العدد 32

تحميل العدد: العدد 32 الإلحاد وإغتراب الإنسان

فهرس المحتويات:
الافتتاحية    حسين السعلوك
الإلحاد وإغتراب الإنسان
الإلحاد، أيديولوجيا الإنسان المبتور    الشيخ شفيق جرادي
الله والدين في مرآة الإلحاديين الجدد    حسن بدران
الإيمان والإلحاد والعقلانية    آلفن بلانتينغا
لغة الإلحاد المعاصر: بين شرطية لغة الدين وإعادة برمجة الإنسان    أحمد ماجد
إلحاد فريدريخ نيتشه (1844 – 1900)   مشير عون
صانع الكون: ضرورة وفق قوانين الفيزياء الحديثة     عبد الله زيعور
دراسات وأبحاث
دراسة في البُعد الوجودي للعلم عند الشيرازي: أصالة الحضور واعتبارية الحصول    كمال لزيق
قراءة في أصالة الوجود على ضوء كتاب «النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية»    أحمد جابر

إفتتاحية العدد 32

افتتاحية العدد 32

قد يصعب على المفكرين والعلماء من أهل الإيمان الديني الرضوخ لواقع التعاطي مع ظاهرة الإلحاد كظاهرة تأويلية جديرة بالاصطفاف في صفٍ مقابلٍ لصف طروحاتهم الإيمانية الدينية، كيف لا والإلحاد – على اختلاف مستوياته وتفاوت طروحاته – لم يقم في نظرهم إلا على رفات وهمية اصطنعتها نفوس الملحدين لما ظنوا أنهم هدموه من مبتنيات المنظومات الدينية المحكمة. وبعبارة أخرى، لم تكتسب أي من طروحات الملحدين مشروعية القول إلا بإقصائها لما يقابلها من مقولات الإيمان، فلا تكون طروحات الإلحاد بالنسبة لأهل الإيمان أكثر من مجموعة مقولات عدمية يتوهم صاحبها لها الموجودية لضعفٍ في التمييز بين الوجودات الحقيقية والعدميات الخاصة. فما كان لأصل الثبوت فاقدًا، فإنه لأي نحو من أنحاء الإثبات أشد فقدًا، وهذا على أهل الإيمان إملاء ضروري تفرضه ضوابط المنطق العقلي الذي يوقف الخوض في الهَليات المركبة على تحقق الإيجاب في جواب الهَليات البسيطة.

وعلى المقلب الآخر، لم يهنأ لدعاة الإلحاد يومًا الارتكان إلى أي نوع من أنواع التهميش الذي سعى ويسعى المتدينون – من ربوبيين وكتابيين – إلى إرسائه والبناء عليه. حيث ذهب المتقدمون منهم إلى تبنّي موقف حاد وجذري يحيل كل إيمان ديني إلى تبريرات خاوية تصطنعها نفس الإنسان الجاهل بتفسير أحوال الكون المحيط به وشؤونه تارةً، وإلى موهومات تخلقها واهمة الإنسان المأخوذ بحس الأسطرة أخرى، وإلى موروثات ومسبقات تختزنها حافظة الإنسان الجهول المتواني عن إعمال عاقلته ثالثةً، وغير ذلك من التفاسير التي توسّل به أولاء في سبيل ضرب أي أساس اعتقادي تقوم عليه المنظومات الإيمانية والدينية، ما حدا بهم إلى ادعاء التفرّد في حيازة العقلانية، أو لا أقل التفرّد في كسر كل قيود الإيمان عن النزعة العقلانية، حتى انتهت النوبة إلى دعاة الإلحاد الجدد، الذين توخّوا في سبيل الغاية نفسها سبيلًا آخر؛ وهو الاستناد إلى النتائج الحسية اليقينية التي تثبتها العلوم التجريبية الحديثة، الأصل نفسه الذي يستند إليه بعض الدينيين في إثبات مواقفهم!

وفي حين نجدنا رافضين للموقف الثاني، لما يعتريه من إفراط صريح ومغالاة واضحة يجدها المنصف في ادعاءات الملحدين التفرد في النزوع نحو العقلانية، فإن حالنا يختلف مع الموقف الأول، فإننا وإن كنا نوافق وإلى حد بعيد على مقدماته، إلا أننا لا نوافق على عدم أهلية مقولات الإلحاد للنقاش والبحث نفيًا أو إثباتًا، ذاك أن الفلاسفة – ووفق الضوابط المنطقية نفسها – أقروا أن للأعدام الخاصة حظًّا من الوجود، ما يعني أن المقولات الإلحادية المدّعاة العدمية قد يصح الوقوف عليها والعمل على تفنيدها.

وانطلاقًا مما تقدم نقول: لقد بات وجود ظاهرة الإلحاد واقعًا لا يمكن تجاوزه، بل ثبت أن لهذه الظاهرة، لما انكشف من قدرتها على التوالد والانتشار في كل عصرٍ ومِصر، أسسًا ذاتيةً وموضوعيةً ينبغي الوقوف عليها وبحثها في سبيل الخلوص إلى فهم صحيح لحقيقة هذه الظاهرة.

نعم، قد لا يجد الباحث في كثير مما تنتجه هذه الظاهرة من مقولاتٍ حقلًا خصبًا للنقاش العلمي الحقيقي – ولسنا في هذه العجالة بصدد استعراض أو دحض أي من الطروحات الفكرية للملحدين – إلا أن أصل وجود هذه الظاهرة والتثبّت من وجود ميل قوي عند كثيرين إلى تبنيها والمحاربة تحت لوائها يفرض على الباحث إعادة السؤال عن نوابعها ودوافعها في سبيل الوصول إلى بر يقين في تفسير واقعها، خصوصًا مع وجود طرح واسع مناوئ لها – وهو الطرح الإيماني على اختلاف مدارسه – يدعي لنفسه ما تدعيه لنفسها من الاستناد إلى ضرورات العقل وحتمياته، ما يجعلنا أمام معيار وحيد مشترك بين الاتجاهين، هو معيار العقل.

وفي سبيل الخوض في هذا السؤال – أعني السؤال عن نوابع ظاهرة الإلحاد – وغيره مما يترتب عليه من الأسئلة، فإن معيار العقل المذكور أعلاه هو الأرضية الوحيدة التي يصلح الانطلاق منها، لما له من حجية على كلا الطرفين، وإلا فلن يصح بوجه من الوجوه معالجة ظاهرة بالاستناد إلى مبان منهجية مرفوضة في تمثّلات تلك الظاهرة.

والكلام على معيار عقلي هذه حاله، إنما يفرض على الخائض امتلاك روحية بحثية حيادية، تتيح لصاحبها الوقوف على كل ما يتطلبه البحث من استحضار لمقولات الطرح الإلحادي – كما والديني عند اقتضاء الضرورة –، وترفع عن كاهله كل الأحكام المسبقة، وتضع عنه كل أوزار الضغائن والأحقاد النفسية، مما قد يمنعه عن الوصول إلى نتائج صائبة.

وفي سياق ما تقدم، تحمل المحجة في عددها هذا على عاتقها مهمة الخوض في هذا السؤال. وإنها إذ تطرح موضوعة الإلحاد على بساط البحث، فهي إنما تعمد إلى ذلك لأسباب أهمها:

– إيمانها بضرورة الوصول إلى فهم دقيق لهذه الظاهرة، ما يمهد للتوغل تاليًا في تأسيس فهم فلسفي أوضح للطبيعة الإنسانية، وهو ما عمدت المحجة في كثير من أعدادها السابقة إلى تحقيقه.

– السعي إلى توفير الأرضية المشتركة السابق ذكرها عبر تقديم أبحاث تتوافر على المعايير العلمية الرصينة والحيادية.

– التأكيد على مركزية الإيمان العقلاني الذي تجده سبيل الخلاص الوحيد، والسعي إلى تقديم إجابات على كثير من إشكالات الملحدين، وهو المؤمل مما سيرد في طيات أبحاث الملف في هذا العدد.

– دعوة أهل الإلحاد، من دعاة ومنظرين ومتبنين، إلى حوار علمي هادئ ورصين يفترض له أن يساهم في استنقاذ هؤلاء من غياهب الاغتراب الذي يكتنفهم، مدفوعةً بالتزامها الدائم بقضايا الإنسان كموجود كرمته المشيئة الإلهية.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن بابَين، أولهما ملف العدد المعنون بـ”الإلحاد واغتراب الإنسان”، وثانيهما باب الدراسات والأبحاث، حيث حوى الأول سبعة بحوث، فيما حوى الثاني بحثين اثنين.

يُستهل العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يحاول فيها الإضاءة على جوهر حقيقة الإنسان كمحور أساسي للنقاش الفكري المحتدم بين دعاة الدين ودعاة الإلحاد، فيذهب في طرحه إلى استنطاق مقولات أساسية تبني عليها دعوات الإلحاد ركائزها، كمبدأ “الإرادة الحرة” مثلًا، ليبدد التعاند الموهوم بينها وبين حقيقة الإيمان، ويحدد أطرها الفكرية المفترضة في انتظام حياة الإنسان، ما يجنّب من الوقوع في مغبّة “بتر” الأخير عن الدور الذي يريده الدين له.

ثم نقف مع طرح بحثي لحسن بدران، نتساءل فيه بإلحاح عن الحدود المعرفية الواقعية التي يمكن للقول الإلحادي السريان إليها، ونستعرض معه إمكان اكتناه أصالة حقيقية للدعوة الإلحادية في مقابل الدعوات الدينية، عبر استجلاء المعالم الفكرية للطروحات الإلحادية المختلفة، وذلك باستنطاق هذه المنظومات ومساءلتها عن رؤيتها لجملة من المفاهيم المركزية، كمفهوم “الله” و”الدين” و”الطبيعة”.

ثم يلي ذلك وقفةٌ مع آلفن بلاتينغا نطالع فيها افتقاد فريقَي نزاع “الإيمان” و”الإلحاد” إلى أرضية مشتركة للنقاش يجنّب الانطلاق منها الانجرار إلى واقع من التراشق اللفظي الدفاعي أو الهجومي، النابع من تشكيك كل من الطرفين بالحيثيات المعرفية والعقلية للطرف الآخر، ونصل معه إلى اقتراح حلٍ للخروج من هذه الدوامة، وذلك بلحاظ الاتساق الأنطولوجي الذي يشغله إنسان الإيمان وإنسان الإلحاد، سعيًا إلى الوصول إلى تثبيت خطوط النزاع والبحث تاليًا في أسس الخلاف النظرية بين الفريقين.

وبعده، يطالعنا مشير عون بدراسة يحاول فيها تحديد المبتنيات الفكرية والنظرية للفيلسوف الألماني “فريدريخ نيتشه”، الذي قدم في أطروحته المناوئة للمنظومة الدينية الكنسية جهدًا سعى فيه، من جهة، إلى تهديم أواصر البناء الديني ونبذ إله الكنيسة الذي أعلن – بحسبه – عن موته بأكثر من صورة، ومن جهة أخرى إلى بناء مفهوم جديد للإنسان يكون الأخير فيه متحرّرًا من القيود الدينية الآسرة، متجرّدًا عن المسبقات الإيمانية المحددة، سيدًا قويًا مطلق الإرادة.

ونخوض بعد ذلك، مع أحمد ماجد، في بحث إشكالي نقدي يطال لغة الإلحاد، التي يتبدى فيها العجز عن استيفاء مشروعيةٍ حقيقية للقول الإلحادي، ما حدا بها إلى السعي إلى ضرب النسق البنيوي الذي تقوم عليه لغة الإيمان، بل اللغة عمومًا، في إغفال منها للتداعيات الخطيرة لهذا المسعى، والتي تؤسس لمفهوم مبتور للإنسان، الذي تعتبر اللغة عنصرًا أساسيًا في تكوين أبعاده الوجودية.

وننتقل بعدها إلى مقاربة سمير خير الدين لواقع النقاش القائم بين الدين والإلحاد، ففي حين يتسالم كثير من أهل الفكر على أساسيات المنهج العقلي المنطقي، إلا أن واقع الخلاف إنما يتبدى في استطلاع طبيعة المواد التي تتشكل منها مقدمات البرهان عند الطرفين، والذي يشي – في كثير من الحالات – بقيام الجدال الإلحادي على إلزام الآخر بمقدمات لم يلتزمها، ما يقوي الاعتقاد بكون الإلحاد نابعًا – أول الأمر – من دوافع نفسية.

أما مع عبد الله زيعور، فإننا نقف على نوعٍ من المطارحات العلمية القائمة على أساس محاكمة الخصم انطلاقًا من مبتنياته، ففي حين يعمد كثير من دعاة الإلحاد الجدد إلى توظيف نتائج العلوم التجريبية الحديثة في سبيل التأكيد على نفي وجود خالق للكون، ينطلق زيعور من النتائج نفسها ليؤسس عليها فهمًا ما ورائيًا مختلفًا، تكون فيه هذه النتائج مقدمّات ضروريةً للإيمان اليقيني بوجود صانع للكون.

أما باب الأبحاث والدراسات، فنطالع فيه ورقتين بحثيتين لكل من كمال لزيق وأحمد جابر، تعالج الأولى البعد الوجودي للمعرفة في فلسفة صدر الدين الشيرازي، عبر الإضاءة على المعاني الجديدة التي قدمها صدرا لكل من العلمين الحضوري والحصولي، والتأكيد على أصالة الأول واعتبارية الثاني في منظومته المعرفية؛ فيما تتناول الثانية مسألة أصالة الوجود كما طرحها صدر الدين الشيرازي، عبر تحديد الأطر الصحيحة لمعنى أصالة الوجود، وتجاوز ذلك لاستعراض تفسيرات جديدة لها قدمها شرّاح متأخرون لفلسفة الحكمة المتعالية.

وهما – أي الورقتان البحثيتان الأخيرتان – جزء من النتاج العلمي الذي تمخّض عن ندوة إقليمية أقامها معهد المعارف الحكمية في العام المنصرم، تحت عنوان “النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية”، سيصار إلى نشر ما نتج عنها من أبحاث في الأعداد القادمة من المحجة.

والحمد لله رب العالمين.

قراءة في أصالة الوجود على ضوء كتاب «النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية»

تستمرّ مدرسة ملّا صدرا في اجتذاب الباحثين والمحقّقين على الرغم من مرور قرون على تأسيسها. وتظلّ مبانيها الأساسيّة – أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة والوجود المشكّك – مدار النقاشات الفلسفيّة التي تُطرح على ضوء مدرسة الحكمة المتعالية. ذهبت محاولات تجديديّة في الفلسفة إلى اقتراح تنويعات إضافيّة على الأساس الصدرائيّة تلك، فكان أن جذبت هي الأخرى اهتمام المتابعين الذي تصدّوا لدعمها أو دحضها، ممّا خلق ميدانًا جديدًا للبحث الفلسفيّ يؤكّد على عمق المدرسة الصدرائيّة واستمرار نبضها إلى اليوم.

The school of Mullā Ṣadrā continues to draw researchers and scholars despite centuries having passed since its establishment. Its fundamental foundations have been the center of philosophical discussions posed in light of the school of Transcendental Wisdom. Innovative attempts in philosophy have suggested additional diversifications based on those foundations of Ṣadrā, which in turn drew the attention of observers who either supported or refuted them, creating a new arena for philosophical research that testifies to the deepness of the Ṣadrā’s schdool and its continued life today.

دراسة في البُعد الوجودي للعلم عند الشيرازي: أصالة الحضور واعتبارية الحصول

استطاعت مدرسة الحكمة المتعالية أن تتقدّم أقرانها وتبزّ أسلافها في الدفع بالنقاشات الفلسفيّة، على اختلاف مستوياتها، إلى المدى الأقصى الذي يمكن لها أن تبلغه والذي كان متاحًا في زمن صدر الدين الشيرازيّ. ولذلك فإنّها حجزت لنفسها موقعًا في كلّ نقاش فلسفيّ في إطار الثقافة العربيّة-الإسلاميّة لا كتعليق أو شرح أو حاشية، بل كصاحب إسهام أساسيّ – وفريد أحيانًا – لا يمكن القفز فوقه. ويمكن استطلاع هذه الخصيصة في مباحث مؤسِّسة في فكر ملّا صدرا، من قبيل مسألة العلم والإدراك ممّا يمكن إدراجه ضمن عنوان “نظريّة المعرفة”. وتتجلّى قيمة النتاج الصدرائيّ في استيعاب مذهبه في “أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة” و”المراتب المشكّكة للوجود” لتلك المباحث، وإيجاد أجوبة لها تتناسب والأصل الفلسفيّ والمعرفيّ الذي تقوم عليه الحكمة المتعالية. وفي خطوة أبعد من مجرّد تكرار لازمة “اتّحاد العاقل والمعقول”، يحيل ملّا صدرا من خلال إسهاماته في مباحث الوجود الذهنيّ الإدراكَ إلى مرتبة وجوديّة ضروريّة للانتقال من علم حصوليّ يراه اعتباريًّا إلى علم حضوريّ – أرسخ – يراه أصيلًا.

The school of Transcendental Wisdom was able to surpass its peers and defeat its predecessors in championing philosophical debates, in their many levels, inasmuch as it could reach and to the most it could have in the time of Ṣaḍr ad-Dīn ash-Shīrāzī. Thus, it made a name for itself in every philosophical debate concerning Arab-Islamic culture, not as a margin, nor a commentary, nor an exegesis, but as a principle – and sometimes unique – contributor that cannot be overlooked. This trait can be seen in Mullā Ṣadrā’s original contributions in knowledge and cognition, which can be classified under the title of “epistemology”. The value of the Ṣadrā’s contribution is that his thought can accommodate the subjects of “the ontological primacy of existence,” and the “gradational stages of existence,” and find answers for them that go hand in hand with the philosophical and epistemological basis of Transcendental Wisdom. In a step further than repeating the “The unity of the intellect and the intelligible”, Mullā Ṣadrā refers to cognition, through his contributions in matters of mental existents, to an existential station that is essential to move from “knowledge by correspondence” to “knowledge by presence”, which he sees as precedent.

صانع الكون: ضرورة وفق قوانين الفيزياء الحديثة

يوفّر العلم الحديث، بطابعه الذي تغلب التجريبيّة عليه، دلائل قويّة تقطع النزاع في إشكالات عديدة تعتري الفهم الإنسانيّ للوجود والحياة. ولذا، لم يكن غريبًا توظيفه في جدالات الإيمان والإلحاد. وقد حضرت الصيغ العلميّة نفسها، بالنتائج نفسها، على كلتا الضفّتَين مؤدّيةً دور المدافع هنا ودور المهاجم هناك. غير أنّ التيّار الإلحاديّ يصرّ على كونه مستندًا إلى رؤًى علميّة موثوقة تعارض الأسطَرَة التي تطغى على السرديّات الدينيّة. وقد أدّى ادّعاء الملحدين تبنّي المنهج العلميّ والإخلاص له إلى تكريس صورة نمطيّة يظهر فيها الملحد عالمـًا/متعلّمًا مختصًّا بعلوم الفيزياء والأحياء والكموميّة وغير ذلك، وينشغل فيها الدينيّ بمباحث تقليديّة في اللاهوت والهرمينوطيقيا والتاريخ؛ كأنّ العلم الحديث جنديّ باسل في معسكر الإلحاد، لا بل هو حامل لوائه الأكبر. لكنّ الواقع يؤشّر إلى أنّ هذا التوظيف جائر ومجحف بحقّ العلم ونظريّاته، إذ يحيله إلى ما يُشبه “حصان طروادة” الذي يُراد منه الإيقاع بالخصم وحشره أمام معطيات يُدّعى أنّها موضوعيّة؛ والأدهى في ذلك أنّ هذا النهج لا يعدو كونه استخدامًا لنظريّات علميّة بصورة منحازة ومزاجيّة وبعيدة عن الأمانة العلميّة كلّ البعد.

Modern science, with its empirical nature, presents some strong evidence that have resolved many a dispute in man’s understanding of life and existence. Therefore, it was not farfetched that it was employed in the disputes on theism and atheism. The same scientific formulations, with the same results, have been presented by both sides, playing the defender here and the attacker there. However, the atheist current insists that it is based on sound scientific views that run contrary to the mythologization in religious discourse. This claim by atheists of their adoption of the scientific method and their devotion to it has led to the cementing of a stereotypical image portraying the atheist as the scientist/erudite, knowledgeable in physics, biology, quantum theory, and other fields, whereas the theist busies himself with the tradition as embodied in theology, hermeneutics and history. It’s as if modern science is a brave soldier in the atheist camp, rather it is its greatest flag-bearer. However, ­in actuality, this image is unjust towards science and its theories, because it renders it into a “Trojan horse” meant to defeat the opponent and corner him using information falsely claimed objective. What’s worse is that this current has done nothing but use scientific theories in a biased and arbitrary fashion, totally unrelated to scientific integrity.

قراءة في مباني الحجاج في أدلة الملحدين الجدد: فيكتور ستينجر نموذجًا

ثمّة توجّه عند كثير من المفكّرين – على اختلاف مشاربهم ورؤاهم – على الالتزام بالمنطق الأرسطيّ وتطوّراته اللاحقة كأساس معرفيّ “تعصم مراعاتُه الذهنَ عن الخطأ”. لا يلغي هذا بالطبع نقاشات كثيرة حول مفهوم منطقيّ هنا أو شكل استدلاليّ هناك، ولكن الأمر بقي عمومًا في دائرة الالتزام بالمنطق وتجويده وضبط أركانه ليلبّي الحاجة إليه كمعيار موضوعيّ توزن فيه الاستدلالات المنطقيّة. غير أنّ الإشكال العمليّ بقي في المادّة التي تملأ متن البرهان لا في شكله.

ولا يمكن تقييم النقاش القائم بين الدين والإلحاد بعيدًا عن مساءلة المقدّمات، كبراها وصغراها، والتي تشي – أي المساءلة – في كثير من الحالات بكون جدال الملحدين المستمرّ للدين مستندًا إلى إلزام الآخر بمقدّمات لم يلتزمها في المقام الأوّل، ممّا يقوّي الاعتقاد بأنّ هذه المصادرة تكشف أنّ الموقف ليس موقفًا معرفيًّا بل حالةً نفسيّةً ينبغي الوقوف على أسبابها وحيثيّاتها ونتائجها.

There is a  convention amongst many scholars – of different schools of thought – to abide to Aristotelian logic and its later developments as an epistemological principle that “if taken heed of, immunizes mind from error”. This of course, does not rule out the many discussions on a logical principle here, or a deductive form there, but things have generally remained within the confines of logic, improving it, and tuning its pillars so that it would serve as an objective standard wherein logical deductions are weighed in. In practice, however, the problem remained in the premises that makes up the argument, not its form.

The ongoing debate between religion and atheism cannot be evaluated without placing in question the premises of given propositions, both minor and major. This questioning, in many cases reveals that atheism’s continued dispute with religion is based on forcing on the others some premises that they others do not adopted in the first place, which enforces the belief that this expropriation reveals that atheist position is not epistemological in nature, but rather a psychological case whose reasons and results must be further studied.

إلحاد فريدريخ نيتشه (1844 – 1900)

وُجِّهت إلى المسيحيّة في صيغتها القروسطيّة نقود شتّى، ولعلّ أشدّها حضورًا إلى اليوم ما يُنسب إلى فريدريك نيتشه (1844-1900) الذي حمل على المنظومة اللاهوتيّة والمؤسّسة الكنسيّة سواء بسواء، مستهدفًا بذلك المرجعيّة الفكريّة والسلطويّة في الدين المسيحيّ. يبدي نيتشه تبرّمه من التصوّرات المسيحيّة خصوصًا في نبذها لبهجة الحياة واتّسامها بالكآبة والرتابة والخنوع، وقتلها الإبداع الإنسانيّ وكبتها لآفاق يمكن للبشر أن ينطلقوا إليها بعد أن يتحرّروا من الأوهام التي يأسرهم الدين في أسوارها. غير أنّ نيتشه لا يكتفي بالهدم، بل يجهد في رصد تحوّلات الفكر الإنسانيّ التي من شأنها تشييد صرح فكريّ يمكن له أن يستبدل المسيحيّة وإلهها الذي أعلن موته بأكثر من صورة. وفي الانعطفات الحادّة التي يمرّ بها فكر نيتشه في تحدّيه لمقولة الدين عمومًا، يتمخّض النقد تصوّرًا لعالم جديد ولإنسان جديد يفترق افتراقًا بيِّنًا عن ذاك الذي تتقلّبه أيدي المنظومة الدينيّة – المسيحيّة بشكل أخصّ؛ إنسان نيتشه الجديد متصالح مع هويّته، متفوّق، سيّد، ومطلق الحرّيّة في إرادته.

Christianity, in its medieval form, has been much criticized; arguably, the strongest of these criticisms is attributed to Friedrich Nietzsche (1844-1900), who attacked the theological matrix and Church establishment alike, targeting the Christian faith’s intellectual and authoritative center. Nietzsche shows his resentment of Christian conceptions, especially in their dismissal of the joy of life, painting it as dreary, melancholic, and submissive, thereby killing human creativity and repressing horizons men could have sailed towards after they were free from the illusions religion uses to keep men within its confines. However, Nietzsche is not satisfied with just demolishing, rather he is hard at work monitoring the changes of human thought capable of building an intellectual monument that can replace Christianity and its God, whom he had declared dead in more than one way. In the sharp turns Nietzsche’s thought undergoes in his challenging of religion in general, his criticism sees the birth of a conception of a new world and a new man, completely different from the man resting in the confines of the religious matrix – Christianity in particular; Nietzsche’s new man is at peace with his identity, he is superior, a master, and completely free in his will.

لغة الإلحاد المعاصر: بين شرطية لغة الدين وإعادة برمجة الإنسان

يعمل هذا البحث على طرح إشكالية لغة الإلحاد، من خلال وضعها على مشرحة النقد، فهذه اللغة، التي اصطدمت بالدين في أصل مواضعة اللغة، أدركت أنها تعيش في مأزق مشروعية القول، فسعت لذلك إلى ضرب النسق الذي تقوم عليه اللغة، لتحولها إلى لغة شبيهة بالبرمجة من جهة، وإفراغ اللغة الدينية من محتواها، وإظهارها كلغة هامشية من جهة ثانية، دون التنبّه إلى أن التلاعب بهذا الأمر لا يفضي إلى ولادة لغة بديلة، وإنما يؤسس للإنسان المبتور، أو لنقل إلى ولادة كائن افتراضي يُطلق عليه مجازًا اسم “الإنسان”.

This paper poses the issue of the language of atheism, by critically dissecting it as it has run counter to religion in the very foundation of linguistic convention, and realized that it now rests in the crisis of the legitimacy of its discourse. Thus, it seeks to strike the very paradigm on which language rests, turning it into a programming-like language on the one side, and voiding religious language from its content, making it out to be marginal on the other, unwise to the fact that such manipulation does not create an alternate language, but rather sets the ground for a mutilated man, or a transition to the birth of a pseudo-being figuratively called “man”.

الإيمان والإلحاد والعقلانية

يفتقد فريقا النزاع في سؤال “الإيمان/الإلحاد” إلى أرضيّة مشتركة تؤمّن حدًّا أدنى لتثمير الحوار بينهما. وهذا ما أحال النقاش بينهما إلى تراشق لفظيّ دفاعيّ وهجوميّ للأدوات والأدلّة والحجج والاتّهامات نفسها. من ذلك مثلًا الادّعاء بعدم تماميّة الدليل على وجود الله، والتي يردّها أهل الدين بعدم تماميّة الدليل على عدم وجوده؛ وغير ذلك كثير ممّا يدور في فلك تشكيك كلّ واحد بالحيثيّة العقليّة التي ينطلق منها صاحبه وأدوات المعرفة التي يستخدمها، وصولًا إلى اتّهامات متبادلة بالقصور العقليّ والخلل الفكريّ. ولكن، يمكن الخروج من هذه الدوّامة والنظر إلى المسألة من بُعد آخر يلحظ اتّساق البناء الأنطولوجيّ الذي يشغله إنسان الإلحاد أو إنسان الإيمان. نعم، لا يقود هذا المنظور إلى حلّ للإشكال المبدئيّ – البسيط والمباشر – في السؤال عن وجود الله مثلًا، غير أنّه يُسهم في تثبيت خطوط النزاع والعبور منها إلى مساءلة عقلانيّة قويمة لأسس الخلاف وسبل حلّها أو التعايش معها.

The two disputants of the “theism/atheism-question” lack a common ground that would provide the bare minimum that might bring the dialogue between them to fruition, which in turn turned their dialogue into a slew of offensive and defensive vitriol consisting of the same tools, proofs, arguments, and accusations on both sides, such as the claim that the proofs of God’s existence are not complete, to which theists reply that proofs of his non-existence are, equally, not complete as well. And much like this goes on as each party casts doubt on the rational standpoint of the other and the epistemological tools they use, also accusing each other of mental incapacity and rational deficiency. However, this cycle can be broken by assuming another perspective that considers the ontological context of atheists or theists. Yes, this approach will not resolve the essential problem – the simple and direct problem – vis à vis the question of God’s existence. However, it may prove useful in drawing the lines of the conflict and traversing from thereon to a sound rational interrogation of the basics of this conflict and how to resolve or coexist with them.

الله والدين في مرآة الإلحاديين الجدد

ما الذي يمكن أن يكون عليه القول في مسألة الإلحاد؟ وهل هناك ما يسوّغ للبحث وسط ركام من ادعاءات لا يجمع بينها سوى طموح جامح؟ هل نبحث في مشكل فلسفي أم ديني أو مجرد ظاهرة اجتماعية أو نفسية؟ ألا يتضمن بحثنا اعترافًا مسبقًا بوجود مسألة جديرة بالتمثل والفحص كإشكالية راهنة، أم أن الإلحاد الجديد – على الرغم من إلحاح المعالجة – لا يعدو في مجمله الزبد الذي يطفو على هامش الواقع الديني قبل أن يذهب جفاءً؟ ألا يفترض إحالة البحث لعلماء الاجتماع أو النفس بأن يترصدوه بالدراسة دون أن يرقى لمستوى الإشكالية الفكرية التي تجاري الاهتمامات الكلية للبشر؟ هل يمتلك الإلحاد أصالةً في مقابل الدين تدفع للبحث فيه من منطلق الندية كما يدعي أتباعه، أم أنه لا يتجاوز في كينونته المعاصرة ذلك العبث التشكيكي الذي لا يكل عن محاولة نشر غسيله على جدار اليقينيات والإيمان الديني؟

What can be said about atheism? Is there any justification for rummaging in a pile of allegations that share nothing in common but wild ambition? Are we looking into a philosophical or religious problem or nothing more than a social or psychological phenomenon? Is this paper not an implicit admission of this matter being worthy of examination as an established problem, or is modern Atheism – despite incessant attempts to address it – nothing but the scum that floats on the sidelines of religious reality before it leaves as dross? Would this matter not best be relegated to social scientists or psychologists who would study it without it rising to the station of intellectual problems that address man’s general concerns? Does atheism possess authenticity vis-à-vis religion that warrants driving investigation into it on equal grounds with religion, just as its followers claim? Or does its contemporary state not surpass the skeptical absurdism that continues to hang its dirty laundry on the wall of certainties and religious belief?