معنى أن نتحدّث حول العلوم وأسلمتها؛ قد يعني عند المتلقّي أنّنا أمام تجربة لأدلجة المعرفة؛ أو قد يستلزم الإقرار بمحوريّة العلوم، الإنسانيّة منها أو التجريبيّة في الحياة الأكاديميّة والمجتمعيّة.
بلا شكّ، إنّ الاتجاهات العلمانيّة استبدلت كلّ علم ومعرفة لاهوتيّة أو كلاميّة – دينيّة بعلوم مشبَعة بنزعة أطلقوا عليها اسم “الأنسنة”. ولقد كان المطلوب من ذلك ردم الهوّة والفراغ الذي يمكن أن يتركه الإعلان عن موت الإله، ونهاية الدين، إلّا أنّ الحراك النهضوي الذي شهده العالم الإسلامي من عودة للحياة الدينيّة عبر بوابة “الإسلام” أعاد البوصلة باتجاه موقع الدين في الحياة العامّة للناس.
هذا الحراك وجد معوّقًا مجتمعيًّا خطيرًا أمامه، وهو: أنّ الوجدان العامّ للناس، وإن كان يركن إلى الدين، إلّا أنّ الناتج الذي ضخّته وما زالت المؤسّسات التعليميّة والأكاديميّة انبنى على معارف وقيم ومنهجيّأت معرفيّة وفلسفيّة وثقافيّة لا تتّصل بالوجدان الديني بصلة الوثاقة والعلاقة. ممّا جعل لطرح إشكاليّة العلاقة بين الإسلام والمعرفة كما العلوم؛ موقعًا حساسًا وعمليًّا جدًّا.
لذا، فالمسألة تعود لحاجة حضاريّة ومجتمعيّة قبل أي اعتبارات أيديولوجيّة. ثمّ إنّ الرؤية الإسلاميّة لطالما كانت مهجوسة ببحث العلاقة بين الإيمان والمعرفة؛ وبين الشريعة والقيم والفكريات. عليه، فإنّ بحث التكامل المعرفي بين الإسلام والعلوم الإنسانيّة، كما هو المطروح في إيران، أو العلاقة بين العلوم وأسلمتها معرفيًّا كما هو المشغول عليه لدى نخبة واسعة من المفكّرين العرب المتحلّقين حول “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” يستحقّ الدخول فيه عبر مراحل متنوعة؛ منها ما هو توصيفي، ومنها ما هو جدلي ومقارن؛ ومنها ما هو تأسيسي.
وهذا ما سنجهد في عمله في هذا العدد من مجلّة المحجّة.
مع العدد
تندرج أبحاث العدد ضمن أربعة أبواب، أوّلها ملف العدد المعنون بـ”العلم الديني ومساحات الأنسنة”، وثانيها جلسة بحثيّة أقيمت في معهد المعارف الحكميّة، وثالثها هو باب حوارات، ورابعها باب البحوث والدراسات.
يحوي الباب الأوّل ستّة أبحاث، يستهلّها أحمد ماجد في تحديد معنى النموذج المعرفي وعلاقته في إنتاج العلوم، حيث يشكلّ تحديد هذا العنصر نقطة انطلاق هامّة في فهم ومآلات الفكر ومستقبل الثقافات الإنسانيّة. ويضيف حسن بدران في طرحه البحثي لتحديد المعايير الأساسيّة لتقبّل العلوم المعاصرة التي تتوافق مع الفطرة الإنسانيّة ومطلب السعادة الحقيقيّة.
كما اعتبر حسين نصر في بحثه أنّ “أسلمة العلم” يواجه مشكلة أساسيّة، وهي كيفيّة التوفيق بين مقتضيات العلوم الحديثة والتراث الفكري الإسلامي لإيجاد نموذج بديل بأدوات فكريّة ينقد بها الأسس الفلسفيّة للعلم الحديث.
وفي البحث الرابع من ملف العدد، يطلق حميد بارسانيا جملة من التعريفات بغية تحديد المنهج الخاصّ والمناسب للعلوم الإنسانيّة من وجهة نظر إسلاميّة، وهو ما يعبّر عنه بالمنهج التأسيسي الذي هو طريقة توليد النظريّة من خلال الاعتماد على المعطيات الإسلاميّة في قسمي نظرية المعرفة ومعرفة الوجود.
أمّا أحمد أبو ترابي في بحثه حول منهج العلوم الفطريّة، فيعرض جملة من آراء بعض الفلاسفة الغربيّين والإسلاميّين حول حقيقة الأمر الفطري ومزاياه، وطرق إثبات هذه المزايا بالعلم الحضوري والدليل العقلي والتجربة والاعتماد على النصوص الدينيّة بحسب ما يقتضيه المقام.
وفي البحث السادس والأخير من ملف العدد، يعرض حسن أمهز رؤية الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي حول موضوع أسلمة العلوم الإنسانيّة، والمراحل التي قدّ تمرّ بها للوصول إلى الغاية المرجوّة.
ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى ملف “جلسة بحثيّة”، والأبحاث فيها هي خلاصة ندوة أقامها معهد المعارف الحكميّة في العام 2015، اختير منها الأبحاث الثلاثة المنصوص عليها في العدد الذي بين أيدينا من المجلّة؛ الأوّل لمسعود معيني بور حول تحدّيات وموانع تحوّل العلوم الإنسانيّة وتوليد العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة إذ يعتبر أنّ الأسلمة تستبطن شعورًا بالغربة عن علوم تدّعي أنّها إنسانيّة كلّية، ولأنّ عنوانها الإسلامي يشكلّ لونًا من مقاومة الهيمنة المادّية الغربيّة تتضافر التحديات والموانع في وجهها.
ويطرح عادل بيغامي ثلاث نكات في ما يخصّ منهجيّة العلم الإسلامي؛ الأولى تتعلّق بأنواع المعرفة وأساليبها، والثانية في دراسة منهجيّة أيّ علم، والثالثة في أنّ العلوم الإنسانيّة الإسلاميّة كمعظم العلوم الحديثة، ليست علومًا بسيطة وذات قاعدة واحدة.
كما يعرض حسین سوزنچی في البحث الثالث آراء المفكّرين الإيرانيّين في ما يخصّ العلم الدينيّ من معارضين ومؤيّدين لمناقشة دعوى فصل الدين والعلم، أو إيجاد الانسجام بينهما.
وفي باب “حوارات”، حوار مع الدكتور حميد بارسانيا حول ارتباط العلوم الإنسانيّة بإرادة الإنسان لا بالعلوم والأمور الانتزاعيّة، فيجيب عن أسئلة وُجّهت له حول كيفيّة إنتاج العلم الديني والعلوم الإنسانيّة.
أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه بحثان، الأوّل لبتول الخنسا حول إشكاليّة مستقبل الفلسفة بوصفها نوعًا من المحادثة كما عبّر عنها ريتشارد رورتي، واعتبر الهيرومنطيقا أنّها علاقات بين أشكال الخطاب الكلامي المختلفة لا يُفقد فيها الأمل في الاتفاق وإيجاد أرضيّة مشتركة قائمة بين المتكلّمين.
والبحث الثاني لغادة زقروبة حول دلالة الإيقاع في اللطمية الشيعيّة والرقص الصوفي خارج الرؤية الدينيّة وسياقاتها التشريعيّة، بل بما هو تناول فلسفي وجودي يبحث في صدى الكائن في الوجود، والذي يندرج في مسار علاقة الجسد بالمكان وعلاقة الجسد بالذاكرة والتصوّر.
والحمد لله ربّ العالمين