تتنوع الأسماء: “الحكمة الخالدة”، و”العلم القدسيّ”، و”الروحانية المعاصرة”، ولكنّ المحتوى واحد، يدلّ على تيار فلسفيّ، نشأ في القارة الأوروبية، مع بداية تبلور الحداثة الغربيّة التي بدأت مع مارتينيز دي باسكوالي (1727-1774)، وخطت لنفسها مسارًا خاصًّا، وصولًا إلى رينية غينون (1866-1951)، وفريتجوف شوون (1907-1998)، وهنري كوربان (1903 -1978)، وسيد حسين نصر (1933)، وويليم تشتيك (1943)… هذا التيار الفلسفيّ، على الرغم من حمله راية الاعتراض على ما يجري في القارة الأوروبية من تطور فلسفيّ وعلميّ وثقافيّ، إلا أنّه بقي كوكبًا يدور حول نجم الحداثة، يكتسب قوّته ونوره منها، ويتحرّك ضمن نظامها الذي يحدّد جميع المسارات، ويلفظُ، أو يبتلع الخارج عنها.
ترافقت الحكمة الخالدة مع ظهور المدارس الفلسفية الكبرى في المنظومة الغربية، وعملت على رفضها في نموذجَيها العقليّ والتجريبيّ، وعارضت بعد ذلك كلّ فلسفة سعت إلى إبقاء الوجود مرتبطًا بما هو أنطولوجيّ، ورأت أنّ هذه النظرة بحاجة إلى إعادة تقييم جديد، عبر تفعيل الميتافيزيقا الحقيقية، بما هي إحالة إلى المبدأ والأصل. وهي في سبيل ذلك، لم تتوانَ عن مهاجمة كلّ حراك فلسفيّ، لا يسعى إلى ربط الإنسان بحقيقته الروحية. وفي سبيل هذا الهدف، عملت على إظهار الميتافيزيقا الزائفة، بدءًا من “أرسطو”، ووصولًا إلى “ديكارت” و”ليبنتز” و”كانط”، والتي أدّت إلى نشوء التصورات الخاطئة عن العالم، حيث أسلمت الإنسان إلى وعي أنطولوجيّ إزاء الوجود، ما أدّى إلى نشوء وعي زائف، يمركز هذا الكائن في عدمية مطلقة، فَقَد من خلالها المعنى، وأصبح تائهًا، تتلاعب به أهواء الذات، فضلًا عن رغبتها في السيطرة على النفس أو الجماعة التي تعمل؛ للقبض على مقدّرات الشعوب واستغلالها.
تقدّم الحكمة الخالدة نفسها كمشروع حضاريّ، يعيد موضعة الإنسان في مكانته الوجودية السامية، من خلال إعادة بعث ذلك الجانب العظيم الذي أُلغي باسم عناوين مختلفة. إنّها تسعى إلى تفعيل الجانب الروحيّ في الإنسان جاعلةً من “الحكمة الشرقية” السراج المنير الذي سوف يقود الإنسان إلى المقام الوجودي الذي يليق به، عبر ما يُسمّى “بالتحقّق الروحي”، أو “الميتافيزيقا الحقّة”، والذي تشترك فيه كل المذاهب التراثية في الشرق. هذا التحقق هو الذي تسمّيه التراثيات الشرقية – لا سيما الصوفية – مقام “الفطرة الأصليّة الأولى”، لذلك عملت على صياغة علم جديد، ووضعت له مباني، أسمتها “مباني العلم القدسيّ”. هذا العلم لا يمكن الوصول إليه عبر التفكّر الذهنيّ الذي أُسمي عقلًا، وإنّما عبر “عقلٍ مجاوز”، يكتسب معارفه عبر الإلهام، ورأت هذه التراثيّات أنّ ما تعيشه الحضارة الغربية من تيهٍ، يعود إلى هذا التعريف الخاطئ الذي لم يستطع التمييز بين العقل في مقام الخبرة، وهو ما يُسمّى التفكير، والعقل في مقام الحقيقة الحقّة، والذي يستحقّ اسم “العقل”. ورأت أنّ عقل الخبرة الذي انتصر مع الحداثة الغربية دمّر معاني العلم، وأسس للتشظّي المدمّر، حيث أصبحت العلوم قائمة بذاتها، لا ترتبط في ما بينها بفكرة كليّة، تعمل على إيصال الإنسان إلى كمالاته التي وُجِد لأجلها، فأصبحت قيم المنفعة والاستهلاك تتحكّم بها.
كما رأت الحكمة الخالدة أنّ الحياد عن المبدأ الروحي الفطريّ، كان السبب الرئيس الذي تولّدت عنه أوجاع الحضارة الحديثة، وتنامت معه المآسي الإنسانية، وعنه نشأت الفوضى في العقائد والمفاهيم والأفكار والسلوكيات، وهو الذي أدخل البشرية في أحلك مراحلها الظلمانية، هذا الظلام الذي سوف يعمّم، إذا لم تتدارك الحداثة الخطأ الذي وقعت به، وتعمل على تقويمه عبر ربطه بحقيقة وجوده وهدفيّته. لقد وجدت أنّ على العلم الحديث التموضع في المرتبة المناسبة له، والتي يحدّدها العقل المجاوز، عبر إخضاعه بما يمتلك من قيمومة عليه، نتيجة إدراكه للحقائق بذاتها.
وقد استدركت الحكمة الخالدة – أيضًا – مسألة الصراع بين الديانات والمذاهب، والتي أدّت إلى نزعة العلمنة، وتقدّمت خطوة إلى الإمام، حين أكّدت على إخضاع كلّ الأديان والعلوم والمعارف للعقل المجاوز الذي يمثل الميتافيزيقا على حقيقتها، بالتالي ذهبت إلى الحديث عن جوهر الدين وعوارضه، وعدّت الأديان الحقيقيّة، من: إسلام ويهودية ومسيحية وهندوسية وبوذية، تمتلك جوهرًا واحدًا، وما نراه من طقوس وعبادات هي أعراض تطرأ على الدين؛ لتعبّر بشكل رمزيّ عن هذه الحقيقة الدينيّة الجوهرية الواحدة، والمشكَّلة دائمًا، فتتمثل في الإعلاء من هذه الأعراض، أو فكّ رموزها بشكل خاطئ.
تجنبًا للإطالة، وحتى لا نقع في أحكام قيميّة قبل البدء بالموضوع، يطرح هذا العدد من مجلة المحجة موضوع الروحانية المعاصرة، أو الحكمة الخالدة، ويضعه تحت المجهر، وقد انطلق العمل على هذا المحور من مجموعة أسئلة، أهمّها:
ما هي الحكمة الخالدة؟ وكيف قدّمت نفسها؟ كيف نظرت إلى الأديان؟ لماذا طرحت موضوع التقليد؟ وما هو هذا الأمر؟ وما هي علاقته بالأديان؟ وهل ما طرحته يبرر التعدّدية الدينية؟ وهل التعدّدية الدينية تنحصر فيما آلت إليه؟ وهل يجوز لها أن تأخذ جانبًا من الديانات، وهو البعد الوحياني، وتُهمل الأبعاد الأخرى، كالتشريع مثلًا؟ وهل يصحّ اعتماد نظرة توفيقيّة تختزل الأديان في نزعة كلّيّة، في سبيل إقامة علم حديث، يستند إلى مبدأ إلهي؟ وهي عندما تستعير من الأديان ما يحقّق حالة معنوية، ثمّ تقوم بتهميشها، هل تسعى إلى دين بديل من أجل معالجة تكوين البعد الروحي، وإعادته لدى الإنسان؟
وما هي علاقة الحكمة الخالدة بالتصوّف؟
ما هي علاقة الحكمة الخالدة بالديانات الشرقيّة القديمة، لا سيما الهندوسيّة؟ وهل نقلت الدين من حالة مجتمعيّة إلى تجربة روحيّة، عندما جعلتها قاعدة لها؟
هل تُبَرَّر الحالة الاعتراضية للحكمة الخالدة بمواجهة النظرة الغربية التشيئيّة؟ وهل جعلت الغرب مركزًا من جديد، حين وضعت نفسها قاعدة للحكم؟ وهي عندما وضعت معيارًا انتقائيًّا من الدين، وعملت على إنشاء تيار فكر كوني للفضائل الكونية، ألم تأخذ من الدين ما يخدم الإنسان، وليس قصديّة الخالق من الخلق؟ وفي هذا الموضع، ألم تتوافق الروحانيّة مع الحداثة بجعل الإنسان المحور، خاصة أنّ ما قُدِم في هذا التيار، هُمّش فيه الإلهي لصالح الإنسانيّ؟
وثمّة أسئلة عديدة تستحقّ الإجابة في هذه المرحلة، حيث أخذ هذا التيار في التقدم، واحتلّ موقعًا بين المثقّفين، وعبّر عن نفسه في مؤسسات ودول، تعمل على ترويجه.
مع العدد
تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب الحوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.
يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث.
يمثّل البحث الأول “حكمة مجاوزة لكل الأزمان والأماكن.. مقدمة إلى الفلسفة الخالدة” لصَموئيل بِندِك سوتيلّوس، انطلاقة ملف العدد. يعرض الباحث فيه معاني الفلسفة الخالدة، ومصدر انطلاقة التسمية، وتسلسلها التاريخي، وأعلامها، وكيفية فهم أديان العالم المختلفة من خلالها.
يعرض سيد حسين نصر في بحثه “العلم المقدّس” المعاني المختلفة التي يحملها هذا العلم، ويناقش فيها، ثمّ يتبنّى كونه يرادف الميتافيزيقيا، بما هي العلم المطلق بالحقيقة، حيث يستطيع الإنسان بواسطته التمييز بين الحقيقة والوهم، ومعرفة الأشياء في ذاتها، أو كما هي، وبالتالي معرفتها من خلال معرفة الله.
وتشير الورقة البحثية الثالثة التي تحمل عنوان “ما هو التقليد؟” إلى تعريف نصر للتقليد، وما يمثّل بالنسبة إلى الأديان المختلفة، من قبيل: الهندوسيّة، والبوذيّة، والتاويّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام؛ ليصل إلى الحديث عن ارتباطه بالحكمة الخالدة التي يبيّن من خلالها أنّ المقدس، بما هو مقدّس، هو مصدر التقليد.
أمّا البحث الرابع “توضيح العلم القدسي في الاتجاه التقليدي للدكتور السيد حسين نصر وتحليله”، فقد شرح عبد الحسين خسروبناه فيه مقصود نصر من العلم الذي يتمثّل العلوم التجريبية الرائجة في الغرب، وبيّن أنّ الحكمة الخالدة هي أهم مبنى من مباني العلم القدسي، والهدفُ المتعالي للتقليدِ هو إظهار وجه معشوق الكل.
كما نقد منصور مهدوي وحميد پارسانيا في بحثهما “تقويم الحكمة الخالدة” منهج الحكمة الخالدة ومبانيها، كما طرحها أصحاب المدرسة التّقليديّة، وعرضاها على أساس ميزان العقل، ثمّ قايساها مع الحكمة عند السّهرورديّ، وأظهرا نقاط التّمايز والاختلاف بينهما.
وأظهر البحث السادس لأحمد ماجد “الغرب والميتافيزيقا المستحيلة: رينية غينون، وإمكان تأسيس ميتافيزيقا مشرقية” فكرة غينون في تأسيس ميتافيزيقا، انطلاقًا من النموذج الشرقي، لأنّه يرى عجزًا عن بناء ميتافيزيقا غربيّة تواجه معوّقات عديدة، أهمّها الانصياع للثقافة الماديّة التي حوّلت الإنسان إلى مجرد أداة في وسط عالم ماديّ.
وحقّق حسين حسيني في بحثه “التقليد والحكمة الخالدة: معناها ونطاقها وخصوصياتها” في ما يرمي إليه التقليد على مستوى الأبعاد الفكريّة للتقليديين من معنى مختلف عن التقاليد والسنن بمعناها المتعارف من حيث الآداب القديمة والرسوم والعادات السالفة، وخصوصية هذا المعنى من جهة تسييله في دنيانا المعاصرة.
أمّا البحث الثامن “تعدّد الأديان ووحدتها من وجهة نظر الشهيد مطهري والتقلديين”، لغلام رضا رضايي، فأظهر التباين في معنى التعدّديّة الدينيّة عند التقليديين الذين يتحدّثون عن التعددية الواقعية، وعند مطهري الذي يقول بالتعددية في سُبل النجاة؛ لأنّ الدين واحدٌ منحصر بالإسلام، وأنّ جميع الاختلافات ترجع إلى الشرائع.
والبحث الأخير في ملف العدد، هو لعلي رضا قائمي نيا، بعنوان: “الوَحدةُ المتعاليةُ للأديان”، وهي تعبيرٌ عن نظرية أتباع المدرسة التّقليديّة في مسألة تعدُّد الأديان، فصَّلها لأوَّل مرّة فريجوف شيون (Frithjof Schuon) في كتابه، حيث قدّم الكاتب توصيفًا للنظريّة، ثمّ بيّن نقاط ضعفها.
وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الباحث نوّاف الموسوي، منطلقة من تجربته في ترجمة جزء من نتاج هنري كوربان الذي أسّس لروحانيّة ملتزمة مستقاة من تعلّقه بالإمام الثاني عشر عند الشيعة الإماميّة، متحدّثًا عن خفايا الترجمة، والبحث عن المصطلحات، موضحًا أهميّة ما قاربه كوربان، وقدّمه.
أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه أربعة أبحاث.
عالج شفيق جرادي في بحثه “الخوف بين التفلسف والتديّن وعوائد الأيّام”، الخوف كظاهرة إنسانيّة من وجهة نظر الفلسفة والدين. عرض معناه، ومسارات تداوله في الحياة الإنسانيّة والدينيّة والمسلكيّة، وما يمثّل الخوف من مصاديق في مسير الإنسان التكاملي.
ولفت مهدي زماني في البحث الثاني بعنوان: “الفيدانتا، الفلسفة الإلهية للديانة الهندوسية”، إلى مراتب الواقعية الخمس في الفيدانتا وقارنها مع الحضرات الخمس في العرفان الإسلامي. وقد فصّل الكاتب في معاني الشعارات الأساسية في مدرسة الفيدانتا، رابطًا إيّاها بآثار رينيه غينون، وفريتيوف شوان.
أمّا البحث الثالث فهو لحسين صفي الدين، عرض فيه “التأسيس الميتافيزيقي للأخلاق عند إيمانويل كانت”، من المبنى المعرفي عنده، وصولًا إلى البنيان الأخلاقي عنده، ومصادرات العقل العملي الثلاث: الحريّة، وخلود النفس، ووجود الله.
وعرض شادي علي في البحث الأخير “محاولات تفكيك الإسلام: عرض وتحليل ونقد .. أركون نموذجًا”، مشروع أركون الفكري، وسماته العامّة، ونظرته إلى القرآن كنصّ وخطاب ووحي، فضلًا عن رؤيته العامّة للإسلام. ثمّ فصّل في نقاط ضعف أركون ومشروعه.
وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.