تحميل العدد:العدد 24: الإيمان
التصنيف: العدد 24
إفتتاحية العدد 24
افتتاحيّة العدد
نوعان من نفحات الروح يغمران حياة المعتقِد بأيّ ديانة، وكلاهما يسمّى بالإيمان.
النوع الأوّل، هو ذاك الذي يخرج من عمق الذات المستسرّة فيها روحُ الحبّ، وانجذاب العشق نحو الكامل. إنّه الأمانة التي أودعها الله فينا، وجعلها مهماز العودة إليه كلّما ران على القلب ما يُبعد عن الربّ.
أمانة الإيمان هنا، نوع من صفاء سماويّ يحوم حول القلوب والأنفس، ينتظر القبول منّا ليضع ترحاله فينا، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. قد نمتلك قرار قبولها، لكنّنا لا نمتلك قرار قتلها، لأنّ حياة هذا النوع من الإيمان الفطريّ مجبولة في أصل خلقة كلّ منّا.
بناءً عليه، فإنّ أيّ تحدّ للنوع الإيمانيّ هو بحقيقة الأمر تحدّ للذات، بل حرب للذات على الذات. إنّه أن تقول لنفسك لن أكون على إنسانيّتي، على مشاركتي لمن هم أقراني من الخلائق، على وصالي بين الجسد المنتمي إلى طين الأرض والروح المتسامي في سماء القيم والأخلاق والحقّ والواجب والرحمة والحبّ.
هذا النوع من الإيمان، هو تمام قصّة الإنسان في أصل وجوده، وفي مساره نحو المصير الأخير الذي قضاه الله ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾[1].
لذا، فإنّ أيّ معتقِد ومن أيّ ديانة كان، هو عضو حقيقيّ في محفل هذا الإيمان الروحيّ المنبثق من سماء السؤدد والسرمد.
النوع الثاني، هو إيمان يُفشي سرّه في الموضوع الإيمانيّ بكلمة وحي، أو حكمة إلهام، أو مقرّرات معتقد. ويمرّ مثل هذا الإيمان الموضوعيّ بمراحل من التأسيس الذي تكون فيه روح الإيمان موصولةً بموضوعه ولغته المنطوقة من المؤسّس (النبيّ، الرسول، الممثّل للروح، الـمُلهم أو غيرهم). لذا، تنفتح لغة الإيمان على الروح بشكل قدسيّ يبقى محفوظًا في الذاكرة، وفي الوجدان الدينيّ، وفي الأمثولة والقصّة والعبرة. ثمّ يمرّ بمراحل من التقنين التي تقوم بدور الدفاع المستميت عن الذات عبر جعل الموضوع حضن الروح، بحيث يتمّ تصوير الروح الإيمانيّ وكأنّها تلك الكلمات أو المقرّرات، حتّى ندخل رويدًا رويدًا في عصر التأويل والتفسير، فتنبني المدارس والمذاهب والطوائف، ويفرح كلّ حزب بما لديه، ولو على حساب نفي الآخر أو تصفيته.
وهنا، يتحوّل الناس إلى ما يشبه الجماعات التي تعبد الله على حرف من الفهم والنكران لكلّ القيم الإنسانيّة المنبنية على وحدة إيمان الروح.
ومن المعلوم، أنّ من خاصّيّة الروح الحياة ورفض الموت، بل التغلّب على الموت بالموت. لذا، تطلع تباشير الإيمان الروحيّ عند منعطفات حسّاسة من الزمن لتعمل على استعادة القيم والمعنويات التي أضاعها الناس بما كسبت أيديهم، لتوجّه القلوب نحو المعبود مجدّدًا، ولتثأر لإنسانيّة الإنسان وإيمانه الروحيّ، فتدفع نحو بناءات من الأعمال الصالحات البانية لجسور المحبّة والعيش والعدالة والعزّة.
من هنا، فإن كان لكلّ منّا خصوصيّة الموضوع الإيمانيّ، فإنّ روح الإيمان هو لنا جميعًا. فلا ينبغي أن نجعل الله عُرضةً لما قسّمناه، لأنّه فوق الجميع ومع الجميع وقبل الجميع، وكلّ ما سواه هالك، ولا يبقى إلّا وجهه، وجه الرحمة التي تؤلّف بين الناس، ولو في ذاك المشهد العظيم الذي أسمته الأديان بيوم الدين.
يبقى أن نسأل: كيف نميّز بين جماعة دينيّة وأخرى، في اجتماع روح الإيمان فيها مع موضوع الإيمان، إذا كان الجميع يدّعي الوصال بين الأمرين واكتمال الصنفين عنده؟
وهنا، اسمحوا لي أن أعرض قناعتي الخاصّة بهذا الشأن. فأنا أعتقد أنّ الدين، أو الكلام، أو الوحي الإلهيّ لم يأتِ لخدمة الله، أو لمصالح خاصّة بالله. فالله مستغنٍ عن الخلق كلّه، والقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[2]. فمحور الخطاب الدينيّ، ومغزى مقصد الغايات والأهداف والقيم الدينيّة هو الإنسان. من أجل الإنسان تمّت كلمة الله بالنعم والحقّ والخير والعدل، ولا يوجد في ميزان الله من تفاضل بين الأعراق والمذاهب والألوان، بل بالتقوى واتّباع الحقّ من جهة، وبخدمة الناس من جهة أخرى.
وفي الوارد من أحاديث، أنّ “الناس كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله”. فهل المعيار الفاصل إذًا هو مَن الأنفع للناس؟
لا بدّ أن نشير إلى أنّ الخصوصيّات المرتبطة بحياة المجتمعات لاستكشاف طرق الإيمان الروحيّ والموضوعيّ لا يمكن لنا أن نسلكها إلّا مهتدين مقتدين بالذين كانوا يُبرِؤون الأكمَه والأبرص، والذين كانوا يبلسمون جراح النفوس من المكلومين والمستضعفين، فهؤلاء كانوا أصحاب المعجزات، وما مصدر إعجازهم إلّا يد الحبّ وكلمة الرحمة التي كانت تنطلق من روح الإيمان بالواحد القادر الرحمن الرحيم نحو العباد من الناس والأمم.
بمقدار ما ننـزع من قلوبنا شرك المصالح والأهواء وكفر تصنيم الذات، بمقدار ما نوحّد الذي أراد أن يُوحّد كلّ شيء.
وهنا، ما من صورة حقيقيّة للروح في هذه الحياة الدنيا إلّا بإنشاء السلام لأهل الأرض، سلام العدل القويّ بعزّة الحقّ، والذي يأبى أن يرى الظلم ويسكت على الضيم.
فتنافس المفاضلة ليس فيما أطرح أو تطرح، لأنّ كلًّا منّا قد اعتقد وسكن لما عنده. المفاضلة هي في أن أصلك ولو قاطعتني، أن أبحث عن عزّتك ولو أخطأت في تقديري، شرط أن لا أخونك أو تمارس عليّ الخيانة. لأنّ كلّ الذنوب في توحيد الله تُغفر إلّا أن يشرك به، والظلم والخيانة بمثابة الشرك العظيم الذي يمارسه المرء في حقّ الإنسان بإنسانيّته. المفاضلة هي، أن نكون في محضر الله عند كلّ ما يخصّ الإنسان في حياته الفرديّة بالعبادة، وفي حياة الجماعة بحسن العلاقة والمعاملة، وفي حياة الأمم بسيادة الرحمة والعدل والإحسان.
صحيح أنّي لا أقدر على أن أرى كلّ الناس بنفس المستوى من مسؤوليّتي تجاههم. فمن أشبِهُهم أكثر في الدين والإيمان والأرض والانتماء هم أقرب إلى نفسي وأوجب في مسؤوليّتي، وهنا الخصوصيّة. لكن حينما يصبح الظلم مباحًا تحت عنوان الخصوصيّة، كما الكذب والبغضاء، فإنّ الخصوصيّة، هنا، لم تعد صاحبة انتماء للإيمان، إذ الإيمان أوسع منّا، وهو الحياة، بينما البغضاء موت، ومثل هذه الخصوصيّة تصبح عصبيّةً.
أنا لا يمكن لي أن أطلب من المسلم أن ينظر للمسيحيّ نظرته لبقيّة المسلمين، كما لا يمكن لي أن أطلب من المسيحيّ أن يضع المسلمين على نفس المصافّ من اهتماماته، إذ الإيمان العقديّ ومقرّراته، فضلًا عن سياقات الحياة، تمنع من ذلك. لكن لا يمكن إلّا وأن أرى في وجه كلّ مسلم أو مسيحيّ روح الإيمان الحيّ الذي يجب أن لا يموت، الذي يجب أن لا نعيش معه بخصام.
عليّ أن أسأل، بأيّ إيمانٍ يحرق الواحد منّا معبد الآخر؟ بأيّ إيمان نستبيح الكرامات ونسوّغ التهجير ونُفقد الحياة المشتركة لذّة الهناء والوئام؟ لصالح من نقطّع أوصال مجتمع بناه الأنبياء والرسل والصدّيقون والقدّيسون حجرًا حجرًا، ولبنةً لبنة؟ هل في ذلك صالح عقائدنا وإيماننا؟ أم صالح معتقدات وقناعات صاغتها يد بعض من العصبيّة الجاهليّة الممزوجة ببعض من التاريخ الأسود، والممهورة بيد أصحاب المصالح والأهواء؟
أدّعي أنّي أعرف الجواب، لكنّ القول الخيِّر هنا، تعالوا نحتكم لإيمان الروح فينا، ولنسمعها ولو لهذه المرّة.
مع العدد
يُقارب شفيق جرادي، في المقالة الأولى، مفردة الإيمان في حقلها الانطباعيّ العامّ، الذي يحاكي الإنسان في كلّيّته، فلا ينحصر بالبُعد العقليّ فيه؛ ويحاكي الدين في كليّته، فلا ينحصر بأبعاده العقديّة أو الشريعيّة، بل يحضر بقوّة في الأبعاد القيميّة والأخلاقيّة، كلّ ذلك عطفًا على تقريره (جرادي) الدينَ الوحيانيّ مصداقًا أمثل لحقيقة الإيمان القائم على الوصال بين الإنسان والله.
ويرى سمير خير الدين، في مقاربته القرآنيّة للإيمان، أنّ وجدان الإيمان الاعتقاديّ هو فعل إنسانيّ إراديّ. وبالتالي، فالإنسان، في بنيته الواحدة، هو محور هذه العمليّة الإيمانيّة الاعتقاديّة. أمّا كون الإيمان اختياريًّا فيكشف عن نوع من التعلّق الواعي (للإنسان) بالذات المقدّسة. وعن هذا التعلّق تصدر الفاعليّة الإنسانيّة في حراكها الفرديّ والاجتماعيّ، وفيه تنحصر إمكانيّة تعريف الإيمان مفهومًا.
ونجد في المقالة الثالثة، لحسن بدران، استقصاءً لمفردة الإيمان في أحد “الكتب الأربعة” عند الشيعة – أي مجامع الحديث التأسيسيّة الأولى – وهو كتاب الكافي للكليني. إنّ الإيمان، هنا، ناظر إلى الإنسان في “الزمن المقدّس” السابق على السيرورات والنسبيّات وتحوّلات اللحظة التي تحتكم إليها المعالجات العقديّة. وبالتالي، فالكلام في النظام العامّ للخلقة، والإيمان فيه كامن في أصل جوهر الإنسان، كما هو كامن، إذ يتصرّم الزمان، في حراك الإنسان وحياته.
أمّا في المقالة الرابعة لأحمد ماجد، فثمّة قراءة لموضوعة الإيمان في الإناسة من خلال ثلاث شخصيّات معاصرة، غيرتز وغلنر وأسد، كانت صاحبة قول فيما خصّ الإسلام وموقعه من الحداثة. وفي حين نحا غيرتز وغِلنر منحى القراءة التعميميّة التي لا ترى في الدين إلّا نسقًا ثقافيًّا رمزيًّا هو معطًى اجتماعيّ خالص، لا صلاحة لديه لتوليد المعنى، فإنّ أسد يستردّ للدين مرجعيّته وللخصوصيّات موقعها، من خلال بيان محوريّة التقليد والصراطيّة في المنظومات الإيمانيّة الاعتقاديّة. إنّ هذه المقاربة ممّا يفتح الباب أمام نقاش، من الضروريّ أن يجري في العالم الإسلاميّ عن هذه العلوم وكيفيّة حضورها فيه.
ثمّ في المقالة الخامسة لريتشارد سوينبرن استقراء للمواقف المسيحيّة الأساسيّة من الإيمان، في تمايزها على ضوء الثقل الذي توليه إحدى مقولتَي الاعتقاد أو الثقة. ومع حضور العنصر العقليّ قويًّا في كلتَي المقولتين – ما يطرح بقوّة إشكاليّة “إيمان الشياطين” – فإنّ موضوعة الخلاص تجد لها مدخلًا عريضًا، ومعها نجد تبلورًا في مقولتَي الحبّ، مع توما الأكوينيّ تحديدًا، وعمل الخير، مع لوثر تحديدًا.
وإذا كانت مسألة موضوع الإيمان – أو متعلّقه في الأدبيّات الإسلاميّة – قد برزت واضحةً في المقالات السابقة، فإنّ المقالة الأخيرة في الملفّ لكارل ياسبرز تطرق، بالفلسفة، سؤال العلاقة بين وجهَي الإيمان، الذاتيّ والموضوعيّ؛ ولا تجد، في سبيل الجواب، بدًّا من الإشارة إلى ما تكون الذات والموضوع مظهرَه، إلى المكتنف الذي فيه، من “كنفه”، تتولّد حريّة الإيمان وحياته.
ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” على ثلاث مقالات.
يرى مهدي الحائري اليزدي، في المقالة الأولى، ضرورة معالجة السؤال “الماقبل-معرفيّ” إذا ما كان للاعتبارات الإبستمولوجيّة أن تكتسي أيّ معنًى. فمن دون هذا السؤال لا يمكن إحراز أيّ فهم لعلاقة المعرفة بمحرِزها. عليه، يقوم الحائري باستثمار أطروحة المعرفة الحضوريّة في الفلسفة الإسلاميّة، في تشريح لمقولتَي الموضوع والذات، كي ينخرط في نقاش مع الإشكالات الإبستمولوجيّة الأساسيّة في الفلسفة المعاصرة.
أمّا المقالة الثانية لإدريس هاني فتقترح مقاربة الحكمة الصدرائيّة المتعالية من باب العبرمناهجيّة، مستعرضةً موارد الاستفادة المتبادلة بين المقاربتين، وما يترتّب على هذا التلاقح من فوائد لكليهما[3].
وفي المقالة الأخيرة، يحذّر حيدر حبّ الله من صعود الاتّجاهات المناهضة للفلسفة، في الوسط الحوزويّ، بعد فترة من الإحيائيّة كان لها الأثر الطيّب على المناخ العلميّ الدينيّ. ويقوم بمعالجة عدد من الأدلّة التي تُساق لصالح مناوءة الدرس الفلسفيّ مبيّنًا اعتلالها، ومؤكّدًا على ضرورة الاستفادة من الفلسفة في مواجهة تحدّيات التجديد والمعاصرة.
أمّا في باب “حكماء”، يتقدّم محمّد تقي السبحاني بقراءة جلال الدين الرومي من خلال المقولات الأساسيّة الحاكمة على رؤيته، العقل والعلم والحبّ، مبيّنًا خصوصيّات معالجته التي جعلت منه أحد أهمّ متصوّفة الإسلام.
والحمد لله كما هو أهله
شفيق جرادي
محمود يونس
[1] سورة الأحزاب، الآية 62.
[2] سورة فاطر، الآية 15.
[3] انظر، في العدد السابق، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتجاوز جدال الدين والعلم”، ترجمة هادي قبيسي.
جلال الدين الرومي: العلم والعقل والحبّ
ترجمة عبّاس صافي
كانت العلاقة بين العقل والحبّ (أو العشق) من جهة، وبين العلم والعرفان من جهة أخرى، مثار جدال بين العرفاء منذ أزمنة قديمة. وليست المدارس الفلسفيّة الغربيّة الحديثة بمنأًى عن المبحث. إلّا أنّ ما يدور اليوم في أروقة الدراسات الدينيّة حول علاقة العقل بالإيمان، ودفاع البعض عن فكرة التضادّ، أو عدم الانسجام، بين العقل والإيمان، يندرج في ما يمكن دراسته ضمن هذا المجال. وغالبًا ما تتمّ المقارنة بين رؤية العرفاء المسلمين، وخاصّةً آراء الشاعر مولوي، وبين نظريّة النقليّين من أمثال سورين كيركيغارد، والادّعاء بأنّ العلم والعقل والحبّ لا تجري في مجرًى واحد في العرفان الإسلاميّ. ستحاول هذه المقالة دراسة تلك المفاهيم من منظار ديوان مثنوي لمولانا، وبيان النسبة فيما بينها قدر الإمكان.
Muḥammad b. Bahāʾ ad-Dīn al-Qūnawī ar-Rūmī (672H./1273A.D.) maintained the title of “the Sultan of all Scholars” when he was a jurisprudent in Qūnyā. Yet, his meeting with Shams Tabrīzī has led him to forsake his scientific activities and adopt the path of wayfaring. He is today acknowledged as one of the most eminent sufi poets, whose influence transcends the various scholarly domains in a unifying, genuine approach. The question under dispute here is that of how reason and love, on the one hand, and science and gnosis (ʿirfān), on another, relate to each other. This is as well a topic hotly debated in contemporary religious studies, Islamic and Western alike. Rūmī applies his distinctive approach to these issues, in a synthesis very expressive of his way. Taking into consideration the impasse we’ve arrived at as to the relation between faith and reason, the resort to Rūmī might prove fruitful.
المؤسّسة الدينيَّة والدرس الفلسفيّ: اتّجاهات جديدة نحو الرفض والتحفّظ
بعد مرحلة شهدت فيها الفلسفة شيئًا من الإحيائيّة في الأوساط العلميّة والحوزويّة، فإنّ باب مناوئة الفلسفة والدرس الفلسفيّ لم ينغلق تمامًا. بل إنّ المرحلة الراهنة تشهد اصطفافًا جديدًا للتيّارات النصّيّة والسلفيّة (بالمعنى العامّ) يناوئ الاشتغال الفلسفيّ تأسيسًا على فهم خاصّ لعدد من المنقولات الحديثيّة. بيد أنّ المحاكمة المتأنّية لهذه المأثورات تدحض ما يُرتجى منها، وبعضُها ليس بموثوق أصلًا.
إنّ الدرس الفلسفيّ المرشّد يفتح أبوابًا جديدةً لتأويل النصّ الدينيّ وإعادة إنتاج معارفه. وعلى ضوء التحدّيات التي يواجهها الدين اليوم، لا مناص من الاستفادة من الفلسفة في منح المنظومة الدينيّة قدرة فهم السياقات الفكريّة الإنسانيّة المختلفة عنها ومحاورتها بجدّيّة.
After a period of revival in religious circles and in seminaries, philosophy comes under attack yet again. A new literalist, Salafī (in broad terms), front defies philosophy on basis of a peculiar understanding of scripture. Yet, a thorough analysis of the alleged sources proves the claims to hostility (towards philosophy) unreliable and the sources themselves untrustworthy.
It is of the merits of a balanced pedagogical approach to philosophy that it makes room for a better interpretation of scripture, thus opening possibilities of better understanding. Taking into consideration today’s challenges, it is critical to utilize philosophy in the general aim of enabling religious constructs of understanding corresponding human intellectual contexts in a serious dialogical manner.
المقاربة المتعالية كطريق لفهم الحكمة المتعالية معالجة عبر-مناهجيّة لفلسفة صدر المتألّهين الشيرازي
لقد كان للقراءة البين-مناهجيّة للحكمة المتعالية أثر تدعيمٍ لكلّ من الحكمة المتعالية والبين-مناهجيّة نفسها. بيد أنّ أفق الحكمة المتعالية يتّسع أكثر من ذلك ليستفيد من المقاربة العبر-مناهجيّة ويفيدها بدوره. فالمقاربة الصدرائيّة التي ثمّرت المناهج السابقة وصاغتها دون تلفيقيّة وتسويغيّة تلجمها عن نقد المنهج في عين الاستفادة منه، أتت بمقولات من قبيل الحركة الجوهريّة والتشكيك في الوجود بما يجعلها من أصدق التعابير التاريخيّة للعبر-مناهجيّة التي يبدو، مع اطّراد البحث فيها، أنّها الملاذ الأخير للهروب من أسر المناهج وقيودها، ومن قهريّة الثنائيّة المفترضة للذات والموضوع.
إنّ مقاربة الحكمة المتعالية عبر-مناهجيًّا يسمح بمعالجة مواضع السقط التي أخلّت بها دون الوقوع في أسر تكريس الحكمة المتعالية ضربًا وحيدًا في التفكير. بل إنّ هذه الرؤية القابلة للتطوّر، والمنفتحة على كلّ عوالم النفس الإنسانيّة، تؤكّد أنّ الفروق بين مناهج المعرفة تكاد تكون معدومةً فيما لو أعملنا النظر فيها؛ وهذا مؤدّى ادّعاء الحكمة المتعالية أنّ كلّ ما أثبت بالكشف يثبت بالبرهان والعكس صحيح.
The inter-disciplinary approach to Mullā Ṣadrā’s “Transcendent Philosophy” had a positive impact upon it, and upon inter-disciplinarity itself. Yet, “Transcendent Philosophy” is broad enough in scope to accommodate a trans-disciplinary approach in a mutually beneficial manner. Mullā Ṣadrā’s philosophy benefits from earlier methods, formulating these while avoiding syncretic or apologetic handling which would prevent one from criticizing the method while using it. This is what has produced notions like substantial motion, or modulation of being, and this is what makes “Transcendent Philosophy” one of the brilliant historical instances of trans-disciplinarity which appears to be, as we dig deeper into it, a last resort away from the shackles of methods, and from the hegemony of subject-object duality.
Approaching “Transcendent Philosophy” in a trans-disciplinary manner allows for fixing some of its drawbacks while not falling into the trap of declaring it a final outcome of philosophy. Rather, this is a view full of potential, open to all the “worlds” of the human psyche, whereby the difference between various methods are mere nuances; this is the meaning of Mullā Ṣadrā’s claim that what is arrived at by intuition and presence is proved by reason and vice versa.
مبادئ الإبستمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة [1]
ترجمة محمود يونس
إنّ تحليل مفهوم المعرفة منطقيًّا يصل بنا إلى أنّ معنى موضوعيّة الموضوع تحليليّة، وتتجلّى في نفس تقوُّم المعرفة، وذلك لكون الموضوع ليس سوى ما هو ذاتيّ ولازم. أمّا الموضوع المتعدّي، وهو في العموم عرضيّ، فلا يشكّل اللبّ المقوِّم للوعي البشريّ. فلا يكون الموضوع المتعدّي مقوِّمًا إلّا في حالة المعرفة بموضوع خارجيّ. وهذه هي المعرفة الاكتسابيّة الحصوليّة في مقابل المعرفة الحضوريّة. لكن في حالة الصورة الأوّليّة للمعرفة، وهي المعرفة الحضوريّة، وفي نظريّة المعرفة بشكل عامّ، لا يكون الموضوع المتعدّي الخارجيّ جزءًا مقوِّمًا للمفهوم العامّ للمعرفة. فيترتّب على ذلك أنّ مفهوم المعرفة الحضوريّة، من حيث اتّصافه بالموضوعيّة الذاتيّة، يمكن شرحه وتسويغه من خلال الشكل الأساسيّ للمعرفة، دون وجود موضوع خارجيّ مادّيّ يحاكي موضوع المعرفة الحضوريّة الذاتيّ، وهو ينضوي في مقولة المعرفة من حيث هي معرفة، إذ هو إدراكيّ وموضوعيّ بطبيعته، وتتحقّق فيه كلّ شروط مفهوم المعرفة، رغم افتقاره إلى موضوع متعدّ عرضيّ.
Logically analyzing the concept of knowledge, a vital distinction between two aspects of objectivity is arrived at. The very constitution of knowledge necessitates an essential and immanent object. A transitive object, on the other hand, can only be constitutive in the case of knowledge of an external object. Such an object is, generally speaking, accidental, and such knowledge cannot be constitutive of the general concept of knowledge. Here is the primary distinction between knowledge by presence and knowledge by correspondence. The concept of knowledge by presence, being characterized by “subjective objectivity”, can be explained and justified through the fundamental form of knowledge, without the need for the existence of an external, material object corresponding to the subjective object of knowledge by presence. As such, it belongs to knowledge qua knowledge, for it is cognitive and objective by nature, and fulfills all the conditions of the notion of knowledge despite its lacking of an external transitive object.
ما هو الإيمان الفلسفيّ؟
ترجمة محمود يونس
للإيمان وجهان: (1) ذاتيّ، أي فعل الإيمان الذي أعتقد من خلاله؛ و(2) موضوعيّ، أي محتوى الإيمان الذي أعتقده. وإذا ما كان الذاتيّ والموضوعيّ وجها المكتنِف الذي يتّحدان فيه، فإنّ خبرة الإيمان هي خبرة بالمكتنِف. وهذه خبرة مباشرة، بخلاف كلّ شيء يتوسّط فيه الفهم. ثمّ إنّ المكتنِف هو أحد اثنين: إمّا الكائن في ذاته الذي يحيط بنا، وإمّا الكائن الذي هو نحن. وفي كِلا الكائنَين تمظْهرُ ذاتٍ وموضوع؛ ليس معنى الإيمان سوى الحضور في القطبيّات المتولّدة عن هذ التمظهر. أمّا الإيمان الحرّ والمطلق، الحيّ والمستوفى، فهو الإيمان المنبثق من المكتنِف بعد اختبار العدم، والعودة إلى الجذور والأصل.
There are two aspects to faith: (1) a subjective aspect, that is the act of faith through which I believe; and (2) an objective aspect, that is the content of faith or what I believe in. Since the subjective and the objective are two aspects of the comprehensive, or that wherein they come together, then the full experience of faith is an experience of the comprehensive. This cannot but be a direct experience, as contrary to all that has understanding as an intermediary.
The comprehensive is either the being-in-itself which surrounds us, or the being which is us. In each there is the appearance of the subject and the object; the meaning of faith is but the presence in the polarities resulting from such an appearance. Emerging from within the comprehensive – after experiencing nonexistence – is a faith free, full and absolute; in a word, a living faith.
طبيعة الإيمان: رؤية مسيحيّة
ترجمة محمّد حسن زراقط
ثمّة في القراءة المسيحيّة للإيمان مكوّنان أساسيّان تمايزت الرؤى المختلفة بحسب الثقل الذي توليه أحدَهما أو كليهما: (1) الاعتقاد بأمر ما، غالبًا ما يكون الاعتقاد بأنّ الله موجود، وما يترتّب على ذلك من متلازمات؛ و(2) الثقة بالرحمة الإلهيّة التي تخلّص. كان هذان المكوّنان مضمرين في معالجات المسيحيّة المبكرة للإيمان، ثمّ برز الإيمان بما هو اعتقاد عند الأكويني، مع استبطانه لأهمّيّة الثقة، التي ما لبثت أن تساوت مع الاعتقاد في القراءة اللوثريّة، وبرزت كمكوّن أساس، بل وحيد، عند البراغماتيّين عندما استُبدل الاعتقاد بمجرّد الاحتمال. بيد أنّ المكوّن العقليّ – الإيمان بمعنى التصديق – يبقى بارزًا في القراءتين الأوليَين بما يفسح مجالًا لـ”إيمان الشياطين”. إلّا أنّه إيمانٌ لا يوصل إلى الخلاص أو التبرير، إذ لم يُصَغ بالحبّ، وبالأعمال التي تترتّب على الحبّ (الأكويني)، أو لم يتّصل بالغايات النبيلة والأعمال الخيّرة (لوثر).
The Christian conception of faith is grounded in two principle elements, the weight given each, or both, demarcates the borders between the various contesting outlooks: (1) belief in something, usually in the existence of God, and its implications; and (2) trust in God’s mercy through which redemption is attained. The two elements were latent in the early Christian accounts of faith. However, with the Thomistic formulation of faith, belief stood out patently as the major component, while the importance of trust was, at least, implicitly recognized. In Luther, the importance of trust parallels that of belief. There remains a third approach, dubbed “pragmatic”, wherein trust figures out as the sole element after displacing belief by mere probability. Yet, the rational component – faith qua belief – remains prominent in the first two readings to the extent that the question of the “faith of devils” becomes too pressing. This is circumvented through coupling faith to salvation or justification; only a faith constituted by love, by the deeds entailed by love (Aquinas), or directed towards the noble ends and good deeds (Luther), is a faith which leads to salvation.
صورة الإيمان في مرآة الإناسة
لا تتخلّف الإناسة عن سياق العلوم التي نشأت مع المشروع الحداثيّ التنويريّ، والتي أسّست على حضور الإنسان في العالم قوانين ثابتةً ومعياريّةً نبذت كلّ مرجعيّة وحيانيّة. وهكذا نرى تحوّل الدين، مع غيرتز، من كونه إطارًا مرجعيًّا مكوّنًا للثقافة ومشكِّلًا للمعنى، إلى منظومة ثقافيّة، ونسق رمزيّ خاضع لسلطة المفسّر التأويليّة بحيث يكيّفه مع الحداثة. ولئن دعا غلنر إلى بقاء الدين، فباعتباره أمرًا إجرائيًّا يسبغ عليه الكائن الحيّ المعنى ولا يستقيه منه، فيفقد أثره التعلّقيّ بالواقع من حيث هو منظومة إيمانيّة اعتقاديّة. من ناحية أخرى، تأتي المقاربة النقديّة لطلال أسد لتنبذ التعريفات التعميميّة للدين على أساس محوريّة التقليد، والعودة إلى القواعد الصراطيّة بحثًا عن المعياريّة. لا يقتصر الإيمان بحسب هذه المقاربة الأخيرة على عمل طقسيّ عاكس للثقافة، بل ثمّة قواعد إيمانيّة ثابتة في النصّ المرجعيّ تنتج فيه المعنى وتحدّد أصول التعاطي معه.
Enlightenment/modernity has produced a group of sciences aimed at understanding man, the sciences themselves being established on the very basis of man’s presence in this world. A resulting normativity, articulated in stringent laws, dismissed any resort to a revelatory authority as unscientific or, at times, irrational. Anthropology falls into this context very fittingly.
In anthropology’s handling of religion, one can see the transformation of religion – with Geertz – from being a reference frame constitutive of meaning, and founding of culture, into a cultural construct, a symbolic system subordinate to the hermeneutic authority of the interpreter whose task it is to conform it to modernity. Or, as with Gellner, religion can be justified inasmuch as it is a logistic apparatus given meaning by the living being, but incapable of producing meaning on its own. It loses, as such, its relation to reality as a belief-faith construct. Critical approaches, on the other hand, as with Asad, reject the generalizing definitions of religion. Tradition, here, regains its centrality, and orthodoxy becomes, again, the source of normativity. Faith, by such a reading, is not restricted to rituals expressive of culture, rather are there rules of faith, traced back to the establishing scripture, wherein meaning is produced and norms defined.
الإيمان في كتاب الكافي للكليني
تشكّل المعالجة التي بين أيدينا نحوًا من إجالة النظر في نصوص الكافي، وملاحظة الإيمان الذي يستبق مجمل النسبيّات اللاحقة، والتي تحتكم إليها آليّات الفهم المتّبعة في الفكر العقديّ، وما قد يترتّب وفق هذه الرؤية على صعيد الفهم والاستنتاج. وتبرز صورة الإنسان المؤمن بوصفه الخلاصة الإلهيّة التي استخلفها في الأرض، وما قد يعنيه ذلك من أنّ الإيمان هو ميزة في جوهر الإنسان قبل أن يكون سيرورة فعل، وسلوك طريق. لذلك يغلب على هذه النصوص – وفق هذه الرؤية – طابع التوصيف، والتصنيف، وإسباغ وضعيّات منجزة على حالات لا يسودها حراك، أو تنتابها تحوّلات اللحظة. في هذا المستوى تحديدًا، تطمح المقالة إلى محاولة إجراء قراءة للإنسان على ضوء أحداث ذلك الزمن المقدّس.
An attempt is made to look into Al-Kāfī, to examine the type of faith preceding the later relativities, to which mechanisms of understanding apply in doctrinal studies, and then to catalogue the implications of such a reading at the interpretive level. Dealing with this faith-type, the primordial, the texts (in Al-Kāfī) are overwhelmingly descriptive, fixated upon categorization, and upon determining the conditions of unmoved states, states unaffected by the transitions of now-moments. At this level explicitly, the paper attempts to read man in the light of the events of that sacred time. Hence, the image of the faithful (man) signifies the divine epitome brought for vicegerency on earth, and the identity of faith is a trait in the essence of man even before he gets subjected to the becoming of acts, to wayfaring.