النموذج المعرفي وإنتاج العلوم

يختلف النموذج المعرفي عن النظام المعرفي، فهو حاكمٌ على النظام، يقوم بإرشاده ليتوافق معه. وهو يبقى ثابتًا في حين أنّ النظام يتطوّر بتطوّر العلوم والمناهج. وإذا انفصلا عن بعضهما، تتحوّل العلوم إلى غايات قائمة بذاتها، ممّا يفقد النموذج فعّاليّته.

والبحث عن هذا العنصر وتحديده يشكّل نقطة انطلاق هامّة في فهم ومآلات الفكر ومستقبل الثقافات الإنسانيّة، لأنّها لا تتعدّى كونها تعميمات، لتتحوّل إلى هويّة شاملة.

تحدّيات وموانع تحوّل العلوم الإنسانية وتوليد العلوم الإنسانية الإسلامية

ليست إشكاليّة ما سُمِّيَ بـ”أسلمة العلوم الإنسانيّة” مسألةً معرفيّةً-إبستيمولوجيّةً فحسب، بل اتّخذت في بعض الأحيان صفة السؤال عن الهويّة والرغبة في احتلال موقع ندِّيّ إلى جانب الآخرين (إن لم نقل التفوّق عليهم). وإضافةً إلى محاكمة المناهج والنتائج، فإنّ الضيق الذي يشعر به مفكّرون إسلاميّون تجاه علوم ترعرعت في الغالب في الغرب يدفعهم إلى التفكير في إعادة إنتاجها محليًّا أو من ضمن آليّاتٍ اعتادوها وألفوا مُخرجاتها. فالأسلَمة تستبطن شعورًا بالغُربة عن علومٍ تدّعي أنّها إنسانيّة كلّيّة، ولذا فهي تمثّل في جوهرها ادّعاءً مضادًّا بأنّ صفة “الإنسانيّة” تلك ينقصها ما يسدّه الإسلام (أيًّا يكن فهمه) ويكمّله. وثمّة جانب آخر للأسلمة تلك، يبرز في كونها شكلًا من أشكال مقاومة الهيمنة الغربيّة المادّية والفكريّة. وككلّ مشروع نهضويّ مقاوم، تتضافر التحديّات والموانع في وجهه، وإن لاحت بعض الإمكانات، إلى الحدّ الذي يصبح التفكير فيها قبل مواجهتها واجبًا أساسيًّا في حدّ ذاته.

ثلات نكات في ما يخصّ منهجيّة العلم الإسلامي

 

استقرّت التعريفات الكلاسيكيّة على أنّ “موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية”. واستتبع ذلك البحث في ما يميّز علمًا عن آخرَ لجهة الموضوع المبحوث. وكأنّ الموضوع مقولة أنطولوجيّة بموجبها تترسّم الحدود الفاصلة بين العلوم. ولكن مع انقلاب التركيز من البحث الوجوديّ إلى البحث الإبستيميّ المعرفيّ، لم يعد من الممكن الاقتصار على السؤال حول “موضوع العلم”، بل ربّما تراجع هذا الاعتبار إلى خلفيّة المشهد لصالح تقدّم السؤال عن “البحث” نفسه، حتّى صار اختلاف المقترب العلميّ سببًا لاختلاف العلم – أو لإسقاط البحث نفسه من دائرة ما يستحقّ اسم العلم. وفي عصر يزدحم بسؤال الهويات، من الأفراد إلى الأوطان إلى الأدبيّات وغيرها، يصبح مشروعًا السؤال أيضًا عن “هويّة العلم” وما يلحقها من نتائج، وخصوصًا إذا اتّخذ ذلك العلم صفةً إنسانيّةً جامعة.

ارتباط العلوم الإنسانيّة بإرادة الإنسان لا بالعلوم والأمور الانتزاعيّة

لا تزال العلوم الإنسانيّة، بفروعها المتعدّدة، تعاني من المخلّفات الوخيمة التي تركها ظهور النزعة الوضعيّة بساحتها. ولم يكن أيسر تلك التبعات مقتصرًا على مناهج الإنسانيّات وسبل توليدها للمقولات والنظريّات، بل وصل إلى حدِّ جعل الإنسان، بما هو مركز تلك الاهتمامات، مجرّد موضوع طبيعيّ جامد وجافّ، يمكن تحديد نمط أفعاله مسبقًا، ويسهل تقرير مصيره بالنيابة عنه. لكنّ الفلسفة الإسلاميّة ومكنونات مقولاتها المعرفيّة الأساسيّة لم تستطع هضم تلك الوضعيّة المقيتة ولا حتّى التطوّرات التي سعت إلى التخلّص منها، وبقي السؤال مقيمًا عندها: كيف يُمكن لهذا الضرب من الانشغال البحثيّ والمعرفيّ بكلّ ما يمتّ للإنسان بصلة، علومًا وتخصّصاتٍ، أن يقصي دور أهمّ مكوّناته؟ ذلك الإنسان الذي يعطيها الاسم والشرعيّة والدافعيّة للتحرّك والتميّز عن سائر العلوم؟