الطبيعة، إذًا، ملاك التوجّه، والـمَصيغة بمقتضياته[1]. ثمّ إنّ أفق التوجّه عند الإنسان يوازي الوجود على إطلاقه. فالإنسان بمثابة “النسخة المنتخبة” من كتاب الوجود[2]. هذا في مقابل الوجودات الأخرى التي لها حصّة وجوديّة منحصرة – إلّا أن تصير إنسانًا[3] – وهو قول الملائكة، على سبيل المثال، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[4]. والطبيعة “مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها“[5] – أو على أساس مبدئها؛ لا فرق، إذ الوجهة والمبدأ يتقاطعان على موضوع واحد. وإذ تتأبّى الطبيعة السكون، فإنها تختار لها وجهةً تقصدها (وإلّا اختيرت لها وجهة)، وتتشبّه بها إذ تتحرّك نحوها.
لا يبدأ الإنسان حياته بتوجّهيّة مطلقة، بمعنى أنّه يستطيع أن يصير أيّ شيء. فهو ليس غير محتجب عن كلّ الوجهات المتاحة، وليس مطلق العنان في تشخيص الوجهة، أو تخيّرها، والثبات عليها. بل طبيعته قد تخصّصت بموجب ملاكات مولده في زمان ومكان معيّنَين، وكافّة الحيثيّات المرتبطة به (المولد)، بل السابقة عليه. وهذا منشأ ما يُطلق عليه “الطباع”. إذ لكلّ فرد طبعه الخاصّ الذي منه يشرع بتلمّس الوجهات، ويحاكمها على ضوء الحصّة التي أوتيها، والتي تتمثّل بقابليّات بدنيّة، وعقليّة، وخياليّة، وإراديّة، وشعوريّة محدّدة ابتداءً. إلّا أنّ التوجّهيّة المطلقة، الكامنة في الطبيعة الإنسانيّة الأصليّة، أي السابقة على كلّ تخصّص، تملك أن تهيّئ للإنسان أسباب تجاوز شروط الزمان والمكان، أو، إن شئت، تجاوز طبعه. وإذ يسلك الإنسان مساره الدنيويّ بموجب وجهة حُدِّدت له ابتداءً – ليس ثَمَّ من سبيل آخر[6] – فإنّه، شيئًا فشيئًا، يستعيد زمام وجهته، وإن ظلّ محكومًا للمقتضيات أو الملاكات الأولى – مع قدرته على محاكمتها، فتجاوُزِها، دومًا، وهذه القدرة تضمحلّ وتشتدّ بموجب خياراته وتصريفات إرادته. هنا، يقول الملّا صدرا الشيرازي: “إنّ القوى الفعليّة [في الإنسان] بعضها يحصل بالطباع [وقد عرفتَها]، وبعضها يحصل بالعادة [أي بتكرار أفاعيل غير مقصودة]، وبعضها يحصل بالصناعة [أي مع قصد ومزاولة]، وبعضها يحصل بالاتّفاق [أي جرّاء التقاطع مع نظام الطبيعة العامّ الذي يتّخذ الإنسان فيه موقعًا غير نهائيّ – وهذه اللا-نهائيّة نهائيّة[7] ما دام في مهلته الدنيويّة، فلا تستقرّ إلّا عند الموت الذي هو بمثابة نفاد هذه المهلة]”[8].
إلّا أنّ الأصل، في المسألة، امتلاك الإنسان خيار تحديد الوجهة. ولا أقول بانعدام الاختيار مطلقًا خارج الأفق الإنسانيّ. الأولى أن نتريّث. ولسنا مضطرّين، في سبيل تأكيد الخصوصيّة الإنسانيّة، أن نجعل قطيعةً بين الإنسان وباقي الموجودات. ولكن، بقول عامّ، فإنّ الإنسان يمتاز عن غيره بسعة أفق توجّهه، وبكونه صاحب قول – لا أقلّ – في تحديد الوجهة. أمّا المحكّ فهو الاختيار الصائب للوجهة. وإن كانت كلّ الموجودات متوجّهةً شطر الحقّ بفعل الخميرة المفعّلة لها، والكامنة فيها، أي الطبيعة بما هي مبدأ الحركة، فإنّ الإنسان يندرج في هذا المسار الحتميّ، بلحاظ زمنيّته، أو تزمّنه، ويجافيه – وإن إلى حين – بلحاظ اختياره. فعلاقة طبيعته الخاصّة مع الطبيعة بالعموم، أكثر جدلًا من علاقة الموجودات الأخرى، بطبائعها الخاصّة، مع الطبيعة العامّة، لمحلّ الإنسان من الوجود. فالطبيعة الإنسانيّة تختصر كلّ هذه الطبائع الخاصّة. ومتى تحقّقت في كمالها، فكأنّما كمال الوجود، أو الوجودات، قد تحقّق. وهذا، مرّةً ثانيةً، مغزى كون الإنسان – متى ما اكتمل في طبيعته – وجهَ الله. وهذا سرّ وجاهته عند الله، أي كونه مدخلًا إلى الله، تقف عند أعتابه كافّة مسارات كدح الموجودات إلى الله. وهذا معنى العالم الأصغر، والإنسان الكامل.
هذه، في العموم، هي المترتّبات على فهمنا للطبيعة البشريّة كما عرضنا له في الافتتاحيّة السابقة. ومع تخصيصنا عددين كاملين لموضوعة الطبيعة البشريّة، فإنّ الأسئلة، على ما يبدو، ليست بوارد أن تُشبَع بهذا المقدار، أو أضعافه، من المعالجة. ويبدو أن الأسلم هو حصر الأسئلة على أمل أن يظلّ، في العددين، ما يشكّل، أقلّه، مؤشّرًا لأيّ معالجة تصبو لأن تكون وافيةً. وقد ألمحتُ إلى مركزيّة الارتباط الأخلاقيّ بموضوعة الطبيعة البشريّة، وأريد، في المتيسّر من المساحة – ولعلّ القارئ يعذرني على ما اعتاده من التطويل – أن أردفه بتلميح آخر. كما أريد أن أعرض لإشكاليّة الاكتفاء بالطبيعة في تفسير الطبيعة. ومن هذه المسألة المعرفيّة أشرع، مؤخِّرًا المسألة الأخلاقيّة قليلًا لتقاطع بينهما.
يقرّر الملّا صدرا – انسجامًا مع قوله بالحركة في الجوهر، وبأنّ الحركة هي المتحرّكيّة، وأنّ الزمان مقدارها، لا علّتها – أنّ المبدأ القريب لأفاعيل النفس، وحركاتها المخصوصة، ليس أمرًا مفارقًا عن المادّة[9]، سواء أكانت الحركة طبيعيّةً، أو قسريّةً، أو إراديّةً[10]. وهذا المبدأ هو الطبيعة “التي بسببها يطلب الجسم بالحركة كمالاتها الثانية”[11]. وعليه، فللطبيعة كمالات ثانية مطيّتُها إليها المادّة (الجسم) التي انوجدت معها[12]. وبعد، فهي، لا سواها، سبب الطلب إيّاه، أي طلب الكمالات. وهذا معنى قولنا، مجدّدًا، هي ملاك التوجّه، والمصيغة بمقتضياته.
يتابع الفيلسوف قائلًا:
وكلّ ما يكون من لوازم وجود الشيء الخارجيّ فلم يتخلّل الجعل بينه وبين ذلك اللازم بحسب نحو وجوده الخارجيّ، فيكون وجود الحركة من العوارض التحليليّة لوجود فاعلها القريب؛ فالفاعل القريب للحركة لا بدّ أن يكون ثابت الماهيّة متجدّد الوجود. وستعلم أنّ العلّة القريبة في كلّ نوع من الحركة ليست إلّا الطبيعة، وهي جوهر يتقوّم به الجسم، ويتحصّل به نوعًا، وهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ من حيث هو بالفعل موجود[13].
النصّ، بالتالي، يجعل تمييزًا بين نحو الوجود الخارجيّ ونحو الوجود الذهنيّ (التحليليّ). وحيث المتحرّك ومبدؤه واحد في الخارج، بمقتضى جعل واحد، فإنّ الذهن يحلّل هذه الوحدة، وهي سيّالة متحرّكة في الخارج، إلى مبدإ ومتحرّك ثابتَين، وهكذا تكون الماهيّات على أيّ حال. هذا لا يعني أنّ الطبيعة ليس لها نحو ثبات في الخارج، بل “ثبات الطبيعة الكائنة في الأجسام هو عين تجدّدها الذاتيّ”[14]، تماما كما أنّ العدد واحد في عين أنّه كثير، كما يمثّل الملّا صدرا في محلّ آخر. وهذا الثبات هو ما يهبها هويّةً، أي استقرارًا، إلّا أنّ الملّا صدرا يصف هذه الهويّة بالمتراخية، أو التدريجيّة[15]، إذ تتعاقب عليها الصور بفعل حركتها المطّردة نحو وجهتها، فتصبغها بأطياف من الهويّة. ولا تفاوت في الأمر بين الحركة القسريّة، التي تعمّ الكائنات، والحركة الاختياريّة، التي يتفرّد الكائن البشريّ بها – أو بمرتبتها الخاصّة، إذا ما توخّينا الدقّة. إذًا، الهويّة الإنسانيّة هويّة ما فتأت في طور الإنشاء؛ تزداد وتغيض، تشتدّ وتضعف. لذا كانت، على الدوام، مورد إقلاق للمنهج الفلسفيّ الذي يريد أن يحسم أمرها، مرّةً وللأبد، في توقه المفرط إلى اليقين البتّيّ.
وكملاحظة أخيرة على النصّ، فإنّنا عندما نلاحظ الطبيعة في حيثيّة ثباتها فهي عينها النفس؛ “النفس من حيث ذاتها [فهي] العقليّة [عقليّة]، وأمّا من حيث تعلّقها بالجسم فهي عين الطبيعة”[16]. ولا تكون النفس مبدأً للحركة – إذ لا بدّ لمبدإ الحركة القريب أن يكون متحرّكًا – إلّا باستخدام الطبيعة[17]. ولذا كان تعريف الشيرازي للطبيعة هو عينه التعريف المشهور للنفس[18].
ما ينتابني من سؤال، في هذا الموضع، يتّصل بتداعيات القول بعدم كون مبدإ الحركة (القريب) مفارقًا. فإذا كان مبدأ فاعليّة الطبيعة، أي ملاك الحركة، والتوجّه، وتلمّس المقصد، متضمَّنًا في الطبيعة إيّاها، فهل تكتفي بذاتها، وتنفكّ عن كلّ مفارق؟ هل إنّ القول بمبدإ قريب للحركة، غير مفارق، يجذم الحاجة إلى القول بمبدإ مفارق، أو بمحرّك أوّل متنزّه عن طروء الحركة والحدثان؟
لا ريب أنّ مبنى الملّا صدرا الفلسفيّ يقدّم منظورًا استثنائيًّا فيما خصّ هذه الموضوعات، وما شاكلها. ولعلّنا لم نتوافر بعد على الأدوات التي تمكّننا من تعهّده، بما يليق، لشدّة ما يخالف حدوسنا المشحوذة برؤًى للعالم أسبغتها علينا فلسفات الجوهرانيّة الحادّة والثنائيّات المتصلّبة. فالطبيعة عنده سارية متحوّلة، والأكوان الجوهريّة متجدّدة، والكلّ عنده وجود واحد، متّصل، مترتّب، متصاعد، تدلّ وحدته الجمعيّة على وحدته الشخصيّة. ولقد ولدّ هذا الاعتراف المتأخّر بقابليّات الطبيعة الخلّاقة إحراجًا كبيرًا للبنى الفلسفيّة واللاهوتيّة التقليديّة، وأغرى التيّارات اللاحقة، التي قامت على القطيعة والاختزال والاجتزاء، بحصر الواقع في الطبيعة، والاقتصار عليها لفهم الواقع وتفسيره.
ولذا تطغى الطبيعانيّة naturalism على المشهد الفلسفيّ الراهن. إنّها بمثابة ترويض للوضعيّة، وتطوير لها، مع عدم مخالفتها لها في مسبقاتها الأساسيّة (أصالة المادّة، وما يتفرّع عنها). وهي، بعد، بمثابة الأيديولوجيا الحاكمة في الفلسفة التحليليّة اليوم[19]، وإن تمظهرت المسبقات المذكورة في غير شكل فلسفيّ. للطبيعانيّة جذورها القديمة، بالطبع، لكنّ مقالة كواين “طبعنة الإبستمولوجيا”[20] قد مثّلت محطّة تزخيم بارزة للتيّار الطبيعانيّ – خاصّةً على ضوء مركزيّة الإبستمولوجيا المستجدّة – ولمشاريع الطبعنة التي اكتسحت مجالات نظريّة المعرفة، والمِتافيزيقا، وفلسفة الذهن، ونظريّة المعنى، والفلسفة الأخلاقيّة[21].
تقوم الطبيعانيّة على (1) القول بإغلاق العالم سببيًّا، واكتفاء المادّة بذاتها، وعلى (2) الالتزام بـ”المنهج العلميّ” كمصدر وحيد للمعرفة. وبالتالي، فالعلم (الوضعيّ) لا ينتج المعرفة فحسب، بل يوفّر الأساس (المتافيزيقيّ؟) لها. ويكمن السبيل إلى ذلك في استقراء عمليّة إنتاج المعرفة العلميّة، ومحاكاتها من ثمّ. ولهذه الغاية، ينبغي اختيار حقل علميّ تكون لها حظوة خاصّة – كما فعل كواين مع علم النفس (السلوكيّ)، أو كما حصل مع العلوم الإدراكيّة العصبيّة ونظريّة التطوّر لاحقًا – فنستقرئ آليّاته الداخليّة، لنستنبط منها أحكامًا تبرّر الإنتاج المعرفيّ في حقول أخرى. الهاجس هنا هو تبرير المعرفة على أنّها علميّة؛ فـ”لقد طغى على الإبستمولوجيا[22] الحديثة مفهوم واحد، التبرير، وسؤالان تأسيسيّان يرتبطان به: ما هي الشروط التي تبرّر قبول اعتقاد [معرفيّ] ما على أنّه صادق؟ وأيّ الاعتقادات مبرَّرٌ لنا قبوله في الأصل؟”[23] – إنّه الإرث الديكارتيّ (ديكارت مجدّدًا[24]). وعليه، فما تنهض به الطبيعانيّة هو “صوغ شروط تبرير الاعتقاد على أساس وصفيّ، أو طبيعانيّ، حصرًا، دونما لجوء إلى أيّ أسس تقييميّة، أو معياريّة، سواء أكانت هذه الأسس إبستمولوجيّةً [الماقبليّات a priori مثلًا] أو ما سوى ذلك”[25].
إلّا أنّ معاداة المعياريّة، الصارخة في المقاربة الطبيعانيّة، تسلبنا كلّ سند معرفيّ، ولات حين فلسفة. هذا ناهيك بمشكلة الدور الواضحة (كيف نستخرج من علم ما، علم النفس مثلًا، الضوابط التي نحاكم على أساسها العلم إيّاه؟)، التي تلفّت لها كواين نفسه، ولم يجد لها حلًّا سوى تجاهلها[26]. بأيّ الأحوال، تصدر أغلب الاعتراضات على الطبيعانيّة من مشارب تتشارك وإيّاها عددًا من المسبقات (حول أصالة المادّة، وانحصار الواقع بها)، ولا نراها جذريّةً بما يكفي. ما تفتقر إليه كلّ التفسيرات المادّيّة هو غياب المعنى. فالتحليل (العلميّ) قد يصل بنا إلى توثيق كلّ ما يندرج في العالم المادّيّ، لكنّه لا يخبر شيئًا عن سرّ اندراجه، أو عن مغزى وجوده. ثمّ هو أعمًى فيما خصّ الوجهات التي تتّخذها هذه الموجودات. كيف أمكن لنا أن نفرّط في العلل الغائيّة، أو أن نرى تفسيرًا بالعلّة المادّيّة مفصولًا عنها؟ إنّ أيّ سؤال عن التركيب المخصوص، فلنقل، لكرسيّ ما يستدعي إجاباتين. أولاهما يفسِّر بالموادّ والإعداد، أي بـ”كيف” صنع النجّار الكرسيّ المذكور. والتفاصيل، هنا، لا حدّ لها. أمّا ثانيهما فبسيط، لعلّه يتّخذ صيغةً من قبيل “كيما نستطيع أن نجلس عليه!”. إنّ التفسير بالثاني يسبغ المعنى على التفسير الأوّل ويقوّمه. والسبب في ذلك أنّه تفسير بوجه الخير في الأشياء، أو تفسير بالغاية منها.
وهكذا في حالة العالم. ثمّة، في كلّ شيء، وفي العالم بالجملة، وجه خير يتحرّك نحوه. ما في العالم المادّيّ يشير إليه، ولكنّنا اتّخذنا قرارًا بعدم تلقّف الإشارات. فأيّ إخلال بالإغلاق السببيّ للعالم يوهن قبضة العقل الأداتيّ[27]، ويوحي بتفلّت الأمور من عقالها، والانفتاح على عالم من التفاسير الغيبيّة والخرافيّة.
وثَمَّ، من ناحية ثانية، الخطر المقابل، بأن ننغمس في عالم الغيب، ولا نرى في الطبيعة إلّا أثرًا هابطًا نتعوّذ منه. ففي الحالة الأولى، ليس الإنسان إلّا غريبًا، سقط في هذا العالم (سهوًا؟). أمّا في الحالة الثانية، فلا يعدو كونه إحدى تنويعات المادّة وقد تركّبت اتّفاقًا. إنّه الحَوَل، كما كان ابن العربيّ ليسمّيه[28]. ولا نتفاداه إلّا بأن نعضد التفسير الطبيعيّ، الذي يسلك من أسفل إلى أعلى بمعنًى ما، بتفسير يسلك من أعلى إلى أسفل، أي من الغاية إلى المغيّى. وما دمنا نغرف من عند الملّا صدرا، فإنّه يُطلق على هذا النظام السببيّ، السالك من الغاية إلى المترتّبات عليها، اسم “العناية”، أو، بالأحرى، “الفعل بالعناية”. والعناية عنده اسم لأعلى مراتب العلم الإلهيّ – “العلم بالأشياء التي [الذي] هو عين ذاته المقدّسة”[29] – حيث الإجمال في عين التفصيل، والتفصيل في عين الإجمال[30]. والله، عنده، فاعل بالعناية، أي “يتبع فعلُهُ علمَه بوجه الخير، بحسب نفس الأمر، ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيًا لصدوره عنه، من غير قصد زائد على العلم”[31]، وإلّا طُعن في صرافة الذات الإلهيّة. ويعبّر، في الأسفار، كما يلي: “ومنها [أقسام الفاعل] الفاعل بالعناية، وهو الذي منشأ فاعليّته، وعلّة صدور الفعل عنه، والداعي له على الصدور، مجرّد علمه بنظام الفعل والجود لا غير من الأمور الزائدة على نفس العلم”[32].
الآن، تنفتح المسألة على أفق واسع بالفعل، وتحتمل نقاشًا حادًّا وكثير التفرّع، ولكنّني سأكتفي بملاحظات عامّة – كي لا تكون هذه أطول الافتتاحيّات التي كُتبت (!) – تتجاوز الأفق الذي انفسح أمامنا. وسيكون لنا مجال لطرق المسألة في محلّ آخر[33]، خصوصًا على ضوء اعتراضات العلّامة الطباطبائي، وعلى ضوء تفضيل الملّا صدرا القول بكون الله فاعلًا بالعناية على كونه فاعلًا بالرضا، أي كون “علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، سببًا لوجود الأشياء”[34]. وهذا ما يعني أنّ الله يتوجّه – أقولها بشيء من التسامح – في خلقه العالمَ إلى وجه الخير في العالم، لا إلى ذاته، وإن انتفى التعارض بين الأمرَين من حيثيّة معيّنة، إلّا أن اختلاف زاوية النظر يوجب اختلافًا في المنظور إليه، وله بالغ الأثر فيما خصّ فهمنا للعالم.
ثمّ إنّ المفردة بحدّ ذاتها تنمّ عن علاقة بالعالم هي أبعد الأشياء عن أن تكون ميكانيكيّةً؛ بل قوامها الحبّ الأوّل الذي سرى، من ثمّ، في كلّ ثنايا الوجود. هو الذي أعطى الطبيعة فعاليّتها، وحرّك كوامنها، وأرسى نظامها، وأسبغ المعنى على توجّهيّتها، فكيف يتعارض معها؟ وهذا مغزى إشارتنا في العدد السابق[35] إلى عدم تعارض الأنطولوجيا والأخلاق، والدعوة إلى أخلاق تأسيسيّة تعيننا على فهم العالم وعَيْشِه. فعناية الله، بالعالم وبأشيائه، تعطيه (أي العالم) صبغةً أخلاقيّة لازمة. فالعالم قد بات متقوّمًا بمقولةٍ (العناية) هي أخلاقيّة، اكتماليّة، في صميمها.
وكما أنّ صدور العناية والمعنى عن جذر واحد قد فتح لنا مجالًا للتفكّر في تشكّل العالم سببيًّا بالصورة التي ذكرناها – إذ اللغة، في العالم، مخزون الإشارات إلى مكنوناته – فإنّنا، كذلك، لا نرى سبيلًا إلى المعنى، إلى الفهم والعيش، خارجًا عن المعاناة. إنّها مكابدة الوجد، واحتمال الألم، كي لا تخمد جذوة التسآل، وتنطفىء جمرة الكدح إلى الحقّ. إنّها روح فلسفة البلاء – {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}[36] – التي تصدر عن عالم متقوّم أخلاقيًّا، لا تسلبه الشرورُ المتفشّيةُ المعنى، بل تجعل المعنى ممكنًا بالمعاناة.
بأيّ الأحوال، تولي المحجّة هذا الارتباط الأخلاقيّ اهتمامها في العددين القادمَين (حول الفلسفة الأخلاقيّة [العدد 28]، ونظريّة القيم [العدد 29])، ولا بأس بإعادة طرح بعض الأسئلة التقليديّة بنَفَس جديد.
مع العدد
ينظر شفيق جرادي في رمزيّة الطبيعة الإنسانيّة التي، لبرزخيّتها، بمعنى استجماعها المعنى الكلّيّ والاشتغال الجزئيّ، تعمر الأرض، وتصوغ التاريخ، بمسؤوليّة الاستخلاف الآدميّ. ويدرس حسن بدران ما يعتبره الطبيعة المعلَّقة في الإنسان، التي تمتلك في فطرتها بذور تفعيل حقيقتها، وإقامة وجهها.
أمّا نادر البزري، فيتقدّم، مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة، بقراءة فنمنولوجيّة لفعل الآخر في الذات ومديونيّتها لها. ويقرأ فادي عبد النور في منظومة اللاهوتيّ هانز أُرس فون بالتازار، مستفيدًا من إشاراته حول الله والغشتلت والسرّ، ليتقدّم بمعالجة، للطبيعة الإنسانيّة، ما-وراء-مفهوميّة. وفي ورقته، يدعو حسن جابر إلى إعادة النظر في الاجتماع السياسيّ، عند المسلمين، على ضوء المقاصد القرآنيّة التي التفتت إلى تركّب المسار التكامليّ الإنسانيّ على المستويين المادّيّ والمعنويّ.
ويعرض أنطوان فليفل للاهوت رودلف بولتمان الذي يقول بعدم توافر الطبيعة الإنسانيّة على ما يصل بها إلى معرفة الله، سواء من خلال التفكّر في التاريخ أو الطبيعة، إلّا أن يأتيها الوحي من خارج. أمّا أحمد ماجد فيدرس المنظور الهندوسيّ، على تنوّعه، إلى الطبيعة البشريّة التي باتت تعاني الابتعاد عن أصلها. وفي سياق غير متّصل، وإن تشارك الهواجس إيّاها، تقرأ وفاء شعبان محاولة يورغن هابرماس استعادة الطبيعة الإنسانيّة من ربقة العقل الأداتيّ من خلال ما يسمّيه أخلاقيّات المناقشة. وفي ختام الملّف، نقدّم ترجمةً للنقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين التاريخ واللغة والعلوم والسياسة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما.
كما يشتمل العدد على الورقتَين اللتين قدّمهما كلّ من شفيق جرادي وجورج خضر في ندوة مشتركة بين معهد المعارف الحكميّة وبرنامج أنيس المقدسيّ للآداب في الجامعة الأميركيّة حول مفهومَي – أو لعلّهما مفهوم واحد – الصبغة والمعموديّة في الإسلام والمسيحيّة.
والحمد لله كما هو أهله
[1] انظر، محمود يونس، “الافتتاحيّة”، مجلّة المحجّة 26 [العدد السابق، “الطبيعة البشريّة (1)”] (شتاء-ربيع 2013): الصفحات 3 إلى 9. والتوجّه، كما مرّ هناك، فعل مستمرّ، ومتحرّك باتّجاه الوجهة دومًا.
[2] “قليل لفظه، مستوفًى معناه”؛ صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق جلال الدين الآشتياني (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1419ه)، الصفحة 119.
[3] أي أن تصير حقيقتها إنسانيّةً، بمعنى صيرورتها مظهرًا للأسماء الإلهيّة على حدّ الاستواء؛ انظر، “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق..
[4] سورة الصافّات، الآية 164.
[5] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق، الصفحة 6؛ التشديد في الأصل.
[6] أضف إلى ذلك أنّه كائن اجتماعيّ، يحتكم إلى ملاكات مجتمعيّة يتلقّاها، ويفعل فيها فيلقيها إلى من وراءه. ومن هنا، تكون التربية غايةً في الأهمّيّة، وكذلك السياسة بما هي كدح نحو توفير الشروط المجتمعيّة الأمثل لتفعيل قابليّات الإنسان بما ينسجم وحقيقته.
[7] وهذا ما يجعل وجود الإنسان معلّقًا بنحو ما؛ حول الطبيعة المعلّقة، انظر، في هذا العدد، حسن بدران، الإنسان من خلال الطبيعة والشخص والفطرة.
[8] صدر الدين محمّد الشيرازي (1050 ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، الطبعة 4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1990)، الجزء 3، الصفحة 17.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 48. وهذه هي حال الطبائع الأخرى سوى الإنسانيّة. فعلّة حركتها متضمَّنة في داخلها. بمعنًى آخر، لم تُجعل الطبيعة، ثمّ كانت لها الحركة بجعل ثان. فلمّا كانت الحركة من ذاتيّات الطبيعة، والجعل لا يتخلّل بين الشيء وذاتيّاته، فإنّ الجعل هاهنا واحد؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحتان 39 و40.
[10] المصدر نفسه، الصفحة 64.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 49.
[12] ولا أقول انوجدت فيها، إذ النفوس الإنسانيّة “ليس وجودها في المادّة، ولكن مع المادّة”؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحة 55. والمسألة أكثر تطلّبًا من أن نَرِدَها هنا.
[13] المصدر نفسه، الصفحتان 61 و62.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 63.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 127.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 66.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 65.
[18] “النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة”؛ انظر، مثلًا، حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون (قم: دفتر تبليغات، 1421ه)، الصفحة 11.
[19] J. Kim, “The American Origins of Philosophical Naturalism,” J. Phil. Res. 28 (2003): 83-98.
[20] See, W. V. O. Quine, “Epistemology Naturalized,” in Epistemology, An Anthology (Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2000), pp. 292-300.
[21] “The American Origins of Philosophical Naturalism,” op. cit; S. Luper, “Naturalized Epistemology,” in E. Craig (ed.), The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy (New York: Routledge, 2005), p. 721; D. W. Hands, Reflection Without Rules: Economic Methodology And Contemporary Science Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 2001), ch. 4.
حتّى ابن سينا لم يسلم من الطبعنة؛ انظر،
- McGinnis, “Avicenna’s Naturalized Epistemology and Scientific Method,” in S. Rahman, T. Street, and H. Tahiri (eds.), The Unity of Science in the Arabic Tradition (Springer Science+Business Media B.V, 2008), pp. 129-152.
[22] ثَمَّ فارق بين نظريّة المعرفة والإبستمولوجيا لا يبيح استعمال المفردة محلّ الأخرة، أو ترجمة الثانية إلى الأولى. ففي حين تعالج نظريّة المعرفة سؤال “كيف نعرف”، أو “كيف تُطابق معارفنا العالمَ”، فإنّ الإبستمولوجيا تدرس شروط صيرورة معرفة ما علميّةً (بالمعنى الوضعيّ، أو الطبيعيّ). هذا، وقد راج استعمالها في السياق الفرنسيّ بمعنى دراسة الشروط التاريخيّة التي بموجبها تصير الأشياء غرضًا للمعرفة. انظر، مثلًا،
- J. Rheinberger, On Historicizing Epistemology, An Essay, trans. D. Fernbach (Stanford: Stanford University Press, 2010), p. 2.
[23] J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” in Epistemology, An Anthology, op. cit., p. 301.
[24] لا نريد أن نلوم ديكارت على كلّ مصائب الفلسفة الحديثة. بل كلامنا على الديكارتيّة بما هي وجهة عامّة حسمت الأسئلة الأساسيّة، وفرضت حدود المنهج العامّة، فطبعت الاشتغال الفلسفيّ بطابع محدّد: “الأجندة الإبستمولوجيّة الديكارتيّة هي الأجندة الحاكمة في الإبستمولوجيا الغربيّة إلى يومنا”. هذا علمًا أنّ الإبستمولوجيا، بعد النقلة الديكارتيّة، تبوّأت محلّ الفلسفة الأولى (Ibid.). ولعلّ ديكارت لم يكن – بهذا الاعتبار – ديكارتيًّا أصلًا.
[25] Ibid.
[26] See, J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” op. cit., pp. 301-13; H. Putnam, “Why Reason Can’t Be Naturalized,” in Epistemology, An Anthology, op. cit., pp. 314-24; A. Corraldini, S. Galvan and E. J. Lowe (eds.), Analytic Philosophy without Naturalism (London and New York: Routledge, 2006), intro.; W. L. Craig and J. P. Moreland (eds.), Naturalism, A Critical Analysis (London and New York: Routledge, 2000); J. Beilby (ed.), Naturalism Defeated? (New York: Cornell University Press, 2002).
[27] تجد في الافتتاحيّة السابقة (العدد 26) إشارات نقديّة كافيّة لمركزيّة العقل الأداتيّ، وشبق الصبو إلى اليقين البتّيّ. فالأحرى ألّا أعاود الكلام عليه.
[28] انظر، توشيهيكو إيزوتسو، البنية الأساسيّة للتفكير المتافيزيقيّ في الإسلام، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة 21 (صيف – خريف 2010): الصفحات 141 إلى 163.
[29] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 91.
[30] هذا جريًا على عادته في اعتبار العلم شأنًا وجوديًّا، وإطلاق أحكام الوجود عليه. فالوجود، عند الملّا صدرا، في أعلى مراتبه، كثير في عين أنّه واحد، وواحد في عين أنّه كثير. “اعلم أنّ العلم مثل الوجود، لا يدخل تحت مقولة من المقولات وهو حقيقة واحدة، وله درجات متفاوتة، متفاضلة؛ في مرتبة يكون علمًا بكلّ شيء، غير مشوب بالعدم، [و]في مرتبة يكون علمًا بشيء وجهلًا بشيء آخر. ولـمّا كان ذاته تعالى وجودَ كلّ شيء على النحو الأتمّ، فهو علم بكلّ شيء من دون شوبه بالجهل، وكان ذاته علمًا تفصيليًّا بكلّ شيء، على نحو لا يشذّ عن حيطة علمه ذرّة، فحضور ذاته لذاته علم إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ”؛ المظاهر الإلهيّة، الصفحة 89، الهامش 3 (تعليقة الآشتياني).
[31] المصدر نفسه، الصفحتان 100 و101؛ التشديد ليس في الأصل.
[32] الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 12، التشديد ليس في الأصل.
[33] انظر،
- Youness, “The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part II: Care and Meaning,” Theological Review, forthcoming.
وهي الجزء الثاني من عملنا على نظريّة التطوّر:
“The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part I: Against Parsimony,” Theological Review 33 (2): 107-134.
[34] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 101.
[35] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق.
[36] انظر، سورة البقرة، الآية 155؛ سورة محمّد، الآية 31.