1.
هي الطفولة، إذًا، تأخذك إلى عالم آخر، غلى أفكار أخرى حبلى بالحياة: الحياة على سجيّتها الأولى. لكلّ منّا، كلّ الكلّ، في غسق ذاته الراشدة تكيّة يقبع فيها طفل ما، كان يرى إلى الوجود، بدهشة محيّرة. يضجّ فرحًا، تارةً، ويتألّم حزنًا أخرى، ويعرف، بل يوقن، إن شئت، معنى الحزن والفرح، كليهما، بإيعاز من مجسّاته التي، بها، يملك النفاذ إلى العالم.
وعليه، فالراشد هو من الطفولة بحيث لا يضيره لو بقيت ذاته الطفلة قابعةً هناك، في عمق وجدانه، تمتشقه، كلّ حين، نحو أصالته الأولى.
يعجز الطفل، في نظر بعض الفلاسفة عن إدراك الحقيقة، فهو يرى الوجود بحواسّه التي تأخذ في التطوّر بفعل من سيّاليّة الزمن والتجربة في آن. يطرح الأطفال أسئلة وجوديّة فلسفيّة، ميافيزيقيّة حتّى، ذلك أن عنصر الدهشة عندهم يشكّل ملاك وجودهم. هم ذات أصيلة، ورقة بيضاء، تسأل بصرافة، لا تعرف الانقطاع، عن كلّ ما تسبره الحواسّ.
ولمّا كانت الدهشة هي التي تولّد أسئلة الأطفال، يحاجج البعض أنّ الطفل غير قادر على الإبداع الفلسفي، أو على الحجاج. يطرح أسئلة عابرة، بنت اللحظة: لحظة دهشة، لا لحظة تأمّل. ولأنّ الفلسفة تتعدّى حدود السؤال إلى البحث عن إجابات، ولأنّ الفيلسوف يطرح الأسئلة على ذاته التي يمرّسها بذاك السؤال إيّاه، بعكس الطفل الذي يطرح أسئلته على غيره من الراشدين، لا يمكن اعتبار أسئلة الأطفال فلسفيّة، يعتقد البعض.
ولكن، ثمّ من يبرهن أنّ الأطفال قادرون على التفلسف والإبداع. إذ عندما يحجم الفيلسوف الراشد عن الدهشة، الناضجة ها هنا، تخفت جذوة فلسفته، ما يؤكّد أنّ خميرة الفلسفة تكمن في سؤال الدهشة الذي يطرحه الطفل.
لا نندب في هذا العدد، إلى معالجة الشرخ غيّاه، بل نترك الحكم للقارئ بتقديم قراءات عن كيفيّة فهم الأطفال لبعض الماورائيّات التي تحيط بهم. نلاحق أسئلة الأطفال، إذًا، لنفهم كيف ينظرون إلى العالم، وإلى الحياة، وكيف يقاربون الفلسفة، وكيف يرون إليها.
2.
تنظر كارين موريس K. Murris في مدى مقدور الأطفال على الضلوع بالاشتغال الفلسفيّ، مختطةً، من ثمّ، مؤثريّة هذا الاشتغال على الاشتغال الفلسفيّ عند الراشدين أنفسهم. ويقارب جان بياجيه J. Piaget مفهوم الحياة من منظار الطفل، مبيّنًا كيف يفهم الطفل الحياة من حيث هو غير راشد، ليلج، من ثمّ إلى مفهوم تشكّل الوعي عند الطفل، وكيف، بلحاظه، يغيّر مفهومه إلى الحياة بما هي هي.
أمّا محمّد علّيق، فيتأمّل في رمزيّة العقل والتربية والجمال التي، لترابطها، تصوغ ذات الطفل بطريقة تتجاوز البعد المعرفي العقليّ الملموس، لتمنحه تجربةً جماليّةً – عقليّة في آن. وتدعو وفاء شعبان، في ورقتها، إلى نقل الممارسة الفلسفيّة، مع الأطفال، من المحتوى إلى الطريقة، مقترحةً تحويل المعرفة المعلّمة إلى موضوع نقاش فلسفيّ محاكاة لمنهج سقراط.
وتقترح زينة ناصر الدين، بعد عرضها الشرخ الحاصل بين الطفل والفلسفة، باستقراء القصص التي تدمل ذاك الشرخ إيّاه. أمّا على ستاري، فيجعل مقابلةً ما بين برنامج الفلسفة للأطفال، الذي طوّره ماثيو ليبمان، وبين تعاليم مدرسة الحكمة المتعالية التي بسط لها الملّا صدرا.
ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على ثلاث دراسات. يصدّر، نادر البزري في الدراسة الأولى، للمباحث المنطقيّة في فِنومنولوجيا هوسرل مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة. ويطالع شفيق جرادي، في الدراسة الثانية، مفهوم الحبّ الإلهيّ في الأدبيّات الشيعيّة التأسيسيّة، مبيّنًا محوريّة الحبّ في المنظومة الشيعيّة. ومع ميريل دافيس، نلج إلى مبحث أسلمة العلوم الإنسانيّة من حيث هو سعي إلى إيجاد موفّقيّة بين نظرتين للعلوم، إحداها ذات نزعة غربيّة، وأخراها تلحظ ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة.
وفي باب “حكماء”، نقارب سيرة الخواجة نصير الدين الطوسي، مقدّمين قراءةً تبسط لشخصيّته وفكره.
والله وليّ التوفيق