك، فالمعرفة ذوق…”(3).

إلا أن المزج والخل‏ط  بين تعبير مصطلح العرفان في تداعيات دلالاته لدى أذهان الناس، وبين التصوّف كظاهرة مَرَضِيَّة، انعكست ضمن جماعات الدراويش  أوقع في شبهة كون العرفان إهمالًا لأشياء الحياة وقيم العقل والعلم،.

فلم يُمَيِّز الكثيرون بين رفض العرفان للعقل “كقيمةٍ مطلقة”، وبين احترامه كنعمةٍ إلهية توصل إلى طور هو فوق طور العقل، بمعناه الاستدلالي، وطرقه النظرية،.. للوحدة والتوحّد، بين العقل والعاقل والمعقول‏؛ وهذا هو الشهود والانكشاف والعرفان. ليس العرفان موقفًا سلبيًا من المعرفة؛ بل هو تحايث مع المعرفة العلمية – الآفاق أو الآفاقية -، والمعرفة العقلية – الأنفسية. إذ الكل آية، تشير إلى الواحد، وهنا يأتي السَفَرُ الثاني بعد المحايثة. إنه سَفَرُ التجاوزِ نحوَ الواحدِ المطلق، لأجل التوحّد بالكل،…

العرفان إذا، شرطٌ لازمٌ للاستكمال المعرفي…

وهذا ما دعا الكثيرَ من العرفاء لاعتبار أن كل توغّل في المضامين، والأسرار العبادية، أو الوجودية؛ لا بدَّ له من خطوة أولى يقيم فيها الدليلَ البرهاني على المعنى – اذ كل معنىً، في العرفان الإسلامي، يستلزمُ استحالة عقلية ما، هو أمرٌ باطل  ويبقى في هذا “الارتياض العقلي”.

ليلقن القلب – وهو هنا حقيقة الوجود الإنساني، وينقش فيه حقيقة المعنى مستعدًا بذلك لمرحلة “التجاوز” عبر التلقي من الفيض الذي لا حدَّ لفيضه، ومن منبع الحقيقة التي لا تنضب… ولنفس السبب اعتبر أهلُ المعرفة أنّ الحقيقةَ هي طورٌ أخيرٌ للشريعةِ والطريقة  حسب تعبيراتهم  …

وهناك حيث اللاحدودُ يتعطل كل ضيق ناشي‏ء من قيود العقل بسلوبه، أو الحس بتجاربه الآنية، أو الدنيا بتمايزاتِها الطوائفيةِ والاعتقاديةِ الضيقة، أو أفكار أهلها المأسورين للأهواءِ والمصالحِ النابعةِ من عقدِ الذات.

هناك حيث (لا) ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(4)، و (لا) ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾(5). وإذا كانت الحزبيةُ كما اللعن أمرين سلبيين و(اللا) هي سلب السلب..

إذ هناك “لا إله إلا الله”.. هو الغاية والمعيار والطريق، هو الصراط المستقيم..

وإذا انعكس العرفان بمنطقه التوحيدي في كل منطقٍ، وفكرٍ، ومعرفة فلن يكون أمامنا سوى الخروج من كلّ اختزالياتِ، تلغي الكلَّ تحت عناوين “الإنسانوية” حينًا، و”الموضوعية” حينًا آخر. وهي اختزالاتٌ ابتدأت بما قبل وبعد الدنيا ووصلت في مراحلها السلبية المتقدّمة إلى نفي كل شي‏ء…

إن انعكاسَ العرفان في كل منحىً معرفي ديني أو غير ديني.. قادرٌ على تأمين “بؤرة المعنى”، الخاصة بالوجود؛ بل بكل موجود…

ولا نعني بذلك العرفان ضمن إطاره المقدَّم على مستويات من الخصوصية المذهبية، أو الدينية، بل بروحه وعمق المضمون… هذه هي الفرضية التي انطلقنا، وننطلق منها في مبرّر طرحنا لملف “العرفان”.

ونحن هنا لا ننسى الإشارة إلى قيام “عرفان تحررّي” معاصرٍ، كان رائده الإمام الخميني (قدس): إذ بمنطق العرفان انطلق في قراءته السياسية والاجتماعية…

ليرى أن البشر هم أهل حق، وأن المستضعفين هم شريحةٌ من كل دين ومذهب وقومية وانتماء.. وأن العدلَ هو غاية، ونعمة على الجميع أن يقصدَها لتعمّ الجميع. وأنّ ذلك كلّه مرهونٌ بالعرفان الذي يرى “الدنيا” ظاهرًا باطن حقيقته “الآخره”، والكل حياة..

وأن الناسوت هو خطوةٌ أولى نحو الملكوت، وأن الشهادةَ نافذةُ الغيب..

وأن الله هو قيُّوم الحياة، والإنسان، ومصدر عزه، وقوته الأوحد.. وأن العزم والإرادة والبناء والجهاد والشهادة كلها تتحول إلى عناوين حياة، إذا سرى فيها فيضُ الحي الذي لا يموت..

فلا نكد بين المعرفة والعرفان.. ولا ضنك بين كمال تجربة الروح واجتماعيات الشؤون الإنسانية والبشرية..

إنها فطرةُ الله، وبالمعرفة العرفانية تعود النفس كما الكِيان إلى منجع الفطرة، والأصالة إلى المحجّة والصراط…

(1)  منقول عن الحلاج.

(2)  الزمر/9.

(3)  منازل السائرين شرح الكاشاني، انتشارات بيدار، قم، ص565.

(4)  المؤمنون/53.

(5)  الاعراف/38.

اترك تعليقاً