افتتاحية العدد 11

تحميل الملف: الافتتاحية

أن تطرح مجلة المحجة  موضوع “الدين والعلمنة” في ملف خاص تعكس فيه حلقة بحثية جرت في قاعة “معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية”، فإن ذلك يعود لاعتبارات معرفية بحتة لا تبتغي صب المديح ولا الذم والقدح اللذين عكستهما أدبيات المهتمين بالموضوع من بعض الإسلاميين والتيار العلماني العربي تحديدًا…

وهذا النزوع نحو خيار البحث المعرفي يعود للأسباب التالية:

أولًا: كون المعهد ومجلته “المحجة” يعنيان بطرح الموضوعات بلغة علمية تبحث عن مكامن وجوانب تقديم المفاهيم بالشكل الذي عني أصحابها على تقديمها.. مستخدمة اللغة النقدية التي لا تأخذها في سبيل إبراز وجوه من الحقيقة لومة لائم، تاركة لمذاق القارئ حق الخيار في القناعة.

ثانيًا: لقد شكلت القضايا المطروحة عند الوضعية التحليلية والمنطقية والتي تتبنّى الاتجاه العلماني تحدّيًا جدّيًا على صعيد قراءة الفكر الديني، مما يستدعي إعادة التفكير في تلك القضايا ومبانيها ومرتكزاتها التي تستند إليها.. وهو عمل لا ينبغي فيه التأكيد على الشقاق، بل البحث عن الملابسات التاريخية التي وقعت ضمن سياقات معينة فأولدت ذاك الموقف من أصحاب الاتجاهات العلمانية – على تنوعها- نحو الدين….كما أملت واقع ردة الفعل التي حصلت من قبل الكثير من المفكرين الإسلاميين – على تطور نظرتهم – تجاه العلمنة والعلمانية.

ثالثًا: بما أن حاضنة الطرح العلماني كان هو الغرب، والغرب لا ينطوي على مكونات الحضارة والبنى المجتمعية للشرق، وبما أن العلمانية جاءت كرد حاسم على سلطة الإكليروس المسيحي، – والإسلام غير المسيحية -، كما أنه لا يدعو إلى المؤسسة الدينية كجزء من نظامه العقيدي ومشروعه الإنساني العام… فلا بد من دراسة المدى  الذي يعني الإسلام والمسلمين في مجادلة العلمنة والعلمانية.

رابعًا: إن معهد المعارف الحكمية إذ يحمل في مشروعه الفكري وجهة نظر محددة تجاه كل ما يمت لفلسفة الدين، وعلم كلام الأديان بصلة، فإنه يرى في الكثير من طروحات الفكر العلماني (الفلسفي والأخلاقي) مادة قابلة للنقاش المعرفي المفتوح…

خامسًا: إن العلمانية سواء أقبلناها أم لم نقبلها، تمثل صورة من صور العلاقة مع الغرب.. وإن أخذ أي موقف معرفي منها لا يصح أن نفصله عن حدود العلاقة العملية مع الغرب.. بل بمعنى أصرح لا يمكن التغافل في بحثها عن سياق الصراع بين الغرب والشرق.. لنبحث واقع الصراع وهل يمثل ضرورة من ضرورات تاريخنا المعاصر، أو إنه مائز من مميزات التعدد الحضاري القائم بين الغرب والشرق؟!.

سادسًا: لقد عملنا في هذا الملف المتعلق بـ “الدين والعلمنة” على التنبه إلى أن الطرح العلماني الذي كان من حيث المنشأ والتطورات في سياقه التصاعدي وليد واقع سياسي واجتماعي غربي، انبثقت عنه رؤية نظرية سعت لإعادة تشكيل النظرة للعالم والمجتمع والعقل والتاريخ والإنسان، وهي نظرة مبنية على رفض الدين كموجّهٍ وحاكمٍ لتستعيض عنه بما أطلقت عليه اسم “المذهب الإنساني” الذي خاض صراعًا مريرًا مع الكنيسة، بحيث تم زرع جملة من الطروحات اللاهوتية المعلمنة ابتداءً من البروتستانت وصولًا لمقولات كاثوليكية سعى بحث د. جيروم شاهين لإظهار مسارها وما آلت إليه….

بحيث تم حصار الشأن الكنسي داخل جماعات الإكليروس ومحيطهم الخاص وحوّل الإيمان إلى مجرد نزوع نحو المطلق.

سابعًا: لما كان الغرب ككيان استحواذي يقدّم نفسه باعتباره “الحضارة النموذج” و”العقل النموذج”، كما كشفت عن ذلك الأبحاث المقدمة تحت عنوان “التصالح المجتمعي بين الدين وعلمانية الدولة”، و “الدين والعلمنة في نظام المعرفة والقيم” و “العلمانية والديموقراطية”.

وقد سعت هذه الأبحاث لتأكيد أن العلمانية توجت عوامل النهوض الثقافي في أوروبا وأميركا، وأثارت فكرة أن الإنسان كائن مكتفٍ بذاته على كل صعد الاحتياجات المجتمعية والفلسفية والقيمية؛ وبالتالي فقد تم أدلجة العلمانية في وقت اكتشف فيه العقل الإنساني -فيما بعد- عدم إمكانية الفصل التسطيحي بين ما هو ديني وما هو زمني، ذلك أنهما متلازمان تمامًا، ولقد كان من الحري البحث حول كيفية تنظيم صيغ العلاقة بينهما، بدل نفي العلمانية للدين….

كما أن النقوضات التي طرحتها الوضعية العلمانية للمقولات الدينية إنما نقضت بالواقع صيغ المقولات المبنية على المنطق الصوري، لا المقولات الدينية التأسيسية.. والثمن الذي دفعته العلمانية بسبب روحية طرحها الشمولي أوقعها بإخفاق كبير في نماذج التجربة التي أطاحت في كثير من محفزات الديموقراطية في بلدان ودول العالم، منها دول العالمين العربي والإسلامي. والتجربة التركية هي خير دليل على ذلك، كما أظهر بحث د. محمد نور الدين حول “العلمانية في تركيا”، في الوقت الذي لم يلتفت فيه أصحاب الاتجاه الشمولي للعلمانية تطور الفكر السياسي في الخطاب الديني الذي أبرز بعض عناوينه بحث د. حسين رحال حول “العلمانية والخطاب الإسلامي” خاصة إذا نظرنا إلى ما آل إليه بحث د. كارتسن ويلاند والذي اعتبر أن العلمانية هدفت للحد من تسلط القلة متغافلًا أن هذه القلة بقيت هي الحاكمة في مسرح الأحداث الغربية ومن تأثر بها في عالمنا العربي الإسلامي، كما أنه اعتبر أن العلمانية اعتمدت ولو من خلاله وجوهها المتعددة ثلاثة مظاهر هي:

  1. فصل الكنيسة عن الدولة.
  2. تخصيص حقل اهتمام الدين.
  3. التأكيد على نزعة اللاتدين.

وقد أبقت على قواسم مشتركة منها: الخبرة الثقافية، الحركة الفكرية والاجتماعية مع تزامن وتلازم تطورات الديمقراطية التحررية، سيادة القانون، حريات الأفراد، وحقوق الإنسان عامة مستقلة عن الإيمان الشخصي والمذهب، في المقابل كانت العلمانية في العالم العربي، – حسب المقال- شيئًا مختلفًا تمامًا.. وما ذلك إلا بسبب عدم أهلية العقل العربي على فهم مكونات وخصائص التجربة العلمانية التي استخدموها كأيديولوجيا، يعاود الحكام تركها للتمسك بالشعارات الدينية عند الحاجة، ولعل أهم ثغرة وقع فيها العقل العربي- حسب صاحب المقال- هو عدم القدرة على تفهم معنى المساواة في نظام القيم العلماني.. من هنا جاءت دعوته لضرورة التعرف إلى العلمانية وبثها في الطروحات الإسلامية التي اهتم الكاتب بإبراز وجوه محددة منها مؤكدًا على أن العالم عليه أن يقسم أصحاب الطروحات والرسالات إلى قسمين:

قسم خير وصالح، وآخر سيّء وشرير…

وعلى العقلاء الصلحاء التعامل مع الطرف الآخر ضمن سياسة “التسامح بمنطق القوة” من أجل نشر تعاليم العلمنة..

وهو ما لم يوافق عليه أصحاب الأوراق العربية والإسلامية وإلى مراجعة الإسلام كنظام سيادي للمنطقة يمكن لأصحابه أن يتحدثوا عن هويتهم، بالشكل الملائم لواقع حالهم وحال شعوبهم وبلدانهم وطروحاتهم العقيدية والقيمية…

اترك تعليقاً