المؤسّسة الدينيَّة والدرس الفلسفيّ: اتّجاهات جديدة نحو الرفض والتحفّظ

بعد مرحلة شهدت فيها  الفلسفة شيئًا من الإحيائيّة في الأوساط العلميّة والحوزويّة، فإنّ باب مناوئة الفلسفة والدرس الفلسفيّ لم ينغلق تمامًا. بل إنّ المرحلة الراهنة تشهد اصطفافًا جديدًا للتيّارات النصّيّة والسلفيّة (بالمعنى العامّ) يناوئ الاشتغال الفلسفيّ تأسيسًا على فهم خاصّ لعدد من المنقولات الحديثيّة. بيد أنّ المحاكمة المتأنّية لهذه المأثورات تدحض ما يُرتجى منها، وبعضُها ليس بموثوق أصلًا.

إنّ الدرس الفلسفيّ المرشّد يفتح أبوابًا جديدةً لتأويل النصّ الدينيّ وإعادة إنتاج معارفه. وعلى ضوء التحدّيات التي يواجهها الدين اليوم، لا مناص من الاستفادة من الفلسفة في منح المنظومة الدينيّة قدرة فهم السياقات الفكريّة الإنسانيّة المختلفة عنها ومحاورتها بجدّيّة.

After a period of revival in religious circles and in seminaries, philosophy comes under attack yet again. A new literalist, Salafī (in broad terms), front defies philosophy on basis of a peculiar understanding of scripture. Yet, a thorough analysis of the alleged sources proves the claims to hostility (towards philosophy) unreliable and the sources themselves untrustworthy.

            It is of the merits of a balanced pedagogical approach to philosophy that it makes room for a better interpretation of scripture, thus opening possibilities of better understanding. Taking into consideration today’s challenges, it is critical to utilize philosophy in the general aim of enabling religious constructs of understanding corresponding human intellectual contexts in a serious dialogical manner.

المقاربة المتعالية كطريق لفهم الحكمة المتعالية معالجة عبر-مناهجيّة لفلسفة صدر المتألّهين الشيرازي

لقد كان للقراءة البين-مناهجيّة للحكمة المتعالية أثر تدعيمٍ لكلّ من الحكمة المتعالية والبين-مناهجيّة نفسها. بيد أنّ أفق الحكمة المتعالية يتّسع أكثر من ذلك ليستفيد من المقاربة العبر-مناهجيّة ويفيدها بدوره. فالمقاربة الصدرائيّة التي ثمّرت المناهج السابقة وصاغتها دون تلفيقيّة وتسويغيّة تلجمها عن نقد المنهج في عين الاستفادة منه، أتت بمقولات من قبيل الحركة الجوهريّة والتشكيك في الوجود بما يجعلها      من أصدق التعابير التاريخيّة للعبر-مناهجيّة التي يبدو، مع اطّراد البحث فيها، أنّها الملاذ الأخير للهروب من أسر المناهج وقيودها، ومن قهريّة الثنائيّة المفترضة للذات والموضوع.

إنّ مقاربة الحكمة المتعالية عبر-مناهجيًّا يسمح بمعالجة مواضع السقط التي أخلّت بها دون الوقوع في أسر تكريس الحكمة المتعالية ضربًا وحيدًا في التفكير. بل إنّ هذه الرؤية القابلة للتطوّر، والمنفتحة على كلّ عوالم النفس الإنسانيّة، تؤكّد أنّ الفروق بين مناهج المعرفة تكاد تكون معدومةً فيما لو أعملنا النظر فيها؛ وهذا مؤدّى ادّعاء الحكمة المتعالية أنّ كلّ ما أثبت بالكشف يثبت بالبرهان والعكس صحيح.

The inter-disciplinary approach to Mullā Ṣadrā’s “Transcendent Philosophy” had a positive impact upon it, and upon inter-disciplinarity itself. Yet, “Transcendent Philosophy” is broad enough in scope to accommodate a trans-disciplinary approach in a mutually beneficial manner. Mullā Ṣadrā’s philosophy benefits from earlier methods, formulating these while avoiding syncretic or apologetic handling which would prevent one from criticizing the method while using it. This is what has produced notions like substantial motion, or modulation of being, and this is what makes “Transcendent Philosophy” one of the brilliant historical instances of trans-disciplinarity which appears to be, as we dig deeper into it, a last resort away from the shackles of methods, and from the hegemony of subject-object duality.

            Approaching “Transcendent Philosophy” in a trans-disciplinary manner allows for fixing some of its drawbacks while not falling into the trap of declaring it a final outcome of philosophy. Rather, this is a view full of potential, open to all the “worlds” of the human psyche, whereby the difference between various methods are mere nuances; this is the meaning of Mullā  Ṣadrā’s claim that what is arrived at by intuition and presence is proved by reason and vice versa.

مبادئ الإبستمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة [1]

ترجمة محمود يونس

إنّ تحليل مفهوم المعرفة منطقيًّا يصل بنا إلى أنّ معنى موضوعيّة الموضوع تحليليّة، وتتجلّى في نفس تقوُّم المعرفة، وذلك لكون الموضوع ليس سوى ما هو ذاتيّ ولازم. أمّا الموضوع المتعدّي، وهو في العموم عرضيّ، فلا يشكّل اللبّ المقوِّم للوعي البشريّ. فلا يكون الموضوع المتعدّي مقوِّمًا إلّا في حالة المعرفة بموضوع خارجيّ. وهذه هي المعرفة الاكتسابيّة الحصوليّة في مقابل المعرفة الحضوريّة. لكن في حالة الصورة الأوّليّة للمعرفة، وهي المعرفة الحضوريّة، وفي نظريّة المعرفة بشكل عامّ، لا يكون الموضوع المتعدّي الخارجيّ جزءًا مقوِّمًا للمفهوم العامّ للمعرفة. فيترتّب على ذلك أنّ مفهوم المعرفة الحضوريّة، من حيث اتّصافه بالموضوعيّة الذاتيّة، يمكن شرحه وتسويغه من خلال الشكل الأساسيّ للمعرفة، دون وجود موضوع خارجيّ مادّيّ يحاكي موضوع المعرفة الحضوريّة الذاتيّ، وهو ينضوي في مقولة المعرفة من حيث هي معرفة، إذ هو إدراكيّ وموضوعيّ بطبيعته، وتتحقّق فيه كلّ شروط مفهوم المعرفة، رغم افتقاره إلى موضوع متعدّ عرضيّ.

Logically analyzing the concept of knowledge, a vital distinction between two aspects of objectivity is arrived at. The very constitution of knowledge necessitates an essential and immanent object. A transitive object, on the other hand, can only be constitutive in the case of knowledge of an external object. Such an object is, generally speaking, accidental, and such knowledge cannot be constitutive of the general concept of knowledge. Here is the primary distinction between knowledge by presence and knowledge by correspondence. The concept of knowledge by presence, being characterized by “subjective objectivity”, can be explained and justified through the fundamental form of knowledge, without the need for the existence of an external, material object corresponding to the subjective object of knowledge by presence. As such, it belongs to knowledge qua knowledge, for it is cognitive and objective by nature, and fulfills all the conditions of the notion of knowledge despite its lacking of an external transitive object.

دلالة الإيقاع في اللطميّة الشيعيّة والرقص الصوفي

إنّ مقولة “الإيقاع” لصيقةٌ بالهُوَوِيَّة المكانيّة للذات، وهي صفة من صفات الماهيّة، قرينة بالذات اقتران المكان بها. فالإنسان بما هو كائن مكاني هو بالضرورة كائن إيقاعي بما يفترضه الإيقاع من وجود أبعاد وفضاء وحيّز، ومن علاقة بجسد وبحركة. والحركة ليست فعلًا فيزيقيًّا فحسب، بل تتجاوزه لتصبح ما به يكون الكائن كائنًا، ففي غياب الحركة يفنى الكيان؛ وما حضور الروح في الجسد، حتّى وإن كان فاقدًا للحركة العضويّة، إلّا حضورًا حركيًّا. وما الحياة إن لم تكن حركةً للروح في الجسد قبل كلّ شيء، فالحركة  فعل إيقاعيّ.

تأخذ مسألة الإيقاع ودلالاته في اللطميّة الشيعيّة والرقص الصوفي بعدين؛ البعد المفاهيمي (مفهوم الإيقاع)، والبعد الدلالي الذي سنتقصّاه في المثالين؛ اللطميّة الشيعيّة والرقص الصوفي ممثّلًا في المولويّة. وما تسليط الضوء على هذين المثالين إلّا لكونهما يحلاّن من العمق الدلالي للكينونة، حلولًا يقع تغييبه عمدًا في الثقافة العربيّة لأسباب إيديولوجيّة وعقائديّة.

إشكاليّة مستقبل الفلسفة الفلسفة بوصفها نوعًا من المحادثة

إنّ شعور رورتي العميق بأزمة الفلسفة وإشكاليّة مستقبلها داخل مهنة الفلسفة دفعه إلى ضرورة حثّ الفلاسفة على اختبار مدى مشروعيّة الأنظمة المعرفيّة التي يتبنّوها، وأن يعوا حقيقة أنّ الفلسفة بأزماتها الموروثة خاصّة من الفلسفة الغربيّة الحديثة بكلّ أشكالها ذاهبة إلى النهاية.

والهيرومنطيقا التي يأخذ بها رورتي هي التي ترى أنّ العلاقات بين أشكال الخطاب الكلامي المختلفة هي كالحبال المجدولة في محادثة ممكنة؛ محادثة تفترض عدم وجود مصفوفة نسقيّة تربط بين المتكلّمين، وحيث الأمل في الاتفاق لا يُفقَد ما فتئت المحادثة جارية، حتّى وإن لم يكن هناك أرضيّة مشتركة قائمة أو سابقة.

الوعي الزائف في المادّية

ترجمة: محمود يونس

تقبل الأطروحة المادّيّة بواقعيّة النظام السببيّ بعد أن تشترط حصر كلّ علّة بالعلل المادّية. من هنا، يرتبط السؤال المادّي الجوهريّ بالوصول إلى محكّ متين للتمييز بين ما هو مادّي وما ليس بمادّي. إن الإخفاق التاريخيّ للمادّية في الإجابة عن هذا السؤال, واستغراقها في الالتحاق بالعلم كما هو في راهنه، يجعل منها موقفاً فلسفياً قائماً على تسويغ تماميّة العلم (الفيزياء تحديداً) أكثر منها نظريّة ذات شروط صدق يمكن التحقّق منها، وإن رأى المادّيون إلى أنفسهم كمن يلتزم نظريّة ويعمل وفقها.

العقلانية النقدية في فلسفة العلم المعاصرة

أضحت الفلسفة، بين يدَي المسار الذي وصلَ بالنزعة الاختبارية إلى الوضعيّات المتحاملة على المتافيزيقا، نظرية في العلم، رائدُها التحليلُ والتحقُّق؛ التحليل للبتّ في الاتساق المنطقيّ للغة العلم، والتحقُّق للتثبّت من تصديق التجربة للمعرفة. وأفضى هذا المسار إلى نفي إمكانية فهم العالم نتيجة العقم الذي أصاب الفلسفة والعلم جرّاءه. فكانت انتفاضة العقلانية النقدية عند بوبر لتعيد الاعتبار إلى المتافيزيقا بما هي موقف متجاوز للعلم والخبرة الحسّيّة معاً، ولتؤكّد على قدرة العقل الخلّاقة على النفاذ وراء الطابع الظاهريّ للعالم الفيزيائيّ.

الوصف المكثّف: نحو فهم أوسع لفلسفة الدين

ترجمة: ديما المعلّم

من الشكاوى التي تطال فلسفة الدين، وتزداد شيوعًا يومًا بعد يوم هو أنّ اهتمامها المنصبّ على العقلانيّة والتبرير، في ما يخصّ “الألوهيّة”، قد صرف الانتباه عن الأشكال المتعدّدة التي تتّخذها الحياة الدينيّة. وأبرز المشتكين، على أنّهم ليسوا وحدهم، هم أهل المدرسة التحليليّة تحديدًا. لكن من التدابير المقترحة لتحسين حال فلسفة الدين تطبيق منهج “الوصف المكثّف” الذي يساعد على فهم الظواهر الدينيّة فهمًا سياقيًّا، يفوق الفهم التقليديّ غنًى. وأنا أؤيّد هذا الطرح هنا، وأوسّعه، مقدّمًا نبذةً عن أنواع مختلفة، لكن مرتبطة بالوصف المكثّف. بعد ذلك، أنصرف إلى التركيز على مثلَين اثنَين يبيّنان إمكانيّة الاستعانة بالإثنوغرافيا من أجل الوصول إلى فهم أوسع لفلسفة الدين.  

An increasingly common complaint about philosophy of religion— especially, though not exclusively, as it is pursued in the “analytic tradition”—is that its preoccupation with questions of rationality and justification in relation to “theism” has deflected attention from the diversity of forms that religious life takes. Among measures proposed for ameliorating this condition has been the deployment of “thick description” that facilitates more richly contextualized understandings of religious phenomena. Endorsing and elaborating this proposal, I provide an overview of different but related notions of thick description before turning to two specific examples, which illustrate the potential for engagement with ethnography to contribute to an expanded conception of philosophy of religion.

الإسلاموفوبيا وصناعة الصورة

عرّف الباحث الإسلاموفوبيا بوصفها نزعة جديدة أو طارئة نشأت مع العقود الأخيرة، أو بعد حقبة الحرب الباردة التي حوّلت أنظار الغرب من الشيوعيّة إلى الإسلام. وعلى الرغم من كون المصطلح قديمًا، إلّا أنّ الصناعة الإعلاميّة الحديثة جعلت هذه الظاهرة في قلب الحياة السياسيّة والثقافيّة الأوروبيّة بشكل يوميّ، إذ نقلت الصور السلبيّة والنمطيّة للمسلمين من المجالات الضيّقة إلى رحاب الفضاء العمومي، بحيث أصبحت الإسلاموفوبيا قضيّة رأي عامّ، وظهرت صناعة إعلاميّة متخصّصة في توجيه هذا الرأي العامّ وإعداده لتلعب دورًا رئيسًا في قولبة العقول وتنميطها، والتحكّم في إدارتها.

ويحتاج التقليص من ظاهرة الإسلاموفوبيا في المجتمعات الأوروبيّة والغربيّة – برأي الكاتب – إلى حوار بين الحكماء في الجانبين، وبذل المسلمين جهودًا لإظهار قيمهم الدينيّة السامية وتقديم النماذج الطيّبة للآخرين، وإدانة الإرهاب الذي يمارس باسم دينهم، ويشوّه سمعته، ويؤثّر على صورتهم، انطلاقًا من أنّ الإرهاب هو العدوّ المشترك للإنسانيّة جمعاء، فبوقوفهم ضدّ الإرهاب يكون المسلمون قد وقفوا مع جميع الشعوب بمن فيهم الأوروبيّون، على أساس أنّهم إخوة في الإنسانيّة.

The author defines Islamophobia as a novel tendency that emerged in the last decades, or after the end of the cold war, an event that shifted the West’s attention from communism to Islam. Although Islamophobia is a relatively old term, the modern media industry has placed this phenomenon at the heart of European daily political and cultural life. It brought out negative stereotypical images of Muslims to the forefront, to a point where Islamophobia became a matter of public interest. Media companies who are experts in directing public opinion emerged in parallel and played a main role in molding and directing thought on the matter.

According to the author, limiting Islamophobia in European and Western societies necessitates discussions between intellectuals from both sides. As for Muslims, they must endeavor to show their religion’s moral high values, to provide a good example for others, and condemn acts of terrorism committed in the name of Islam, acts that tarnished its reputation and ruined their image. As terrorism is the common enemy of humanity, by opposing it, Muslims can side with all peoples of the world, not least the Europeans, as brothers in humanity.

إمكانيّة وصف التجارب الشهوديّة العرفانيّة

ترجمة: محمّد موسى

نستعرض في هذه المقالة الرأي القائل بإمكانيّة وصف المشاهدات العرفانيّة، بما لها أهميّة خاصّة في فلسفة العرفان، استنادًا إلى الساحات الثلاث: الحقيقة، والمعنى، واللغة؛ حيث نطرح بعض النصوص العرفانيّة التي تعزّز هذا الرأي. ونظرًا إلى أنّ العارف يواجه ساحة الحقيقة من خلال الشهود في مرتبة حقّ اليقين، ويدرك تلك الحقيقة بمددٍ من عقله المستنير، فإنّ بوسعه التعبير عنها ووصفها في سياق لغوي. بطبيعة الحال، يواجه العارف جملة من الصعوبات في كلّ واحدة من تلك الساحات؛ ففي ساحة الحقيقة، تتجلّى الصعوبات في اتساع هذه الساحة وتعقيدها، فضلًا عن ضعف الشهود؛ وأمّا في ساحة المعنى فتظهر من خلال ما يواجهه العارف من فكر، يحمل تأويلًا جديدًا وإضافيًّا وفقدانه للبراعة اللازمة لصياغة المعنى؛ بينما في ساحة اللغة تتمثّل بعض هذه الصعوبات في اللجوء إلى اللغة المتداولة والمألوفة في ظلّ غياب اللغة المتخصّصة التي قد تلائم طبيعة المشاهدات العرفانيّة، ما يصعّب لدى العارف مهمّة نقل هذه المشاهدات، بل ويجعلها مستحيلة أحيانًا.