الأخلاق كإشكالية

افتتاحية العدد 44

تخلّقوا بأخلاق الله (المجلسي، 1983، ج 58، ص 129). كثيرًا ما ترد هذه العبارة في الحثّ على التخلّق، وهو – أي: التخلّق – التطبُّع بالشيم، وأن تتمثّلها في تكوينك النفسي والسلوكي، حيث تصبح سمة شخصيّتك وهويّتك.

وقد اهتمّت الأدبيات الدينية بعامل الأخلاق، وبربطه بالعلاقة مع الإله؛ فتمثُّل الإله هو انقياد للمثل الأعلى في حياة أهل الإيمان الديني، إذ إنّ صورة الإله تكون على وفق الخصائص التي يقدّمها حول نفسه، مثل: الفادي، والمحبّ، أو الهادي، والرحمن، أو غير ذلك. وهي خصائص تتحوّل إلى قيم عليا يسعى المؤمن إلى التخلّق بها، ما يحدث تغييرًا وجوديًّا في ذات المتخلّق، أي: إن الأمر يتعدى ظاهر أموره وحياته إلى أصل كينونته ووعيه وتبصّره. وهذا ما يستدعي السؤال عن علاقة الأخلاق بالدين، وعلاقة الأخلاق بالفلسفة، فهل الدين والفلسفة أمران لازمان للأخلاق؟ وهل للأخلاق قيمة تأسيسية في الدين والفلسفة؟ ثمّ إن كانت كل معالجة فلسفية تحثّنا على تتبع واقع ما إلى بداياته اللازمنية؛ تلك البدايات المرتبطة بالمنشأ الوجودي، فمن حقّ السؤال أن يواكب مصدر الأخلاق في تكوينها الأول أهو الذات الإلهية في أسمائها وصفاتها، أم أنّها ذات الإنسان في نزوعه الفطري الأول؟

الأسئلة هنا هي إشكالية البحث الأول في الأخلاق، وعنه يمكن أن يتفرّع كثير من الأسئلة الإشكالية. أما الإجابة فهي النطاق الذي يسمح لنا معالجة الموضوع على حسب المسلك الذي اعتمدناه.

في هذه الافتتاحية، لن أكون معنيًّا بالتصدي للإجابة، لكن ما أريد قوله: إنّ قيمة المبحث الأخلاقي عالية إلى درجة أنّ ما من إجابة تجاوزت أصل الأخلاق وواقعيتها. فأن تعتقد أن الثواب والعقاب الديني هو منشأ الأخلاق، أو أن ترى المدح والذمّ والمصلحة هي منطلقه، أو أن تذهب لاعتبار النفس في قوامها هي التي تتوالد عنها الأخلاق، أو أن تؤمن أن ابتغاء وجه الله هو علّتها وغايتها التي منها تولّدت، فهذه كلها مسالك تؤدي إلى مقصد هو الأخلاق وأهميّة التخلّق، لكن من الضروري التأكيد على أنّ الأخلاق منها: ما طبيعته ومفاعيله صالحة وخيِّرة، ومنها ما يقوم على غير وئام مع حياة الإنسان فردًا وجماعة.

وإذا تحدّث الإسلام عن هدف بعثة النبي محمّد (ص)، وأنّها كانت لغاية أخلاقيّة “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (المجلسي، 1983، ج 68، ص 382)، ما دعا إلى ربط المضمون الأخلاقي بكل مفردة عقدية وتشريعية ووعظية؛ ودفع علي بن الحسين (ع) في صحيفته السجادية ليخصّص الدعاء الأكثر شهرة بالأخلاق؛ “مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال”، فإنّ مفردة المكارم تستلزم إمكان غيرها، ممّا هو ليس بصالح وخيِّر، كما أنّ مرضيّ الأفعال هو دمج للسلوكيّات ومظاهر التخلّق بأصل المبحث الأخلاقي، وأنّ فيه ما هو مُرْضي، وما هو غير مُرْضي. وهذا ما يدفعنا إلى السؤال مجدّدًا حول منشأ أخلاق الشرّ والقبح والتزوير، كإشكالية كبرى.

فهل الأمر يعود إلى الأصل الأول من تكويننا الأخلاقي؟ أم أنه بفعل أمور أخرى؟ وهل الإنسان منقسم في ذاته بين مصدري الخير والشر؟

اعتبرت المسيحية أن كينونة الإنسانية قائمة على الخطيئة الأصلية، على الرغم من أن الله خلق الإنسان على صورته، وهذا بذاته فرض نحوًا من اللاهوت الجدلي انبنى في توفيقياته على المحبة الرادمة للهوّة. أما في الإسلام، فعلى الرغم من أن الإنسان مجعول بالجعل الوجودي على الفطرة السليمة، وأن المشيئة الإلهية اختارته خليفة لله سبحانه في أرضه، فإنّ أول اعتراض قُيِّد بحقّ الإنسان في مسار خلقه وولادته كان اعتراضًا أخلاقيًّا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ (القرآن الكريم، سورة البقرة: 30).

إنّ التركيز هنا – في هذا الاعتراض – على فعل قبيح ينمّ عن طبيعة لا تنسجم مع الغاية المتوخّاة مع الدور والوظيفة التي أرادها الله للإنسان. ما يعني أن البعد الأخلاقي أصل في أهليّة الدور السياسيّ والاجتماعي في الحياة.

لكنّ المفاجئ أن ردّ مؤدى الاعتراض كان ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة: 30). ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا﴾ (سورة البقرة: 31). فما علاقة الأسماء سواءًا كانت حقائق الكون أم حقائق الوجود المرتبطة وجودًا ربطيًّا بأسماء الله الحسنى التي دعت المتصوّفة انطلاقًا منها لإطلاق تسمية خاصة على الإنسان “مستودع الأسماء والأسرار الإلهية”؟

الأخلاق وصال عَالمَـَيْ الغيب والشهادة

يتبادر إلى الذهن أن عتبة الميتافيزيقا واللاهوت هي الأخلاق، وعنها يطلّ الإنسان إلى عالم الدنيا والممارسة اليومية والزمنية. لذا، بإمكانك الحديث حول أخلاق كلّيّة، كما بإمكانك الحديث حول نسبية الأخلاق. لكن الاقتصار على وجه واحد هو تناول طرف منها من دون الآخر، فهل هذا يسمح بفهم وجودي للأخلاق؛ فهمًا وجوديًّا بمعناه الأنطولوجي، أو إن شئت الزمني الذي يبني وجود إنسان الـ”هنا”؟ وأي الطريقين يمكننا الانطلاق منه: طريق “الظاهر والباطن”، أم طريق “الدين في حدود العقل” الذي اقترحه كانط، وبنى من بنى عليه من بعده مسالك ومدارس؟ إذ رأى “أنّ الأخلاق إنما تقود على نحو لا بدّ منه إلى الدين، وعبر ذلك تتوسع إلى حدّ فكرة مُشرِّع خلقي واسع القدرة خارج عن الإنسان في إرادته، تكمن تلك الغاية النهائية (لخلق العالم) التي ينبغي، ويجب أن تكون الغاية النهائية للإنسان” (كانط، 2021، ص49).

فالأخلاق، في أصولها، لا تقوم على الدين، لكنّها في غاياتها، وفي بعض ضرورات إنفاذها تستوجب وجود سلطة عليا هي التي توفّر ما تحتاجه الأخلاق في فاعليّتها وتوسيع قوّة الواجب فيها.

الفارق بين الطريقين (الظاهر والباطن، أو أن الأخلاق تستوجب الدين) كبير. ففي الأول، يعود محور الأمر إلى الله وتمثّلاته، بينما في الثاني، المحور هو الإنسان ولإكمال ضروراته الأخلاقية كان الدين. لكن في الطريقين هناك نحو من حاجة ما إلى نظام أخلاقي يقوم على العبادة، ففي الأول لأن الله يُعبدُ ذاتًا، وفي الثاني لأنّ العبادة تقوّي سلطة الواجب الأخلاقي.

وقبل أن ننزلق في بحثنا، فندخل نطاق الإجابات، لا بدّ من أن نعتبر ما قُدِّم بمثابة محطّة أوّلية لإثارة إشكاليات في المبحث الأخلاقي تتفرّع منها أسئلة أخرى. من ذلك، ما المائز بين الوجود والأخلاق؟ وكيف نبني تصوّرًا للأخير، وكأنه رتبةٌ من مراتب الوجود؟ ثمّ أَلَمْ يتّجه فلاسفة الأخلاق – كما الفلاسفة التقليديون – لاعتبار أنّ مفتاح البحث في الوجود هو العقل النظري، في حين تعود الأخلاق إلى العقل العملي؟ وهل يكفي في الإجابة أن ننقل ما قالوه من كون العقل واحد، وأنّ قِسْمَيْه: النظري والعملي هو من باب التفريق في الفاعليّة المتنوّعة للعقل؟

أمّا فيما يخصّ وقوف الدين كحدّ لا بدّ منه في حركة العقل، ألا يأخذنا هذا إلى اعتبار أن السلطة الإلهية العليا هي وليدة حاجة ما اقتضاها الواجب الأخلاقي المكتمل الأوصاف والكينونة؛ ليعبِّر عن نفسه؛ فيصير بذلك صاحب السلطة العليا المفترضة هنا (الله) هو التابع لسلطة حقيقية كنّا قد افترضناها محتاجة إليه، وهذا خلف المفروض؟

مسارات على طريق تحوُّلات المبحث الأخلاقي.

إلى هنا، كنّا في إشكالية الأخلاق مع مسارين يشتركان في جملة من الأمور، ويفترقان في أمور أخرى، إلّا أنّ نطاق البحث فيهما يعود إلى طبيعة علاقة الإنسان الأخلاقي بالدين. فهل ذات الإنسان المبنية في هويّتها على الأخلاق أفاض الدين عليها مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال؟ أم أنّ الأصل في الأمر هو أن الأخلاق لمّا احتاجت إلى سلطتها على الذات لجأت بالضرورة إلى سلطة عليا تتمثّل في الدين؟

فالأخلاق ثابت، والدين ثابت، ومضمون الشخص الأخلاقي المبني على رقابة الذات وفق الأصول الأخلاقية أيضًا ثابت في كلا المسارين على الرغم من الاختلاف الشديد في تقييم موقع الدين والإنسان الديني بينهما. لكنّ الإشكالية الأخلاقية تنفلت من عقالها عندما يتمّ فكّ أواصرها بأمرين: الرقابة الإلهية، أو الرقابة على الذات بناء على الواجب، أو الضرورة الأخلاقية. فبعد أن حوّلت الفلسفة الوضعية – مثلًا – الأخلاق إلى مجرد قضية محكومة بالتناسق المنطقي، وحاكمتها على وِفق رؤية جعلت من اللغة الأخلاقية مورد فراغ، وعندما ربطت مدارس فلسفية وباحثة في الأنثروبولوجيا وغيرها من علوم إنسانية الأخلاق بالمكوَّن الثقافي، وحكمت عليه معرفيًّا بالنسبية وعدم الاطراد، ثمّ جاءت سلطة السوق والمهنة لتتعامل مع الأخلاق كأمر تقني إجرائي يخدم الربح والامتيازات… صار البحث في الأخلاق إشكالية خاضعة لمهبّ ريح السياسات والمصالح، فتارةً نبحث في الأخلاق الكونيّة بديلًا عن كل دين، إلا ما ترسمه حضارة القوّة والسيطرة، وأخرى نخضعه لحيثيّات تبيح تحويل الجنس البشري إلى هويّات لا عبرة فيها للذكر والأنثى، وثالثة تجعل القيمة لكلّ ما هو سريع وعابر من مثل عالم الأثير، وتكنولوجيا التواصل والاتصال، بل وعالم الرغبة والانشغال بالفراغ، حيث لا رقابة ولا ضمير ولا سلطة دين أو أخلاق. هنا، يصبح لبحث الأخلاق دواع إشكالية تتجاوز حدود المنهج والتجريد لتعبر نحو اللحظة في صيرورة العالم الحضارية، وفي حفظ وجود الإنسان، ولا أقصد باللحظة – بما هي – مقطعًا مفصولًا من زمن له ما قبله كما له ما بعده، بل بما تختزنه اللحظة من امتداد لتاريخ بعيد، وتطلع نحو آتٍ من المستقبل. هنا، تصبح اللحظة مسؤولية بقدر ما هي حرّة، وبهاتين القيمتين: (الحرية والمسؤولية) يبدع المرء في صناعة ذاته بموجب جعل إلهي، أو على وِفق ما ينبغي أن يكون.

هذه المهام التاريخية تفرض علينا أن نستقرئ ما قدّمته الجماعات على تنوّع انتماءاتها في مقاربة إشكالية الأخلاق والفعل الأخلاقي، ودوره في تأسيس كرامة الإنسان وبناء صلته مع الله والعالم والتاريخ.

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب الحوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث.

يمثّل البحث الأول “فلسفة الأخلاق: علم أم فلسفة” مقدمة لملف العدد، يهدف سورين تيودور مكسيم من خلاله إلى تقديم حجّة مفادها أنّ الأخلاق هي فكرٌ نظريٌ منهجي يعالج المبادئ والقيم الأخلاقية، جامعًا ازدواجية الفلسفة والعلم، من دون إمكانية تحديد أي الطابعين أكثر أهمية بدقة.

أمّا البحث الثاني “الأخلاق والنظريّات الأخلاقيّة من منظور إسلامي”، يعرض الكتّاب معاني المفاهيم الأخلاقية من منظور إسلامي بغية فهمها. ويقارنوا بين وجهات النظر الأخلاقية الإسلامية والغربية، من أجل تسليط الضوء على نقاط الضعف الرئيسة والقيود في المنظور الإسلامي؛ لتقديم الحجة لبرهنة قدرة الإسلام على تقديم أفضل مفهوم للأخلاق.

وتشير الورقة البحثية الثالثة التي تحمل عنوان “دور النيّة في القيمة الأخلاقيّة” إلى تأثير النيّة على القيمة الأخلاقيّة من خلال تحليل النيّة على مستويين: الفعل الجوارحيّ الذي بموجبه تتحدّد النيّة وفق الكمال المُتَعَلّق النهائي لنيّة الفاعل، والفعل الجوانحيّ الذي بموجبه تكون النيّة هي الشيء الوحيد الذي يتمتّع بقيمةٍ أخلاقيةٍ غيريةٍ.

ثم بعد ذلك، عرض أفضل بوكى في بحثه “تقييم نظرية إطلاق الأخلاق ونسبية الفعل الخلقي بحسب رأي الشهيد مطهّري” رؤية الشهيد لنظريّة إطلاق الأخلاق ونسبية السلوك والفعل الخلقيين. وفصّل في مباني نظرية إطلاق الأخلاق ونسبية الفعل، وأفرد قسمًا لنقد نظرية الشهيد مطهري وتقييمها عبر إيجاد أدلّة من داخل النظرية وخارجها ومقاربتها مع آراء علميّة لإثبات التعارض أو التوافق فيها.

كما عرض بحث “الوجدان الأخلاقي عند العلّامة الجعفري” مفهومَ الوجدان الأخلاقي وأدلّة إثباته وتطبيقاته بحسب رؤية الأستاذ الجعفري. وأفرد الباحثان القسم الأكبر للردّ على الأسئلة والإيرادات المتعلّقة بالوجدان الأخلاقي، وتطبيقاته من الناحية الشخصيّة والمجتمعيّة، ثمّ عرضا النقوض الواردة على آراء العلامة في الوجدان الأخلاقي، والتحقيق فيها.

وأظهر البحث السادس لمجتبى مصباح “دراسة تحليليّة نقديّة لنسبية الأخلاق أقسامًا وأدلّة” تعريف إطلاق الأخلاق ونسبيّتها. بعد ذلك، تعرّض لنقد مباني نسبية الأخلاق وأهمّ أدلّتها، وعدّد التناقضات النظرية والنتائج التي لا يمكن الالتزام بها عمليًّا، على أنّ المدرسة الأخلاقية الإسلامية لا يمكنها أن تتوافق مع نسبية الأخلاق.

أمّا علي رضا آل بويه فقد عرض في بحثه “حال فلسفة الأخلاق في الحوزة العلميّة في القرن الأخير” لتاريخ فلسفة الأخلاق التي انطلقت بعد انتصار الثورة الإسلامية، والعلماء الذين خاضوا هذا المبحث، منهم: الشهيد مطهّري، وآية الله الشيخ مصباح اليزدي، والعلّامة محمّد تقي جعفري، وآية الله السبحاني، وآية الله جوادي آملي.

أمّا في البحث الثامن “فلسفة الخلاق عند مسكويه، فقد فرّق أحمد ماجد بين الأخلاق الفوقيّة والأخلاق المعياريّة، وعرض رؤية مسكويه حول فلسفة الأخلاق والغاية منها وأخلاقيّاتها، مضافًا إلى مقاربة رؤية سقراط وأفلاطون لهذا الموضوع.

والبحث الأخير في ملف العدد، هو “جورج إدوارد مور ونظريّة الفعل الأخلاقي أو الصائب في أخلاقيّات العواقب الاجتماعيّة” الذي شكّل التحليل النقدي الذي قدّمه جورج إدوارد مور للفعل الصائب في الأخلاق النفعية، إضافةً إلى مفهومه العواقبي للفعل الصائب، نقطة انطلاق لنظرية الفعل الأخلاقي أو الصائب في أخلاقيات العواقب الاجتماعية.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الدكتور محمّد عريبي يتعلّق بتجربته الخاصّة في كتابه الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي، بغية إظهار أهميّة الكتاب في موضوع فلسفة الأخلاق، وأنّه سلسلة من مشروع يهدف إلى رصد الموروث والحاضر في مجال الأخلاق من خلال تتبّع المذاهب والشخصيات الأعلام.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه ثلاثة أبحاث.

درس يد الله يزدانپناه في بحثه “قدرات العرفان الإسلامي في صناعة الحضارة” أسباب عدم تحقّق الحضارة المطلوبة على أساس العرفان الإسلامي، على الرغم من وجود النتائج الحضارية المثمرة في قسمين: القسم الأول يُظهر قدرة العرفان على توصيف الحضارة وصلاحيّته في هذا المجال، أمّا القسم الثاني فتحدّث عن كيفية أداء العرفان دوره في هندسة الحضارة الإسلامية.

وسعى نبيل الياسميني في البحث الثاني بعنوان “فيتغنشتاين عن المعنى واللاّمعنى وفارغ المعنى” إلى توضيح المقصود من عناصر هذا الثلاثي، واستخدامات كلٍّ واحد منها، مع تحديد علاقته بقيمة الصدق، وكيف أثّر التمييز بين العناصر الثلاثة على منهج المدرسة التحليليّة.

أمّا البحث الثالث والأخير “إنتاج الهويات أواخر الدولة العثمانية: الصراع العثماني/اليوناني وتشكيل “الآخر” لمحمّد البشير رازقي فقد عالج مشكلة العلاقات العثمانية-اليونانية، كيف بدأت، وتطّورت، وكيف قادت هذه التوترات إلى مواجهات عسكرية بين الطرفين أفضت في النهاية إلى استقلال اليونان عن الدولة العثمانية.

كما تتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

قائمة المراجع

كانط. (2021). الدين في حدود مجرد العقل (ترجمة: فتحي المسكيني) (الطبعة 1). بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع.

المجلسيّ، محمّد باقر.(1403ه/ 1983م). بحار الأنوار (الطبعة 2 المصحّحة). بيروت: مؤسّسة الوفاء.

Ethics as a Problematic Question

Sheikh Shafik Jradi

“Adorn yourself with God’s character traits” (al-Majlisī, 1983, vol. 58, p. 129). This phrase is often mentioned in the call for takhalluq (emulating the character of Allah), which implies the adoption of virtues, embodying them in your constitution of self and behavior until they become a defining trait of your personality and identity.

Religious literature has paid great attention to the factor of ethics, and to linking it to the relationship with the Divine. The emulation of the Divine is submission to the supreme ideal in the lives of those who adhere to religious faith. This is because the image of the Divine is shaped according to the attributes He presents about Himself, such as the Redeemer, the Loving, the Guide, and the All-Merciful, among others. These attributes transform into supreme values that the believer strives to emulate, leading to an existential transformation in the very essence of the mutakhalliq (individual adopting them). This transformation goes beyond outward actions and daily life to affect the core of one’s being, consciousness, and perception. This raises questions about the relation between ethics and religion, as well as between ethics and philosophy. Are religion and philosophy necessary matters for ethics? And do ethics hold a foundational value in both religion and philosophy?

Furthermore, if every philosophical inquiry urges us to trace any given reality back to its timeless origins that are linked to its existential origin, then it is only natural to ask: What is the primary source of ethics in its initial formation? Do ethics originate from the Divine Essence, as reflected in God’s names and attributes, or do they stem from the human self in its inclination towards the primordial nature?

These questions are the primary research problem in ethics, from which many other problematic questions can branch out. The answer defines the scope that enables us to address the issue based on the approach we have adopted.

In this editorial, I will not be concerned with providing an answer. However, what I want to emphasize is that the value of ethical inquiry is so profound that no answer surpasses the origin and reality of ethics.

To hold that religious reward (thawāb) and punishment (‘Iqāb) are the foundation of ethics; to view praise, blame, and interest as its basis; to consider the soul in its essence as the source from which moral principles emerge, or to believe that seeking God’s pleasure is its cause and purpose from which it was generated, these are all paths that lead to the same end: ethics and the significance of takhalluq. However, it is essential to emphasize that ethics comprises aspects whose nature and effects are virtuous and beneficial, as well as aspects that may be at odds with human life, both individually and collectively.

When Islam speaks of the purpose of the Prophet Muhammad’s (SAWA) mission, asserting that it was for an ethical purpose: “I have been Sent to complete the honourable manners’” (Majlisi, n.d., vol. 68, p. 418), this highlights the integration of ethical content into every doctrinal, legislative, and exhortative term. This also led Imam Ali ibn al-Husayn (AS) in his Ṣaḥīfah Sajjadīyah (Psalms of Islam) to dedicate his most renowned supplication to ethics: Noble Moral Traits and Acts Pleasing to God. The very term makārim (noble) implies the possibility of their opposites, qualities that are neither virtuous nor good. Likewise, pleasing acts involve the integration of behaviors and manifestations of takhalluq within the core of ethical study, distinguishing between what is pleasing and what is blameworthy. This, in turn, raises the critical question of the origins of the ethics of evil, badness, and deception as a major ethical problem.

Consequently, does it trace back to the primordial origin of our moral formation, or is it the result of other factors? Is man divided within himself between the sources of good and evil?

Christianity considered that the existence of humanity is based on the original sin, even though God created man in His image, and this in itself led to a form of dialectical theology that built its reconciliations on love that fills the gap. As for Islam, despite the fact that man is created by existential creation based on innate nature and that the divine will chose him as a viceregent to God Almighty on earth, the first objection to the creation and birth of was an ethical one: ﴾Will You set in it someone who will cause corruption in it and shed blood?﴿ (Quran, 2:30).

The focus here – in this objection – is on the bad act that reflects a nature that is incompatible with the intended purpose and the role that God designated for man. That means that the moral dimension is foundational to the eligibility for political and social roles in life.

What is surprising, however, is that the response to the objection was: ﴾Indeed, I know what you do not know. And He taught Adam the Names, all of them﴿ (Quran, 2:30, 31). Consequently, what is the relationship between names, whether they are the truths of the universe or the truths of existence that are linked in a copulative existence to the most beautiful names of God, which led the Sufis to refer to man as “the repository of the divine names and secrets”?

Morality is the link between the worlds of the invisible (ghayb) and visible (shahādah)

It comes to mind that the threshold of metaphysics and theology is morality, through which man steps into the world, and conducts daily and temporal practices. Thus, one can speak of moral universalism as well as moral relativism. However, limiting the discussion to only one perspective means addressing only part of morality while neglecting the other. But, does this entail an existential understanding of morality; an ontological understanding, or let’s say, a temporal one that shapes the existence of the “Present Human”? Which path should we start from: the path of “the outward and the inward”, or the path of “religion within the limits of bare reason”, as proposed by Kant, upon which others built various approaches and schools of thought? Kant argued that:

 “So morality leads inescapably to religion, through which it extends itself to the idea of a powerful moral lawgiver, outside of mankind, whose aim in creating the world is bring about the final state of the world that men can and ought to aim at also”. (Kant, 2017, pp. 2–3)

The origins of morality are not founded on religion; however, the goals of morality and certain necessities of its implementation, require the presence of a higher authority that provides what morality needs for its effectiveness and strengthens the power of duty in it.

The difference between the two paths (the outward and the inward, or the view that morality necessitates religion) is significant. In the first, the central focus is on God and His manifestations, whereas in the second, the focus is on man, with religion serving to fulfill his moral necessities. However, in both paths, there is a certain need for a moral system grounded in worship. In the first, because God – in his Self – is worshiped, and in the second, because worship reinforces the authority of moral duty.

Before we delve into our research and enter the scope of answers, we must consider what has been presented as a starting point to raise problems in the ethical field from which other questions emerge.

Among these questions: What distinguishes existence from morality? How can we conceptualize the latter as if it is a rank within the hierarchy of existence? Moreover, haven’t moral philosophers, similar to traditional philosophers, tended to regard theoretical reason as the key to investigating existence, while assigning morality to practical reason? And is it sufficient, in answering, to merely adopt their claim that reason is a whole, and that its division into the theoretical and the practical is merely a differentiation in its diverse modes of function?

As for the role of religion as a necessary boundary in the activity of the reason, does this not lead us to consider that the supreme divine authority arises from a need created by the moral duty in its perfection and completeness to express itself? In this way, the one who holds the assumed supreme authority here (God) becomes subordinate to a real authority that we had previously assumed needed Him, which contradicts the supposed assumption.

Trajectories along the path of the transformations in ethical study

Up to this point, we have been dealing with the problem of ethics with two paths that share a number of matters and differ in others, but the scope of research in these two paths roots back to the nature of the relationship of moral human with religion. Did religion bestow noble moral traits and pleasing acts upon the human self whose identity is built on morals? Or was it in the first place, that when morality needed authority over the self, it inevitably turned to a higher authority embodied in religion?

Morality is consistent, religion is consistent, and the essence of the moral person which is based on self-control in accordance with ethical principles, is also consistent in both paths, despite the significant differences in evaluating the value of religion and the religious person between these paths. However, the ethical problem unravels when its ties are loosened by two factors: divine supervision or self-control based on duty or moral necessity.

After positivist philosophy – for example – turned morality into a mere issue governed by logical consistency, and judged it according to a vision that rendered moral language a void, and when philosophical schools specialized in anthropology research and other human sciences linked morality to the cultural component, and judged it cognitively with relativity and inconsistency, then the authority of market and the professions came to deal with morality as a technical, procedural matter serving profit and privileges… Research on morality has become a problem subjected to the shifting winds of politics and interests. At times, we seek a universal morality as an alternative to all religions, except for what is shaped by the civilization of power and control. At other times, we subject it to aspects that allow the transformation of the human race into identities where distinctions between male and female are irrelevant. At other times, we assign value to everything fleeting and ephemeral, such as the world of the ether, communication technologies, and even the world of desire and distraction with emptiness, where there is neither control, nor conscience, nor authority of religion or morals.

At this point, the study of ethics takes on a problematic dimension that transcends the boundaries of approach and abstraction, extending into a moment within the civilizational process of the world and the maintaining of human existence. However, I do not mean by the moment – in this sense – a separated segment of time with what precedes it and what follows it, but rather what the moment holds in terms of an extension of a distant history, and a look forward to the future. In this sense, the moment is as much a responsibility as it is an expression of freedom. Thus, with these two values: freedom and responsibility, one innovates in shaping himself, whether through Ja‘l Ilāhī (divine mandate) or in accordance with what ought to be.

These historical tasks compel us to examine what groups of diverse affiliations have contributed to addressing the problem of ethics and moral action, and their role in establishing human dignity and shaping one’s relationship with God, the world, and history.

The Issue

The papers in this issue fall under three sections: first, the issue’s main subject, second, dialogues, and third, research and studies.

The first section includes 9 papers.  The first paper, titled Ethics: Philosophy or Science?, serves as an introduction to the issue. Sorin Tudor Maxima argues that ethics is a systematic theoretical reflection that covers the moral principles and values with a double status, philosophical and scientific, without being able to accurately distinguish which side is more important.

In the second paper, Ethics and Ethical Theories from an Islamic Perspective, the authors present the meanings of the concepts of ethics from an Islamic perspective in order to understand them. Moreover, the paper compares between Islamic and Western perspectives of ethics, and highlight the main weaknesses and limitations of the former. Then, an argument on why Islam can provide the best understanding of ethics is provided.

The third paper, The Role of Intention in Ethical Value, presents the impact of intention on ethical value by analyzing intention at two levels: the actions of the limbs which determine the value of the voluntary action in terms of the ultimate perfect aim of the actor’s intention; and the actions of the soul by which intention is the only thing that has a different moral value.

Thereafter, Afdal Buki presents in his paper Evaluating the Theory of Ethics Absolutism and the Relativity of Moral Action According to the View of Martyr Muṭahharī, the martyr’s perspective on the theory of ethical absolutism and the relativity of moral behavior and actions. The author elaborates on the foundations of the theory of ethical absolutism and the relativity of actions. The last section focused on critiquing and evaluating Martyr Muṭahharī’s theory by drawing on evidence both from within and outside the theory and comparing it with scientific perspectives to establish whether it entails contradictions or alignments.

The paper titled al-‘Allāmah al-Ja‘farī’s Perspective on Ethical Conscience examines the concept of ethical conscience and the evidence for its validation and its applications as envisioned by al-‘Allāmah al-Ja‘farī. The largest section focuses on addressing questions and findings related to ethical conscience and its applications on personal and societal levels. Finally, both authors present and critically examine the counterarguments to the scholar’s ​​views.

In his paper, Types and Arguments of Ethical Relativism: A Critical Analysis, Mujtabah Misbah defines ethical absolutism and relativism.  Subsequently, this paper critiques the foundations of ethical relativism and its key arguments, highlighting the theoretical contradictions and the impractical results, for the Islamic ethical school cannot align with ethical relativism.

As for The Status of Moral Philosophy in the Islamic Seminary in the Last Century, Alireza Alebouyeh presents the history of moral philosophy after the victory of the Islamic Revolution. He also highlights scholars who examined this topic, including: Martyr Morteza Muṭahharī, ʾĀyatoAllāh ash-Shaykh Miṣbāḥ al-Yazdī, al-‘Allāmah Muḥammad Taqī Ja‘farī, ʾĀyat Allāh al-Subḥānī, ʾĀyat Allāh Jawādī ʾĀmulī.

In his paper, The Ethical Philosophy of Miskawayh, Amad Majed distinguishes between Meta-ethics and Normative ethics. He presents Miskawayh’s perspective on the philosophy of ethics, its purpose, and its ethical principles. Additionally, he explores the pertinent views of Socrates and Plato. 

The final paper of this issue is G. E. Moore and theory of moral/right action in ethics of social consequences. The paper indicates that G. E. Moore’s critical analysis of right action in utilitarian ethics and his consequentialist concept of right action, establish a starting point for a theory of moral/right action in the ethics of social consequences.

In the dialogue section, Al-Mahajja interviews Dr. Muhammad Uraib to discuss his personal experience writing Ethics in Arab and Islamic Thought. It highlights the book’s significance in the philosophy of ethics. It is also noted that the book is part of a broader project aimed at documenting both the heritage and contemporary developments in ethics by tracing various schools of thought and prominent figures.

The papers and studies section includes three papers. The first is the Capacity of Islamic Mysticism (ʿIrfān) in Creating a Civilization, Yadullah Yazdanpanah explores in two parts the underlying reasons for the failure to realize the envisioned civilization based on ʿIrfān, despite its demonstrated civilizational potential. The first part highlights the capacity of ʿIrfān to present a characterization of civilization and its validity in this regard. In contrast, the second discusses howʿIrfān fulfills its role in constructing Islamic civilization.

In the second paper, Wittgenstein on Meaning, Meaningless, and Void of Meaning, Nabil al-Yasminy explains this triplet and how each could be used while determining their relation to truth-value. He further shows how the distinction between these three elements influenced the method of analytic philosophy.

In the final paper, Identity Construction in the Late Ottoman Empire: Ottoman-Greek Conflict and the Formation of “the Other”, Muhammad al-Bachir Razeki addresses the problem of Ottoman-Greek relations, tracing its origin, development, and the rising tensions that led to a military confrontation between the two parties that caused Greece to eventually gain independence from the Ottoman Empire.

Al-Mahajja wishes that this issue proves fruitful for seekers of knowledge, and a step forward in this long, joyous, and arduous journey.

Translated by: Ghadir Slim

References

Kant, I. (2017). Religion within the limits of bare reason (J. Bennett, Trans.). Retrieved from https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/kant1793.pdf

Majlisī, M. B. (1403 AH / 1983 AD). Biḥār al-Anwār (2nd ed.). Beirut: Mū’assasat al-Wafā’.

Majlisi, M. B. (n.d.). Bihar al-Anwaar (vol. 68). Retrieved from https://hubeali.com/books/English-Books/BiharAlAnwaar/BiharAlAnwaar_V68.pdf

الحكمة الخالدة: ثورة على الحداثة، أم وجه آخر لها؟

تتنوع الأسماء: “الحكمة الخالدة”، و”العلم القدسيّ”، و”الروحانية المعاصرة”، ولكنّ المحتوى واحد، يدلّ على تيار فلسفيّ، نشأ في القارة الأوروبية، مع بداية تبلور الحداثة الغربيّة التي بدأت مع مارتينيز دي باسكوالي (1727-1774)، وخطت لنفسها مسارًا خاصًّا، وصولًا إلى رينية غينون (1866-1951)، وفريتجوف شوون (1907-1998)، وهنري كوربان (1903 -1978)، وسيد حسين نصر (1933)، وويليم تشتيك (1943)… هذا التيار الفلسفيّ، على الرغم من حمله راية الاعتراض على ما يجري في القارة الأوروبية من تطور فلسفيّ وعلميّ وثقافيّ، إلا أنّه بقي كوكبًا يدور حول نجم الحداثة، يكتسب قوّته ونوره منها، ويتحرّك ضمن نظامها الذي يحدّد جميع المسارات، ويلفظُ، أو يبتلع الخارج عنها.

ترافقت الحكمة الخالدة مع ظهور المدارس الفلسفية الكبرى في المنظومة الغربية، وعملت على رفضها في نموذجَيها العقليّ والتجريبيّ، وعارضت بعد ذلك كلّ فلسفة سعت إلى إبقاء الوجود مرتبطًا بما هو أنطولوجيّ، ورأت أنّ هذه النظرة بحاجة إلى إعادة تقييم جديد، عبر تفعيل الميتافيزيقا الحقيقية، بما هي إحالة إلى المبدأ والأصل. وهي في سبيل ذلك، لم تتوانَ عن مهاجمة كلّ حراك فلسفيّ، لا يسعى إلى ربط الإنسان بحقيقته الروحية. وفي سبيل هذا الهدف، عملت على إظهار الميتافيزيقا الزائفة، بدءًا من “أرسطو”، ووصولًا إلى “ديكارت” و”ليبنتز” و”كانط”، والتي أدّت إلى نشوء التصورات الخاطئة عن العالم، حيث أسلمت الإنسان إلى وعي أنطولوجيّ إزاء الوجود، ما أدّى إلى نشوء وعي زائف، يمركز هذا الكائن في عدمية مطلقة، فَقَد من خلالها المعنى، وأصبح تائهًا، تتلاعب به أهواء الذات، فضلًا عن رغبتها في السيطرة على النفس أو الجماعة التي تعمل؛ للقبض على مقدّرات الشعوب واستغلالها.

تقدّم الحكمة الخالدة نفسها كمشروع حضاريّ، يعيد موضعة الإنسان في مكانته الوجودية السامية، من خلال إعادة بعث ذلك الجانب العظيم الذي أُلغي باسم عناوين مختلفة. إنّها تسعى إلى تفعيل الجانب الروحيّ في الإنسان جاعلةً من “الحكمة الشرقية” السراج المنير الذي سوف يقود الإنسان إلى المقام الوجودي الذي يليق به، عبر ما يُسمّى “بالتحقّق الروحي”، أو “الميتافيزيقا الحقّة”، والذي تشترك فيه كل المذاهب التراثية في الشرق. هذا التحقق هو الذي تسمّيه التراثيات الشرقية – لا سيما الصوفية – مقام “الفطرة الأصليّة الأولى”، لذلك عملت على صياغة علم جديد، ووضعت له مباني، أسمتها “مباني العلم القدسيّ”. هذا العلم لا يمكن الوصول إليه عبر التفكّر الذهنيّ الذي أُسمي عقلًا، وإنّما عبر “عقلٍ مجاوز”، يكتسب معارفه عبر الإلهام، ورأت هذه التراثيّات أنّ ما تعيشه الحضارة الغربية من تيهٍ، يعود إلى هذا التعريف الخاطئ الذي لم يستطع التمييز بين العقل في مقام الخبرة، وهو ما يُسمّى التفكير، والعقل في مقام الحقيقة الحقّة، والذي يستحقّ اسم “العقل”. ورأت أنّ عقل الخبرة الذي انتصر مع الحداثة الغربية دمّر معاني العلم، وأسس للتشظّي المدمّر، حيث أصبحت العلوم قائمة بذاتها، لا ترتبط في ما بينها بفكرة كليّة، تعمل على إيصال الإنسان إلى كمالاته التي وُجِد لأجلها، فأصبحت قيم المنفعة والاستهلاك تتحكّم بها.

كما رأت الحكمة الخالدة أنّ الحياد عن المبدأ الروحي الفطريّ، كان السبب الرئيس الذي تولّدت عنه أوجاع الحضارة الحديثة، وتنامت معه المآسي الإنسانية، وعنه نشأت الفوضى في العقائد والمفاهيم والأفكار والسلوكيات، وهو الذي أدخل البشرية في أحلك مراحلها الظلمانية، هذا الظلام الذي سوف يعمّم، إذا لم تتدارك الحداثة الخطأ الذي وقعت به، وتعمل على تقويمه عبر ربطه بحقيقة وجوده وهدفيّته. لقد وجدت أنّ على العلم الحديث التموضع في المرتبة المناسبة له، والتي يحدّدها العقل المجاوز، عبر إخضاعه بما يمتلك من قيمومة عليه، نتيجة إدراكه للحقائق بذاتها.

وقد استدركت الحكمة الخالدة – أيضًا – مسألة الصراع بين الديانات والمذاهب، والتي أدّت إلى نزعة العلمنة، وتقدّمت خطوة إلى الإمام، حين أكّدت على إخضاع كلّ الأديان والعلوم والمعارف للعقل المجاوز الذي يمثل الميتافيزيقا على حقيقتها، بالتالي ذهبت إلى الحديث عن جوهر الدين وعوارضه، وعدّت الأديان الحقيقيّة، من: إسلام ويهودية ومسيحية وهندوسية وبوذية، تمتلك جوهرًا واحدًا، وما نراه من طقوس وعبادات هي أعراض تطرأ على الدين؛ لتعبّر بشكل رمزيّ عن هذه الحقيقة الدينيّة الجوهرية الواحدة، والمشكَّلة دائمًا، فتتمثل في الإعلاء من هذه الأعراض، أو فكّ رموزها بشكل خاطئ.

تجنبًا للإطالة، وحتى لا نقع في أحكام قيميّة قبل البدء بالموضوع، يطرح هذا العدد من مجلة المحجة موضوع الروحانية المعاصرة، أو الحكمة الخالدة، ويضعه تحت المجهر، وقد انطلق العمل على هذا المحور من مجموعة أسئلة، أهمّها:

ما هي الحكمة الخالدة؟ وكيف قدّمت نفسها؟ كيف نظرت إلى الأديان؟ لماذا طرحت موضوع التقليد؟ وما هو هذا الأمر؟ وما هي علاقته بالأديان؟ وهل ما طرحته يبرر التعدّدية الدينية؟ وهل التعدّدية الدينية تنحصر فيما آلت إليه؟ وهل يجوز لها أن تأخذ جانبًا من الديانات، وهو البعد الوحياني، وتُهمل الأبعاد الأخرى، كالتشريع مثلًا؟ وهل يصحّ اعتماد نظرة توفيقيّة تختزل الأديان في نزعة كلّيّة، في سبيل إقامة علم حديث، يستند إلى مبدأ إلهي؟ وهي عندما تستعير من الأديان ما يحقّق حالة معنوية، ثمّ تقوم بتهميشها، هل تسعى إلى دين بديل من أجل معالجة تكوين البعد الروحي، وإعادته لدى الإنسان؟

وما هي علاقة الحكمة الخالدة بالتصوّف؟

ما هي علاقة الحكمة الخالدة بالديانات الشرقيّة القديمة، لا سيما الهندوسيّة؟ وهل نقلت الدين من حالة مجتمعيّة إلى تجربة روحيّة، عندما جعلتها قاعدة لها؟

هل تُبَرَّر الحالة الاعتراضية للحكمة الخالدة بمواجهة النظرة الغربية التشيئيّة؟ وهل جعلت الغرب مركزًا من جديد، حين وضعت نفسها قاعدة للحكم؟ وهي عندما وضعت معيارًا انتقائيًّا من الدين، وعملت على إنشاء تيار فكر كوني للفضائل الكونية، ألم تأخذ من الدين ما يخدم الإنسان، وليس قصديّة الخالق من الخلق؟ وفي هذا الموضع، ألم تتوافق الروحانيّة مع الحداثة بجعل الإنسان المحور، خاصة أنّ ما قُدِم في هذا التيار، هُمّش فيه الإلهي لصالح الإنسانيّ؟

وثمّة أسئلة عديدة تستحقّ الإجابة في هذه المرحلة، حيث أخذ هذا التيار في التقدم، واحتلّ موقعًا بين المثقّفين، وعبّر عن نفسه في مؤسسات ودول، تعمل على ترويجه.

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب الحوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث.

يمثّل البحث الأول “حكمة مجاوزة لكل الأزمان والأماكن.. مقدمة إلى الفلسفة الخالدة” لصَموئيل بِندِك سوتيلّوس، انطلاقة ملف العدد. يعرض الباحث فيه معاني الفلسفة الخالدة، ومصدر انطلاقة التسمية، وتسلسلها التاريخي، وأعلامها، وكيفية فهم أديان العالم المختلفة من خلالها.

يعرض سيد حسين نصر في بحثه “العلم المقدّس” المعاني المختلفة التي يحملها هذا العلم، ويناقش فيها، ثمّ يتبنّى كونه يرادف الميتافيزيقيا، بما هي العلم المطلق بالحقيقة، حيث يستطيع الإنسان بواسطته التمييز بين الحقيقة والوهم، ومعرفة الأشياء في ذاتها، أو كما هي، وبالتالي معرفتها من خلال معرفة الله.

وتشير الورقة البحثية الثالثة التي تحمل عنوان “ما هو التقليد؟” إلى تعريف نصر للتقليد، وما يمثّل بالنسبة إلى الأديان المختلفة، من قبيل: الهندوسيّة، والبوذيّة، والتاويّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام؛ ليصل إلى الحديث عن ارتباطه بالحكمة الخالدة التي يبيّن من خلالها أنّ المقدس، بما هو مقدّس، هو مصدر التقليد.

أمّا البحث الرابع “توضيح العلم القدسي في الاتجاه التقليدي للدكتور السيد حسين نصر وتحليله”، فقد شرح عبد الحسين خسروبناه فيه مقصود نصر من العلم الذي يتمثّل العلوم التجريبية الرائجة في الغرب، وبيّن أنّ الحكمة الخالدة هي أهم مبنى من مباني العلم القدسي، والهدفُ المتعالي للتقليدِ هو إظهار وجه معشوق الكل.

كما نقد منصور مهدوي وحميد پارسانيا في بحثهما “تقويم الحكمة الخالدة” منهج الحكمة الخالدة ومبانيها، كما طرحها أصحاب المدرسة التّقليديّة، وعرضاها على أساس ميزان العقل، ثمّ قايساها مع الحكمة عند السّهرورديّ، وأظهرا نقاط التّمايز والاختلاف بينهما.

وأظهر البحث السادس لأحمد ماجد “الغرب والميتافيزيقا المستحيلة: رينية غينون، وإمكان تأسيس ميتافيزيقا مشرقية” فكرة غينون في تأسيس ميتافيزيقا، انطلاقًا من النموذج الشرقي، لأنّه يرى عجزًا عن بناء ميتافيزيقا غربيّة تواجه معوّقات عديدة، أهمّها الانصياع للثقافة الماديّة التي حوّلت الإنسان إلى مجرد أداة في وسط عالم ماديّ.

وحقّق حسين حسيني في بحثه “التقليد والحكمة الخالدة: معناها ونطاقها وخصوصياتها” في ما يرمي إليه التقليد على مستوى الأبعاد الفكريّة للتقليديين من معنى مختلف عن التقاليد والسنن بمعناها المتعارف من حيث الآداب القديمة والرسوم والعادات السالفة، وخصوصية هذا المعنى من جهة تسييله في دنيانا المعاصرة.

أمّا البحث الثامن “تعدّد الأديان ووحدتها من وجهة نظر الشهيد مطهري والتقلديين”، لغلام رضا رضايي، فأظهر التباين في معنى التعدّديّة الدينيّة عند التقليديين الذين يتحدّثون عن التعددية الواقعية، وعند مطهري الذي يقول بالتعددية في سُبل النجاة؛ لأنّ الدين واحدٌ منحصر بالإسلام، وأنّ جميع الاختلافات ترجع إلى الشرائع.

والبحث الأخير في ملف العدد، هو لعلي رضا قائمي نيا، بعنوان: “الوَحدةُ المتعاليةُ للأديان”، وهي تعبيرٌ عن نظرية أتباع المدرسة التّقليديّة في مسألة تعدُّد الأديان، فصَّلها لأوَّل مرّة فريجوف شيون (Frithjof Schuon) في كتابه، حيث قدّم الكاتب توصيفًا للنظريّة، ثمّ بيّن نقاط ضعفها.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الباحث نوّاف الموسوي، منطلقة من تجربته في ترجمة جزء من نتاج هنري كوربان الذي أسّس لروحانيّة ملتزمة مستقاة من تعلّقه بالإمام الثاني عشر عند الشيعة الإماميّة، متحدّثًا عن خفايا الترجمة، والبحث عن المصطلحات، موضحًا أهميّة ما قاربه كوربان، وقدّمه.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه أربعة أبحاث.

عالج شفيق جرادي في بحثه “الخوف بين التفلسف والتديّن وعوائد الأيّام”، الخوف كظاهرة إنسانيّة من وجهة نظر الفلسفة والدين. عرض معناه، ومسارات تداوله في الحياة الإنسانيّة والدينيّة والمسلكيّة، وما يمثّل الخوف من مصاديق في مسير الإنسان التكاملي.

ولفت مهدي زماني في البحث الثاني بعنوان: “الفيدانتا، الفلسفة الإلهية للديانة الهندوسية”، إلى مراتب الواقعية الخمس في الفيدانتا وقارنها مع الحضرات الخمس في العرفان الإسلامي. وقد فصّل الكاتب في معاني الشعارات الأساسية في مدرسة الفيدانتا، رابطًا إيّاها بآثار رينيه غينون، وفريتيوف شوان.

أمّا البحث الثالث فهو لحسين صفي الدين، عرض فيه “التأسيس الميتافيزيقي للأخلاق عند إيمانويل كانت”، من المبنى المعرفي عنده، وصولًا إلى البنيان الأخلاقي عنده، ومصادرات العقل العملي الثلاث: الحريّة، وخلود النفس، ووجود الله.

وعرض شادي علي في البحث الأخير “محاولات تفكيك الإسلام: عرض وتحليل ونقد .. أركون نموذجًا”، مشروع أركون الفكري، وسماته العامّة، ونظرته إلى القرآن كنصّ وخطاب ووحي، فضلًا عن رؤيته العامّة للإسلام. ثمّ فصّل في نقاط ضعف أركون ومشروعه.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

الخوف بين التفلسف والتديّن وعوائد الأيّام

عالج الكاتب في مقاله الخوف، كظاهرة إنسانيّة من وجهة نظر الفلسفة والدين. عرض معنى الخوف، ومسارات تداوله، ضمن نحوين: الأول: الخوف العبادي، والثاني: الخوف البلاغي، أو الإبلاغي. وأجاب عن أسئلة جوهريّة من قبيل: هل الخوف حقيقة من الحقائق التي زكّاها الدين والفلسفة، عندما كانت مورد تفلسف في حياة التديّن، أو الإنسان عمومًا، أم أنها وهمٌ يقع خارج إطار المؤثّرية؟ وهل إنّه حيلة سبيل للوصول إلى مبتغى، أم أنّه سبيل بعينه، يؤدّي إلى الصراطيّة في التوجّه؟ وهل في الخوف مقدّرات لبناء نظام أخلاقي وسلوكي، أم أنه شرط توجّه لنظام ما؟

Fear in the Context of Philosophizing, Religiosity, and Unforeseen Future

Sahfiq Jradi

Abstract

In his paper, the author examines fear as a human phenomenon through the prism of philosophy and religion. He defines fear and presents its framework within two facets: Khawf ʿIbādī (i.e fear experienced during ritual worship) and khawf Balāghī or ʾIblāghī (i.e fear used as a general measure for managing people’s affairs). In addition, he answers important questions, such as: Is fear one of the realities that religion and philosophy praised when it was a philosophizing subject in religious life or humans in general? Is it merely an illusion that has no influence? Is it the independent route leading to the right destination, or is it just a mean leading to the desired destination/an end? Are there any capacities in Fear that allow for establishing an independent ethical-moral system, or is it merely one factor in establishing a specific system?

ما هوَ التَقْليد؟

سيّد حُسين نَصْر

ترجمة: محمود يونس

تعرض هذه الورقة – وهي الفصل الثاني من كتاب المعرفة والمقدّس للسيد حسين نصر – مفهوم التقليد، وتعريفه، وماذا يمثّل بالنسبة إلى الأديان المختلفة، من قبيل: الهندوسيّة، والبوذيّة، والتاويّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام، أو أيّ دين حقيقيّ آخر، فضلًا عن ارتباط هذا التقليد بالحكمة الخالدة، وما يبغي حسين نصر منه.

والمقدّس، بما هو مقدّس، هو مصدر التقليد، وما ينتقده التقليدُ في العالَم الحديث هو الرؤية الكونيّة الكليّة، والافتراضات والأسس التي – من وجهة نظره – تكون خاطئة، إذ ترى الخيرَ في العالمِ عرضيًّا، لا جوهريًّا.

 

What is Tradition?

Seyyed Hossein Nasr

Translated by Mahmoud Younes

Abstract

The present paper is the second chapter of Seyyed Hossein Nasr’s book: Knowledge and the Sacred. It examines the concept of tradition, its definition, its relation to perennial wisdom (sophia perennis), and what it represents for various religions—Hinduism, Buddhism, Taoism, Judaism, Christianity, Islam, or any other true religion. Moreover, it looks at what Nasr meant when he used the term “tradition”.

The sacred as such is the source of Tradition. What tradition criticizes in the modern world is the total world view, the premises, the foundations which, from its point of view, are false so that any good which appears in this world is accidental rather than essential.

العَبر مناهجيّة كإطارٍ منهجيّ لتجاوز جدال الدين والعلم

تمكّنت المناهجيّة التقليديّة من تثوير المقولات العلميّة ومراكمة المعرفة في مجالات اشتغالها. بيد أنّها تأسّست على قطيعة حادّة بين الذات والموضوع، وارتهنت، بشكل عامّ، لاختزاليّة صارمة كان هاجسها الوصول إلى مستوًى أساس من الواقع تُردُّ كلّ الأشياء إليه، ما أفقدنا الفهم الحقيقيّ للواقع في حركيّاته. وهذا ما دفع إلى إعادة النظر في المباني الأنطولوجيّة والمنطقيّة والإبستمولوجيّة التي قامت عليها هذه المناهج، وصولًا إلى مقاربة عبر مناهجيّة تقول بتعدّد مراتب الواقع، وبإمكانيّة العبور من مرتبة إلى أخرى بالتحرّر من منطق الثالث المرفوع. أمّا المساحة (مساحة عدم المقاومة) بين مستويات الواقع، فهي من الغنى بحيث يستحيل الفهم الحقيقيّ للعالم دون التعاطي معها، وهذا ما تعجز عنه المناهجيّة التقليديّة. في حين تُعنى العبر مناهجيّة بالديناميّات التي تتاتّى من الاشتغال على أكثر من مستوًى من الواقع في الوقت عينه مع مراعاة مساحات عدم المقاومة، وهذا هو المفتاح الوحيد لفضّ إشكاليّة العلم والدين لتفاوتهما من حيث الانتماء إلى مستويات الواقع.

Traditional methodologies were once capable of revolutionizing the scientific enterprise, leading to an unprecedented accumulation of knowledge, and bringing about mental shifts that transformed our way of life. Nonetheless, these were built upon a severe split between the subject and the object, and were totally taken by an unyielding reductionism which aimed at reducing everything to one single level of reality. Dynamic reality thus becomes elusive, out of epistemic grasp.

A revision of the ontological, logical and epistemological underpinnings of current methodologies, brings us close to a transdisciplinarity admitting of multiple layers of reality, and of the possibility of moving from one layer to another by abandoning traditional (excluded middle) logic. As to the zones between the various levels of reality – zones of non-resistance to our experiences, representations, descriptions, images, and mathematical formulations – these are so epistemically rich to the extent that ignoring them would make the understanding of the world utterly impossible; this is precisely what traditional methodologies do. Transdisciplinarity, on the other hand, concerns itself with the dynamics that result from tackling more than one level of reality at once, while paying full attention to the epistemic potential of non-resistance zones. Considering the nature of the religion-science debate, investing in transdisciplinarity might prove the only way to settle this debate.

السياسة بين الاستقلال والتبعيّة: رؤيةٌ تأسيسيّةٌ

يُبالغ البعض في تبعيّة السياسة للدين، أو للأخلاق، أو للاقتصاد، في مقابل مبالغة البعض الآخر باستقلاليّة السياسة عن أيّ مذهب من مذاهب هذه الأنشطة الإنسانيّة. وعادةً ما تتأسّس هذه المبالغات على رؤًى أيديولوجيّة.

في هذه العجالة نضع هذه الإشكاليّة العريقة موضع المعالجة من خلال النظر إلى السياسة، أيّ سياسة، من زاوية كونها نشاطًا له موضوعه، وأهدافه، ووسائله، وجدليّاته النوعيّة، من جهة، وفي واقعها المشخَّص الملموس كما يتجلّى في التجربة الحيّة لأيّ فاعل سياسيّ، وذلك بمعزل عن أيّ خلفيّة إيديولوجيّة.

Many an observer tend to overstate the subservience of politics to religion, or ethics, or economics, while others exaggerate the autonomy of politics vis-à-vis any of the schools of thought sponsoring the mentioned human activities.  More often than not, such exaggerations hinge upon ideological views.

            Here, we put to examination this time-honored problematic through, on the one hand, engaging politics, any politics, inasmuch as it is an activity  with  distinct aims and dialectics, and a  definite subject-matter. On the other hand, we would approach politics inasmuch as it is a reality lived and experienced in any political action.

 

إلحاد فريدريخ نيتشه (1844 – 1900)

وُجِّهت إلى المسيحيّة في صيغتها القروسطيّة نقود شتّى، ولعلّ أشدّها حضورًا إلى اليوم ما يُنسب إلى فريدريك نيتشه (1844-1900) الذي حمل على المنظومة اللاهوتيّة والمؤسّسة الكنسيّة سواء بسواء، مستهدفًا بذلك المرجعيّة الفكريّة والسلطويّة في الدين المسيحيّ. يبدي نيتشه تبرّمه من التصوّرات المسيحيّة خصوصًا في نبذها لبهجة الحياة واتّسامها بالكآبة والرتابة والخنوع، وقتلها الإبداع الإنسانيّ وكبتها لآفاق يمكن للبشر أن ينطلقوا إليها بعد أن يتحرّروا من الأوهام التي يأسرهم الدين في أسوارها. غير أنّ نيتشه لا يكتفي بالهدم، بل يجهد في رصد تحوّلات الفكر الإنسانيّ التي من شأنها تشييد صرح فكريّ يمكن له أن يستبدل المسيحيّة وإلهها الذي أعلن موته بأكثر من صورة. وفي الانعطفات الحادّة التي يمرّ بها فكر نيتشه في تحدّيه لمقولة الدين عمومًا، يتمخّض النقد تصوّرًا لعالم جديد ولإنسان جديد يفترق افتراقًا بيِّنًا عن ذاك الذي تتقلّبه أيدي المنظومة الدينيّة – المسيحيّة بشكل أخصّ؛ إنسان نيتشه الجديد متصالح مع هويّته، متفوّق، سيّد، ومطلق الحرّيّة في إرادته.

Christianity, in its medieval form, has been much criticized; arguably, the strongest of these criticisms is attributed to Friedrich Nietzsche (1844-1900), who attacked the theological matrix and Church establishment alike, targeting the Christian faith’s intellectual and authoritative center. Nietzsche shows his resentment of Christian conceptions, especially in their dismissal of the joy of life, painting it as dreary, melancholic, and submissive, thereby killing human creativity and repressing horizons men could have sailed towards after they were free from the illusions religion uses to keep men within its confines. However, Nietzsche is not satisfied with just demolishing, rather he is hard at work monitoring the changes of human thought capable of building an intellectual monument that can replace Christianity and its God, whom he had declared dead in more than one way. In the sharp turns Nietzsche’s thought undergoes in his challenging of religion in general, his criticism sees the birth of a conception of a new world and a new man, completely different from the man resting in the confines of the religious matrix – Christianity in particular; Nietzsche’s new man is at peace with his identity, he is superior, a master, and completely free in his will.

الله والدين في مرآة الإلحاديين الجدد

ما الذي يمكن أن يكون عليه القول في مسألة الإلحاد؟ وهل هناك ما يسوّغ للبحث وسط ركام من ادعاءات لا يجمع بينها سوى طموح جامح؟ هل نبحث في مشكل فلسفي أم ديني أو مجرد ظاهرة اجتماعية أو نفسية؟ ألا يتضمن بحثنا اعترافًا مسبقًا بوجود مسألة جديرة بالتمثل والفحص كإشكالية راهنة، أم أن الإلحاد الجديد – على الرغم من إلحاح المعالجة – لا يعدو في مجمله الزبد الذي يطفو على هامش الواقع الديني قبل أن يذهب جفاءً؟ ألا يفترض إحالة البحث لعلماء الاجتماع أو النفس بأن يترصدوه بالدراسة دون أن يرقى لمستوى الإشكالية الفكرية التي تجاري الاهتمامات الكلية للبشر؟ هل يمتلك الإلحاد أصالةً في مقابل الدين تدفع للبحث فيه من منطلق الندية كما يدعي أتباعه، أم أنه لا يتجاوز في كينونته المعاصرة ذلك العبث التشكيكي الذي لا يكل عن محاولة نشر غسيله على جدار اليقينيات والإيمان الديني؟

What can be said about atheism? Is there any justification for rummaging in a pile of allegations that share nothing in common but wild ambition? Are we looking into a philosophical or religious problem or nothing more than a social or psychological phenomenon? Is this paper not an implicit admission of this matter being worthy of examination as an established problem, or is modern Atheism – despite incessant attempts to address it – nothing but the scum that floats on the sidelines of religious reality before it leaves as dross? Would this matter not best be relegated to social scientists or psychologists who would study it without it rising to the station of intellectual problems that address man’s general concerns? Does atheism possess authenticity vis-à-vis religion that warrants driving investigation into it on equal grounds with religion, just as its followers claim? Or does its contemporary state not surpass the skeptical absurdism that continues to hang its dirty laundry on the wall of certainties and religious belief?

الإلحاد، أيديولوجيا الإنسان المبتور

أيّ إنسان يريده الدين؛ وأيّ إنسان يريده الإلحاد؟ سؤال مقيم ترسم محاولات الإجابة عنه مسار الجدل الحادّ الذي يتوسّع يومًا بعد يوم بين طرفَي النزاع. وفي حين يصرّ الملحدون على تحرير أنفسهم من قيود الدين وصولًا إلى قطع الصلة به نهائيًّا، يتفطّن المتديّنون لمآلات الانجرار وراء التركيز على عناوين من قبيل “الإرادة الحرّة”، مثلًا، ويجدون فيها توظيفات يحرص خصومهم من خلالها على جذب الانتباه وتحفيز الآخرين على الانضمام إلى ركبهم. ولمـّا كان الإنسان محور هذا النقاش المحتدم، فإنّ رهان أهل الدين منعقد على مقابلة الخصم بتوظيفات أشدّ إحكامًا لا تنقض جوهر حرّيّة الاختيار عند الفرد، ولكنّها في الوقت عينه لا تبالغ في إطلاق يده من غير عقال، وذلك لكيلا لا يؤدّي الإمعان في نبذ الدين إلى “بتر” قسريّ وقهريّ للإنسان عن الدور الذي يريده الدين له. وهو دور لا يـني المتديّنون يؤكّدون على أنّه – وإن حُفَّ بالتزامات ومعايير تتفاوت في اتّساعها ومرونتها – يحفظ الإنسان من الانقطاع العبثيّ والعدميّ عن مرجعيّة أخلاقيّة وقيميّة ضامنة.

What kind of man does religion seek? And what kind does atheism seek? An enduring question that attempts to delineate the path of intense arguments that expands continuously between the two parties of the conflict. Whereas atheists insist on freeing themselves of the restraints of religion, completely cutting their ties from it, the religious are becoming increasingly aware of the consequences of focusing on notions such as “free will”, for example, discovering uses for them through which their adversaries attempt to draw attention and motivate others to join their ranks. Since man is at the center of this heated debate, the religious are set on meeting their adversaries with better employment for these notions that do not contradict the essence of personal freedom of choice, while at the same time not leaving it free of restraint, so that efforts to cast away religion would not forcibly mutilate the role religion intends to man; a role the religious assert it – even if it should be involved with commitments and standards of varying scope and flexibility – keeps man from being vainly and uselessly cut off from a guaranteeing moral and axiological reference.

منهج العلّامة الطباطبائيّ في فهم الإسلام

إنّ قراءة الإسلام في منهج العلامة الطباطبائي متوقّف على فهم المراد من الإسلام؛ فبلحاظ أنّ الرؤية العامّة لمكوّنات الدين الإسلامي وفق العلامة الطباطبائي كان للنصّ القرآني حضورًا محوريًّا في تشكيل الصورة والجانب القرآني جانب إلهي من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المضمون نفسه يستعرضه العامّة في سياق كونه فطريًّا أو عقليًّا أو فطريًّا وعقليًّا، وبالتالي هناك تناسبيّة حاكمة في كلّ الأبعاد الدينيّة، ستطرح المضامين دائمًا في سياق تفاعلي بين الجانب الإنساني والجانب الإلهي.