ابن الطين وغسق الذات المجهولة

لقد كان للفلسفة اليونانيّة – الأفلاطونيّة، وما تفرّع منها، تحديدًا – وكذلك للمسيحيّة، أثرٌ في تجذير النظرة السلبيّة إلى الجسد. وهذا ما شكّل الخلفيّة، في التعاطي مع الجسد، للنموذجين الشخصيّين الذين سادا هذه المساحة الحضاريّة: الغرب والإسلام. أمّا في الغرب، ونتيجة تراكمات تاريخيّة، فقد أدارت النُّظُم الفلسفيّة الغربيّة ظهرَها للدين، ومعه منظومته حول الجسد ومتعلّقاته، ليصير الجسد عندها تمام الذات ومعيار القيمة. وأمّا في النموذج الحضاريّ الإسلاميّ، لم يَحُل رسوخ الروح الدينيّ دون استشراء الموقف النفسيّ الحادّ تجاه الدنيا، وتجاه الجسد بالتَّبَع. بيد أنّنا، إذا ما استطلعنا أصول نظرة الإسلام إلى الجسد وأركانها، وميّزنا بين القراءات الداخل الدينيّة، وتلك الخارجة عن الرؤية الدينيّة، لوجدنا أنّ المسار الفكريّ الإسلاميّ ليس مضطرًّا لأن يخلص إلى نفس مآلات الفكر الغربيّ، بل هو مدعوّ لأن يطوّر نظرته – المتوازنة – الخاصّة في شأن الدنيا والجسد.

Greek philosophy – Platonism and its offshoots above all – and Christianity have had a role in augmenting the negative stance towards the body. This has provided the background, while dealing with the issue, for the two personal archetypes overshadowing this sphere of civilizations: the West and Islam. In the West, and on account of historical accretions, Western philosophical constructs forsook religion, with its edifice concerning the body un-excluded, just to have the body become the whole of the self, and the criterion for value. In the Islamic civilization model, the firmness of the religious spirit couldn’t prevent the conduction of the acrimonious attitude towards this earthly life, and, derivatively, towards the body. If we could, however, survey the pillars of the Islamic view of the body, and discern, in the various readings, what’s foreign from what’s native (to Islam), we would see that the intellectual trajectory in Islam need not arrive at the same endings like its Western counterpart; rather is it called upon to develop its own principled – balanced – position as to the body and this earthly life.

الإلحاد، أيديولوجيا الإنسان المبتور

أيّ إنسان يريده الدين؛ وأيّ إنسان يريده الإلحاد؟ سؤال مقيم ترسم محاولات الإجابة عنه مسار الجدل الحادّ الذي يتوسّع يومًا بعد يوم بين طرفَي النزاع. وفي حين يصرّ الملحدون على تحرير أنفسهم من قيود الدين وصولًا إلى قطع الصلة به نهائيًّا، يتفطّن المتديّنون لمآلات الانجرار وراء التركيز على عناوين من قبيل “الإرادة الحرّة”، مثلًا، ويجدون فيها توظيفات يحرص خصومهم من خلالها على جذب الانتباه وتحفيز الآخرين على الانضمام إلى ركبهم. ولمـّا كان الإنسان محور هذا النقاش المحتدم، فإنّ رهان أهل الدين منعقد على مقابلة الخصم بتوظيفات أشدّ إحكامًا لا تنقض جوهر حرّيّة الاختيار عند الفرد، ولكنّها في الوقت عينه لا تبالغ في إطلاق يده من غير عقال، وذلك لكيلا لا يؤدّي الإمعان في نبذ الدين إلى “بتر” قسريّ وقهريّ للإنسان عن الدور الذي يريده الدين له. وهو دور لا يـني المتديّنون يؤكّدون على أنّه – وإن حُفَّ بالتزامات ومعايير تتفاوت في اتّساعها ومرونتها – يحفظ الإنسان من الانقطاع العبثيّ والعدميّ عن مرجعيّة أخلاقيّة وقيميّة ضامنة.

What kind of man does religion seek? And what kind does atheism seek? An enduring question that attempts to delineate the path of intense arguments that expands continuously between the two parties of the conflict. Whereas atheists insist on freeing themselves of the restraints of religion, completely cutting their ties from it, the religious are becoming increasingly aware of the consequences of focusing on notions such as “free will”, for example, discovering uses for them through which their adversaries attempt to draw attention and motivate others to join their ranks. Since man is at the center of this heated debate, the religious are set on meeting their adversaries with better employment for these notions that do not contradict the essence of personal freedom of choice, while at the same time not leaving it free of restraint, so that efforts to cast away religion would not forcibly mutilate the role religion intends to man; a role the religious assert it – even if it should be involved with commitments and standards of varying scope and flexibility – keeps man from being vainly and uselessly cut off from a guaranteeing moral and axiological reference.

العبودية: مرتبة وجودية ونظام معرفي: قراءة في أفكار الطباطبائي

ثمّة شيء أبعد من رابطة الاشتراك في الجذر اللغويّ، وأعمق من مجرّد تقاطع المعاني والدلالات يربط مفردات “العبد” و”العبوديّة” و”العبادة” ومثيلاتها، لا سيّما عندما تكون الذات الإنسانّة نقطة التلاقي بين هذه المصطلحات، إذ تختزن موضوعة “العبوديّة” طاقةً هائلةً تنفذ إلى عناصر الفاعليّة الدينيّة، إن على مستوى السلوك الفرديّ اليوميّ، أو الوعي الكليّ للجماعة الدينيّة، ناهيك عن محوريّتها في فهم الخطاب الدينيّ المرتكز إلى ثنائيّة “الله والإنسان”. ولا يخفى هنا أنّ تنزّل الإنسان منزل “العبد” من هذا المنظور – وليست العبوديّة هنا بمعنى الرقّ – مستفزّ لمجمل الخطاب الآخر، المسمّى أحيانًا تنويريًّا أو إنسانويًّا، فهو يستدعي على الدوام إشكاليّة الحضور الإنسانيّ في ظلّ القيوميّة الإلهيّة المطلقة التي تفيء إليها المنظومة الدينيّة – في نسختها التوحيديّة على الأقلّ. وينعطف هذا الجدل، ولا بدّ، عند سؤال “الحريّة” وإشكالات “الفرديّة” و”الاستقلاليّة” و”الإنّيّة”. وليس الخلاف مقصورًا على تيّارات فكريّة تختلف في أصل الدور الدينيّ في حياة البشر، بل يتعدّاه إلى داخل الرؤية التوحيديّة نفسها؛ ولا أدلّ على ذلك من المحاورة اللاهوتيّة بين مركزيّتَي “ابن الله” في المسيحيّة و”عبد الله” التي تَسِم – في نفس فعل الإقرار بالإيمان – الممارسة الطقسيّة الإسلاميّة اليوميّة بميسمها الفريد.

By and large, there is a correlation among the three Arabic terms of “al-ʿabd” (the servant), “al-ʿubūdiyyah” (servanthood), and “al-ʿibādah” (worship), one that surpasses their common linguistic root and goes beyond their close connotations, namely, as the point of convergence of all these three terms is, by definition, the very human self. The very concept of “al-ʿubūdiyyah,” then, holds a great power that has access to the elements of religious activity on the levels of, both, individual behaviors and the universal consciousness of the religious community, let alone its centrality in understanding the religious discourse that is based on the duality of “God and Man.” It is not a secret that man being at the very status of “al-ʿabd” from this perspective – where al-ʿubūdiyyah in this sense connotes not slavery – is provocative of the other discourse, often dubbed humanistic or enlightened. Such a discourse unabatedly returns to the question of the human presence in light of the absolute divine sustenance to which religious systems ultimately go back to – monotheistic versions of which, at least. This dispute inevitably comes up upon discussing the question of “freedom,” along with questions of “individualism,” “independence,” and “selfhood” in all their complexities. The scope of this polemic is not restricted to those intellectual currents that look differently at the role religion plays in the human life. It rather stretches out to the monotheistic approach itself. This is manifestly obvious in the theological dialogue on the centrality of “ʾIbn ʾAllāh” (the Son of God) in Christianity vis-à-vis “ʿAbd ʾAllāh” (the servant of God) in Islam which characterizes the unique daily Islamic rituals and practices, precisely by means of the act of professing belief.

الحبّ الإلهيّ قراءة في الأدبيّات الشيعيّة التأسيسيّة

إن الحبّ إلّا عضد العلاقة التي تجمع الإنسان بمصدره الذي هو الله. وقد بسطت الأدبيّات الإسلاميّة لمحوريّة مبحث الحبّ من حيث هو منهج سلوكيّ يؤكّد أن لا بدّ لأيّ منظومة، معرفيّة وعملانيّة، من مرتكز فلسفيّ مِتافيزيقيّ، ورؤية دينيّة تأسيسيّة. يمثّل الحبّ تمام الحقيقة الإلهيّة في ذاتها وروابطها وتجلّياتها، وهو، في مِتافيزيقا الفلسفة الإسلاميّة، يمثّل صنو الحياة الذي يسري في كينونة كلّ موجود بجدل من العشق والشوق.

نحو فلسفة القيم الحضاريّة مساهمة إسلاميّة

لقد تجاوز العقل الإصطلاحيّ، كما التحليليّ، في تحديده لمعنى الحضارة الفروقات البشريّة بين الأجناس، والأعراق، والألوان. حتّى أثمر ذلك تجاوزًا لأصناف الحضارات المعتمدة قديمًا، وأخذ يفرّق بين الحضارة والحضارات. فالأصل في البناء الحضاريّ هو تراكم الجهد البشريّ والمعرفة البشريّة في سياق تاريخيّ منتظم، يضفي على هذا الجهد هويّةً خاصّةً نابعةً من القصديّة الإراديّة أو القصديّة الطبعيّة عند أمّة واحدة. وهذا ما يسمّى بالقيم التراكميّة التي تشتغل بمفاعيل التاريخ والزمن. وبالتالي، يصبح التاريخ ملاكًا لفهم الحضارة. أمّا العقل الغربيّ فقد ميّز بين الحضارات وبين الحضارة بلحاظ المعايير التي وضعتها الحضارة الغربيّة. فظهرت ملاكات وقيم محدّدة لما هو حضاريّ، ممّا ليس بحضاريّ. فهل للحضارة مقاييس؟ وهل ثَمَّ معايير تحكم على إنسان أو جماعة بالتحضّر؟ وما هي الغايات الحضاريّة الكبرى؟

الصبغة في الإسلام

للفطرة القائمة في الذات الإنسانيّة صبغة هي أحسن الصبغات. إنّها “صبغة الله” الشاهدة على أنّ الأصل في الإنسان هو الطهر والصلاح. إلّا أنّ الإنسان قابل، بمقتضى اختياره، لكثرة من السُّبُل قد تنحرف به عن الصراط، وتستبدل قلبه المصبوغ بقلب مطبوع، بالأحرى مصبوغ بصبغة الشيطان المستغرقة في “الأنا”. أمّا القلب المفتوح على الرحمة والصلة، وإن لهج بلسان الإنكار لله، فهو أقرب إلى صبغة الله، إذ الأصل والمِلاك التسابق في الخيرات.

The fiṭrah engrained in human beings has the best of ṣibghahs (baptism; color; hue). It is this ṣibghah of God that bears witness to the origin of man, an origin of purity and righteousness. Human beings, however, by virtue of their volition, are open to countless courses of choice that may drive them away from the right path (aṣ-Ṣirāt), risking the closure of the heart, rather the substitution of the baptized heart for a sealed (maṭbūʾ) heart, a heart baptized by Satan who got totally engrossed in his ʾAnā (“I). Those who openly deny the belief in God, but whose hearts are open to mercy and communication with others, are, as a matter of fact, closer to the baptism of God than any other, for the crux of the matter is the race towards the good (istibāq al-khayrāt).

“أنا”… الإنسان

تسبّب قرار جعل خليفة على الأرض بانقسام حادّ في السماء، بين الملائكة التي أرادت الأرض صورةً عن السماء، والشيطان الذي لم يستطع أن يجاري المعنى الكلّيّ المستجمَع في فطرة الإنسان. وبمقتضى خلافته فإنّ الإنسان يصوغ التاريخ ويعمر الأرض التي تمثّل، بمقتضى الإرادة الإلهيّة، مكانًا عامرًا بالتجربة والاختبار والبلاء، ما يستوجب مزيجًا من قداسة التنزيه وشيطنة الإفساد. والإنسان الذي أوتي علم الأسماء، بكلّيها وجزئيّها، يتحرّك فيها بمسؤوليّة، وبمحفّزيّة طبيعته البرزخيّة التي تبدأ من عالم المادّة والطبع، إلّا أنّها تتجاوز نحو عوالم تمتدّ امتداد مراتب الوجود.

The decision of assigning a vicegerent on earth led to deep division in the heavens, a division between angels who desired earth in the image of heaven, and Satan who was unable to adapt to the universal meaning implicit in human nature (fiṭrah). Pursuant to its vicegerency, mankind formulates history and cultivates the earth wherein, as per the divine will, experiences, trials and hardships are amply animated, requiring an admixture of the holiness of the impeccable and the Satanism of corruption. Man, who was provided knowledge of the Names, universal and particular, moves responsibly, driven by his isthmic nature (ṭabīʿah barzakhiyyah) that arises from the material world of impressions, and transcends towards worlds that outstretch as far as the levels of Being extend.

عرش الروح وإنسان الدهر

القلب حقيقة سيّالة، يصعب استقرارها على حال، إذ تتبدّل حسب مظاهر الشؤون الإلهيّة، فتبقى في تتالي من الحركة في الأعراض السلوكيّة الكاشفة عن حركة في جوهر المعنى الإنسانيّ، أي اللبّ. وفعّاليّة القلب هذه هي التي تولّد هويّة الإنسان، لأنّها تمثّل الطبيعة التي تشكّلت لديه بفعل تأمّلات الذات، واستطالات الفؤاد المعرفيّة، وتبصّرات القلب في الواقع. فالقلب له وجه نحو البدن (الطين)، ووجه نحو المعنى الكلّيّ للنفس الناطقة، ووجه نحو الفرد بهويّته الشخصيّة، ووجه متّصل بنور الله. أمّا الإنسان الدهريّ فهو صاحب القلب البرزخيّ، الجامع بين الروح والطين، وصاحب الرؤية التوحيديّة، الممتلك نعمة المعرفة الفطريّة والتكليف الإلهيّ.

The heart (al-qalb) is a fluid reality, changing in accordance with the appearance of Divine Manifestations. The flux it entertains, in terms of behavioral accidents, discloses the very movement of the essence of human meaning (al-lubb). The action of the heart is what generates the human identity, for it represents the human nature that was constituted through (1) the meditations of the self, (2) the epistemic extrapolations of the “intelligent heart” (al-fuʾād), and (3) the insights, into reality, of the heart itself. The heart, moreover, is multi-faceted: one of its faces turns towards the body (the clay), another towards the universal meaning of the rational soul, a third towards the individuated personal identity, and still another face associates with the light of God. In the man of perpetuity, these faces come to an intricate balance, for he is the possessor of an isthmic (barzakhī) heart which combines the spirit with the clay; it is this heart which entitles him to the tawḥidī vision, and to the gifts of fiṭrī knowledge and Divine trust.

الوحي من منظور إلهيّات المعرفة

غيّبت القراءة التقليديّة للوحي الإنسان، فانهمكت بماهيّته وبخصائصة المنطقيّة، في حين استحضرت القراءة الحداثويّة الإنسان كبديل عن المصدر الإلهيّ للوحي، فلم تر موضوعيّةً لوحي يجيء الذات من خارجها، بل الوحي، عندها، مجرّد عصارة عبقريّة الذات المؤمنة التي تروم المطلق. هذا في حين تقرّ “إلهيّات المعرفة”بمرجعيّة المعرفة الإنسانيّة، بل حتّى معياريّتهاإذا ما رجعنا إلى حيثيّة الانتساب الإلهيّ في الإنسان، وتُميّز، في سياق متّصل، بين (1) الوحي بمعناه التكوينيّ الذي يتشابك وما جُبل في فطرة الإنسان والكائنات، و(2) الوحي بمعناه النبويّ، وإن اندرجا كلاهما في فعاليّات نظام الهداية الذي أرساه الله في حياة الكائنات. وإذ يصل الوحي بمعناه الأوّل، أي الوحي المندرج في مفاعليل “كن”، إلى غاية اكتمالاته عند النبيّ، فإنّ النبيّ عندها يصير موردًا للوحي بمعناه الثاني، ويصير أهلًا لخطاب “اقرأ”، الذي يتمظهر في مرجعيّة عليا وهي النصّ.

The traditional understanding of Revelation was rather too absorbed with what constitutes revelation – in logical terms – to be inclusive of man. The modernist understanding, on the other hand, brought Man to center stage as a substitute to the Divine source of revelation. This second reading does not admit the revelation befalling the self from without any objective reality. Revelation is, rather, the ingenuitive outcome of a faithful Self yearning for the Absolute. As per the “Meta-theology of Knowledge,” however, the centrality, even normativity, of human knowledge is acknowledged only when the divine origin of man’s being is recognized. In due context, a distinction is made between two aspects of revelation:  (1) the creational, and (2) the prophetic. The distinction does not render irrelevant the fact that both aspects belong to the very system of guidance that God instilled in the life of beings. Revelation in the first sense, that is to say revelation in accordance with the imperative “Be,”[1] reaches its fullest in prophets; it is then that prophets become an instance for revelation in its second sense, and are fit to receive the Almighty’s address, “Read,”[2] which, consequently, takes form in scripture as an ultimate authority.

[1] See, Sūrat al-Baqarah (The Heifer), 2, v. 117; Sūrat ʾĀl ʿImrān (Family of ʿImrān), 3, v. 47, 59; Sūrat al-ʾAnʿām (Cattle), 6, v. 73; Sūrat an-Nal (The Bees), 16, v. 40; Sūrat Ghāfir (The Forgiver), 40, v. 68; Sūrat Maryam (Mary), 19, v. 35; Sūrat Yā Sīn (Yā Sīn), 36, v. 82.

[2] See, Sūrat al-ʿAlaq (the Clinging Mass), 96, v. 1.

إفتتاحية العدد 24

افتتاحية العدد 24

افتتاحيّة العدد

نوعان من نفحات الروح يغمران حياة المعتقِد بأيّ ديانة، وكلاهما يسمّى بالإيمان.

النوع الأوّل، هو ذاك الذي يخرج من عمق الذات المستسرّة فيها روحُ الحبّ، وانجذاب العشق نحو الكامل. إنّه الأمانة التي أودعها الله فينا، وجعلها مهماز العودة إليه كلّما ران على القلب ما يُبعد عن الربّ.

أمانة الإيمان هنا، نوع من صفاء سماويّ يحوم حول القلوب والأنفس، ينتظر القبول منّا ليضع ترحاله فينا، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. قد نمتلك قرار قبولها، لكنّنا لا نمتلك قرار قتلها، لأنّ حياة هذا النوع من الإيمان الفطريّ مجبولة في أصل خلقة كلّ منّا.

بناءً عليه، فإنّ أيّ تحدّ للنوع الإيمانيّ هو بحقيقة الأمر تحدّ للذات، بل حرب للذات على الذات. إنّه أن تقول لنفسك لن أكون على إنسانيّتي، على مشاركتي لمن هم أقراني من الخلائق، على وصالي بين الجسد المنتمي إلى طين الأرض والروح المتسامي في سماء القيم والأخلاق والحقّ والواجب والرحمة والحبّ.

هذا النوع من الإيمان، هو تمام قصّة الإنسان في أصل وجوده، وفي مساره نحو المصير الأخير الذي قضاه الله ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾[1].

لذا، فإنّ أيّ معتقِد ومن أيّ ديانة كان، هو عضو حقيقيّ في محفل هذا الإيمان الروحيّ المنبثق من سماء السؤدد والسرمد.

النوع الثاني، هو إيمان يُفشي سرّه في الموضوع الإيمانيّ بكلمة وحي، أو حكمة إلهام، أو مقرّرات معتقد. ويمرّ مثل هذا الإيمان الموضوعيّ بمراحل من التأسيس الذي تكون فيه روح الإيمان موصولةً بموضوعه ولغته المنطوقة من المؤسّس (النبيّ، الرسول، الممثّل للروح، الـمُلهم أو غيرهم). لذا، تنفتح لغة الإيمان على الروح بشكل قدسيّ يبقى محفوظًا في الذاكرة، وفي الوجدان الدينيّ، وفي الأمثولة والقصّة والعبرة. ثمّ يمرّ بمراحل من التقنين التي تقوم بدور الدفاع المستميت عن الذات عبر جعل الموضوع حضن الروح، بحيث يتمّ تصوير الروح الإيمانيّ وكأنّها تلك الكلمات أو المقرّرات، حتّى ندخل رويدًا رويدًا في عصر التأويل والتفسير، فتنبني المدارس والمذاهب والطوائف، ويفرح كلّ حزب بما لديه، ولو على حساب نفي الآخر أو تصفيته.

وهنا، يتحوّل الناس إلى ما يشبه الجماعات التي تعبد الله على حرف من الفهم والنكران لكلّ القيم الإنسانيّة المنبنية على وحدة إيمان الروح.

ومن المعلوم، أنّ من خاصّيّة الروح الحياة ورفض الموت، بل التغلّب على الموت بالموت. لذا، تطلع تباشير الإيمان الروحيّ عند منعطفات حسّاسة من الزمن لتعمل على استعادة القيم والمعنويات التي أضاعها الناس بما كسبت أيديهم، لتوجّه القلوب نحو المعبود مجدّدًا، ولتثأر لإنسانيّة الإنسان وإيمانه الروحيّ، فتدفع نحو بناءات من الأعمال الصالحات البانية لجسور المحبّة والعيش والعدالة والعزّة.

من هنا، فإن كان لكلّ منّا خصوصيّة الموضوع الإيمانيّ، فإنّ روح الإيمان هو لنا جميعًا. فلا ينبغي أن نجعل الله عُرضةً لما قسّمناه، لأنّه فوق الجميع ومع الجميع وقبل الجميع، وكلّ ما سواه هالك، ولا يبقى إلّا وجهه، وجه الرحمة التي تؤلّف بين الناس، ولو في ذاك المشهد العظيم الذي أسمته الأديان بيوم الدين.

يبقى أن نسأل: كيف نميّز بين جماعة دينيّة وأخرى، في اجتماع روح الإيمان فيها مع موضوع الإيمان، إذا كان الجميع يدّعي الوصال بين الأمرين واكتمال الصنفين عنده؟

وهنا، اسمحوا لي أن أعرض قناعتي الخاصّة بهذا الشأن. فأنا أعتقد أنّ الدين، أو الكلام، أو الوحي الإلهيّ لم يأتِ لخدمة الله، أو لمصالح خاصّة بالله. فالله مستغنٍ عن الخلق كلّه، والقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[2]. فمحور الخطاب الدينيّ، ومغزى مقصد الغايات والأهداف والقيم الدينيّة هو الإنسان. من أجل الإنسان تمّت كلمة الله بالنعم والحقّ والخير والعدل، ولا يوجد في ميزان الله من تفاضل بين الأعراق والمذاهب والألوان، بل بالتقوى واتّباع الحقّ من جهة، وبخدمة الناس من جهة أخرى.

وفي الوارد من أحاديث، أنّ “الناس كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله”. فهل المعيار الفاصل إذًا هو مَن الأنفع للناس؟

لا بدّ أن نشير إلى أنّ الخصوصيّات المرتبطة بحياة المجتمعات لاستكشاف طرق الإيمان الروحيّ والموضوعيّ لا يمكن لنا أن نسلكها إلّا مهتدين مقتدين بالذين كانوا يُبرِؤون الأكمَه والأبرص، والذين كانوا يبلسمون جراح النفوس من المكلومين والمستضعفين، فهؤلاء كانوا أصحاب المعجزات، وما مصدر إعجازهم إلّا يد الحبّ وكلمة الرحمة التي كانت تنطلق من روح الإيمان بالواحد القادر الرحمن الرحيم نحو العباد من الناس والأمم.

بمقدار ما ننـزع من قلوبنا شرك المصالح والأهواء وكفر تصنيم الذات، بمقدار ما نوحّد الذي أراد أن يُوحّد كلّ شيء.

وهنا، ما من صورة حقيقيّة للروح في هذه الحياة الدنيا إلّا بإنشاء السلام لأهل الأرض، سلام العدل القويّ بعزّة الحقّ، والذي يأبى أن يرى الظلم ويسكت على الضيم.

فتنافس المفاضلة ليس فيما أطرح أو تطرح، لأنّ كلًّا منّا قد اعتقد وسكن لما عنده. المفاضلة هي في أن أصلك ولو قاطعتني، أن أبحث عن عزّتك ولو أخطأت في تقديري، شرط أن لا أخونك أو تمارس عليّ الخيانة. لأنّ كلّ الذنوب في توحيد الله تُغفر إلّا أن يشرك به، والظلم والخيانة بمثابة الشرك العظيم الذي يمارسه المرء في حقّ الإنسان بإنسانيّته. المفاضلة هي، أن نكون في محضر الله عند كلّ ما يخصّ الإنسان في حياته الفرديّة بالعبادة، وفي حياة الجماعة بحسن العلاقة والمعاملة، وفي حياة الأمم بسيادة الرحمة والعدل والإحسان.

صحيح أنّي لا أقدر على أن أرى كلّ الناس بنفس المستوى من مسؤوليّتي تجاههم. فمن أشبِهُهم أكثر في الدين والإيمان والأرض والانتماء هم أقرب إلى نفسي وأوجب في مسؤوليّتي، وهنا الخصوصيّة. لكن حينما يصبح الظلم مباحًا تحت عنوان الخصوصيّة، كما الكذب والبغضاء، فإنّ الخصوصيّة، هنا، لم تعد صاحبة انتماء للإيمان، إذ الإيمان أوسع منّا، وهو الحياة، بينما البغضاء موت، ومثل هذه الخصوصيّة تصبح عصبيّةً.

أنا لا يمكن لي أن أطلب من المسلم أن ينظر للمسيحيّ نظرته لبقيّة المسلمين، كما لا يمكن لي أن أطلب من المسيحيّ أن يضع المسلمين على نفس المصافّ من اهتماماته، إذ الإيمان العقديّ ومقرّراته، فضلًا عن سياقات الحياة، تمنع من ذلك. لكن لا يمكن إلّا وأن أرى في وجه كلّ مسلم أو مسيحيّ روح الإيمان الحيّ الذي يجب أن لا يموت، الذي يجب أن لا نعيش معه بخصام.

عليّ أن أسأل، بأيّ إيمانٍ يحرق الواحد منّا معبد الآخر؟ بأيّ إيمان نستبيح الكرامات ونسوّغ التهجير ونُفقد الحياة المشتركة لذّة الهناء والوئام؟ لصالح من نقطّع أوصال مجتمع بناه الأنبياء والرسل والصدّيقون والقدّيسون حجرًا حجرًا، ولبنةً لبنة؟ هل في ذلك صالح عقائدنا وإيماننا؟ أم صالح معتقدات وقناعات صاغتها يد بعض من العصبيّة الجاهليّة الممزوجة ببعض من التاريخ الأسود، والممهورة بيد أصحاب المصالح والأهواء؟

أدّعي أنّي أعرف الجواب، لكنّ القول الخيِّر هنا، تعالوا نحتكم لإيمان الروح فينا، ولنسمعها ولو لهذه المرّة.

 

مع العدد

يُقارب شفيق جرادي، في المقالة الأولى، مفردة الإيمان في حقلها الانطباعيّ العامّ، الذي يحاكي الإنسان في كلّيّته، فلا ينحصر بالبُعد العقليّ فيه؛ ويحاكي الدين في كليّته، فلا ينحصر بأبعاده العقديّة أو الشريعيّة، بل يحضر بقوّة في الأبعاد القيميّة والأخلاقيّة، كلّ ذلك عطفًا على تقريره (جرادي) الدينَ الوحيانيّ مصداقًا أمثل لحقيقة الإيمان القائم على الوصال بين الإنسان والله.

ويرى سمير خير الدين، في مقاربته القرآنيّة للإيمان، أنّ وجدان الإيمان الاعتقاديّ هو فعل إنسانيّ إراديّ. وبالتالي، فالإنسان، في بنيته الواحدة، هو محور هذه العمليّة الإيمانيّة الاعتقاديّة. أمّا كون الإيمان اختياريًّا فيكشف عن نوع من التعلّق الواعي (للإنسان) بالذات المقدّسة. وعن هذا التعلّق تصدر الفاعليّة الإنسانيّة في حراكها الفرديّ والاجتماعيّ، وفيه تنحصر إمكانيّة تعريف الإيمان مفهومًا.

ونجد في المقالة الثالثة، لحسن بدران، استقصاءً لمفردة الإيمان في أحد “الكتب الأربعة” عند الشيعة – أي مجامع الحديث التأسيسيّة الأولى – وهو كتاب الكافي للكليني. إنّ الإيمان، هنا، ناظر إلى الإنسان في “الزمن المقدّس” السابق على السيرورات والنسبيّات وتحوّلات اللحظة التي تحتكم إليها المعالجات العقديّة. وبالتالي، فالكلام في النظام العامّ للخلقة، والإيمان فيه كامن في أصل جوهر الإنسان، كما هو كامن، إذ يتصرّم الزمان، في حراك الإنسان وحياته.

أمّا في المقالة الرابعة لأحمد ماجد، فثمّة قراءة لموضوعة الإيمان في الإناسة من خلال ثلاث شخصيّات معاصرة، غيرتز وغلنر وأسد، كانت صاحبة قول فيما خصّ الإسلام وموقعه من الحداثة. وفي حين نحا غيرتز وغِلنر منحى القراءة التعميميّة التي لا ترى في الدين إلّا نسقًا ثقافيًّا رمزيًّا هو معطًى اجتماعيّ خالص، لا صلاحة لديه لتوليد المعنى، فإنّ أسد يستردّ للدين مرجعيّته وللخصوصيّات موقعها، من خلال بيان محوريّة التقليد والصراطيّة في المنظومات الإيمانيّة الاعتقاديّة. إنّ هذه المقاربة ممّا يفتح الباب أمام نقاش، من الضروريّ أن يجري في العالم الإسلاميّ عن هذه العلوم وكيفيّة حضورها فيه.

ثمّ في المقالة الخامسة لريتشارد سوينبرن استقراء للمواقف المسيحيّة الأساسيّة من الإيمان، في تمايزها على ضوء الثقل الذي توليه إحدى مقولتَي الاعتقاد أو الثقة. ومع حضور العنصر العقليّ قويًّا في كلتَي المقولتين – ما يطرح بقوّة إشكاليّة “إيمان الشياطين” – فإنّ موضوعة الخلاص تجد لها مدخلًا عريضًا، ومعها نجد تبلورًا في مقولتَي الحبّ، مع توما الأكوينيّ تحديدًا، وعمل الخير، مع لوثر تحديدًا.

وإذا كانت مسألة موضوع الإيمان – أو متعلّقه في الأدبيّات الإسلاميّة – قد برزت واضحةً في المقالات السابقة، فإنّ المقالة الأخيرة في الملفّ لكارل ياسبرز تطرق، بالفلسفة، سؤال العلاقة بين وجهَي الإيمان، الذاتيّ والموضوعيّ؛ ولا تجد، في سبيل الجواب، بدًّا من الإشارة إلى ما تكون الذات والموضوع مظهرَه، إلى المكتنف الذي فيه، من “كنفه”، تتولّد حريّة الإيمان وحياته.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” على ثلاث مقالات.

يرى مهدي الحائري اليزدي، في المقالة الأولى، ضرورة معالجة السؤال “الماقبل-معرفيّ” إذا ما كان للاعتبارات الإبستمولوجيّة أن تكتسي أيّ معنًى. فمن دون هذا السؤال لا يمكن إحراز أيّ فهم لعلاقة المعرفة بمحرِزها. عليه، يقوم الحائري باستثمار أطروحة المعرفة الحضوريّة في الفلسفة الإسلاميّة، في تشريح لمقولتَي الموضوع والذات، كي ينخرط في نقاش مع الإشكالات الإبستمولوجيّة الأساسيّة في الفلسفة المعاصرة.

أمّا المقالة الثانية لإدريس هاني فتقترح مقاربة الحكمة الصدرائيّة المتعالية من باب العبرمناهجيّة، مستعرضةً موارد الاستفادة المتبادلة بين المقاربتين، وما يترتّب على هذا التلاقح من فوائد لكليهما[3].

وفي المقالة الأخيرة، يحذّر حيدر حبّ الله من صعود الاتّجاهات المناهضة للفلسفة، في الوسط الحوزويّ، بعد فترة من الإحيائيّة كان لها الأثر الطيّب على المناخ العلميّ الدينيّ. ويقوم بمعالجة عدد من الأدلّة التي تُساق لصالح مناوءة الدرس الفلسفيّ مبيّنًا اعتلالها، ومؤكّدًا على ضرورة الاستفادة من الفلسفة في مواجهة تحدّيات التجديد والمعاصرة.

أمّا في باب “حكماء”، يتقدّم محمّد تقي السبحاني بقراءة جلال الدين الرومي من خلال المقولات الأساسيّة الحاكمة على رؤيته، العقل والعلم والحبّ، مبيّنًا خصوصيّات معالجته التي جعلت منه أحد أهمّ متصوّفة الإسلام.

والحمد لله كما هو أهله

شفيق جرادي

محمود يونس

 

[1] سورة الأحزاب، الآية 62.

[2] سورة فاطر، الآية 15.

[3] انظر، في العدد السابق، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتجاوز جدال الدين والعلم”، ترجمة هادي قبيسي.