تحميل العدد: العدد 22: المعاد بين رمزيّة الدلالة والدين
التصنيف: العدد 22
التحيّز المِتافيزيقي في اللغة
اللغة حالة وجودية خالصة، وليس للعدم دخالة في تحديد ما تتقوّم به، بخلاف الماهيّة التي تغاير الوجود وليست من سنخيّته. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تعريف المِتافيزيقا لدى الفلاسفة، بدءًا من أرسطو حتى هايدغر، بأنها “تبحث في الموجود بما هو موجود”، نجد بأنّ اللغة تتكفّل في مراعاة قيد “بما هو موجود” بوصفها وجودية، ويمكن معها الحكاية عن الوجود من جهة موجوديّته، لا من جهة معدوميّته، كما هو الحال مع الماهية. على هذا، فإنّ فلسفة اللغة والتأويل تقف كطرح جدّي إزاء الفلسفات التقليدية التي استغرقت في جدليات الماهية والوجود، في تأخّر عن كلّ مستجدّات المبحث الفلسفي الراهن.
إشكالية المتافيزيقا في الفكر الأوروبي
باتت المِتافيزيقا، منذ عصر الأنوار، خارج الدائرة الفلسفية، إذ عُدّت قضاياها غير ذات معنًى، وكانت في تناقض مع روح الحداثة الصاعدة. وقد قاربت الحداثة هذه المسألة من خلال الانحسار الدينيّ التدريجي، على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ. أما في مداولات اليوم في الدينيّ، فثمّة تيّاران أساسيّان لدى ورثة التنوير، يعبّر عن أوّلهما هابرماس الذي يرى أنّ مضمون الدين يستمرّ ضمن رؤية أخلاقية معلمنة تحفظ الاندماج الاجتماعي، وعن ثانيهما غوشيه الذي، وإن قال بخروج الدين من البنية الاجتماعية، فإنّه يراه مسترجعاً حضوره في الاختبار الفردي فحسب.
عودة المِتافيزيقا
بين فترة وأخرى تطرح مسألة المِتافيزيقا بشكلٍ متجدّد. وكأنها الفلسفة التي تأبى رحيلًا، أو هجرة باللغة التي يفضّلها العاملون في هذا المركز التي يستضيفنا هذه الأمسية. ولا غرابة لذلك بالنسبة إلى العاملين في الفلسفة بتمايز إيجابيّ أو سلبيّ. فلو صحّت فلسفة بعينها وانتصرت لما كنا هنا الآن نتباحث في ما استجدّ، أو في التفسير الأفضل، أو الأنسب لنقول ما نقول أو ما يتبادر إلى ذهننا قوله. والانفتاح هذا لا يعني أيضًا، تشريع أبواب كانت موصدة، أو فتح أبواب لم تكن موجودة. يتحدّد البحث باستمرار بمقولة ما زالت صحيحة من أيام أرسطو. بفكرة هي بالقوة موجودة إلى تحقّق لها بالفعل. من انتقال من أبيض إلى أبيض إلى صورة الأبيض المطلقة، كما قال مقدّم هذا العدد، ولا أدري لماذا تجاوز القول من أبيض إلى أبيض فإلى أبيض. وهذا موضوع آخر.
والحديث يتوالى عن تجدد المِتافيزيقا فإلى موتها وبعثها، وسيظل الأمر كذلك ما زلنا نبحث، وما زال الإخوة والأصدقاء والزملاء ممن معنا، أو ممن سنأتي في الحديث عنهم يوالون القول في الفلسفة قبولًا وتمثّلًا أو تجديدًا وابتكارًا. فلا موت المِتافيزيقا أدّى إلى إضفاء الرحمة عليها، وإقامة مشاعر حزن أو حداد. ولا إعلان موت الإنسان أوقف ذريّة بني البشر، فما زالوا يعملون في سرّهم وعلنهم فيتكاثرون عددًا ويُكثرون من الأفكار، ويجرّوننا إلى التباحث معهم في ما نقبل وما لا نقبل. وكذلك إعلان موت الله لم يوقف الإيمان به، بل عزّزه وكرّسه وتعلمون اليوم مدى التمسّك بذلك صبحة وعشيّة، والعودة إليه تعالى بجوهره وبما أوحى به، وما أوصل ذلك كلّه إلى أصول، وما أولد من أصوليّات.
إنّ الدخول من زاويتي في نقاش لأبواب المجلّة وأبحاثها لن يقدّم أو يؤخر كثيرًا. بعضها عاد إلى الوراء، وبعضها طرح إشكاليّات قدّمت باقتضاب كفصل من كتاب علمنا أوله ولم نعلم آخره، وبعضها تعمّد المقارنة بين مناهج من عندنا، وبعضها عند الآخر، الأمر الذي يجعل مسألة التقريب واحدة من إمكانيّات مطروحة، لا يضاهيها أهمّية إلّا مسألة المصطلح الذي وكما نلاحظ من بعض مقالات هذا العدد من المجلّة أنّنا أمام تجديد آمل أن ننتفع به ببركة شيخنا الشيخ شفيق جرادي، كما نلاحظ في الترجمات إحكامًا في السبك نادرًا ما نجده في الترجمات المتداولة.
ديوجين باحثاً عن مصباحه في ظهيرة الحداثة:لقاء مع سقراط في عتبة الألفيّة الثالثة
في المسارات الفلسفية المودية إلى الحداثة، تكفُّ الفلسفةُ عن الانهمام بإنشاء المذهبيّات الدُغمائية وتقنع بإثارة السؤال ومعارضة الجواب؛ إنه انتقالٌ من التعالي إلى المحايثة، من العقلنة إلى المفهمة. وإذ تتأكّد الحاجة إلى الفلسفة لتصيغ من معارف العلم رؤى في الإنسان والعالم والعصر، ومع تحوّل الذاتية الفلسفية إلى ذاتوية تنادي بصراع حضارات على أساس هويّات مدعومة بثقافويّات، نجدُنا أمام بروز متجدّد للمِتافيزيقا، يدعو حكيم العصر إلى إصلاح الحداثة بتحكيم معايير الصحة المعرفية والمشروعية النقديّة.
الوعي الزائف في المادّية
ترجمة: محمود يونس
تقبل الأطروحة المادّيّة بواقعيّة النظام السببيّ بعد أن تشترط حصر كلّ علّة بالعلل المادّية. من هنا، يرتبط السؤال المادّي الجوهريّ بالوصول إلى محكّ متين للتمييز بين ما هو مادّي وما ليس بمادّي. إن الإخفاق التاريخيّ للمادّية في الإجابة عن هذا السؤال, واستغراقها في الالتحاق بالعلم كما هو في راهنه، يجعل منها موقفاً فلسفياً قائماً على تسويغ تماميّة العلم (الفيزياء تحديداً) أكثر منها نظريّة ذات شروط صدق يمكن التحقّق منها، وإن رأى المادّيون إلى أنفسهم كمن يلتزم نظريّة ويعمل وفقها.
العقلانية النقدية في فلسفة العلم المعاصرة
أضحت الفلسفة، بين يدَي المسار الذي وصلَ بالنزعة الاختبارية إلى الوضعيّات المتحاملة على المتافيزيقا، نظرية في العلم، رائدُها التحليلُ والتحقُّق؛ التحليل للبتّ في الاتساق المنطقيّ للغة العلم، والتحقُّق للتثبّت من تصديق التجربة للمعرفة. وأفضى هذا المسار إلى نفي إمكانية فهم العالم نتيجة العقم الذي أصاب الفلسفة والعلم جرّاءه. فكانت انتفاضة العقلانية النقدية عند بوبر لتعيد الاعتبار إلى المتافيزيقا بما هي موقف متجاوز للعلم والخبرة الحسّيّة معاً، ولتؤكّد على قدرة العقل الخلّاقة على النفاذ وراء الطابع الظاهريّ للعالم الفيزيائيّ.
متافيزيقا الخلود في الجنة والنار
ترجمة: علي الساحلي.
للوحي الديني منظورٌ خاص يُعنى بتحفيز الإنسان نحو خلاصه. من هنا يزوّدنا الوحي ببعض التفاصيل إلا أنه، في الغالب، يقدّم الخطوط العامة. أما إذا أحكم المِتافيزيقي هذه المفاتيح العامّة، وأسّس على أن الرحمة تسبق الغضب، وتسعُ كل شيء، وأنّ ما سوى الله نسبيّ، ولا يبقى سوى وجهه سبحانه، فإنه يستنتج أن الوجود الأخروي – بل كل الوجود الإطلاقي – لا بدّ أن يصل إلى حالةٍ من الاندماج والفناء في المبدإ الأول.
هنا تشكّل نقطة التقاء بين الأديان الإبراهيمية، التي تقول بخضوع الوجود لمسار طوليّ يبدأ بالخلق وينتهي بالرجوع النهائي إلى الخالق، وبين الأديان البرهمانيّة – البوذية التي تقول إنّ الوجود حركة دوريّة يتعاقب عليها البسط والقبض الإلهيين.
رسالة “زاد المسافر”
تشتمل رسالة “زاد المسافر” على اثني عشر مبدأ في إثبات المعاد الجسماني. ولا تخرج النظرة إلى المعاد عن الأسس التي بُنيت عليها الحكمة المتعالية. فالأسماء الإلهية حاكمة على المظاهر الوجوديّة ومنها النفس الناطقة. من هنا، تمتلك النفس، في حركتها الجوهرية من مبدئها إلى معادها، حالات اشتداد، وإن كانت حقيقتها ثابتة في مراتب الاستكمال. هذا علماً أنّ الحركة تقع في النفس والبدن معاً إذ هما، بحسب المراتب، أصل واحد. بالتالي، عندما يُحشر البدن، فهو عينه البدن الذي كان في الدنيا، ماهيةً وعقلاً وعُرفاً.
حكمة المعاد ومنافذ المصير
أقصى بعض المشتغلين في المعارف الدينية، بتأثير من التأويل المِتافيزيقي، أهمّية الجسد وعلم الطبيعة، ما حرم المعرفة الدينية من مواءمة بين عالمي البدن والروح، وجعل نظريّة الانخلاع (عن الفطرة الأولى) شرطاً أساساً لفهم مباحث المعاد. بيد أنّ النظرة إلى الدنيا بما هي شأن من شؤون الآخرة، ومعلمٌ من معالم القدرة الإلهية في الخلائق، ومستودع بذور الوجود المصيرية على أساس من خيارات المعرفة والإرادة، يبيحُ لنا فهماً أعمق للشريعة، وللمعرفة المعادية التجاوزية، في مصالحة بين الروح والبدن عنوانها النور المنبلج بين طيّات الطين، وفي دفعٍ نحو قيم الآخرة يربط الإنسان بالأرض التي استُخلف عليها.