الأخلاق كإشكالية

افتتاحية العدد 44

تخلّقوا بأخلاق الله (المجلسي، 1983، ج 58، ص 129). كثيرًا ما ترد هذه العبارة في الحثّ على التخلّق، وهو – أي: التخلّق – التطبُّع بالشيم، وأن تتمثّلها في تكوينك النفسي والسلوكي، حيث تصبح سمة شخصيّتك وهويّتك.

وقد اهتمّت الأدبيات الدينية بعامل الأخلاق، وبربطه بالعلاقة مع الإله؛ فتمثُّل الإله هو انقياد للمثل الأعلى في حياة أهل الإيمان الديني، إذ إنّ صورة الإله تكون على وفق الخصائص التي يقدّمها حول نفسه، مثل: الفادي، والمحبّ، أو الهادي، والرحمن، أو غير ذلك. وهي خصائص تتحوّل إلى قيم عليا يسعى المؤمن إلى التخلّق بها، ما يحدث تغييرًا وجوديًّا في ذات المتخلّق، أي: إن الأمر يتعدى ظاهر أموره وحياته إلى أصل كينونته ووعيه وتبصّره. وهذا ما يستدعي السؤال عن علاقة الأخلاق بالدين، وعلاقة الأخلاق بالفلسفة، فهل الدين والفلسفة أمران لازمان للأخلاق؟ وهل للأخلاق قيمة تأسيسية في الدين والفلسفة؟ ثمّ إن كانت كل معالجة فلسفية تحثّنا على تتبع واقع ما إلى بداياته اللازمنية؛ تلك البدايات المرتبطة بالمنشأ الوجودي، فمن حقّ السؤال أن يواكب مصدر الأخلاق في تكوينها الأول أهو الذات الإلهية في أسمائها وصفاتها، أم أنّها ذات الإنسان في نزوعه الفطري الأول؟

الأسئلة هنا هي إشكالية البحث الأول في الأخلاق، وعنه يمكن أن يتفرّع كثير من الأسئلة الإشكالية. أما الإجابة فهي النطاق الذي يسمح لنا معالجة الموضوع على حسب المسلك الذي اعتمدناه.

في هذه الافتتاحية، لن أكون معنيًّا بالتصدي للإجابة، لكن ما أريد قوله: إنّ قيمة المبحث الأخلاقي عالية إلى درجة أنّ ما من إجابة تجاوزت أصل الأخلاق وواقعيتها. فأن تعتقد أن الثواب والعقاب الديني هو منشأ الأخلاق، أو أن ترى المدح والذمّ والمصلحة هي منطلقه، أو أن تذهب لاعتبار النفس في قوامها هي التي تتوالد عنها الأخلاق، أو أن تؤمن أن ابتغاء وجه الله هو علّتها وغايتها التي منها تولّدت، فهذه كلها مسالك تؤدي إلى مقصد هو الأخلاق وأهميّة التخلّق، لكن من الضروري التأكيد على أنّ الأخلاق منها: ما طبيعته ومفاعيله صالحة وخيِّرة، ومنها ما يقوم على غير وئام مع حياة الإنسان فردًا وجماعة.

وإذا تحدّث الإسلام عن هدف بعثة النبي محمّد (ص)، وأنّها كانت لغاية أخلاقيّة “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (المجلسي، 1983، ج 68، ص 382)، ما دعا إلى ربط المضمون الأخلاقي بكل مفردة عقدية وتشريعية ووعظية؛ ودفع علي بن الحسين (ع) في صحيفته السجادية ليخصّص الدعاء الأكثر شهرة بالأخلاق؛ “مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال”، فإنّ مفردة المكارم تستلزم إمكان غيرها، ممّا هو ليس بصالح وخيِّر، كما أنّ مرضيّ الأفعال هو دمج للسلوكيّات ومظاهر التخلّق بأصل المبحث الأخلاقي، وأنّ فيه ما هو مُرْضي، وما هو غير مُرْضي. وهذا ما يدفعنا إلى السؤال مجدّدًا حول منشأ أخلاق الشرّ والقبح والتزوير، كإشكالية كبرى.

فهل الأمر يعود إلى الأصل الأول من تكويننا الأخلاقي؟ أم أنه بفعل أمور أخرى؟ وهل الإنسان منقسم في ذاته بين مصدري الخير والشر؟

اعتبرت المسيحية أن كينونة الإنسانية قائمة على الخطيئة الأصلية، على الرغم من أن الله خلق الإنسان على صورته، وهذا بذاته فرض نحوًا من اللاهوت الجدلي انبنى في توفيقياته على المحبة الرادمة للهوّة. أما في الإسلام، فعلى الرغم من أن الإنسان مجعول بالجعل الوجودي على الفطرة السليمة، وأن المشيئة الإلهية اختارته خليفة لله سبحانه في أرضه، فإنّ أول اعتراض قُيِّد بحقّ الإنسان في مسار خلقه وولادته كان اعتراضًا أخلاقيًّا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ (القرآن الكريم، سورة البقرة: 30).

إنّ التركيز هنا – في هذا الاعتراض – على فعل قبيح ينمّ عن طبيعة لا تنسجم مع الغاية المتوخّاة مع الدور والوظيفة التي أرادها الله للإنسان. ما يعني أن البعد الأخلاقي أصل في أهليّة الدور السياسيّ والاجتماعي في الحياة.

لكنّ المفاجئ أن ردّ مؤدى الاعتراض كان ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة: 30). ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا﴾ (سورة البقرة: 31). فما علاقة الأسماء سواءًا كانت حقائق الكون أم حقائق الوجود المرتبطة وجودًا ربطيًّا بأسماء الله الحسنى التي دعت المتصوّفة انطلاقًا منها لإطلاق تسمية خاصة على الإنسان “مستودع الأسماء والأسرار الإلهية”؟

الأخلاق وصال عَالمَـَيْ الغيب والشهادة

يتبادر إلى الذهن أن عتبة الميتافيزيقا واللاهوت هي الأخلاق، وعنها يطلّ الإنسان إلى عالم الدنيا والممارسة اليومية والزمنية. لذا، بإمكانك الحديث حول أخلاق كلّيّة، كما بإمكانك الحديث حول نسبية الأخلاق. لكن الاقتصار على وجه واحد هو تناول طرف منها من دون الآخر، فهل هذا يسمح بفهم وجودي للأخلاق؛ فهمًا وجوديًّا بمعناه الأنطولوجي، أو إن شئت الزمني الذي يبني وجود إنسان الـ”هنا”؟ وأي الطريقين يمكننا الانطلاق منه: طريق “الظاهر والباطن”، أم طريق “الدين في حدود العقل” الذي اقترحه كانط، وبنى من بنى عليه من بعده مسالك ومدارس؟ إذ رأى “أنّ الأخلاق إنما تقود على نحو لا بدّ منه إلى الدين، وعبر ذلك تتوسع إلى حدّ فكرة مُشرِّع خلقي واسع القدرة خارج عن الإنسان في إرادته، تكمن تلك الغاية النهائية (لخلق العالم) التي ينبغي، ويجب أن تكون الغاية النهائية للإنسان” (كانط، 2021، ص49).

فالأخلاق، في أصولها، لا تقوم على الدين، لكنّها في غاياتها، وفي بعض ضرورات إنفاذها تستوجب وجود سلطة عليا هي التي توفّر ما تحتاجه الأخلاق في فاعليّتها وتوسيع قوّة الواجب فيها.

الفارق بين الطريقين (الظاهر والباطن، أو أن الأخلاق تستوجب الدين) كبير. ففي الأول، يعود محور الأمر إلى الله وتمثّلاته، بينما في الثاني، المحور هو الإنسان ولإكمال ضروراته الأخلاقية كان الدين. لكن في الطريقين هناك نحو من حاجة ما إلى نظام أخلاقي يقوم على العبادة، ففي الأول لأن الله يُعبدُ ذاتًا، وفي الثاني لأنّ العبادة تقوّي سلطة الواجب الأخلاقي.

وقبل أن ننزلق في بحثنا، فندخل نطاق الإجابات، لا بدّ من أن نعتبر ما قُدِّم بمثابة محطّة أوّلية لإثارة إشكاليات في المبحث الأخلاقي تتفرّع منها أسئلة أخرى. من ذلك، ما المائز بين الوجود والأخلاق؟ وكيف نبني تصوّرًا للأخير، وكأنه رتبةٌ من مراتب الوجود؟ ثمّ أَلَمْ يتّجه فلاسفة الأخلاق – كما الفلاسفة التقليديون – لاعتبار أنّ مفتاح البحث في الوجود هو العقل النظري، في حين تعود الأخلاق إلى العقل العملي؟ وهل يكفي في الإجابة أن ننقل ما قالوه من كون العقل واحد، وأنّ قِسْمَيْه: النظري والعملي هو من باب التفريق في الفاعليّة المتنوّعة للعقل؟

أمّا فيما يخصّ وقوف الدين كحدّ لا بدّ منه في حركة العقل، ألا يأخذنا هذا إلى اعتبار أن السلطة الإلهية العليا هي وليدة حاجة ما اقتضاها الواجب الأخلاقي المكتمل الأوصاف والكينونة؛ ليعبِّر عن نفسه؛ فيصير بذلك صاحب السلطة العليا المفترضة هنا (الله) هو التابع لسلطة حقيقية كنّا قد افترضناها محتاجة إليه، وهذا خلف المفروض؟

مسارات على طريق تحوُّلات المبحث الأخلاقي.

إلى هنا، كنّا في إشكالية الأخلاق مع مسارين يشتركان في جملة من الأمور، ويفترقان في أمور أخرى، إلّا أنّ نطاق البحث فيهما يعود إلى طبيعة علاقة الإنسان الأخلاقي بالدين. فهل ذات الإنسان المبنية في هويّتها على الأخلاق أفاض الدين عليها مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال؟ أم أنّ الأصل في الأمر هو أن الأخلاق لمّا احتاجت إلى سلطتها على الذات لجأت بالضرورة إلى سلطة عليا تتمثّل في الدين؟

فالأخلاق ثابت، والدين ثابت، ومضمون الشخص الأخلاقي المبني على رقابة الذات وفق الأصول الأخلاقية أيضًا ثابت في كلا المسارين على الرغم من الاختلاف الشديد في تقييم موقع الدين والإنسان الديني بينهما. لكنّ الإشكالية الأخلاقية تنفلت من عقالها عندما يتمّ فكّ أواصرها بأمرين: الرقابة الإلهية، أو الرقابة على الذات بناء على الواجب، أو الضرورة الأخلاقية. فبعد أن حوّلت الفلسفة الوضعية – مثلًا – الأخلاق إلى مجرد قضية محكومة بالتناسق المنطقي، وحاكمتها على وِفق رؤية جعلت من اللغة الأخلاقية مورد فراغ، وعندما ربطت مدارس فلسفية وباحثة في الأنثروبولوجيا وغيرها من علوم إنسانية الأخلاق بالمكوَّن الثقافي، وحكمت عليه معرفيًّا بالنسبية وعدم الاطراد، ثمّ جاءت سلطة السوق والمهنة لتتعامل مع الأخلاق كأمر تقني إجرائي يخدم الربح والامتيازات… صار البحث في الأخلاق إشكالية خاضعة لمهبّ ريح السياسات والمصالح، فتارةً نبحث في الأخلاق الكونيّة بديلًا عن كل دين، إلا ما ترسمه حضارة القوّة والسيطرة، وأخرى نخضعه لحيثيّات تبيح تحويل الجنس البشري إلى هويّات لا عبرة فيها للذكر والأنثى، وثالثة تجعل القيمة لكلّ ما هو سريع وعابر من مثل عالم الأثير، وتكنولوجيا التواصل والاتصال، بل وعالم الرغبة والانشغال بالفراغ، حيث لا رقابة ولا ضمير ولا سلطة دين أو أخلاق. هنا، يصبح لبحث الأخلاق دواع إشكالية تتجاوز حدود المنهج والتجريد لتعبر نحو اللحظة في صيرورة العالم الحضارية، وفي حفظ وجود الإنسان، ولا أقصد باللحظة – بما هي – مقطعًا مفصولًا من زمن له ما قبله كما له ما بعده، بل بما تختزنه اللحظة من امتداد لتاريخ بعيد، وتطلع نحو آتٍ من المستقبل. هنا، تصبح اللحظة مسؤولية بقدر ما هي حرّة، وبهاتين القيمتين: (الحرية والمسؤولية) يبدع المرء في صناعة ذاته بموجب جعل إلهي، أو على وِفق ما ينبغي أن يكون.

هذه المهام التاريخية تفرض علينا أن نستقرئ ما قدّمته الجماعات على تنوّع انتماءاتها في مقاربة إشكالية الأخلاق والفعل الأخلاقي، ودوره في تأسيس كرامة الإنسان وبناء صلته مع الله والعالم والتاريخ.

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب الحوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث.

يمثّل البحث الأول “فلسفة الأخلاق: علم أم فلسفة” مقدمة لملف العدد، يهدف سورين تيودور مكسيم من خلاله إلى تقديم حجّة مفادها أنّ الأخلاق هي فكرٌ نظريٌ منهجي يعالج المبادئ والقيم الأخلاقية، جامعًا ازدواجية الفلسفة والعلم، من دون إمكانية تحديد أي الطابعين أكثر أهمية بدقة.

أمّا البحث الثاني “الأخلاق والنظريّات الأخلاقيّة من منظور إسلامي”، يعرض الكتّاب معاني المفاهيم الأخلاقية من منظور إسلامي بغية فهمها. ويقارنوا بين وجهات النظر الأخلاقية الإسلامية والغربية، من أجل تسليط الضوء على نقاط الضعف الرئيسة والقيود في المنظور الإسلامي؛ لتقديم الحجة لبرهنة قدرة الإسلام على تقديم أفضل مفهوم للأخلاق.

وتشير الورقة البحثية الثالثة التي تحمل عنوان “دور النيّة في القيمة الأخلاقيّة” إلى تأثير النيّة على القيمة الأخلاقيّة من خلال تحليل النيّة على مستويين: الفعل الجوارحيّ الذي بموجبه تتحدّد النيّة وفق الكمال المُتَعَلّق النهائي لنيّة الفاعل، والفعل الجوانحيّ الذي بموجبه تكون النيّة هي الشيء الوحيد الذي يتمتّع بقيمةٍ أخلاقيةٍ غيريةٍ.

ثم بعد ذلك، عرض أفضل بوكى في بحثه “تقييم نظرية إطلاق الأخلاق ونسبية الفعل الخلقي بحسب رأي الشهيد مطهّري” رؤية الشهيد لنظريّة إطلاق الأخلاق ونسبية السلوك والفعل الخلقيين. وفصّل في مباني نظرية إطلاق الأخلاق ونسبية الفعل، وأفرد قسمًا لنقد نظرية الشهيد مطهري وتقييمها عبر إيجاد أدلّة من داخل النظرية وخارجها ومقاربتها مع آراء علميّة لإثبات التعارض أو التوافق فيها.

كما عرض بحث “الوجدان الأخلاقي عند العلّامة الجعفري” مفهومَ الوجدان الأخلاقي وأدلّة إثباته وتطبيقاته بحسب رؤية الأستاذ الجعفري. وأفرد الباحثان القسم الأكبر للردّ على الأسئلة والإيرادات المتعلّقة بالوجدان الأخلاقي، وتطبيقاته من الناحية الشخصيّة والمجتمعيّة، ثمّ عرضا النقوض الواردة على آراء العلامة في الوجدان الأخلاقي، والتحقيق فيها.

وأظهر البحث السادس لمجتبى مصباح “دراسة تحليليّة نقديّة لنسبية الأخلاق أقسامًا وأدلّة” تعريف إطلاق الأخلاق ونسبيّتها. بعد ذلك، تعرّض لنقد مباني نسبية الأخلاق وأهمّ أدلّتها، وعدّد التناقضات النظرية والنتائج التي لا يمكن الالتزام بها عمليًّا، على أنّ المدرسة الأخلاقية الإسلامية لا يمكنها أن تتوافق مع نسبية الأخلاق.

أمّا علي رضا آل بويه فقد عرض في بحثه “حال فلسفة الأخلاق في الحوزة العلميّة في القرن الأخير” لتاريخ فلسفة الأخلاق التي انطلقت بعد انتصار الثورة الإسلامية، والعلماء الذين خاضوا هذا المبحث، منهم: الشهيد مطهّري، وآية الله الشيخ مصباح اليزدي، والعلّامة محمّد تقي جعفري، وآية الله السبحاني، وآية الله جوادي آملي.

أمّا في البحث الثامن “فلسفة الخلاق عند مسكويه، فقد فرّق أحمد ماجد بين الأخلاق الفوقيّة والأخلاق المعياريّة، وعرض رؤية مسكويه حول فلسفة الأخلاق والغاية منها وأخلاقيّاتها، مضافًا إلى مقاربة رؤية سقراط وأفلاطون لهذا الموضوع.

والبحث الأخير في ملف العدد، هو “جورج إدوارد مور ونظريّة الفعل الأخلاقي أو الصائب في أخلاقيّات العواقب الاجتماعيّة” الذي شكّل التحليل النقدي الذي قدّمه جورج إدوارد مور للفعل الصائب في الأخلاق النفعية، إضافةً إلى مفهومه العواقبي للفعل الصائب، نقطة انطلاق لنظرية الفعل الأخلاقي أو الصائب في أخلاقيات العواقب الاجتماعية.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الدكتور محمّد عريبي يتعلّق بتجربته الخاصّة في كتابه الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي، بغية إظهار أهميّة الكتاب في موضوع فلسفة الأخلاق، وأنّه سلسلة من مشروع يهدف إلى رصد الموروث والحاضر في مجال الأخلاق من خلال تتبّع المذاهب والشخصيات الأعلام.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه ثلاثة أبحاث.

درس يد الله يزدانپناه في بحثه “قدرات العرفان الإسلامي في صناعة الحضارة” أسباب عدم تحقّق الحضارة المطلوبة على أساس العرفان الإسلامي، على الرغم من وجود النتائج الحضارية المثمرة في قسمين: القسم الأول يُظهر قدرة العرفان على توصيف الحضارة وصلاحيّته في هذا المجال، أمّا القسم الثاني فتحدّث عن كيفية أداء العرفان دوره في هندسة الحضارة الإسلامية.

وسعى نبيل الياسميني في البحث الثاني بعنوان “فيتغنشتاين عن المعنى واللاّمعنى وفارغ المعنى” إلى توضيح المقصود من عناصر هذا الثلاثي، واستخدامات كلٍّ واحد منها، مع تحديد علاقته بقيمة الصدق، وكيف أثّر التمييز بين العناصر الثلاثة على منهج المدرسة التحليليّة.

أمّا البحث الثالث والأخير “إنتاج الهويات أواخر الدولة العثمانية: الصراع العثماني/اليوناني وتشكيل “الآخر” لمحمّد البشير رازقي فقد عالج مشكلة العلاقات العثمانية-اليونانية، كيف بدأت، وتطّورت، وكيف قادت هذه التوترات إلى مواجهات عسكرية بين الطرفين أفضت في النهاية إلى استقلال اليونان عن الدولة العثمانية.

كما تتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

قائمة المراجع

كانط. (2021). الدين في حدود مجرد العقل (ترجمة: فتحي المسكيني) (الطبعة 1). بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع.

المجلسيّ، محمّد باقر.(1403ه/ 1983م). بحار الأنوار (الطبعة 2 المصحّحة). بيروت: مؤسّسة الوفاء.

Ethics as a Problematic Question

Sheikh Shafik Jradi

“Adorn yourself with God’s character traits” (al-Majlisī, 1983, vol. 58, p. 129). This phrase is often mentioned in the call for takhalluq (emulating the character of Allah), which implies the adoption of virtues, embodying them in your constitution of self and behavior until they become a defining trait of your personality and identity.

Religious literature has paid great attention to the factor of ethics, and to linking it to the relationship with the Divine. The emulation of the Divine is submission to the supreme ideal in the lives of those who adhere to religious faith. This is because the image of the Divine is shaped according to the attributes He presents about Himself, such as the Redeemer, the Loving, the Guide, and the All-Merciful, among others. These attributes transform into supreme values that the believer strives to emulate, leading to an existential transformation in the very essence of the mutakhalliq (individual adopting them). This transformation goes beyond outward actions and daily life to affect the core of one’s being, consciousness, and perception. This raises questions about the relation between ethics and religion, as well as between ethics and philosophy. Are religion and philosophy necessary matters for ethics? And do ethics hold a foundational value in both religion and philosophy?

Furthermore, if every philosophical inquiry urges us to trace any given reality back to its timeless origins that are linked to its existential origin, then it is only natural to ask: What is the primary source of ethics in its initial formation? Do ethics originate from the Divine Essence, as reflected in God’s names and attributes, or do they stem from the human self in its inclination towards the primordial nature?

These questions are the primary research problem in ethics, from which many other problematic questions can branch out. The answer defines the scope that enables us to address the issue based on the approach we have adopted.

In this editorial, I will not be concerned with providing an answer. However, what I want to emphasize is that the value of ethical inquiry is so profound that no answer surpasses the origin and reality of ethics.

To hold that religious reward (thawāb) and punishment (‘Iqāb) are the foundation of ethics; to view praise, blame, and interest as its basis; to consider the soul in its essence as the source from which moral principles emerge, or to believe that seeking God’s pleasure is its cause and purpose from which it was generated, these are all paths that lead to the same end: ethics and the significance of takhalluq. However, it is essential to emphasize that ethics comprises aspects whose nature and effects are virtuous and beneficial, as well as aspects that may be at odds with human life, both individually and collectively.

When Islam speaks of the purpose of the Prophet Muhammad’s (SAWA) mission, asserting that it was for an ethical purpose: “I have been Sent to complete the honourable manners’” (Majlisi, n.d., vol. 68, p. 418), this highlights the integration of ethical content into every doctrinal, legislative, and exhortative term. This also led Imam Ali ibn al-Husayn (AS) in his Ṣaḥīfah Sajjadīyah (Psalms of Islam) to dedicate his most renowned supplication to ethics: Noble Moral Traits and Acts Pleasing to God. The very term makārim (noble) implies the possibility of their opposites, qualities that are neither virtuous nor good. Likewise, pleasing acts involve the integration of behaviors and manifestations of takhalluq within the core of ethical study, distinguishing between what is pleasing and what is blameworthy. This, in turn, raises the critical question of the origins of the ethics of evil, badness, and deception as a major ethical problem.

Consequently, does it trace back to the primordial origin of our moral formation, or is it the result of other factors? Is man divided within himself between the sources of good and evil?

Christianity considered that the existence of humanity is based on the original sin, even though God created man in His image, and this in itself led to a form of dialectical theology that built its reconciliations on love that fills the gap. As for Islam, despite the fact that man is created by existential creation based on innate nature and that the divine will chose him as a viceregent to God Almighty on earth, the first objection to the creation and birth of was an ethical one: ﴾Will You set in it someone who will cause corruption in it and shed blood?﴿ (Quran, 2:30).

The focus here – in this objection – is on the bad act that reflects a nature that is incompatible with the intended purpose and the role that God designated for man. That means that the moral dimension is foundational to the eligibility for political and social roles in life.

What is surprising, however, is that the response to the objection was: ﴾Indeed, I know what you do not know. And He taught Adam the Names, all of them﴿ (Quran, 2:30, 31). Consequently, what is the relationship between names, whether they are the truths of the universe or the truths of existence that are linked in a copulative existence to the most beautiful names of God, which led the Sufis to refer to man as “the repository of the divine names and secrets”?

Morality is the link between the worlds of the invisible (ghayb) and visible (shahādah)

It comes to mind that the threshold of metaphysics and theology is morality, through which man steps into the world, and conducts daily and temporal practices. Thus, one can speak of moral universalism as well as moral relativism. However, limiting the discussion to only one perspective means addressing only part of morality while neglecting the other. But, does this entail an existential understanding of morality; an ontological understanding, or let’s say, a temporal one that shapes the existence of the “Present Human”? Which path should we start from: the path of “the outward and the inward”, or the path of “religion within the limits of bare reason”, as proposed by Kant, upon which others built various approaches and schools of thought? Kant argued that:

 “So morality leads inescapably to religion, through which it extends itself to the idea of a powerful moral lawgiver, outside of mankind, whose aim in creating the world is bring about the final state of the world that men can and ought to aim at also”. (Kant, 2017, pp. 2–3)

The origins of morality are not founded on religion; however, the goals of morality and certain necessities of its implementation, require the presence of a higher authority that provides what morality needs for its effectiveness and strengthens the power of duty in it.

The difference between the two paths (the outward and the inward, or the view that morality necessitates religion) is significant. In the first, the central focus is on God and His manifestations, whereas in the second, the focus is on man, with religion serving to fulfill his moral necessities. However, in both paths, there is a certain need for a moral system grounded in worship. In the first, because God – in his Self – is worshiped, and in the second, because worship reinforces the authority of moral duty.

Before we delve into our research and enter the scope of answers, we must consider what has been presented as a starting point to raise problems in the ethical field from which other questions emerge.

Among these questions: What distinguishes existence from morality? How can we conceptualize the latter as if it is a rank within the hierarchy of existence? Moreover, haven’t moral philosophers, similar to traditional philosophers, tended to regard theoretical reason as the key to investigating existence, while assigning morality to practical reason? And is it sufficient, in answering, to merely adopt their claim that reason is a whole, and that its division into the theoretical and the practical is merely a differentiation in its diverse modes of function?

As for the role of religion as a necessary boundary in the activity of the reason, does this not lead us to consider that the supreme divine authority arises from a need created by the moral duty in its perfection and completeness to express itself? In this way, the one who holds the assumed supreme authority here (God) becomes subordinate to a real authority that we had previously assumed needed Him, which contradicts the supposed assumption.

Trajectories along the path of the transformations in ethical study

Up to this point, we have been dealing with the problem of ethics with two paths that share a number of matters and differ in others, but the scope of research in these two paths roots back to the nature of the relationship of moral human with religion. Did religion bestow noble moral traits and pleasing acts upon the human self whose identity is built on morals? Or was it in the first place, that when morality needed authority over the self, it inevitably turned to a higher authority embodied in religion?

Morality is consistent, religion is consistent, and the essence of the moral person which is based on self-control in accordance with ethical principles, is also consistent in both paths, despite the significant differences in evaluating the value of religion and the religious person between these paths. However, the ethical problem unravels when its ties are loosened by two factors: divine supervision or self-control based on duty or moral necessity.

After positivist philosophy – for example – turned morality into a mere issue governed by logical consistency, and judged it according to a vision that rendered moral language a void, and when philosophical schools specialized in anthropology research and other human sciences linked morality to the cultural component, and judged it cognitively with relativity and inconsistency, then the authority of market and the professions came to deal with morality as a technical, procedural matter serving profit and privileges… Research on morality has become a problem subjected to the shifting winds of politics and interests. At times, we seek a universal morality as an alternative to all religions, except for what is shaped by the civilization of power and control. At other times, we subject it to aspects that allow the transformation of the human race into identities where distinctions between male and female are irrelevant. At other times, we assign value to everything fleeting and ephemeral, such as the world of the ether, communication technologies, and even the world of desire and distraction with emptiness, where there is neither control, nor conscience, nor authority of religion or morals.

At this point, the study of ethics takes on a problematic dimension that transcends the boundaries of approach and abstraction, extending into a moment within the civilizational process of the world and the maintaining of human existence. However, I do not mean by the moment – in this sense – a separated segment of time with what precedes it and what follows it, but rather what the moment holds in terms of an extension of a distant history, and a look forward to the future. In this sense, the moment is as much a responsibility as it is an expression of freedom. Thus, with these two values: freedom and responsibility, one innovates in shaping himself, whether through Ja‘l Ilāhī (divine mandate) or in accordance with what ought to be.

These historical tasks compel us to examine what groups of diverse affiliations have contributed to addressing the problem of ethics and moral action, and their role in establishing human dignity and shaping one’s relationship with God, the world, and history.

The Issue

The papers in this issue fall under three sections: first, the issue’s main subject, second, dialogues, and third, research and studies.

The first section includes 9 papers.  The first paper, titled Ethics: Philosophy or Science?, serves as an introduction to the issue. Sorin Tudor Maxima argues that ethics is a systematic theoretical reflection that covers the moral principles and values with a double status, philosophical and scientific, without being able to accurately distinguish which side is more important.

In the second paper, Ethics and Ethical Theories from an Islamic Perspective, the authors present the meanings of the concepts of ethics from an Islamic perspective in order to understand them. Moreover, the paper compares between Islamic and Western perspectives of ethics, and highlight the main weaknesses and limitations of the former. Then, an argument on why Islam can provide the best understanding of ethics is provided.

The third paper, The Role of Intention in Ethical Value, presents the impact of intention on ethical value by analyzing intention at two levels: the actions of the limbs which determine the value of the voluntary action in terms of the ultimate perfect aim of the actor’s intention; and the actions of the soul by which intention is the only thing that has a different moral value.

Thereafter, Afdal Buki presents in his paper Evaluating the Theory of Ethics Absolutism and the Relativity of Moral Action According to the View of Martyr Muṭahharī, the martyr’s perspective on the theory of ethical absolutism and the relativity of moral behavior and actions. The author elaborates on the foundations of the theory of ethical absolutism and the relativity of actions. The last section focused on critiquing and evaluating Martyr Muṭahharī’s theory by drawing on evidence both from within and outside the theory and comparing it with scientific perspectives to establish whether it entails contradictions or alignments.

The paper titled al-‘Allāmah al-Ja‘farī’s Perspective on Ethical Conscience examines the concept of ethical conscience and the evidence for its validation and its applications as envisioned by al-‘Allāmah al-Ja‘farī. The largest section focuses on addressing questions and findings related to ethical conscience and its applications on personal and societal levels. Finally, both authors present and critically examine the counterarguments to the scholar’s ​​views.

In his paper, Types and Arguments of Ethical Relativism: A Critical Analysis, Mujtabah Misbah defines ethical absolutism and relativism.  Subsequently, this paper critiques the foundations of ethical relativism and its key arguments, highlighting the theoretical contradictions and the impractical results, for the Islamic ethical school cannot align with ethical relativism.

As for The Status of Moral Philosophy in the Islamic Seminary in the Last Century, Alireza Alebouyeh presents the history of moral philosophy after the victory of the Islamic Revolution. He also highlights scholars who examined this topic, including: Martyr Morteza Muṭahharī, ʾĀyatoAllāh ash-Shaykh Miṣbāḥ al-Yazdī, al-‘Allāmah Muḥammad Taqī Ja‘farī, ʾĀyat Allāh al-Subḥānī, ʾĀyat Allāh Jawādī ʾĀmulī.

In his paper, The Ethical Philosophy of Miskawayh, Amad Majed distinguishes between Meta-ethics and Normative ethics. He presents Miskawayh’s perspective on the philosophy of ethics, its purpose, and its ethical principles. Additionally, he explores the pertinent views of Socrates and Plato. 

The final paper of this issue is G. E. Moore and theory of moral/right action in ethics of social consequences. The paper indicates that G. E. Moore’s critical analysis of right action in utilitarian ethics and his consequentialist concept of right action, establish a starting point for a theory of moral/right action in the ethics of social consequences.

In the dialogue section, Al-Mahajja interviews Dr. Muhammad Uraib to discuss his personal experience writing Ethics in Arab and Islamic Thought. It highlights the book’s significance in the philosophy of ethics. It is also noted that the book is part of a broader project aimed at documenting both the heritage and contemporary developments in ethics by tracing various schools of thought and prominent figures.

The papers and studies section includes three papers. The first is the Capacity of Islamic Mysticism (ʿIrfān) in Creating a Civilization, Yadullah Yazdanpanah explores in two parts the underlying reasons for the failure to realize the envisioned civilization based on ʿIrfān, despite its demonstrated civilizational potential. The first part highlights the capacity of ʿIrfān to present a characterization of civilization and its validity in this regard. In contrast, the second discusses howʿIrfān fulfills its role in constructing Islamic civilization.

In the second paper, Wittgenstein on Meaning, Meaningless, and Void of Meaning, Nabil al-Yasminy explains this triplet and how each could be used while determining their relation to truth-value. He further shows how the distinction between these three elements influenced the method of analytic philosophy.

In the final paper, Identity Construction in the Late Ottoman Empire: Ottoman-Greek Conflict and the Formation of “the Other”, Muhammad al-Bachir Razeki addresses the problem of Ottoman-Greek relations, tracing its origin, development, and the rising tensions that led to a military confrontation between the two parties that caused Greece to eventually gain independence from the Ottoman Empire.

Al-Mahajja wishes that this issue proves fruitful for seekers of knowledge, and a step forward in this long, joyous, and arduous journey.

Translated by: Ghadir Slim

References

Kant, I. (2017). Religion within the limits of bare reason (J. Bennett, Trans.). Retrieved from https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/kant1793.pdf

Majlisī, M. B. (1403 AH / 1983 AD). Biḥār al-Anwār (2nd ed.). Beirut: Mū’assasat al-Wafā’.

Majlisi, M. B. (n.d.). Bihar al-Anwaar (vol. 68). Retrieved from https://hubeali.com/books/English-Books/BiharAlAnwaar/BiharAlAnwaar_V68.pdf

الحكمة الخالدة: ثورة على الحداثة، أم وجه آخر لها؟

تتنوع الأسماء: “الحكمة الخالدة”، و”العلم القدسيّ”، و”الروحانية المعاصرة”، ولكنّ المحتوى واحد، يدلّ على تيار فلسفيّ، نشأ في القارة الأوروبية، مع بداية تبلور الحداثة الغربيّة التي بدأت مع مارتينيز دي باسكوالي (1727-1774)، وخطت لنفسها مسارًا خاصًّا، وصولًا إلى رينية غينون (1866-1951)، وفريتجوف شوون (1907-1998)، وهنري كوربان (1903 -1978)، وسيد حسين نصر (1933)، وويليم تشتيك (1943)… هذا التيار الفلسفيّ، على الرغم من حمله راية الاعتراض على ما يجري في القارة الأوروبية من تطور فلسفيّ وعلميّ وثقافيّ، إلا أنّه بقي كوكبًا يدور حول نجم الحداثة، يكتسب قوّته ونوره منها، ويتحرّك ضمن نظامها الذي يحدّد جميع المسارات، ويلفظُ، أو يبتلع الخارج عنها.

ترافقت الحكمة الخالدة مع ظهور المدارس الفلسفية الكبرى في المنظومة الغربية، وعملت على رفضها في نموذجَيها العقليّ والتجريبيّ، وعارضت بعد ذلك كلّ فلسفة سعت إلى إبقاء الوجود مرتبطًا بما هو أنطولوجيّ، ورأت أنّ هذه النظرة بحاجة إلى إعادة تقييم جديد، عبر تفعيل الميتافيزيقا الحقيقية، بما هي إحالة إلى المبدأ والأصل. وهي في سبيل ذلك، لم تتوانَ عن مهاجمة كلّ حراك فلسفيّ، لا يسعى إلى ربط الإنسان بحقيقته الروحية. وفي سبيل هذا الهدف، عملت على إظهار الميتافيزيقا الزائفة، بدءًا من “أرسطو”، ووصولًا إلى “ديكارت” و”ليبنتز” و”كانط”، والتي أدّت إلى نشوء التصورات الخاطئة عن العالم، حيث أسلمت الإنسان إلى وعي أنطولوجيّ إزاء الوجود، ما أدّى إلى نشوء وعي زائف، يمركز هذا الكائن في عدمية مطلقة، فَقَد من خلالها المعنى، وأصبح تائهًا، تتلاعب به أهواء الذات، فضلًا عن رغبتها في السيطرة على النفس أو الجماعة التي تعمل؛ للقبض على مقدّرات الشعوب واستغلالها.

تقدّم الحكمة الخالدة نفسها كمشروع حضاريّ، يعيد موضعة الإنسان في مكانته الوجودية السامية، من خلال إعادة بعث ذلك الجانب العظيم الذي أُلغي باسم عناوين مختلفة. إنّها تسعى إلى تفعيل الجانب الروحيّ في الإنسان جاعلةً من “الحكمة الشرقية” السراج المنير الذي سوف يقود الإنسان إلى المقام الوجودي الذي يليق به، عبر ما يُسمّى “بالتحقّق الروحي”، أو “الميتافيزيقا الحقّة”، والذي تشترك فيه كل المذاهب التراثية في الشرق. هذا التحقق هو الذي تسمّيه التراثيات الشرقية – لا سيما الصوفية – مقام “الفطرة الأصليّة الأولى”، لذلك عملت على صياغة علم جديد، ووضعت له مباني، أسمتها “مباني العلم القدسيّ”. هذا العلم لا يمكن الوصول إليه عبر التفكّر الذهنيّ الذي أُسمي عقلًا، وإنّما عبر “عقلٍ مجاوز”، يكتسب معارفه عبر الإلهام، ورأت هذه التراثيّات أنّ ما تعيشه الحضارة الغربية من تيهٍ، يعود إلى هذا التعريف الخاطئ الذي لم يستطع التمييز بين العقل في مقام الخبرة، وهو ما يُسمّى التفكير، والعقل في مقام الحقيقة الحقّة، والذي يستحقّ اسم “العقل”. ورأت أنّ عقل الخبرة الذي انتصر مع الحداثة الغربية دمّر معاني العلم، وأسس للتشظّي المدمّر، حيث أصبحت العلوم قائمة بذاتها، لا ترتبط في ما بينها بفكرة كليّة، تعمل على إيصال الإنسان إلى كمالاته التي وُجِد لأجلها، فأصبحت قيم المنفعة والاستهلاك تتحكّم بها.

كما رأت الحكمة الخالدة أنّ الحياد عن المبدأ الروحي الفطريّ، كان السبب الرئيس الذي تولّدت عنه أوجاع الحضارة الحديثة، وتنامت معه المآسي الإنسانية، وعنه نشأت الفوضى في العقائد والمفاهيم والأفكار والسلوكيات، وهو الذي أدخل البشرية في أحلك مراحلها الظلمانية، هذا الظلام الذي سوف يعمّم، إذا لم تتدارك الحداثة الخطأ الذي وقعت به، وتعمل على تقويمه عبر ربطه بحقيقة وجوده وهدفيّته. لقد وجدت أنّ على العلم الحديث التموضع في المرتبة المناسبة له، والتي يحدّدها العقل المجاوز، عبر إخضاعه بما يمتلك من قيمومة عليه، نتيجة إدراكه للحقائق بذاتها.

وقد استدركت الحكمة الخالدة – أيضًا – مسألة الصراع بين الديانات والمذاهب، والتي أدّت إلى نزعة العلمنة، وتقدّمت خطوة إلى الإمام، حين أكّدت على إخضاع كلّ الأديان والعلوم والمعارف للعقل المجاوز الذي يمثل الميتافيزيقا على حقيقتها، بالتالي ذهبت إلى الحديث عن جوهر الدين وعوارضه، وعدّت الأديان الحقيقيّة، من: إسلام ويهودية ومسيحية وهندوسية وبوذية، تمتلك جوهرًا واحدًا، وما نراه من طقوس وعبادات هي أعراض تطرأ على الدين؛ لتعبّر بشكل رمزيّ عن هذه الحقيقة الدينيّة الجوهرية الواحدة، والمشكَّلة دائمًا، فتتمثل في الإعلاء من هذه الأعراض، أو فكّ رموزها بشكل خاطئ.

تجنبًا للإطالة، وحتى لا نقع في أحكام قيميّة قبل البدء بالموضوع، يطرح هذا العدد من مجلة المحجة موضوع الروحانية المعاصرة، أو الحكمة الخالدة، ويضعه تحت المجهر، وقد انطلق العمل على هذا المحور من مجموعة أسئلة، أهمّها:

ما هي الحكمة الخالدة؟ وكيف قدّمت نفسها؟ كيف نظرت إلى الأديان؟ لماذا طرحت موضوع التقليد؟ وما هو هذا الأمر؟ وما هي علاقته بالأديان؟ وهل ما طرحته يبرر التعدّدية الدينية؟ وهل التعدّدية الدينية تنحصر فيما آلت إليه؟ وهل يجوز لها أن تأخذ جانبًا من الديانات، وهو البعد الوحياني، وتُهمل الأبعاد الأخرى، كالتشريع مثلًا؟ وهل يصحّ اعتماد نظرة توفيقيّة تختزل الأديان في نزعة كلّيّة، في سبيل إقامة علم حديث، يستند إلى مبدأ إلهي؟ وهي عندما تستعير من الأديان ما يحقّق حالة معنوية، ثمّ تقوم بتهميشها، هل تسعى إلى دين بديل من أجل معالجة تكوين البعد الروحي، وإعادته لدى الإنسان؟

وما هي علاقة الحكمة الخالدة بالتصوّف؟

ما هي علاقة الحكمة الخالدة بالديانات الشرقيّة القديمة، لا سيما الهندوسيّة؟ وهل نقلت الدين من حالة مجتمعيّة إلى تجربة روحيّة، عندما جعلتها قاعدة لها؟

هل تُبَرَّر الحالة الاعتراضية للحكمة الخالدة بمواجهة النظرة الغربية التشيئيّة؟ وهل جعلت الغرب مركزًا من جديد، حين وضعت نفسها قاعدة للحكم؟ وهي عندما وضعت معيارًا انتقائيًّا من الدين، وعملت على إنشاء تيار فكر كوني للفضائل الكونية، ألم تأخذ من الدين ما يخدم الإنسان، وليس قصديّة الخالق من الخلق؟ وفي هذا الموضع، ألم تتوافق الروحانيّة مع الحداثة بجعل الإنسان المحور، خاصة أنّ ما قُدِم في هذا التيار، هُمّش فيه الإلهي لصالح الإنسانيّ؟

وثمّة أسئلة عديدة تستحقّ الإجابة في هذه المرحلة، حيث أخذ هذا التيار في التقدم، واحتلّ موقعًا بين المثقّفين، وعبّر عن نفسه في مؤسسات ودول، تعمل على ترويجه.

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن ثلاثة أبواب: أوّلها ملف العدد، وثانيها باب الحوارات، وثالثها باب البحوث والدراسات.

يحوي الباب الأوّل تسعة أبحاث.

يمثّل البحث الأول “حكمة مجاوزة لكل الأزمان والأماكن.. مقدمة إلى الفلسفة الخالدة” لصَموئيل بِندِك سوتيلّوس، انطلاقة ملف العدد. يعرض الباحث فيه معاني الفلسفة الخالدة، ومصدر انطلاقة التسمية، وتسلسلها التاريخي، وأعلامها، وكيفية فهم أديان العالم المختلفة من خلالها.

يعرض سيد حسين نصر في بحثه “العلم المقدّس” المعاني المختلفة التي يحملها هذا العلم، ويناقش فيها، ثمّ يتبنّى كونه يرادف الميتافيزيقيا، بما هي العلم المطلق بالحقيقة، حيث يستطيع الإنسان بواسطته التمييز بين الحقيقة والوهم، ومعرفة الأشياء في ذاتها، أو كما هي، وبالتالي معرفتها من خلال معرفة الله.

وتشير الورقة البحثية الثالثة التي تحمل عنوان “ما هو التقليد؟” إلى تعريف نصر للتقليد، وما يمثّل بالنسبة إلى الأديان المختلفة، من قبيل: الهندوسيّة، والبوذيّة، والتاويّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام؛ ليصل إلى الحديث عن ارتباطه بالحكمة الخالدة التي يبيّن من خلالها أنّ المقدس، بما هو مقدّس، هو مصدر التقليد.

أمّا البحث الرابع “توضيح العلم القدسي في الاتجاه التقليدي للدكتور السيد حسين نصر وتحليله”، فقد شرح عبد الحسين خسروبناه فيه مقصود نصر من العلم الذي يتمثّل العلوم التجريبية الرائجة في الغرب، وبيّن أنّ الحكمة الخالدة هي أهم مبنى من مباني العلم القدسي، والهدفُ المتعالي للتقليدِ هو إظهار وجه معشوق الكل.

كما نقد منصور مهدوي وحميد پارسانيا في بحثهما “تقويم الحكمة الخالدة” منهج الحكمة الخالدة ومبانيها، كما طرحها أصحاب المدرسة التّقليديّة، وعرضاها على أساس ميزان العقل، ثمّ قايساها مع الحكمة عند السّهرورديّ، وأظهرا نقاط التّمايز والاختلاف بينهما.

وأظهر البحث السادس لأحمد ماجد “الغرب والميتافيزيقا المستحيلة: رينية غينون، وإمكان تأسيس ميتافيزيقا مشرقية” فكرة غينون في تأسيس ميتافيزيقا، انطلاقًا من النموذج الشرقي، لأنّه يرى عجزًا عن بناء ميتافيزيقا غربيّة تواجه معوّقات عديدة، أهمّها الانصياع للثقافة الماديّة التي حوّلت الإنسان إلى مجرد أداة في وسط عالم ماديّ.

وحقّق حسين حسيني في بحثه “التقليد والحكمة الخالدة: معناها ونطاقها وخصوصياتها” في ما يرمي إليه التقليد على مستوى الأبعاد الفكريّة للتقليديين من معنى مختلف عن التقاليد والسنن بمعناها المتعارف من حيث الآداب القديمة والرسوم والعادات السالفة، وخصوصية هذا المعنى من جهة تسييله في دنيانا المعاصرة.

أمّا البحث الثامن “تعدّد الأديان ووحدتها من وجهة نظر الشهيد مطهري والتقلديين”، لغلام رضا رضايي، فأظهر التباين في معنى التعدّديّة الدينيّة عند التقليديين الذين يتحدّثون عن التعددية الواقعية، وعند مطهري الذي يقول بالتعددية في سُبل النجاة؛ لأنّ الدين واحدٌ منحصر بالإسلام، وأنّ جميع الاختلافات ترجع إلى الشرائع.

والبحث الأخير في ملف العدد، هو لعلي رضا قائمي نيا، بعنوان: “الوَحدةُ المتعاليةُ للأديان”، وهي تعبيرٌ عن نظرية أتباع المدرسة التّقليديّة في مسألة تعدُّد الأديان، فصَّلها لأوَّل مرّة فريجوف شيون (Frithjof Schuon) في كتابه، حيث قدّم الكاتب توصيفًا للنظريّة، ثمّ بيّن نقاط ضعفها.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الباحث نوّاف الموسوي، منطلقة من تجربته في ترجمة جزء من نتاج هنري كوربان الذي أسّس لروحانيّة ملتزمة مستقاة من تعلّقه بالإمام الثاني عشر عند الشيعة الإماميّة، متحدّثًا عن خفايا الترجمة، والبحث عن المصطلحات، موضحًا أهميّة ما قاربه كوربان، وقدّمه.

أمّا في باب “بحوث ودراسات”، ففيه أربعة أبحاث.

عالج شفيق جرادي في بحثه “الخوف بين التفلسف والتديّن وعوائد الأيّام”، الخوف كظاهرة إنسانيّة من وجهة نظر الفلسفة والدين. عرض معناه، ومسارات تداوله في الحياة الإنسانيّة والدينيّة والمسلكيّة، وما يمثّل الخوف من مصاديق في مسير الإنسان التكاملي.

ولفت مهدي زماني في البحث الثاني بعنوان: “الفيدانتا، الفلسفة الإلهية للديانة الهندوسية”، إلى مراتب الواقعية الخمس في الفيدانتا وقارنها مع الحضرات الخمس في العرفان الإسلامي. وقد فصّل الكاتب في معاني الشعارات الأساسية في مدرسة الفيدانتا، رابطًا إيّاها بآثار رينيه غينون، وفريتيوف شوان.

أمّا البحث الثالث فهو لحسين صفي الدين، عرض فيه “التأسيس الميتافيزيقي للأخلاق عند إيمانويل كانت”، من المبنى المعرفي عنده، وصولًا إلى البنيان الأخلاقي عنده، ومصادرات العقل العملي الثلاث: الحريّة، وخلود النفس، ووجود الله.

وعرض شادي علي في البحث الأخير “محاولات تفكيك الإسلام: عرض وتحليل ونقد .. أركون نموذجًا”، مشروع أركون الفكري، وسماته العامّة، ونظرته إلى القرآن كنصّ وخطاب ووحي، فضلًا عن رؤيته العامّة للإسلام. ثمّ فصّل في نقاط ضعف أركون ومشروعه.

وتتمنّى مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

افتتاحية العددين 41 و42

افتتاحية

يعود سؤال المنطق من جديد ليحتل مساحة واسعة في ساحة الفكر، فهذا العلم الآلي الذي يحمل في طياته سؤال العقل الذي يتحوّل موضوعًا له، يضعنا أمام إشكالية كيف يمكن للسائل أن يضع نظامًا لذاته، ثم يعيد قراءته ويقوم بنقده؟ ويتعمق هذا الأمر، مع التوسع الذي طرأ على فهم المنطق، إذ لم يقتصر هذا النظام على كونه موضوعًا للعقل، بل تعدّى ليكون منطقًا للعلوم، بل وميزانًا للمعرفة. وهذا الأمر يستدعي فحص الإشكالية والبحث فيها، لننظر إليها، خاصة أنّ هذا التصور، تعرض لهزات عنيفة منذ التحوّلات التي شهدتها المجتمعات منذ عهد النهضة الغربية وصولا إلى الراهن، حيث عمل الفلاسفة على تعديل صورته، أو حتى محوها بدءَا من “فرنسيس بيكون” الذي عمل على إنشاء “أورغانون جديد” وصولا إلى التطورات المتتالية حتى في علم المنطق نفسه.

إذًا، نحن أمام مشهدية معقدة، يقف على طرفيها طرفان، الأول يجعل من المنطق آلة عاصمة من الزلل، وتخضع العقل لمقولاته، والثانية تراه لا يقدم جديدًا، بل إنّه يثبت النتائج التي توصل إليها العقل مسبقًا، من هنا، تأتي أهميّة هذا الموضوع، الذي ينطلق من ذات العلم نفسه ومسائله وما تركه من آثار على تاريخ الفكر؛ الأمر الذي يستلزم تعميق البحث فيها والوصول إلى نتائج. وهذا ما ينتج مجموعة من الأسئلة، منها:

– هل بقي المنطق يحمل صفة المعياريّة للعلوم عمومًا، وللعلوم الدينية خصوصًا؟

–  كيف يمكن قراءة خريطة العلاقة بين أنواع المنطق وتطوراته من المنطق الأرسطيّ والرمزيّ والوضعيّ والفينومينولوجيّ؟ وما هي طبيعة ارتباط العلوم المنطقيّة بالعلوم الإنسانيّة؟

ثمّ ألا يمكن للمعالجة المفهوميّة تحليلاً ومقارنة أن تكون أكثر حفرًا ودقّة في النتائج لمسائل من قبيل: تعميق البحث في مفهوم البداهة والضرورة عمومًا في العلوم، ودور القضايا البديهية في تكوثر المعرفة وتناميها، وقيمتها في القراءات الفلسفية والمنطقية المعاصرة؟ ويتوسّع الأمر للسؤال حول أهميّة دراسة مباني الحجاج وصناعة المغالطة، وكيفية تطور البحث المنطقيّ في نظام المغالطة في الدراسات المعاصرة؟

وكذلك، تبرز الحاجة إلى التعمّق في دراسة المفاهيم المنطقية الثانية، وكيفية فاعليّة الذهن في انتزاعه لها، كمفاهيم ذهنيّة تحكي عن مفاهيم ذهنيّة؛ ومقارنتها بالمفاهيم الفلسفية الثانية كمفاهيم تحكي عن نحو وجود الشيء؛ لما لها من آثار في قراءة وتحليل المنظومات الفكرية والفلسفية. وأيضًا القراءة في بنية القضية المنطقية وتطبيقاتها في النصوص الدينية، والبحث في كيفية انتزاع الذهن لمفهوم العدم رغم كونه أمرًا اعتباريًّا وعدم وجود أيّ مصداق له، وكذلك البحث الدلالي في المنطق مقارنة بالهرمنوطيقا، وتحليل مفهوم الكلّي مقارنة بالمدرسة الاسمية، بالإضافة إلى القراءات المنطقية النقدية والتجديدية.

كل هذه المسائل تؤكّد الضرورة لإعادة البحث في المسائل المنطقية بوجهة معاصرة، في ضوء تنامي العلوم وظهور علوم جديدة، من هنا جاء اختيار موضوع المنطق في هذا العدد لطرح مقاربات معاصرة في المنطق تحاول أن تعالج العديد من المسائل المنطقية.

وبالتالي، تكون الإشكالية التي سوف يحاول العدد أن يركّز عليها متمحورة حول الآتي: كيف يمكن إعادة النظر في منهجيّة البحث في علم المنطق بما هو قضايا ومسائل أكثر من العمل عليه بما هو علم؛ نظرًا لقيمة النتائج العلميّة والعمليّة للمسائل في العلوم من قبيل: مسألة تعريف المفاهيم والقضايا، ومعيار ذلك في العلوم الحقيقية والاعتبارية، وفلسفة التعريف وتطبيقاتها في العلوم المعاصرة، وعلاقة التعاريف بإنشاء المصطلحات، وأثر ذلك في تطور المفاهيم والمصطلحات؟ ويتفرّع عن ذلك سؤال: كيف يمكن تقييم موقعيّة مسائل المنطق كمسائل وعلم المنطق كعلم في سياق العلوم المعاصرة والمتنامية تناميًا لا يهدأ؟

في الطرح المنطقي

الملاحظ عمومًا أن هناك نوعًا من الجمود في الطروحات المنطقية، ويبدو هذا الجمود من خلال النظر في طبيعة الموضوعات التي يتم طرحها، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن بعض الملاحظات:

أولاً: غلبة سمة العلم على المسائل المنطقية

يبدو أن الغالب في الطروحات المنطقية هي طروحات لعلم المنطق كعلم، لا كموضوعات ومسائل منطقية، رغم أنّ كل مسألة من مسائل علم المنطق ذات تاريخ وقيمة خاصّة؛ الأمر الذي جعل المشكلة مع العلم ككل، حتى صار بعضهم يرفضه كلّه، أو يقبله كلّه، مع أن مسائل العلم يمكنها أن تكون أقوى حضورًا في مجالات شتّى من حضور العلم كلّه؛ بل إن ما طرحه أرسطو عند تأسيس هذا العلم كان بنحو الموضوعات التي تم جمعها بعد أرسطو، من هذا المنطلق يشير التاريخ إلى أن أرسطو لم يصنّف مؤلفًا بعينه يحمل عنوان المنطق، ولكنه كتب أبحاث المنطق في مواضع متعدّدة ومختلفة: (المقولات، التأويل، التحليلات الأولى، التحليلات الثانية، كتاب الجدل أو الطوبيقا، كتاب تفنيد الأغاليط).

ثانيًا: غلبة الانشغال على النصوص القديمة

ويتبيّن ذلك من النظر في طبيعة المعالجات التي تمّ العمل عليها وهي: الترجمة، والنسخ، والشروح، والنظم والحواشي، والمختصرات، والتشجير، بل ويمكن الاعتبار بأن تعليم المنطق كان من خلال تلك النصوص، فمتون التعليم لم تكتب للتعليم غالبًا، وهي مطروحة بمنهج علميّ صارم، ولم تلحظ خصوصية المدى والتتابع التربويّ وفق النظام التربوي، من هنا غلب على تعليم المنطق الطابع التكراريّ لمسائل هذا العلم، مع إمكانية الاستثمار إلى الحد الأقصى من قوة المفاهيم المنطقية، مع ملاحظة أن تعليم المنطق تمّ كقواعد منفكّة عن الحياة؛ الأمر الذي جعل مادة المنطق مادة جامدة بشدة قاعدتها وصرامتها، رغم أن علم المنطق يشكّل منطق العلوم، لكن خلال دراسته يتمّ طرحه كعلم قواعديّ مجرد عن العلوم.

ثالثًا: تنامي الانشغال المنطقيّ المعاصر

رغم الملاحظات التي طُرحت يظهر أن النتاج المنطقيّ كان حيويًّا ومحوريًّا في بناء المنظومة الفكريّة والفلسفية لدى مجموعة من الفلاسفة المنطقيّين المعاصرين في العالم الإسلاميّ والعربيّ من قبيل: العلامة الطباطبائي، زكي نجيب محمود، طه عبد الرحمن؛ وذلك رغم تباعد فلسفاتهم ورؤاهم؛ إلّا أن أصل الانشغال المنطقيّ كان نقطة اشتراك جوهرية بينهم.

وهنا، تجدر الإشارة إلى الأمور التالية:

1- يشترك العلامة الطباطبائيّ وزكي نجيب محمود وطه عبد الرحمن في الانشغال الفكريّ والبحثيّ المنطقيّ انشغالاً منهجيًّا تأسيسيًّا، لناحية الماهية، والغاية، والمسائل، والدور، والعلاقة مع العلوم والمفاهيم الأخرى، ولكنه برز بشدّة بوجهته الوضعيّة مع زكي نجيب، لا سيّما في كتابه المنطق الوضعيّ وبعض كتبه الأخرى، وبوجهته البرهانيّة الأرسطيّة مع العلامة الطباطبائيّ، لا سيّما في كتابه البرهان وتطبيقاته في مجمل كتبه الأخرى، وبوجهته التكوثريّة مع طه عبد الرحمن، لا سيّما في كتابه اللسان والميزان أو التكوثر العقليّ، ومن ثم ربطه بفكرة الأخلاق العالمية.

من أجل ذلك، بقي السؤال المنطق حاضرًا بقوّة، وفي صلب الاهتمامات المعرفيّة والمنهجيّة، على الرغم من الاختلاف الذي يصل – أحيانًا – إلى حدّ التنافي، بل التناقض في النظرة إلى ماهية المنطق وقيمته، على مستوى تشكيل الرؤية الكليّة للنظام الوجوديّ.

2_ ربما يصحّ القول بأن زكي نجيب محمود قد ذهب إلى المنطق الوضعيّ من الباب الفلسفيّ ببعده اللغويّ؛ فهو أراد أن يقرأ العالم من خلال عدّة هذا المنطق وآليّاته، ومن ذلك التحليل اللغويّ، حيث أخذ به كطريقة في قراءة أشياء العالم، فكان التحليل اللغويّ مرآة تحكي قصَّة هذا الوجود لديه، وهذا يعني تغيّرًا جذريًّا في دور اللغة وغايتها، باعتبار انتقال اللغة من رتبة الوجود الأداتيّ حيث وضعه الواضع لها، إلى رتبة الوجود الذاتيّ؛ من هنا انزاح موضوع الفلسفة من الوجود إلى اللغة، فصارت الفلسفة متمحورة حول اللغة، وصار الكون مشهودًا بنظّارة اللغة.

أمّا بناء على مبنى العلامة الطباطبائي فتكون اللغة وجودًا أداتيًّا، وتكمن فلسفة هذا الوجود الأداتيّ في حكاية المعاني والمفاهيم والحقائق لإفهامها للآخرين أو فهمها من قبلهم؛ وهنا تتجلّى الوظيفة الاجتماعية التعبيريّة للّغة، فالألفاظ تُحضِر الأشياء بألفاظها بدلاً من إحضارها بذواتها.

والألفاظ تلك في مسيرتها اللغويّة وضعًا واستعمالاً كانت في أصل إنشائها اعتبارًا، وفي سعتها كانت اعتبارًا، وفي منتهاها كانت اعتبارًا، فهي اعتباريّة من ألفها إلى يائها، وكذلك في بقائها، فتبقى اللغة في رتبتها الاعتباريّة، ويبقى الوجود الذهنيّ والخارجيّ في رتبتهما الحقيقية، تلك الرتبة التي تترتب عليها الآثار بحسب كلّ منهما. فاللغة بألفاظها تكون دالّة على المعنى، ويكون المعنى مطابقًا للواقع، وواقع كل شيء بحسبه، ويكون الميزان المنطقيّ ميزانًا فكريًّا معنويًّا، قبل أن يكون ميزانًالفظيًّا لغويًّا، كما ذهبت إليه الوضعية المنطقيّة.

وتشتدّ المشكلة عندما تصير اللغة معيارًا لفهم النظام الوجوديّ، -كما اختار المنطق الوضعيّ- وهذا معناه الخلط بين عالم الاعتبار وعالم الحقيقة والواقع، والطبيعي أن يكون الأمر الحقيقي منشأ للأمر الاعتباريّ، ولا يمكن أن يكون الاعتبار أصلاً للحقيقيّ، لاستحالة تقوّم الأمر الحقيقي بالأمر الاعتباري!

3_ يبدأ العلامة الطباطبائي باليقين المنطقيّ كنقطة ارتكاز للمقولات الفلسفيّة التي تقرأ الوجود وشؤونه العامة، فتكون البديهيات المنطقية أصلاً للنظريات الفلسفية التي يتكثّر فيها اليقين باليقين؛ فتكون البداية لديه منطقية، ويكون المقبول فلسفيًّا هو مقبولاً منطقيًّا لجهة البرهان المكوّن من قضايا يقينيّة، والتي تستلزم يقينًا بالضرورة، والعلاقة بين موضوع القضية اليقينيّة وبين محمولها هي علاقة لزوميّة يستحيل انفكاكها؛ لذا كانت فلسفة العلامة الطباطبائي فلسفة منصبغة بالطابع البرهانيّ الذي يُعنى باكتشاف الحقائق عن طريق البرهان الكاشف عن الواقع، فتكون الحقيقة لديه صفة للإدراكات الذهنية من حيث مطابقتها للواقع.

من هنا، تمسّك بالتنظير للمنطق الأرسطيّ والدفاع عنه، وتبنّي منهجيّته في الاستدلال والبرهان؛ ولم يطبق منهجية المنطق الرمزي أو الحديث في بنائه للنظرة الكليّة للنظام الوجودي، أو في تشكيل منظومة مفاهيم معرفية استنادًا لذلك؛ معدًّا أن دعوة القرآن كانت للفكر الصحيح، غير أنه لم يعيّن الطريق، وأحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية؛ فهو بذلك يكون قد جعل الفطرة ميزانًا لقبول المنطق؛ وبالتالي تكون قيمة المنطق كامنة في فطريّته، على أن اليقين بالواقعيات يستند إلى اليقين بالبديهيات من خلال ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا، يلحظ شروطًا معيّنة فيوضع الحد الأوسط، فتتكوّن الأشكال وفقًا لذلك.

وبالتالي، لم تكن تقليديّة المنطق الأرسطيّ مسقِطة لقيمته الاستدلالية عنده، وهذا يعني أنه ليس كل منهج أو علم تقليديّ يكون فاقدًا لقيمته لأنه تقليديّ، كما ليس كل منهج أو علم حديث يكون ذا قيمة علميّة يمكن البناء عليها، والخلط بينهما مغالطة ينبغي التنبّه إليها.

هذا العدد، سيعمل على إعادة تفعيل السؤال المنطقيّ، ويعيده إلى ساحة النقاش، في وقت يعمل معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية  على مكنزه التخصصي في المنطق تقديرًا منه لأهمية هذا العلم وضرورة تفعيله في المؤسسات العلمية، وهو يأمل أن يجدّ هذا العدد الاستجابة من القارىء الكريم.

 

مع العدد

تنبني أبحاث العدد ضمن بابين؛ أوّلها ملف العدد، وثانيها هو باب حوارات.

يحوي الباب الأوّل ثلاثة عشر بحثًا.

في البحث الأوّل، قسّم حسن عبدي في بحثه “دراسة ماهية أصل عدم التّناقض وآثاره المعرفيّة بحسب نظر أرسطو” بيانات أرسطو إلى فئتين كلّيّتين: التّقرير الوجوديّ والتّقرير المنطقيّ. ورأى أنّ أصل عدم التّناقض – في نظر أرسطو – يتمتّع بأولويّة مطلقة في سياق وجود المعرفة بالقياس إلى أيّ نوع معرفة سواء كانت تصوريّة أم تصديقيّة.

ثمّ تطرّق ديبورا بلاك في بحثه “المنطق في الفلسفة الإسلامية” لخمسة موضوعات، هي: موضوع المنطق وأهدافه، وعلاقة المنطق واللغة والنحو، والتصور والتصديق، والكليات الخمسة والمقولات والقضايا، ونظرية الحجاج.

كما عرض يحيى يثربي في بحثه “التّعريفُ بالحدّ ومشاكله” نقدًا للتعريف بالحدّ، ونقل الإشكالات عليه، وبيّن عيوبًا أخرى فيه، ثمّ أيّد رؤية الفارابي، واقترح تجاوزَ “الحد” ولوازمَه.

أمّا الأب سميح رعد، فقد قسّم بحثه “المنطق الأرسطيُّ في اللاهوت المسيحيِّ والفلسفة المدرسيَّة توما الإكوينيّ نموذجًا” إلى قسمين: الأوّل سرد تاريخيٌّ لعلاقة الكنيسة، وبعض جامعاتها، مع كتب أرسطو، والثاني هو موقف القديس توما الإكويني منها.

كما قسّم موسى أكرمي بحثه “من المنطق في الإسلام إلى المنطق الإسلامي” إلى ثلاثة أقسام: العقل والتعقل في الدين الإسلامي، والمنطق في الدين الإسلامي، والمنطق الإسلامي مع التركيز على علاقته بالمنطق في الدين الإسلامي بما يتضمن من نصوص مقدسة من جهة، ومن قضايا نظرية وتطبيقية من جهة أخرى.

وفي بحث “أنطولوجية العلاقات المنطقيّة المنظومة الفكرية الإسلامية نموذجًا”، ركّز محمّد باقر طيار على إظهار أنطولوجيّة المنطق الرياضي بأدوات ربطه أو بمفهوم الدالّة المنطقيّة. وقدّم الباحث تطبيقات على ما ادّعاه من المنظومة الفكريّة الإسلاميّة في حقول عدّة، منها: فلسفة المعرفة، الإلهيّات، الحقل العقدي، الفطرة.

وفي البحث السادس “تكثّر الأنظمة المنطقيّة: مقارنة بين آراء علماء المنطق القديم والجديد”، حاولت فرشته نباتي أن تشير إلى رأي علماء المنطق في باب رأي القائلين بالواقعيّة المنطقيّة والمعتقدين بكون القواعد والقوانين المنطقيّة جزءًا من المعقولات الثّانية المنطقيّة.

أمّا البحث السابع، فهو للودفيغ لاندغريبه في “التجربة والحكم مباحث في جنيالوجيا المنطق”، وهو عبارة عن مقدّمة أُضيفت إلى كتاب إدموند هوسرل ERFAHRUNG UND URTEIL UNTERSUCHUNGEN ZUR GENEALOGIE DER LOGIK ، واستُلهم اختيار العنوان من عنوان مخطوطة عام 1929 التي تتناول المشكلات الأساسية للمنطق الفينومينولوجي.

كما عالج حسن رضا في بحثهأثر المنطق الرياضيّ في الفلسفة المعاصرة” فكرة اندفاع فريق من الفلاسفة المعاصرين إلى استعمال مبادئ المنطق الرياضي وقواعده وأنساقه في إعادة صوغ الحجج الفلسفيّة التي تثبت وجود الله.

وقارن سمير خير الدين في “الرّوابط المنطقيّة بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزيّ” نظرة كلّ من المنطقين إلى الروابط، مع لحاظ الحضور اللغويّ للرابط، من خلال أوجه ثلاثة: الاختلاف في مفهوم الرابط في المنطقَين، والحاجة التعبيريّة والحاجة الصناعيّة، والمعنى الحرفيّ والاستقلاليّ، ودعّم فكرته عبر نماذج عمليّة.

أمّا سمير الزبيدي فعرض في “نظرات في الأسس المنطقية للاستقراء” اعتراضات السيد مرتضى الشيرازي على اعتراضات على تطبيق السيد محمّد باقر الصدر (قدس) للحساب الرياضي في موارد التواتر والإجماع وغيرها في كتابه الأسس المنطقيّة للاستقراء.

وعرّف عسكري سليماني أميري في بحثه “التعريف بفلسفة المنطق” فلسفة المنطق وموضوعها، ومبادئها، ومنهجها ومسائلها، وعالج بإسهاب المسائل المتعلّقة بالمنطق قبل تقسيمه إلى منطق التعريف ومنطق الاستدلال، وعلاقة المنطق بالعلوم كافّة.

وعرضت اللجنة العلميّة مشروعَ مكنزٍ للمنطق يقوم معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينيّة والفلسفيّة بإعداده، وشرح أهميّته العلميّة. وأوضحت أنّه سوف يكون مربوطًا ببنك معلومات أوّليّ مع قابلية التطوير بالاشتراك مع المؤسسات العلمية والأكاديمية، والمشاركة الجمعيّة في سبيل عملية التنمية المستمرة عبر منصة إلكترونيّة خدمة للعلم والمتعلّمين.

وفي باب “حوارات”، أجرت مجّلة المحجّة حوارًا مع الدكتور خنجر حمية، أجاب عن الأسئلة، من قبيل: الخصائص العامّة للمنطق الفينومينولوجي عند هوسرل، وكيف يمكن أن يتقاطع علم النفس معه، وكيف يمكن الاستفادة من المنطق الفينومينولوجي في المجال الفلسفي والمعرفي، وغيرها من الأسئلة.

وتأمل مجلّة المحجّة أن يكون هذا العدد وغيره مدًّا وعونًا لطلّاب العلم والمعرفة، وخطوة من خطوات هذا الدرب الطويل والممتع والشاقّ.

إفتتاحية العدد 23

الافتتاحيّة

افتتاحيّة العدد

كان لا بدّ لمجمل المباحث التي تعاطتها المحجّة في أعدادها الأخيرة (الزمن، عودة المِتافيزيقا، المعاد) أن تصل بنا إلى تخوم مبحث الجسد. فالمبحث يشتمل في تضاعيفه على مكنون ما اندمجت عليه التيّارات الفلسفيّة المختلفة، ولطالما كان الأرض التي خيضت عليها المعارك الفكريّة، وتناحرت عليها الـمُسبقات الفلسفيّة. مغلوبٌ على أمره الجسدُ في تاريخ الفلسفة؛ وعندما ترى كيف يُنتَصَرُ له اليوم، فلسفيًّا، فإنّك أحيانًا قد ترجو له دوام التعاسة. ودعك من اعتداد الفلسفة بنفسها، واستعلائها على الدين والأسطورة، فإنّنا نجد اليوم مناخًا عارمًا لا يتحرّج من القول بمُسبقات حاكمة على الفلسفة، وعلى كلّ اشتغالٍ فكريّ. يكفيك في ذلك التيّارات الواسعة التي حكمت على الفلسفةِ بقدرٍ لغويّ – أو، لا أقلّ، أحكمت الربط بين الفلسفة واللغة بما لا يطيق الانفصام – فإنّ “فلسفةً تنطلق من مِلء اللغة، هي فلسفة مع مُسبَقات”[1].

بيد أنّ الفلسفة أكثر تجذُّرًا في المسبقات. وبالتحديد، الفلسفة التي صيغت في اليونان، وصارت مصدرًا لمشروعيّة كلّ ما تسمّى فلسفة فيما بعد. فقد قام أفلاطون، في مواجهة السفسطة، بالاستعانة بالأورفيوسيّة كيما يسوّغ خلود النفس وهدفيّتها. وعلى أساس هذه الأسطورة، يتماهى الإنسان مع النفس ويغاير الجسد؛ تصير النفس هي الأنا، ويصير الجسد هو الآخر. ومن يومها، صارت “الأورفيوسيّة من مستلزمات الفلسفة”[2]؛ من مُسبقاتها، إذا جاز لي القول.

إنّه الحدث الفلسفيّ الأكثر تأسيسيّة. هنا انقسمت الأنطولوجيا إلى أنطولوجيا روح وأنطولوجيا جسد. وهذا ما مهّد إلى تجزئة العالم فيما بعد إلى واقع موضوعيّ خارجيّ، وواقع آخر ذاتيّ[3] مع أولويّة للموضوعيّ تحملنا على تحويل الذات إلى موضوع إذا ما شئنا أن نعرفها أو ندرسها. وإنّها لمفارقة أن تحتاج الفلسفة التي تزعم تزويدنا برؤية كونيّة إلى ما سواها – في هذه الحالة أسطورة – لتستقي منه عناصر رؤية كونيّة. لكن، هل يمكن خلاف ذلك؟

وماذا عن أرسطو؟

صحيحٌ أنّ الأفلاطونيّة، بما هي رؤية للواقع، تستدعي الأرسطيّة بما هي رؤية مغايرة للواقع – إذا أخذنا بالمقاربة التي تجعلهما طرفا طيف الرؤى الفلسفيّة – ومأزق الأفلاطونيّة، حيث جعلت الروحانيّ في مقابل المادّيّ، يستدعي رؤيةً للواقع في وحدته كما تقدّم بها أرسطو. إلّا أنّ البرنامج الأفلاطونيّ المحدَث الذي أخذ على عاتقه “مصالحة” هاتين الرؤيتَين للعالم، فاقم القسمة الأولى، فصرنا أفلاطونيّين في مثاليّاتنا، وأرسطيّين في واقعنا المعيش[4]. بأيّ الأحوال، فقد كان لهذا البرنامج أن يكتمل إثر التفاعل والتخالط الواسع الذي جرى بين الأفلاطونيّة المحدَثة وبين التيّارات المسيحيّة التي تشكّلت في صيغ رسميّة وبخاصّة مع بولس وأوغسطينوس. فللأفلاطونيّة إطار تفسيريّ رحب لا يُقصي الروح بل يراعي حقّها، ويرى في الإنسان حقيقةً تتخطّى حيّزه الوجوديّ الضيّق في هذا العالم. هذا من ناحية. أمّا من أخرى، فقد كان لها دور تسويغيّ في تبرئة الإنسان من الخطيئة الأصليّة بإحالتها على الجسد.

فلنُجمِل. تقول الأورفيوسيّة بأصلين في الإنسان، أحدهما إلهيّ خيّر، وثانيهما هو محلّ الشرّ. النقلة الثانية تأتي مع الأفلاطونيّين حيث صارت النفس هي البُعد الإلهيّ في الإنسان، والجسد هو البُعد الدنيويّ. وعلى النفس دَينٌ تؤدّيه كي تكمُل، وإلى حين تأديته فهي أسيرة الجسد السجن[5].

كان على النقلة التالية أن تنتظر قدوم ديكارت الذي جعل من الأنا المفكّرة ذاتًا أسمى، بل لقد حصر فيها ذاتيّة الإنسان. “نجد هذا التوكيد، اللوغوس، منذ البداية مع أرسطو، فقد كان معيارَ تعيّن المقولات، أي كينونة الكائنات. بيد أنّ هذا المعيار – العقل البشريّ، العقل بشكل عامّ – لم يكن يوصف بأنّه ذاتيّة الذات. أمّا الآن [مع ديكارت]، يتقدّم العقل، بصراحة، على أنّه ’الأنا أفكّر‘ في المبدإ الأعلى، وكمعيار ومحكّ لتعيّنات الكينونة”[6].

لم يعد للجسد – المنحصر، منذ الآن، في حيّز الامتداد المكانيّ – أيّ نصيب من ذاتيّة الإنسان. بل لقد تكرّس بما هو جسم – وفارقٌ ما بين الجسد والجسم[7] – في مقابل الذهن الذي استبدل الروح في الأدبيّات الفلسفيّة التي تلت.

ومع توجّه الإنسان إلى داخله كي يُحرز اليقين، يتّخذ الخارج صبغةً أجنبيّة بالكامل. تصير الذات المنفكّة disengaged self محور كلّ حراك معرفيّ، وتصير الإبستمولوجيا، بما هي ضابط حركة العلوم المتقصّية للخارج، تمامَ الفلسفة. هذا عطفًا على إيمانٍ، كأنّما أوحي إليهم[8]، بأنّ الداخل (الذهن-الذات) البرهانيّ، الآليّ، والأداتيّ يضاهي الخارج الذرّيّ atomistic المتفاصل.

إنّ ثنائيّةً مماثلةً، مأخوذةً مع نظرةٍ ميكانيكيّة إلى العالم، ونزوعٍ مادّيّ صارخ، لن تفتأ تولّد ثنائيّات وتجاذبات وجدليّات تراوح بين تشيئة الإنسان وعزله عن الحياة. ومع اتّضاح التهافت الداخليّ لهذه المنظومة، وعدم انسجام ثنائيّتها المؤسِّسة مع ما أفسحت له المجال من مناهج علميّة وفلسفيّة دفعت بالمادّيّات لتملأ كلّ حيّز، رُدمت الهوّة بين النفس والجسد (أو الذهن والجسم)، وصرنا نردّد مع ميرلوبونتي، “أنا جسدي”[9]. لقد حُبي الجسد، من ثمّ، بكلّ المثاليّات والقدسيّات التي حازتها الروح فيما مضى.

أعتقد أنّنا هنا أمام مشكلةٍ تختصر في رمزيّاتها كلّ الجدليّات: المقدّس والمدنّس، المفارق والمحايث، الذات والموضوع. ولا أرى حال هذه الجدليّات مستقيمًا إلّا برفعها، والنظر إلى الإنسان بكليّته.

من الملائم هنا أن نسأل: ماذا عن الدين؟ ألم يُتعارف على الأورفيوسيّة دينًا؟ أليس الدين هو مُسبَقةَ الفلسفة التي ازدرت الجسد وجعلت الكمال للروح وحده؟

من الواضح أوّلًا أنّ تأثير الأفلاطونيّة تناهى إلى المعاقل الدينيّة، وبخاصّة عند التيّارات الغنوصيّة. وليس صعبًا أن نفهم انجذاب بعض الاتّجاهات النسكيّة، في كلّ الأديان، باتّجاه تمثّل الأفلاطونيّة، أو بعض نسخها، في مضامينها العقديّة. وكان التأثير جليًّا في الإسلام وفي المسيحيّة. حاولت المسيحيّة، مع توما الأكوينيّ، تبديد هذه الثنائيّة المفروضة من خلال التأسيس على ما في الكتاب المقدّس من إشارات إلى الإنسان في وحدته الوجوديّة، والاستثمار مجدّدًا في تعريف أرسطو للنفس بأنّها كمالٌ أوّل للجسم، وتطوير مقولة “الشخص” الوثيقة الصلة بالأقنوم، والتي كان لها أن تتحرّك في اتّجاهات مختلفة لما فيها من زخم منفتح على الكثير من البؤر المفهوميّة[10]. إلّا أنّ تكثّر المقولات (النفس، الروح، الشخص) دون تبيان الفوارق والتداخلات في المعنى لم يساعد المطلب في كثيرٍ من الأحيان؛ يقول جوزيف راتزينغر [البابا بنديكتوس السادس عشر]: “النفس تنتمي إلى الجسد كـ’صورة‘ [بالمعنى الفلسفيّ] له، إلّا أنّ الذي يكون صورةً للجسد هو أيضًا روح. إنّه يجعل الإنسان شخصًا […]”[11]. وكذلك نجد في معجم الإيمان المسيحيّ، لدى تعداد معاني النفس: “النفس هي الشخص الحيّ”[12].

إنّ فوضًى مماثلةً نجدها في الأدبيّات الإسلاميّة حين التعاطي مع مصطلحَي النفس والروح – لم تجد مفردة الشخص هذا النوع من الاصطلاحيّة هنا، وإن كانت من المفردات الفلسفيّة المتداولة.

ومع إصرارنا على عدم وجود فلسفة عارية عن المسبقات، نرى التداخل بين الدين والفلسفة عصيًّا على الفضّ غالبًا. وأظنّ قويًّا أنّ المدخل الملائم لمعالجة هذه المسألة هو اللغة، لا لأنّ اللغة تختزل المضامين الفكريّة المحرّكة، بل لأنّها تختزنها، لا على نحو الحياد “إذ من المتعذّر على الرويّة [الفكر] أن ترتّب المعاني من غير أن تتخيّل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الرويّة مناجاةً من الإنسان ذهنَه بألفاظ متخيَّلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني حتّى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن[13]، بل على نحو التفاعل. وبالتالي قد ترقى بنا إلى حيث يلتقي المجالان [الدين والفلسفة] في الآفاق التعبيريّة.

يقول هايدغر: “بالطبع، لا تنشأ المسألة دائمًا حيث تظهر الكلمة أوّل ظهورها. لكنّنا مع الإغريق، الذين عنهم صدرت الكلمة، نستطيع أن نقوم بهذا الافتراض دونما تردّد”[14]. مع صعوبة الوقوف على طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، لسنا مضطرّين لأن نقطع للغةٍ بعينها باستثنائيّة قد تشوبها شائبة المفاضلة العرقيّة، بيد أنّنا لا نرى عائقًا  في الإقرار بمحوريّة لغاتٍ دون أخرى من حيث تقاطعاتها التاريخيّة التي جعلت منها لغةً للاشتغال الفكريّ والتداول الثقافيّ. وهذا هو حال اللغة العربيّة التي سادت لفترةٍ طويلة كاللغة العقليّة لهذه المنطقة الحضاريّة.

فالفلاسفة، عربًا وغير عرب، الذين استعملوا اللغة العربيّة كأداة عقليّة لهم في التفكير والكتابة، كافحوا من جهة أولى لبناء معجم جديد بالعربيّة يمكن له أن يعبّر بدقّة عن الأفكار والمفاهيم الإغريقيّة، فضلًا عن أنّهم حاولوا من جهة أخرى ربط هذا المعجم بالتعاليم القرآنيّة. ومن ها هنا كانت الطبيعة الخصوصيّة جدًّا للمعاني العلاقيّة التي نمت حول المصطلحات القرآنيّة[15].

فلنعد إلى موضوعنا. أترك المقاربة اللغويّة المباشرة للجسد لصالح المعالجات الواردة في الملفّ[16]، وأقارب الجسد من باب النفس.

النفس، بحسب معجم ألفاظ القرآن الكريم، هي معنًى في الإنسان يوجّهه إلى أفعاله من الخير والشرّ[17]، أو معنًى به يكون التمييز والإدراك والإحساس بالمحيط، وهي، بَعْدُ، تقعُ موقعَ القلب والضمير، فتكون محلًّا للسرّ، وموطنًا للخاطر[18]. بيد أنّ النفس، على الأغلب، هي ذات الشيء وحقيقته[19]. ولا تعارض بين هذه المعاني. فحقيقة الشيء، إن كان لنا أن ندركها في الحدّ التامّ، هي مورد تمايزه عن حقائق الأشياء الأخرى، وإنّما تُسمّى بالحقيقة من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأهمّ. والنفس هي أثمن ما لدى ذوات النفوس. إذ النفس من النفاسة، “وهي رفعة الشيء وعظم مكانته”. وملاك نفاستها ناطقيَّتُها، أي كونها مدركة، لذاتها ولما سواها، وموجِّهة إلى مواطن الخير، لا أنّها مقصورة على العقلانيّة الأداتيّة.

وبما أنّ النفس هي حقيقة الإنسان، بالمعنى الذي مرّ، فإنّ كمال الإنسان الخاصّ يكون بكمال نفسه. وقد عرّف الحكماء كمال الشيء بأنّه صدور خاصّته عنه على أتمّ وجه[20]. والخاصّة، أو الفصل المقوّم، للإنسان هي نفسه الناطقة.

هل ينفي ذلك مدخليّة الجسد في كمال الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة، على وجه الدقّة، بين النفس والجسد؟

إنّ لحسم مسألة العلاقة بين النفس والجسد، ثمرة أخلاقيّة بالغة الأهمّيّة. فلقد درج عددٌ من علماء الأخلاق والفلاسفة، وبتأثيرٍ من مشارب فلسفيّة ودينيّة شتّى، على نفي أيّة مدخليّة للجسد في تعريف النفس، فجعلوه حقيقة مغايرة مستقلّة، تقف في إزاء حقيقةٍ أخرى مستقلّة هي النفس. ولهذا الأمر تبعاته حتّى عندما نتجاوز عنه لدواعٍ منهجيّة. إذ يصير الكمال عندها هو بنبذ الجسد، وربّما بمعاقبته، لأنّه مكمن الخطيئة والبُعد. وتنسحب هذه النظرة على التعاطي مع الدنيا لِما لا يخفى من كون الجسد (أي البدن العنصريّ الطبيعيّ) هو جزء الإنسان الممتدّ في الزمان والمكان، وبالتالي، المتّصل مع الدنيا. فتصير الدنيا مذمومةً في كلّ الأحوال، والحال أنّها مذمومة حينًا وممدوحة حينًا، والمِلاك في كلّ ذلك هو النفس الإنسانيّة في إقبالها على الدنيا وإدبارها عنها، وفي مرادها من ذا وذاك.

وإذا كان البدن هو جزء الذات الإنسانيّة، بل وجزؤها الممتدّ مع الطبيعة الخارجيّة، فهو حلقة الاتّصال بين الإنسان والعالم من حوله. وهذا ما ينبئ بمدخليّة للبدن ذات جنبة معرفيّة؛ فهل تنفكّ الحقيقة الإنسانيّة المعبَّر عنها بالنفس عن هذا البدن، أم هو جزؤها المشمول في كلّ إشارةٍ إليها؟ يقول الملّا صدرا: “إنّ نفسيّة النفس [هي] نحوُ وجودها الخاصّ الذي يلزمه الإضافة إلى البدن الطبيعيّ، وليست هذه الإضافة كإضافة الأشياء التي عرضت لها الإضافةُ بعد تمام وجودها وهويّتها”[21]. البدن، إذًا، هو بدنها، ولا تكون النفس بحالٍ دونما بدن، وإن كنا نحكي عن بدنٍ عنصريّ طبيعيّ هو لها في هذه النشأة – نُسمّيه الجسد – فإنّ لها في النشآت الأخرى بدنًا ملائمًا.

على هذا، فإنّني أصل إلى التعريف الوارد بحقّ النفس ولعلّه التعريف الجامع: النفسُ “جملةُ الإنسان، والجنى من الروح والجسد”[22]. بيد أنّ هذا التعريف لا يحول دون الوقوع في الالتباس حين الكلام على النفس، إذ يتعدّد المراد منها بحسب اختلاف الموارد. فكيف تكون النفس موردًا للذمّ في محلّ، وموردًا للمدح في آخر؟ أيكون للحقيقة الواحدة هذا النحو من التفاوت وهي بعد حقيقة واحدة؟

المورد الأوّل للالتباس يكمن في إشارتنا إلى الحقيقة الإنسانيّة المذكورة بتسميات شتّى، بلحاظ الحيثيّة التي نُقاربها من خلالها، وهذه الحيثيّات تُشير، في واقع الأمر، إلى أبعاد مختلفة للنفس. يقول الفيض الكاشاني:

وقد يُسمّى هذا الجوهر الملكوتيّ [النفس] بالروح لتوقّف حياة البدن عليه، وبالقلب لتقلّبه في الخواطر، وبالعقل لاكتسابه العلوم واتّصافه بالمدركات، وقد تستعمل هذه الألفاظ الأربعة [النفس والقلب والعقل والروح] في معانٍ أخر تُعرف بالقرائن[23].

بعبارةٍ فلسفيّة:

النفس تمام البدن؛ يحصل منها ومن المادّة نوع كامل جسمانيّ. وجوهر النفس باعتبار ربوبيّته للبدن يُسمّى روحًا، والبدن تجسُّدُ الروح وتجسُّمُه، ومظهرُه ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة [أي في هذه الدنيا][24].

أمّا مورد الالتباس الثاني فهو أنّ هذه النفس ليست قارّةً بغير حراك. فهي تشتدّ وتقوى وتتكامل في كلّ واحدٍ من أبعادها المذكورة. فمن حيث هي روح، فهي قد تشتدّ في روحانيّتها حتّى تصير أمر الله؛ ومن حيث هي قلب، فقد تخلو من كلّ خاطرٍ ما سوى الله، وتطهّر سرّها، فتكون عرشَ الرحمن؛ ومن حيث هي عقل، فقد تكتمل بالمعارف والعلوم لتصير عقلًا قدسيًّا، وعالمـًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ. فهل يمكن مقارنة النفوس الأمريّة، العرشيّة، القُدسيّة بالنفوس المنكوسة المـُخلِدةِ إلى الأرض، المكتفية بها؟

إنّ القسمة السالفة الذكر بين الذات والموضوع في الحيّز الأنطولوجيّ ولّدت القسمة بين الوقائع والقيم fact/value split في الحيّز الأخلاقيّ. باتت القيمة “تعبّر عن ردّ فعلنا الذاتيّ تجاه الموضوع من دون أن يكون للموضوع ارتباط واقعيّ بتوليد ردّ الفعل المذكور”[25]، فتساوت كلّ الأشياء. ومع “موت الذاتيّة” في حتميّات المسار الفلسفيّ المذكور ضاعت القيمة تمامًا. ومع ضمور القيم تتهافت الأسس الأخلاقيّة لانعدام القدرة على تأسيسها على عقلٍ أداتيّ منبتّ الصلة بالخارج. وتتهافت معه، بل وقبله، كلّ إمكانيّة لإقامة مجتمع إنسانيّ تواصليّ.

إن كان الدليل الأوّليّ [على الواقع] موجودًا في وعي الذات وحدها، فلن يكون ممكنًا أن نؤسّسَ انطلاقًا منه، وبنفس القيمة الحضوريّة، الواقعيّةَ المستقلّة للأشياء الأخرى. أضف إليه أنّ التواصل بين الذوات يصير مستحيلًا؛ إذ لو عرّفنا الأنا ego على أنّه الوعي، يصير جسدا الأنا ego والأنا الآخر alter ego عوائق أنطولوجيّة مزدوجة يستعصي تخطّيها. وليس هذا فحسب، بل يصير الجسد نفسه مشكلة: كيف نفسّر التعبير، إذ يظهر في الجسد، في الوقت الذي لا نجد له أثرًا، بأيّ نحو، في الخصائص الأنطولوجيّة للأجساد بما هي أجساد[26]؟

من هنا انصبّ نقدُ المعترضين على المسار الفلسفيّ المذكور على إيلاء الأولويّة للمجتمع بما هو بؤرة الهويّة الفرديّة، وأكثر ما توسّلوه في دخول هذا المدخل فهو التقصّي المتأنّي لدور اللغة في حياة الإنسان. باتت المهمّة بين أيدينا تقوم على

تجاوز المعتقدات الأنثروبولوجيّة الفاسدة [الرؤية إلى الإنسان القائمة على أساس الفصل بين الذات والموضوع] من خلال نقد – وتقويم – المباني المعرفيّة المتعلّقة بها، والتي لعبت دورًا كبيرًا في إيلائها [المعتقدات الأنثروبولوجيّة] رصيدًا لا تستحقّه. بعبارة أخرى، من خلال توضيح شروط القصديّة، نفهم أنفسنا أكثر بما نحن فواعل معرفيّة – وبالتالي كائنات لغويّة – ومن ثمّ نحرز فهمًا لعدد من الأسئلة الأنثروبولوجيّة التي تتأسّس عليها معتقداتنا الأخلاقيّة والروحيّة[27].

إنّ الإشارة الواردة إلى القصديّة قد تنحصر – في هذا السياق – باللغة، إلّا أنّ القصديّة في الإنسان تتجاوز كونها من خصائص فكره أو لغته، بل هي تشير إلى أنّه كائنٌ متجاوزٌ بكلّه، لا ينحصر في ذاته، بل يتخطّى إلى ما سواه تخطّي تفاعل وتكامل. أمّا الإشارة الأوسع إلى التغيّرات الأنثروبولوجيّة فتشير إلى ما بات كثير التداول في يومنا، ويُطلق عليه “الانعطافة الأنثروبولوجيّة” في ربطٍ له بالانعطافات الكبرى في تاريخ الفلسفة الحديث (الانعطافة المعرفيّة، الانعطافة اللغويّة، وغير ذلك). ويبدو أنّ كثرة الانعطافات ستعود بنا إلى المحلّ الأوّل. بيد أنّه من المعيب أن نصل إلى هناك دون أن نكون قد تعلّمنا واستفدنا من كلّ التجارب والإخفاقات.

إنّ الفكر الإسلاميّ مدعوّ اليوم، ومن موقع منهجه التوحيديّ الأرحب، إلى خوض هذا الغمار تأسيسًا على موقعيّة القيم منه، ومحوريّة المعنى عنده، إذ الروح هي المعنى. وكلّ تعاطٍ مع الإنسان يأخذه بمعزل عن تماهيه مع العالم ومع غاياته، ويريد أن يردّه إلى مكوّنات مادّيّة فيه، يستطيع من خلاله أن يؤطّره في معادلات رياضيّة، ويدرسه بحسب برامج حاسوبيّة، هو تعاطٍ لا يرى الحياة في الإنسان. والحياة لا تخلو من التعقيد، لا تخلو من تعدّد السياقات وتمازجها، واختلاف أدوار المكوّنات بحسب اختلاف السياقات[28]، كما لو أنّ الحياة نصٌّ لا قيوميّة فيه على المعنى إلّا لمرادات الناصّ وسياقات القراءة. بهذا اللحاظ ندرك المغزى ممّا ورد أعلاه بأنّ النفس معنى، إذ عنها تصدر أفعال الحياة، والجسد من حروفها، لا نفهمه إن عزلنا ما بين السطور، ولا نقبض عليه إن لم نقرّ للرمزيّات بغنى المعنى. إنّ الحياة لا تُفهم إن لم نمتلك قدرة لنؤوّل، وخيالًا لنتجاوز.

هذه تلميحات أكتفي بها لكي نظلّ في حدود افتتاحيّة – وهذا مطعون فيه – عسى أن تتمكّن المحجّة من تظهيرها.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر،

  1. Ricœur, The Symbolism of Evil (New York: Harper & Row, 1969), p. 357.

بالطبع، نحن لا نرى، كذلك، أنّ ارتباط الفلسفة باللغة هو أقلّ وثاقة. انظر أدناه.

[2]

Ibid, p. 279; J. Ratzinger, Eschatology: Death and Eternal Life, tr. Michael Waldestein, 2nd ed. (Washington D.C.: The Catholic University of America Press, 1988), p.141.

الأسطورة الأورفيوسيّة معروفة إلى حدٍّ بعيد: يقوم الجبابرة (أو التياتنة Titans) بقتل الإله الطفل ديونيسوس، ويغلونه في قدر، ويأكلونه. وليعاقبهم، يرميهم زوس بالصواعق، ويخلق من رمادهم الجنس البشريّ. وهكذا، يُشارك الإنسان في الطبيعة الإلهيّة لديونيسوس، والطبيعة الشرّيرة للجبابرة.

[3] انظر، في هذا العدد، باساراب نيكولسكو، “العبر مناهجيّة كإطار منهجيّ لتخطّي جدال العلم والدين”.

[4] انظر، مثلًا،

  1. D’Ancona, “Greek into Arabic: Neoplatonism in Translation”, in P. Adamson and R. C. Taylor, The Cambridge Companion to Arabic Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 2005), pp. 10-31.

لوجهة النظر المغايرة،

  1. E. Karamanolis, Plato and Aristotle in Agreement? Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry (Oxford: Oxford University Press, 2006).

[5] المعنى الحرفيّ لكلمة سوما sôma – أي الجسد – اليونانيّة هو السجن، “[و]لا يلزم تغيير ولا حتّى حرف واحد في الكلمة”، كما يقول أفلاطون. أفلاطون، محاورة أفلاطون، ترجمة عزمي طه السيّد أحمد (عمّان: وزارة الثقافة، 1995)، الصفحة 125.

[6] انظر،

  1. Heidegger, What is a Thing? tr. W. B. Barton, Jr., and V. Deutsch, with an analysis by E. T. Gendlin (Chicago: Henry Regnery Co., 1967), p. 106. Original edition: M. Heidegger, Die Frage nach dem Ding (Tübingen: Max Niemeyer Verlag, 1962).

[7] انظر، في هذا العدد، أحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[8] بعبارة تشارلز تايلر: “المسألة كانت كما لو أنّهم تلقّوا وحيًا، قبليًّا a priori، بأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يجري بمقتضى الحساب الصوريّ. الآن، أنا أذعن بأنّ جذور هذا الوحي تضرب في أعماق حضارتنا [الحضارة الغربيّة] والنموذج الإبستمولوجيّ المرفق بها”. يُلمّح تايلر هنا إلى تكثّف البُعد العقلانيّ، بالمعنى الأداتيّ، في الفكر الغربيّ، ويُقدّم معالجةً طيّبة لهذه المسألة. وللمزيد حول هذه المسألة انظر، في هذا العدد، مقالة ألستر كروك “القيم الغربيّة: حكاية السيّد الذي أطاح به خادمه”. المقالة تستقي من كتابٍ لإيان ماكغيلكرايست يبيّن فيه أسبقيّة بُعدٍ معرفيّ، في الإنسان، قائم على القبض المباشر على الواقع، على بُعد يتوسّل الصور والتمثّلات [غير المباشرة] لمعرفة الواقع. وهذا هو محور النقد الذي تقدّم به نيتشه وهايدغر وآخرون للإبستمولوجيا التقليديّة إذ جعلوا الجمعيّة في الخارج في مقابل الذرّيّة، ورفضوا مقولة الذات المنفكّة لحساب الذات المنخرطة – “الكائن-في-العالم”. أمّا في الفلسفة الإسلاميّة، فقد قامت الإبستمولوجيا على الاعتراف بهذين النحوين من المعرفة، الحضوريّ والحصوليّ. انظر،

  1. Taylor, Philosophical Arguments (Harvard University Press, 1995), ch. 1 “Overcoming Epistemology”, p. 6; I. McGilchrist, The Master and his Emissary: The Divided Brain and the Making of the Western World (New Haven and London: Yale University Press, 2009); M. Hai’ri Yazdi, The Principles of Epistemology in Islamic Philosophy: Knowledge by Presence (New York: SUNY Press, 1992).

[9] انظر، في هذا العدد، جوزيف معلوف، “مفهوم الجسد عند موريس ميرلوبونتي”؛ أظنّ أنّ مفردة “جسم” أليق، كترجمة، من “جسد”. وأيضًا، وجيه قانصو، “الجسد في الفلسفة الوجوديّة”.

[10] انظر،

Eschatology, op. cit., pp. 108, 155-158.

[11]

Ibid, p. 149.

[12] الأب صبحي حموي اليسوعيّ، معجم الإيمان المسيحيّ، أعاد النظر فيه من الناحية المسكونيّة الأب جان كوربون، الطبعة 2 (بيروت: دار المشرق، 1998)، الصفحة 514.

[13] ابن سينا، الشفاء: المنطق، 1- المدخل، تصدير طه حسين، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأساتذة الأب قنواتي، محمود الخضيري، فؤاد الإهواني (القاهرة: وزارة المعارف العموميّة، 1953)، الصفحتان 22 و23. التسويد ليس في الأصل.

[14]

What is a Thing? Op. cit., p. 249.

[15] توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم، ترجمة وتقديم هلال محمّد الجهاد (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2007)، الصفحة 92.

[16] انظر، تحديدًا، شفيق جرادي، “ابن الطين وغسق الذات المجهولة”، وأحمد ماجد، “الأسطورة والجسد”.

[17] مجمع اللغة العربيّة (القاهرة)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الطبعة 2 (انتشارات ناصر خسرو، 1363 ش. ق.)، الجزء 2، الصفحة 709.

[18] المصدر نفسه. وقد وردت في الآيات القرآنيّة شواهد بكلّ هذه المعاني. على سبيل المثال: سورة البقرة، الآيتان 233 و281؛ سورة آل عمران، الآيتان 161 و185؛ سورة المائدة، الآيتان 32 و45؛ سورة يونس، الآيات 30، 54 و100؛ سورة الإسراء، الآية 33؛ سورة الكهف، الآية 15؛ سورة الأنبياء 47؛ سورة السجدة، الآيتان 13 و17، وغيرها.

[19] المصدر نفسه، الصفحة 710.

[20] الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ترجمه عن الفارسيّة ووضع الدراسات والتحليلات العلميّة الدكتور محمّد صادق فضل الله (بيروت: دار الهادي، 2008)، الصفحة 121.

[21] صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات، تقديم وتصحيح محمّد خواجوى (بيروت: دار الصفوة، 1993)، الصفحتان 145 و146. إنّ العمق الفلسفيّ لهذا الاستنتاج يكمن في القاعدة القائلة بأنّ النفس جسمانيّة الحدوث، روحانيّة البقاء. ولكن لا مجال لتفصيل القول في ذلك هنا.

[22] معجم ألفاظ القرآن الكريم، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 708.

[23] الفيض الكاشاني، الحقايق في محاسن الأخلاق، الطبعة 2 (بيروت: دار البلاغة، 2004)،  الصفحة 50.

[24] آية الله حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون [عيون مسائل النفس] (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1421 هـ. ق.)، الصفحة 13.

[25]

  1. McInerny, A Student’s Guide to Philosophy, with a bibliographical appendix by J. P. Hochschild (Delaware: Intercollegiate Studies Institute Books, 1999), p. 46.

[26] إدوارد نيكول، “العودة إلى المِتافيزيقا”، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة (بيروت: معهد المعارف الحكميّة، 2010)، العدد 21.

[27]

“Overcoming Epistemology”, op. cit., p. 14.

[28] انظر،

  1. Talbott, “What Do Organisms Mean?” The New Atlantis 31, Winter 2011.

إفتتاحية العدد 32

افتتاحية العدد 32

قد يصعب على المفكرين والعلماء من أهل الإيمان الديني الرضوخ لواقع التعاطي مع ظاهرة الإلحاد كظاهرة تأويلية جديرة بالاصطفاف في صفٍ مقابلٍ لصف طروحاتهم الإيمانية الدينية، كيف لا والإلحاد – على اختلاف مستوياته وتفاوت طروحاته – لم يقم في نظرهم إلا على رفات وهمية اصطنعتها نفوس الملحدين لما ظنوا أنهم هدموه من مبتنيات المنظومات الدينية المحكمة. وبعبارة أخرى، لم تكتسب أي من طروحات الملحدين مشروعية القول إلا بإقصائها لما يقابلها من مقولات الإيمان، فلا تكون طروحات الإلحاد بالنسبة لأهل الإيمان أكثر من مجموعة مقولات عدمية يتوهم صاحبها لها الموجودية لضعفٍ في التمييز بين الوجودات الحقيقية والعدميات الخاصة. فما كان لأصل الثبوت فاقدًا، فإنه لأي نحو من أنحاء الإثبات أشد فقدًا، وهذا على أهل الإيمان إملاء ضروري تفرضه ضوابط المنطق العقلي الذي يوقف الخوض في الهَليات المركبة على تحقق الإيجاب في جواب الهَليات البسيطة.

وعلى المقلب الآخر، لم يهنأ لدعاة الإلحاد يومًا الارتكان إلى أي نوع من أنواع التهميش الذي سعى ويسعى المتدينون – من ربوبيين وكتابيين – إلى إرسائه والبناء عليه. حيث ذهب المتقدمون منهم إلى تبنّي موقف حاد وجذري يحيل كل إيمان ديني إلى تبريرات خاوية تصطنعها نفس الإنسان الجاهل بتفسير أحوال الكون المحيط به وشؤونه تارةً، وإلى موهومات تخلقها واهمة الإنسان المأخوذ بحس الأسطرة أخرى، وإلى موروثات ومسبقات تختزنها حافظة الإنسان الجهول المتواني عن إعمال عاقلته ثالثةً، وغير ذلك من التفاسير التي توسّل به أولاء في سبيل ضرب أي أساس اعتقادي تقوم عليه المنظومات الإيمانية والدينية، ما حدا بهم إلى ادعاء التفرّد في حيازة العقلانية، أو لا أقل التفرّد في كسر كل قيود الإيمان عن النزعة العقلانية، حتى انتهت النوبة إلى دعاة الإلحاد الجدد، الذين توخّوا في سبيل الغاية نفسها سبيلًا آخر؛ وهو الاستناد إلى النتائج الحسية اليقينية التي تثبتها العلوم التجريبية الحديثة، الأصل نفسه الذي يستند إليه بعض الدينيين في إثبات مواقفهم!

وفي حين نجدنا رافضين للموقف الثاني، لما يعتريه من إفراط صريح ومغالاة واضحة يجدها المنصف في ادعاءات الملحدين التفرد في النزوع نحو العقلانية، فإن حالنا يختلف مع الموقف الأول، فإننا وإن كنا نوافق وإلى حد بعيد على مقدماته، إلا أننا لا نوافق على عدم أهلية مقولات الإلحاد للنقاش والبحث نفيًا أو إثباتًا، ذاك أن الفلاسفة – ووفق الضوابط المنطقية نفسها – أقروا أن للأعدام الخاصة حظًّا من الوجود، ما يعني أن المقولات الإلحادية المدّعاة العدمية قد يصح الوقوف عليها والعمل على تفنيدها.

وانطلاقًا مما تقدم نقول: لقد بات وجود ظاهرة الإلحاد واقعًا لا يمكن تجاوزه، بل ثبت أن لهذه الظاهرة، لما انكشف من قدرتها على التوالد والانتشار في كل عصرٍ ومِصر، أسسًا ذاتيةً وموضوعيةً ينبغي الوقوف عليها وبحثها في سبيل الخلوص إلى فهم صحيح لحقيقة هذه الظاهرة.

نعم، قد لا يجد الباحث في كثير مما تنتجه هذه الظاهرة من مقولاتٍ حقلًا خصبًا للنقاش العلمي الحقيقي – ولسنا في هذه العجالة بصدد استعراض أو دحض أي من الطروحات الفكرية للملحدين – إلا أن أصل وجود هذه الظاهرة والتثبّت من وجود ميل قوي عند كثيرين إلى تبنيها والمحاربة تحت لوائها يفرض على الباحث إعادة السؤال عن نوابعها ودوافعها في سبيل الوصول إلى بر يقين في تفسير واقعها، خصوصًا مع وجود طرح واسع مناوئ لها – وهو الطرح الإيماني على اختلاف مدارسه – يدعي لنفسه ما تدعيه لنفسها من الاستناد إلى ضرورات العقل وحتمياته، ما يجعلنا أمام معيار وحيد مشترك بين الاتجاهين، هو معيار العقل.

وفي سبيل الخوض في هذا السؤال – أعني السؤال عن نوابع ظاهرة الإلحاد – وغيره مما يترتب عليه من الأسئلة، فإن معيار العقل المذكور أعلاه هو الأرضية الوحيدة التي يصلح الانطلاق منها، لما له من حجية على كلا الطرفين، وإلا فلن يصح بوجه من الوجوه معالجة ظاهرة بالاستناد إلى مبان منهجية مرفوضة في تمثّلات تلك الظاهرة.

والكلام على معيار عقلي هذه حاله، إنما يفرض على الخائض امتلاك روحية بحثية حيادية، تتيح لصاحبها الوقوف على كل ما يتطلبه البحث من استحضار لمقولات الطرح الإلحادي – كما والديني عند اقتضاء الضرورة –، وترفع عن كاهله كل الأحكام المسبقة، وتضع عنه كل أوزار الضغائن والأحقاد النفسية، مما قد يمنعه عن الوصول إلى نتائج صائبة.

وفي سياق ما تقدم، تحمل المحجة في عددها هذا على عاتقها مهمة الخوض في هذا السؤال. وإنها إذ تطرح موضوعة الإلحاد على بساط البحث، فهي إنما تعمد إلى ذلك لأسباب أهمها:

– إيمانها بضرورة الوصول إلى فهم دقيق لهذه الظاهرة، ما يمهد للتوغل تاليًا في تأسيس فهم فلسفي أوضح للطبيعة الإنسانية، وهو ما عمدت المحجة في كثير من أعدادها السابقة إلى تحقيقه.

– السعي إلى توفير الأرضية المشتركة السابق ذكرها عبر تقديم أبحاث تتوافر على المعايير العلمية الرصينة والحيادية.

– التأكيد على مركزية الإيمان العقلاني الذي تجده سبيل الخلاص الوحيد، والسعي إلى تقديم إجابات على كثير من إشكالات الملحدين، وهو المؤمل مما سيرد في طيات أبحاث الملف في هذا العدد.

– دعوة أهل الإلحاد، من دعاة ومنظرين ومتبنين، إلى حوار علمي هادئ ورصين يفترض له أن يساهم في استنقاذ هؤلاء من غياهب الاغتراب الذي يكتنفهم، مدفوعةً بالتزامها الدائم بقضايا الإنسان كموجود كرمته المشيئة الإلهية.

 

مع العدد

تندرج أبحاث العدد ضمن بابَين، أولهما ملف العدد المعنون بـ”الإلحاد واغتراب الإنسان”، وثانيهما باب الدراسات والأبحاث، حيث حوى الأول سبعة بحوث، فيما حوى الثاني بحثين اثنين.

يُستهل العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يحاول فيها الإضاءة على جوهر حقيقة الإنسان كمحور أساسي للنقاش الفكري المحتدم بين دعاة الدين ودعاة الإلحاد، فيذهب في طرحه إلى استنطاق مقولات أساسية تبني عليها دعوات الإلحاد ركائزها، كمبدأ “الإرادة الحرة” مثلًا، ليبدد التعاند الموهوم بينها وبين حقيقة الإيمان، ويحدد أطرها الفكرية المفترضة في انتظام حياة الإنسان، ما يجنّب من الوقوع في مغبّة “بتر” الأخير عن الدور الذي يريده الدين له.

ثم نقف مع طرح بحثي لحسن بدران، نتساءل فيه بإلحاح عن الحدود المعرفية الواقعية التي يمكن للقول الإلحادي السريان إليها، ونستعرض معه إمكان اكتناه أصالة حقيقية للدعوة الإلحادية في مقابل الدعوات الدينية، عبر استجلاء المعالم الفكرية للطروحات الإلحادية المختلفة، وذلك باستنطاق هذه المنظومات ومساءلتها عن رؤيتها لجملة من المفاهيم المركزية، كمفهوم “الله” و”الدين” و”الطبيعة”.

ثم يلي ذلك وقفةٌ مع آلفن بلاتينغا نطالع فيها افتقاد فريقَي نزاع “الإيمان” و”الإلحاد” إلى أرضية مشتركة للنقاش يجنّب الانطلاق منها الانجرار إلى واقع من التراشق اللفظي الدفاعي أو الهجومي، النابع من تشكيك كل من الطرفين بالحيثيات المعرفية والعقلية للطرف الآخر، ونصل معه إلى اقتراح حلٍ للخروج من هذه الدوامة، وذلك بلحاظ الاتساق الأنطولوجي الذي يشغله إنسان الإيمان وإنسان الإلحاد، سعيًا إلى الوصول إلى تثبيت خطوط النزاع والبحث تاليًا في أسس الخلاف النظرية بين الفريقين.

وبعده، يطالعنا مشير عون بدراسة يحاول فيها تحديد المبتنيات الفكرية والنظرية للفيلسوف الألماني “فريدريخ نيتشه”، الذي قدم في أطروحته المناوئة للمنظومة الدينية الكنسية جهدًا سعى فيه، من جهة، إلى تهديم أواصر البناء الديني ونبذ إله الكنيسة الذي أعلن – بحسبه – عن موته بأكثر من صورة، ومن جهة أخرى إلى بناء مفهوم جديد للإنسان يكون الأخير فيه متحرّرًا من القيود الدينية الآسرة، متجرّدًا عن المسبقات الإيمانية المحددة، سيدًا قويًا مطلق الإرادة.

ونخوض بعد ذلك، مع أحمد ماجد، في بحث إشكالي نقدي يطال لغة الإلحاد، التي يتبدى فيها العجز عن استيفاء مشروعيةٍ حقيقية للقول الإلحادي، ما حدا بها إلى السعي إلى ضرب النسق البنيوي الذي تقوم عليه لغة الإيمان، بل اللغة عمومًا، في إغفال منها للتداعيات الخطيرة لهذا المسعى، والتي تؤسس لمفهوم مبتور للإنسان، الذي تعتبر اللغة عنصرًا أساسيًا في تكوين أبعاده الوجودية.

وننتقل بعدها إلى مقاربة سمير خير الدين لواقع النقاش القائم بين الدين والإلحاد، ففي حين يتسالم كثير من أهل الفكر على أساسيات المنهج العقلي المنطقي، إلا أن واقع الخلاف إنما يتبدى في استطلاع طبيعة المواد التي تتشكل منها مقدمات البرهان عند الطرفين، والذي يشي – في كثير من الحالات – بقيام الجدال الإلحادي على إلزام الآخر بمقدمات لم يلتزمها، ما يقوي الاعتقاد بكون الإلحاد نابعًا – أول الأمر – من دوافع نفسية.

أما مع عبد الله زيعور، فإننا نقف على نوعٍ من المطارحات العلمية القائمة على أساس محاكمة الخصم انطلاقًا من مبتنياته، ففي حين يعمد كثير من دعاة الإلحاد الجدد إلى توظيف نتائج العلوم التجريبية الحديثة في سبيل التأكيد على نفي وجود خالق للكون، ينطلق زيعور من النتائج نفسها ليؤسس عليها فهمًا ما ورائيًا مختلفًا، تكون فيه هذه النتائج مقدمّات ضروريةً للإيمان اليقيني بوجود صانع للكون.

أما باب الأبحاث والدراسات، فنطالع فيه ورقتين بحثيتين لكل من كمال لزيق وأحمد جابر، تعالج الأولى البعد الوجودي للمعرفة في فلسفة صدر الدين الشيرازي، عبر الإضاءة على المعاني الجديدة التي قدمها صدرا لكل من العلمين الحضوري والحصولي، والتأكيد على أصالة الأول واعتبارية الثاني في منظومته المعرفية؛ فيما تتناول الثانية مسألة أصالة الوجود كما طرحها صدر الدين الشيرازي، عبر تحديد الأطر الصحيحة لمعنى أصالة الوجود، وتجاوز ذلك لاستعراض تفسيرات جديدة لها قدمها شرّاح متأخرون لفلسفة الحكمة المتعالية.

وهما – أي الورقتان البحثيتان الأخيرتان – جزء من النتاج العلمي الذي تمخّض عن ندوة إقليمية أقامها معهد المعارف الحكمية في العام المنصرم، تحت عنوان “النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية”، سيصار إلى نشر ما نتج عنها من أبحاث في الأعداد القادمة من المحجة.

والحمد لله رب العالمين.

إفتتاحية العدد 31

شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين حراكًا فكريًا فريدًا تمثّل بانفتاح المؤسسات الحوزوية على أنظومات الفكر المناوئ – الغربي منه أو العربي –، وقد كان هذا الانفتاح أثرًا طبيعيًا لاجتياح بعض المدارس المادية واللادينية للساحة الفكرية في بلاد المسلمين، نتيجة إرهاصات سياسية تاريخية لا مجال لبسطها، حيث كان لهذا التحول آثاره الهادمة لبنية المجتمع الإسلامي، فتنطّح إذ ذاك بعض أساتذة الحوزات العلمية للدفاع عن تعاليم الدين ومواجهة الطروحات النظرية لتلك المدارس. وقد لزم في هذا المسعى أن يتمسك روّاد هذا الحراك بخلفيات التأصيل الفكري التي توفرها الحوزة من جهة، وبميسم الاجتهاد الفكري الذي يتخطى السائد من المعالجة ويفتح للعاقلة آفاقًا علميةً جديدة من جهة أخرى، بحيث يضحي المفكر متوفّرًا على دافع الخوض في حقول وميادين جديدة ولكن برؤية ونفس أصيل ورؤيوي.

ولكن مساعي هذه الزمرة لم تنجُ من نقودات علماء الداخل، وبالداخل أعني المنظومة الإسلامية، لأنه إن كان من خطير الادّعاء القول إن ارتكان الفلسفة إلى مقولات الدين – أي دين كان – هو عامل إقصاء لحيوية تلك الفلسفة وتحديدٍ لمدياتها الغائية في استقراء الوجود، فإن الأخطر منه ادّعاء أن الفلسفة ومطالبها علوم غريبة عن الدين، مشوهة لصورته وحقيقته، نازعة سمة القداسة والإلهية عنه. وهذان تياران كان على أصحاب التوجه المذكور التصدي لهما.

ولإن كنا سنخوض في مسعًى استشرافي لأهم أعلام هذا الحراك، فإننا سنجد العلامة الطباطبائي على رأس قائمة أولئك العلماء، لما اضطلع به من دور مركزي في ذاك السياق. فقد خرج الرجل في عصر كانت الفلسفة تنحو فيه نحو عملية بتر لكل ما هو ديني فيها، لا سيما في العالم الإسلامي، والحوزات تنحو نحو إقصاء لكل مشتغل أو مهتم بالفلسفة، فخرج إذ ذاك ليعيد نسج خارطة العقل الإسلامي والفلسفي على حد سواء، مثبتًا – أو ساعيًا إليه بالحد الأدنى – أن الفلسفة لا يمكن أن تحاكي واقعًا تُغيّبُ منه عالم ما وراء الطبيعة، وما يتعلّق به من مقولات الغيب والإلهام والشهود وغيرها، ومثبتًا من جهة أخرى أن الفهم الديني الحقيقي لا يمكن أن يصبح منتجًا حقيقةً ومعايشًا لهواجس العاقلة الإنسانية المتأخرة ما لم يكن على اضطلاع بمقولات الفلسفة، باسطًا لوجهته فيها، ليعيد بذلك إرساء لُحمة بين هذين الحقلَين.

إلا أن حصر الجهد المعرفي للعلّامة بهذا الحقل قد يكون من الإجحاف بمكان، حيث إن مساحة عمل الرجل تتخطى مجرد دور المدافع في إزاء الطروحات الهجينة، فقد كان له دور ريادي في التأسيس لإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية حول الله والإنسان والعالم، وذلك عبر إسهاماته التي قدّمها في سائر مجالات العلوم الدينية والعقلية، وإنجازاته التي يشهد له بها كل مطّلع؛ فقد أرسى – رحمه الله – منهجًا مستحدثًا في تفسير القرآن، يعتمد آيات القرآن نفسها منطلقًا لتفسير سائر النص القرآني؛ كما وسعى إلى إعادة تقديم النظام الفلسفي لملا صدرا بمرتكزات جديدة، مضيفًا إليه بعض الإبداعات الجديدة كبحثه حول الإدراكات الاعتبارية، وطروحاته في نظرية المعرفة، وغيرها؛ كما وعمل على صياغة نسق عقائدي مواده اليقينيات من القضايا وعناصر هيئته الاستدلال بالتلازم؛ كما وقدم بحوثًا في العرفان والولاية يقع الإنسان فيها أصلًا موضوعيًا يُلحظ في سياق علاقته بالمطلق؛ ذاك كله مضافًا إلى مباحثه في التاريخ والسيرة.

وبذلك، فقد كان لهذا العالم قدم السبق على سائر علماء عصره، وهذا مردّه إلى ما توفرت عليه منظومته الفكرية من مميزات فريدة. فقد اتّسمت تلك الشخصية أولًا بالموسوعية والشمولية، حيث كان ضليعًا في الفلسفة والعقائد طويل باع في الفقه والأصول والحديث متمرّسًا في علوم القرآن والتفسير محيطًا بحقول السيرة والتأريخ، إلى غير ذلك من المجالات؛ واتّمست شخصيته ثانيًا بالعمق والغزارة، حيث كان في كل واحد من تلك المجالات عميق التناول غزير الطرح، يقف على دقائق القضايا ويسائل المركوز فيها فلا يتلهى بالسطحي منها مغمضًا عينه عن لبها وأسِّها؛ ثم اتّسمت شخصيته ثالثًا بالجدة والريادة، حيث كان في كل القضايا العلمية رائدًا في طرح الجديد الذي يفتح آفاق الفكر على موضوعات مفصلية لم يكن قد سبق الخوض في طرحها؛ واتّسمت رابعًا بمسيم الإحيائية لمفهوم الأصالة الإنسانية، حيث جُعل الإنسان في فلسفة الطباطبائي وفكره أصلًا ترتكز عليه فروع المطالب وبلحاظه ترتسم الأفكار وتخاض النقاشات؛ واتّسمت أخيرًا بالواقعية الموضوعية، حيث استندت معظم استدلالاته الفلسفية أو العقائدية أو غيرها على أصول موضوعية هي القضايا اليقينية، وبهذا فإن طروحات الطباطبائي موافقة لما بإزائها في الخارج، أي مطابقة للواقع ونفس الأمر، سواء كان الواقع خارجًا أو ذهنًا أو شيئًا غيرهما.

والمحجة إذ تعمد في عددها هذا إلى استعادة أهم المرتكزات والأسس المنظومية لفكر العلامة الطباطبائي، فهذا مسعًى منها ينصبّ في سياق السعي إلى إعادة قراءة الذات بغية تكوين هوية إسلامية أصيلة ومشخّصة، ذاك أن موضوع الهوية مماسّ ولصيق بموضوع الثقافة ودورها في بناء الذات، خصوصًا مع ثقافة كتلك التي أرساها العلّامة الطباطبائي، الذي جعل التوحيد محورًا دارت حوله كل طروحاته، واتخذ القرآن قاعدةً ارتكز إليها في كل فتوحاته العلمية؛ ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذه الاستعادة.

ولا يفوتنا الإشارة في هذه العجالة إلى أنه سيصار في أعداد قادمة من المحجة إلى نشر أبحاث علمية تقع في إطار مشروع فكري ينطلق من نفس التوجيه المذكور أعلاه، يعمل الباحثون خلاله على بناء نظام منهجي لفكر العلامة الطباطبائي الفلسفي بالاستناد إلى كتابه نهاية الحكمة، فيضحي هذا العدد مثابة مقدمة لمشروع بحثي طويل تباشره المحجة في أعدادها القادمة.

 

مع العدد

يُستفتح العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يقدم فيها رؤيةً تأسيسيةً لمفهوم العبودية كما يطرحها الطباطبائي، يُرى إلى الإنسان “العبد” فيها بما هو رابط ومظهر لحقيقة القيومية الإلهية، ممهدًا بعد ذلك إلى طرح أساس نظري لنظام قيميّ يرتكز عليه مفهوم العبادة في الإسلام. ثم نطالع بعدها مقاربةً لمحمد ليغنهاوزن ينطلق فيها من حاشية العلّامة الطباطبائي على برهان الصديقين كما طرحه صدر الدين الشيرازي في كتاب الأسفار التي أرسى فيها أصالة الواقع ليواجه طروحات التيار الطبيعاني وبالتحديد آراء ويلارد كواين.

ثم نقف بعدها على طرح بحثي لحسن بدران يتمحور حول فهم الطباطبائي للإنسان تكون الركيزة فيه رؤية الطباطبائي للاعتباريات – بما تختزنه من دلالات على حقائق وجودية تحتها – في سبيل إعادة تشريح البنية الإنسانية على أساس أنثروبولوجيا النفس والروح عند العلّامة.

بعد ذلك نستطلع مع أحمد ماجد الأبعاد المعرفية لمقولة اللغة وماهيتها ودورها عند الطباطبائي، منتقلين منه إلى تناول مفردات اللسان والقول والكلام مع تفريق بينها، لنصل إلى دراسة العلاقة بين الكلام والفكر، مختتمين المطاف ببحث الروابط بين القرآن الكريم واللغة والفكر.

ونعبر بعد ذلك مع سمير خير الدين على دراسة المنهج الاستدلالي العقائدي عند الطباطبائي والذي يرتكز بشكل أساس على السير التلازمي، مطالعين لأهم خصائص هذا السير، متعرضين بعدها لبعض صيغ تطبيق هذا السير على القضايا العقائدية. وننتقل بعدها إلى معالجة إبراهيم بدوي الذي يقدم قراءةً استشرافيةً حول مفهوم السعادة، باسطًا لأهم الآراء المطروحة في سياق معالجته، مختتمًا برأي العلّامة ووجهته، مشعّبًا البحث في وجهتين، أولاهما البحث في نفس معنى مفهوم السعادة، وثانيهما البحث في كيفية تحصيلها.

ثم بعده يقدّم لنا مازن المطوري قراءةً موجزةً في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للعلّامة الطباطبائي يقف فيها على كل مقالات الكتاب ليقدم الفكرة الأساس لكل منها، لاحظًا الكتاب بما يشكل من أرضية لفهم منازل الفلسفة الغربية في فكر العلّامة الطباطبائي. ونختتم عددنا بدراسة بيبلوغرافية يبسط فيها أمير رضا أشرفي أهم المنجزات العلمية المقدمة في إيران حول العلّامة الطباطبائي وتفسيره الشهير الميزان في تفسير القرآن، من مؤتمرات وكتب وطروحات وغيرها.

والحمد لله رب العالمين.

إفتتاحية العدد 30

إفتتاحية 30

 It is quaint to expound upon the very question of pain, as though you are plotting a sort of illumination that would unfold following undermining hardships that are all at variance.

As though the clay engrained in man’s body is in need for an injury to reveal what is engrained in it. Such pain would then attack you to introduce you unto light out of the darkness of you clay, to reach upon illumination.

In order to branch off your clay you need an injury that begets in your self a communion following after separation, to transcend the very body towards what is higher. Pain as such has an aim. It is the very injury that renders man awake afar from heedlessness, bringing man towards communion. This is the very notion of trial that Allah expounded upon in the Qurʾan, declaring “We will surely test you with a measure of fear and easure of fear and hunger and a loss of wealth, lives, and fruits; and give good news to the patient.”[1]

Hence, divergent are the opinions towards pain. Hasan Jaber commences the Issue writing upon the role pain occupies in establishing civilizations. In the second paper, Hasan Badran suggests his twofold approach towards pain, consisting of (1) a philosophical and (2) mystic aspects, expounding upon the identity of pain qua pain, and the representations thereof. Samir Bustros however plots the concept of pain that is a central part of human nature as per Christian literature, whereby the glory of God manifests.

 

 

ولكي تنفصل عن طينك الأرضيّ تحتاج إلى جرح يولد في ذاتك وصلًا بعد فصل، وديمومةً بعض انقطاع، فتفارق، حينها، الجسد لتكالم ما هو أعلى. فالألم، إذ ذاك، ليس عبثيًّا، بل هو الندب الذي يحقّق فيك يقظةً تخرجك من سنة الغفلة، آخذًا إيّاك نحو وصال، وهذا هو عين مفهوم الابتلاء الذي حدّث الله به الإنسان في القرآن قائلًا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[2].

وعليه، تختلف الآراء حيال مفهوم الألم وتتعدّد.

يستهلّ حسن جابر ملفّ هذا العدد باسطًا للدور الذي يضطلع به الألم في صميم تشكيل الحضارة. ومن ثمّ يطوّر حسن بدران في المقالة الثانية مقاربته للألم ببعدين اثنين، بعد فلسفيّ وعرفانيّ، متناولًا هويّة الألم بما هو هو، وتمثّلاته الكامنة في بنية الإنسان النفسيّة والعقليّة والجسديّة. وثالثًا، يعرض لنا سليم بسترس النظرة المسيسحيّة للألم بما هو جزء من حياة الإنسان ومن طبيعته، عبره يظهر مجد الله ومحبّته. أمّا أحمد ماجد فيقدّم قراءةً لموقعيّة الألم في الأساطير القديمة التي تتبدّل بتبدّل السياقات الحضاريّة، مبيّنًا الدلالات الطقوسيّة والشعيريّة في ذلك.

ومن ثمّ يلج عليّ الموسوي في مبحث الألم، مختطًّا إيّاه بما هو فعل إلهيّ من جهة، يسلب من الإنسان الرفاه واللذّة، وارتقاء بشريّ من جهة أخرى، يوصله إلى الكمال. أمّا حسن رضا فيعالج موقعيّة الألم في حفر المبدإ الأخلاقيّ وتشذيبه، مشكّلًا، تاليًا، فيصلًا لا محيد عنه في بنية الفكر الأخلاقيّ. وفي الورقة الأخيرة من الملفّ، يبسط سمير خير الدين للألم بما هو ارتباط بالشعور باللحظة نفسها، اللحظة التي تغدو معياريّةً في مآلات الإنسان ونشآته.

وأمّا باب “دراسات وأبحاث”، فيشتمل على ثلاث دراسات. يعالج جورج خوّام في أولاها مفهوم النفس عند غريغوريوس أسقف نيصة، مبيّنًا منشأها، وطبيعتها، وعلاقتها بالجسد، دائمًا وفق غريغوريوس. ويختطّ محمّد عليّ شمس الدين، تاليًا، بعض ملاحظات له في الشعر بما هو نشوة حسّيّة، وفي الفلسفة بما هي نشوة عقليّة، ولكن، إن كليهما إلّا تجلّ لمستور مِتافيزيقيّ واحد. وفي الدراسة الأخيرة نقدّم ترجمةً لمقال “المحايثة: حياة”، لجيل دولوز، يعرض فيها فهمه للمحايثة، معتبرًا أنّها حياة ولا شيء سوى ذلك.

[1] Sūrat al- Baqarah (The Heifer), v. 155. Cf,The Qurʾān, With a Phrase-by-Phrase English Translation, trans. ʿAlī Qulī Qarāʾī (London: ICAS Press, 2005).

[2]  سورة البقرة، الآية 155

إفتتاحية العدد 29

إفتتاحية العدد 29

1.

هي الطفولة، إذًا، تأخذك إلى عالم آخر، غلى أفكار أخرى حبلى بالحياة: الحياة على سجيّتها الأولى. لكلّ منّا، كلّ الكلّ، في غسق ذاته الراشدة تكيّة يقبع فيها طفل ما، كان يرى إلى الوجود، بدهشة محيّرة. يضجّ فرحًا، تارةً، ويتألّم حزنًا أخرى، ويعرف، بل يوقن، إن شئت، معنى الحزن والفرح، كليهما، بإيعاز من مجسّاته التي، بها، يملك النفاذ إلى العالم.

وعليه، فالراشد هو من الطفولة بحيث لا يضيره لو بقيت ذاته الطفلة قابعةً هناك، في عمق وجدانه، تمتشقه، كلّ حين، نحو أصالته الأولى.

يعجز الطفل، في نظر بعض الفلاسفة عن إدراك الحقيقة، فهو يرى الوجود بحواسّه التي تأخذ في التطوّر بفعل من سيّاليّة الزمن والتجربة في آن. يطرح الأطفال أسئلة وجوديّة فلسفيّة، ميافيزيقيّة حتّى، ذلك أن عنصر الدهشة عندهم يشكّل ملاك وجودهم. هم ذات أصيلة، ورقة بيضاء، تسأل بصرافة، لا تعرف الانقطاع، عن كلّ ما تسبره الحواسّ.

ولمّا كانت الدهشة هي التي تولّد أسئلة الأطفال، يحاجج البعض أنّ الطفل غير قادر على الإبداع الفلسفي، أو على الحجاج. يطرح أسئلة عابرة، بنت اللحظة: لحظة دهشة، لا لحظة تأمّل. ولأنّ الفلسفة تتعدّى حدود السؤال إلى البحث عن إجابات، ولأنّ الفيلسوف يطرح الأسئلة على ذاته التي يمرّسها بذاك السؤال إيّاه، بعكس الطفل الذي يطرح أسئلته على غيره من الراشدين، لا يمكن اعتبار أسئلة الأطفال فلسفيّة، يعتقد البعض.

ولكن، ثمّ من يبرهن أنّ الأطفال قادرون على التفلسف والإبداع. إذ عندما يحجم الفيلسوف الراشد عن الدهشة، الناضجة ها هنا، تخفت جذوة فلسفته، ما يؤكّد أنّ خميرة الفلسفة تكمن في سؤال الدهشة الذي يطرحه الطفل.

لا نندب في هذا العدد، إلى معالجة الشرخ غيّاه، بل نترك الحكم للقارئ بتقديم قراءات عن كيفيّة فهم الأطفال لبعض الماورائيّات التي تحيط بهم. نلاحق أسئلة الأطفال، إذًا، لنفهم كيف ينظرون إلى العالم، وإلى الحياة، وكيف يقاربون الفلسفة، وكيف يرون إليها.

2.

تنظر كارين موريس K. Murris في مدى مقدور الأطفال على الضلوع بالاشتغال الفلسفيّ، مختطةً، من ثمّ، مؤثريّة هذا الاشتغال على الاشتغال الفلسفيّ عند الراشدين أنفسهم. ويقارب جان بياجيه J. Piaget مفهوم الحياة من منظار الطفل، مبيّنًا كيف يفهم الطفل الحياة من حيث هو غير راشد، ليلج، من ثمّ إلى مفهوم تشكّل الوعي عند الطفل، وكيف، بلحاظه، يغيّر مفهومه إلى الحياة بما هي هي.

أمّا محمّد علّيق، فيتأمّل في رمزيّة العقل والتربية والجمال التي، لترابطها، تصوغ ذات الطفل بطريقة تتجاوز البعد المعرفي العقليّ الملموس، لتمنحه تجربةً جماليّةً – عقليّة في آن. وتدعو وفاء شعبان، في ورقتها، إلى نقل الممارسة الفلسفيّة، مع الأطفال، من المحتوى إلى الطريقة، مقترحةً تحويل المعرفة المعلّمة إلى موضوع نقاش فلسفيّ محاكاة لمنهج سقراط.

وتقترح زينة ناصر الدين، بعد عرضها الشرخ الحاصل بين الطفل والفلسفة، باستقراء القصص التي تدمل ذاك الشرخ إيّاه. أمّا على ستاري، فيجعل مقابلةً ما بين برنامج الفلسفة للأطفال، الذي طوّره ماثيو ليبمان، وبين تعاليم مدرسة الحكمة المتعالية التي بسط لها الملّا صدرا.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على ثلاث دراسات. يصدّر، نادر البزري في الدراسة الأولى، للمباحث المنطقيّة في فِنومنولوجيا هوسرل مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة. ويطالع شفيق جرادي، في الدراسة الثانية، مفهوم الحبّ الإلهيّ في الأدبيّات الشيعيّة التأسيسيّة، مبيّنًا محوريّة الحبّ في المنظومة الشيعيّة. ومع ميريل دافيس، نلج إلى مبحث أسلمة العلوم الإنسانيّة من حيث هو سعي إلى إيجاد موفّقيّة بين نظرتين للعلوم، إحداها ذات نزعة غربيّة، وأخراها تلحظ ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة.

وفي باب “حكماء”، نقارب سيرة الخواجة نصير الدين الطوسي، مقدّمين قراءةً تبسط لشخصيّته وفكره.

والله وليّ التوفيق

إفتتاحية العدد 28

الإفتتاحية 28

لئن افتتحت مجلّة المحجّة عددها ما قبل الأوّل [العدد صفر] بعرض مدرسة الحكيم المتألّه صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرزاي بعنوان “فلسفة الملّا صدرا”، فها هي الآن، وبعد مرور سنوات وأعداد عدّة، تعاود البسط للفكر الفلسفيّ الصدرائيّ إيّاه لما لهذا الفكر من أهمّيّة بالغة في دنيا الاشتغال الفلسفيّ الإسلاميّ والعالميّ، سواء بسواء. ولكن هذه المرّة نقدّم، أكثر ما نقدّم، قراءةً لأهمّ المباني والمرتكزات الفلسفيّة التي شكّلت ملاك الفكر الصدرائيّ، ساعين إلى بيان اللبنة الأولى التي شكّلت مرتكزًا لمدرسة الحكمة المتعالية والفكر الصدرائيّ.

يلج السيّد حسين نصر إلى مبحث الحكمة المتعالية بعرض غير مسهب عن تاريخ إدراج هذا اللفظ حتّى قبل الملّا صدرا الشيرازي، الذي هو نفسه قد استفاض في عرضه وبسطه في ما بعد، بزمن. ومن ثمّ ينتقل إلى عرض مرتكزات هذه المدرسة في فيء الفكر الصدرائيّ، ليخلص إلى أنّ الحكمة المتعالية ما هي إلّا أفنون نبت في شجرة الفكر الإسلاميّ ليتمكّن المسلمون، إذ ذاك، من النفاذ إلى رؤية جديدة محدثة للحقائق الخالدة. ومع روبرتس آيفنز نتمكّن، كذلك، من قمش المباني الأساس التي بنى عليها الملّا صدر الدين فلسفته الحكميّة، إذ قدّم آيفنز عرضًا مسهبًا لأهمّ هذه المباني والمرتكزات الفلسفيّة.

أمّا مع عليّ شيرواني، فنغوص في الخصائص المنهجيّة لفلسفة صدر المتألّهين مقارنةً بالفلسفة المشّائيّة والإشراقيّة، كليهما. لنخلص، من ثمّ، إلى أنّ مدرسة الحكمة المتعالية، بما هي هي، مدرسة فلسفيّة مستقلّة بالمعنى الخاصّ للفلسفة. نجحت في الاستفادة من المدارس السابقة عليها، فجمعت بين العرفان، والإشراق، والشهود، والبرهان، جمعًا سالمًا لا جمع تكسير، على حدّ تعبير شيرواني. وبعدها بسط كلّ من رضا أكبريان ونجمه سادات رادفر لمسألة القيامة في الفكر الصدرائيّ من منظور ألمع تلامذة صدرا ألا وهو محسن الفيض الكاشاني.

ويشتمل باب “دراسات وأبحاث” في هذا العدد على دراسات خمس. البحث الأوّل هو تتمّة النقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول مفهوم الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين اللغة والعلوم والسياسة، هذه المرّة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما. وفي الدراسة الثانية يستعرض شفيق جرادي القيم الحضاريّة التراكميّة بما هي ملاك لفهم الحضارات، ليتمّ، بالتالي، النفاذ إلى قراءات إسلاميّة لموضوعة القيم والحداثة والحضارة. ومن ثمّ، مع فرانسوا رانجون، نقدّم ترجمةً لمقال له، بسط فيه للفظ “مجتمع مدنيّ”، عائدًا به إلى جذوره التاريخيّة وتحوّلاته المختلفة التي أدّت إلى اختلاف معناه اختلافًا جذريًّا بفعل مرور الزمن وبفضل التغيّرات الاجتماعيّة. وفي الدراسة الرابعة نقرأ حوارًا سلسًا مع محمّد فنائي الأشكوري يعرض فيه لموضوعة العرفان الشيعيّ بما هو بعد شرّانيّ للدين، ويتحدّث فيه، من ثمّ، عن أهمّيّة الترويج لهذا العرفان إيّاه قبالة العرفان الكاذب، في عيون الأشكوري، الذي يرقى كلّ رواج في بعض أنحاء هذه البسيطة. وننهي هذا العدد مع دراسة لأحمد ماجد، اختطّ فيها فكر الراحل المصريّ عبد الرحمن بدوي، منطلقًا من فلسفته الوجوديّة التي انكبّ على العمل عليها لعرضها خارج الحاضنة الأولى التي ولدت فيها.

إفتتاحية العدد 27

الطبيعة، إذًا، ملاك التوجّه، والـمَصيغة بمقتضياته[1]. ثمّ إنّ أفق التوجّه عند الإنسان يوازي الوجود على إطلاقه. فالإنسان بمثابة “النسخة المنتخبة” من كتاب الوجود[2]. هذا في مقابل الوجودات الأخرى التي لها حصّة وجوديّة منحصرة – إلّا أن تصير إنسانًا[3] – وهو قول الملائكة، على سبيل المثال، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[4]. والطبيعة “مقيّدة من جهة، أي محكومة للمِلاكات، ومطلقة من أخرى، أي مطلقة في وجهتها[5] – أو على أساس مبدئها؛ لا فرق، إذ الوجهة والمبدأ يتقاطعان على موضوع واحد. وإذ تتأبّى الطبيعة السكون، فإنها تختار لها وجهةً تقصدها (وإلّا اختيرت لها وجهة)، وتتشبّه بها إذ تتحرّك نحوها.

لا يبدأ الإنسان حياته بتوجّهيّة مطلقة، بمعنى أنّه يستطيع أن يصير أيّ شيء. فهو ليس غير محتجب عن كلّ الوجهات المتاحة، وليس مطلق العنان في تشخيص الوجهة، أو تخيّرها، والثبات عليها. بل طبيعته قد تخصّصت بموجب ملاكات مولده في زمان ومكان معيّنَين، وكافّة الحيثيّات المرتبطة به (المولد)، بل السابقة عليه. وهذا منشأ ما يُطلق عليه “الطباع”. إذ لكلّ فرد طبعه الخاصّ الذي منه يشرع بتلمّس الوجهات، ويحاكمها على ضوء الحصّة التي أوتيها، والتي تتمثّل بقابليّات بدنيّة، وعقليّة، وخياليّة، وإراديّة، وشعوريّة محدّدة ابتداءً. إلّا أنّ التوجّهيّة المطلقة، الكامنة في الطبيعة الإنسانيّة الأصليّة، أي السابقة على كلّ تخصّص، تملك أن تهيّئ للإنسان أسباب تجاوز شروط الزمان والمكان، أو، إن شئت، تجاوز طبعه. وإذ يسلك الإنسان مساره الدنيويّ بموجب وجهة حُدِّدت له ابتداءً – ليس ثَمَّ من سبيل آخر[6] – فإنّه، شيئًا فشيئًا، يستعيد زمام وجهته، وإن ظلّ محكومًا للمقتضيات أو الملاكات الأولى – مع قدرته على محاكمتها، فتجاوُزِها، دومًا، وهذه القدرة تضمحلّ وتشتدّ بموجب خياراته وتصريفات إرادته. هنا، يقول الملّا صدرا الشيرازي: “إنّ القوى الفعليّة [في الإنسان] بعضها يحصل بالطباع [وقد عرفتَها]، وبعضها يحصل بالعادة [أي بتكرار أفاعيل غير مقصودة]، وبعضها يحصل بالصناعة [أي مع قصد ومزاولة]، وبعضها يحصل بالاتّفاق [أي جرّاء التقاطع مع نظام الطبيعة العامّ الذي يتّخذ الإنسان فيه موقعًا غير نهائيّ – وهذه اللا-نهائيّة نهائيّة[7] ما دام في مهلته الدنيويّة، فلا تستقرّ إلّا عند الموت الذي هو بمثابة نفاد هذه المهلة]”[8].

إلّا أنّ الأصل، في المسألة، امتلاك الإنسان خيار تحديد الوجهة. ولا أقول بانعدام الاختيار مطلقًا خارج الأفق الإنسانيّ. الأولى أن نتريّث. ولسنا مضطرّين، في سبيل تأكيد الخصوصيّة الإنسانيّة، أن نجعل قطيعةً بين الإنسان وباقي الموجودات. ولكن، بقول عامّ، فإنّ الإنسان يمتاز عن غيره بسعة أفق توجّهه، وبكونه صاحب قول – لا أقلّ – في تحديد الوجهة. أمّا المحكّ فهو الاختيار الصائب للوجهة. وإن كانت كلّ الموجودات متوجّهةً شطر الحقّ بفعل الخميرة المفعّلة لها، والكامنة فيها، أي الطبيعة بما هي مبدأ الحركة، فإنّ الإنسان يندرج في هذا المسار الحتميّ، بلحاظ زمنيّته، أو تزمّنه، ويجافيه – وإن إلى حين – بلحاظ اختياره. فعلاقة طبيعته الخاصّة مع الطبيعة بالعموم، أكثر جدلًا من علاقة الموجودات الأخرى، بطبائعها الخاصّة، مع الطبيعة العامّة، لمحلّ الإنسان من الوجود. فالطبيعة الإنسانيّة تختصر كلّ هذه الطبائع الخاصّة. ومتى تحقّقت في كمالها، فكأنّما كمال الوجود، أو الوجودات، قد تحقّق. وهذا، مرّةً ثانيةً، مغزى كون الإنسان – متى ما اكتمل في طبيعته – وجهَ الله. وهذا سرّ وجاهته عند الله، أي كونه مدخلًا إلى الله، تقف عند أعتابه كافّة مسارات كدح الموجودات إلى الله. وهذا معنى العالم الأصغر، والإنسان الكامل.

هذه، في العموم، هي المترتّبات على فهمنا للطبيعة البشريّة كما عرضنا له في الافتتاحيّة السابقة. ومع تخصيصنا عددين كاملين لموضوعة الطبيعة البشريّة، فإنّ الأسئلة، على ما يبدو، ليست بوارد أن تُشبَع بهذا المقدار، أو أضعافه، من المعالجة. ويبدو أن الأسلم هو حصر الأسئلة على أمل أن يظلّ، في العددين، ما يشكّل، أقلّه، مؤشّرًا لأيّ معالجة تصبو لأن تكون وافيةً. وقد ألمحتُ إلى مركزيّة الارتباط الأخلاقيّ بموضوعة الطبيعة البشريّة، وأريد، في المتيسّر من المساحة – ولعلّ القارئ يعذرني على ما اعتاده من التطويل – أن أردفه بتلميح آخر. كما أريد أن أعرض لإشكاليّة الاكتفاء بالطبيعة في تفسير الطبيعة. ومن هذه المسألة المعرفيّة أشرع، مؤخِّرًا المسألة الأخلاقيّة قليلًا لتقاطع بينهما.

يقرّر الملّا صدرا – انسجامًا مع قوله بالحركة في الجوهر، وبأنّ الحركة هي المتحرّكيّة، وأنّ الزمان مقدارها، لا علّتها – أنّ المبدأ القريب لأفاعيل النفس، وحركاتها المخصوصة، ليس أمرًا مفارقًا عن المادّة[9]، سواء أكانت الحركة طبيعيّةً، أو قسريّةً، أو إراديّةً[10]. وهذا المبدأ هو الطبيعة “التي بسببها يطلب الجسم بالحركة كمالاتها الثانية”[11]. وعليه، فللطبيعة كمالات ثانية مطيّتُها إليها المادّة (الجسم) التي انوجدت معها[12]. وبعد، فهي، لا سواها، سبب الطلب إيّاه، أي طلب الكمالات. وهذا معنى قولنا، مجدّدًا، هي ملاك التوجّه، والمصيغة بمقتضياته.

يتابع الفيلسوف قائلًا:

وكلّ ما يكون من لوازم وجود الشيء الخارجيّ فلم يتخلّل الجعل بينه وبين ذلك اللازم بحسب نحو وجوده الخارجيّ، فيكون وجود الحركة من العوارض التحليليّة لوجود فاعلها القريب؛ فالفاعل القريب للحركة لا بدّ أن يكون ثابت الماهيّة متجدّد الوجود. وستعلم أنّ العلّة القريبة في كلّ نوع من الحركة ليست إلّا الطبيعة، وهي جوهر يتقوّم به الجسم، ويتحصّل به نوعًا، وهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ من حيث هو بالفعل موجود[13].

النصّ، بالتالي، يجعل تمييزًا بين نحو الوجود الخارجيّ ونحو الوجود الذهنيّ (التحليليّ). وحيث المتحرّك ومبدؤه واحد في الخارج، بمقتضى جعل واحد، فإنّ الذهن يحلّل هذه الوحدة، وهي سيّالة متحرّكة في الخارج، إلى مبدإ ومتحرّك ثابتَين، وهكذا تكون الماهيّات على أيّ حال. هذا لا يعني أنّ الطبيعة ليس لها نحو ثبات في الخارج، بل “ثبات الطبيعة الكائنة في الأجسام هو عين تجدّدها الذاتيّ”[14]، تماما كما أنّ العدد واحد في عين أنّه كثير، كما يمثّل الملّا صدرا في محلّ آخر. وهذا الثبات هو ما يهبها هويّةً، أي استقرارًا، إلّا أنّ الملّا صدرا يصف هذه الهويّة بالمتراخية، أو التدريجيّة[15]، إذ تتعاقب عليها الصور بفعل حركتها المطّردة نحو وجهتها، فتصبغها بأطياف من الهويّة. ولا تفاوت في الأمر بين الحركة القسريّة، التي تعمّ الكائنات، والحركة الاختياريّة، التي يتفرّد الكائن البشريّ بها – أو بمرتبتها الخاصّة، إذا ما توخّينا الدقّة. إذًا، الهويّة الإنسانيّة هويّة ما فتأت في طور الإنشاء؛ تزداد وتغيض، تشتدّ وتضعف. لذا كانت، على الدوام، مورد إقلاق للمنهج الفلسفيّ الذي يريد أن يحسم أمرها، مرّةً وللأبد، في توقه المفرط إلى اليقين البتّيّ.

وكملاحظة أخيرة على النصّ، فإنّنا عندما نلاحظ الطبيعة في حيثيّة ثباتها فهي عينها النفس؛ “النفس من حيث ذاتها [فهي] العقليّة [عقليّة]، وأمّا من حيث تعلّقها بالجسم فهي عين الطبيعة”[16]. ولا تكون النفس مبدأً للحركة – إذ لا بدّ لمبدإ الحركة القريب أن يكون متحرّكًا – إلّا باستخدام الطبيعة[17]. ولذا كان تعريف الشيرازي للطبيعة هو عينه التعريف المشهور للنفس[18].

ما ينتابني من سؤال، في هذا الموضع، يتّصل بتداعيات القول بعدم كون مبدإ الحركة (القريب) مفارقًا. فإذا كان مبدأ فاعليّة الطبيعة، أي ملاك الحركة، والتوجّه، وتلمّس المقصد، متضمَّنًا في الطبيعة إيّاها، فهل تكتفي بذاتها، وتنفكّ عن كلّ مفارق؟ هل إنّ القول بمبدإ قريب للحركة، غير مفارق، يجذم الحاجة إلى القول بمبدإ مفارق، أو بمحرّك أوّل متنزّه عن طروء الحركة والحدثان؟

لا ريب أنّ مبنى الملّا صدرا الفلسفيّ يقدّم منظورًا استثنائيًّا فيما خصّ هذه الموضوعات، وما شاكلها. ولعلّنا لم نتوافر بعد على الأدوات التي تمكّننا من تعهّده، بما يليق، لشدّة ما يخالف حدوسنا المشحوذة برؤًى للعالم أسبغتها علينا فلسفات الجوهرانيّة الحادّة والثنائيّات المتصلّبة. فالطبيعة عنده سارية متحوّلة، والأكوان الجوهريّة متجدّدة، والكلّ عنده وجود واحد، متّصل، مترتّب، متصاعد، تدلّ وحدته الجمعيّة على وحدته الشخصيّة. ولقد ولدّ هذا الاعتراف المتأخّر بقابليّات الطبيعة الخلّاقة إحراجًا كبيرًا للبنى الفلسفيّة واللاهوتيّة التقليديّة، وأغرى التيّارات اللاحقة، التي قامت على القطيعة والاختزال والاجتزاء، بحصر الواقع في الطبيعة، والاقتصار عليها لفهم الواقع وتفسيره.

ولذا تطغى الطبيعانيّة naturalism على المشهد الفلسفيّ الراهن. إنّها بمثابة ترويض للوضعيّة، وتطوير لها، مع عدم مخالفتها لها في مسبقاتها الأساسيّة (أصالة المادّة، وما يتفرّع عنها). وهي، بعد، بمثابة الأيديولوجيا الحاكمة في الفلسفة التحليليّة اليوم[19]، وإن تمظهرت المسبقات المذكورة في غير شكل فلسفيّ. للطبيعانيّة جذورها القديمة، بالطبع، لكنّ مقالة كواين “طبعنة الإبستمولوجيا”[20] قد مثّلت محطّة تزخيم بارزة للتيّار الطبيعانيّ – خاصّةً على ضوء مركزيّة الإبستمولوجيا المستجدّة – ولمشاريع الطبعنة التي اكتسحت مجالات نظريّة المعرفة، والمِتافيزيقا، وفلسفة الذهن، ونظريّة المعنى، والفلسفة الأخلاقيّة[21].

تقوم الطبيعانيّة على (1) القول بإغلاق العالم سببيًّا، واكتفاء المادّة بذاتها، وعلى (2) الالتزام بـ”المنهج العلميّ” كمصدر وحيد للمعرفة. وبالتالي، فالعلم (الوضعيّ) لا ينتج المعرفة فحسب، بل يوفّر الأساس (المتافيزيقيّ؟) لها. ويكمن السبيل إلى ذلك في استقراء عمليّة إنتاج المعرفة العلميّة، ومحاكاتها من ثمّ. ولهذه الغاية، ينبغي اختيار حقل علميّ تكون لها حظوة خاصّة – كما فعل كواين مع علم النفس (السلوكيّ)، أو كما حصل مع العلوم الإدراكيّة العصبيّة ونظريّة التطوّر لاحقًا – فنستقرئ آليّاته الداخليّة، لنستنبط منها أحكامًا تبرّر الإنتاج المعرفيّ في حقول أخرى. الهاجس هنا هو تبرير المعرفة على أنّها علميّة؛ فـ”لقد طغى على الإبستمولوجيا[22] الحديثة مفهوم واحد، التبرير، وسؤالان تأسيسيّان يرتبطان به: ما هي الشروط التي تبرّر قبول اعتقاد [معرفيّ] ما على أنّه صادق؟ وأيّ الاعتقادات مبرَّرٌ لنا قبوله في الأصل؟”[23] – إنّه الإرث الديكارتيّ (ديكارت مجدّدًا[24]). وعليه، فما تنهض به الطبيعانيّة هو “صوغ شروط تبرير الاعتقاد على أساس وصفيّ، أو طبيعانيّ، حصرًا، دونما لجوء إلى أيّ أسس تقييميّة، أو معياريّة، سواء أكانت هذه الأسس إبستمولوجيّةً [الماقبليّات a priori مثلًا] أو ما سوى ذلك”[25].

إلّا أنّ معاداة المعياريّة، الصارخة في المقاربة الطبيعانيّة، تسلبنا كلّ سند معرفيّ، ولات حين فلسفة. هذا ناهيك بمشكلة الدور الواضحة (كيف نستخرج من علم ما، علم النفس مثلًا، الضوابط التي نحاكم على أساسها العلم إيّاه؟)، التي تلفّت لها كواين نفسه، ولم يجد لها حلًّا سوى تجاهلها[26]. بأيّ الأحوال، تصدر أغلب الاعتراضات على الطبيعانيّة من مشارب تتشارك وإيّاها عددًا من المسبقات (حول أصالة المادّة، وانحصار الواقع بها)، ولا نراها جذريّةً بما يكفي. ما تفتقر إليه كلّ التفسيرات المادّيّة هو غياب المعنى. فالتحليل (العلميّ) قد يصل بنا إلى توثيق كلّ ما يندرج في العالم المادّيّ، لكنّه لا يخبر شيئًا عن سرّ اندراجه، أو عن مغزى وجوده. ثمّ هو أعمًى فيما خصّ الوجهات التي تتّخذها هذه الموجودات. كيف أمكن لنا أن نفرّط في العلل الغائيّة، أو أن نرى تفسيرًا بالعلّة المادّيّة مفصولًا عنها؟ إنّ أيّ سؤال عن التركيب المخصوص، فلنقل، لكرسيّ ما يستدعي إجاباتين. أولاهما يفسِّر بالموادّ والإعداد، أي بـ”كيف” صنع النجّار الكرسيّ المذكور. والتفاصيل، هنا، لا حدّ لها. أمّا ثانيهما فبسيط، لعلّه يتّخذ صيغةً من قبيل “كيما نستطيع أن نجلس عليه!”. إنّ التفسير بالثاني يسبغ المعنى على التفسير الأوّل ويقوّمه. والسبب في ذلك أنّه تفسير بوجه الخير في الأشياء، أو تفسير بالغاية منها.

وهكذا في حالة العالم. ثمّة، في كلّ شيء، وفي العالم بالجملة، وجه خير يتحرّك نحوه. ما في العالم المادّيّ يشير إليه، ولكنّنا اتّخذنا قرارًا بعدم تلقّف الإشارات. فأيّ إخلال بالإغلاق السببيّ للعالم يوهن قبضة العقل الأداتيّ[27]، ويوحي بتفلّت الأمور من عقالها، والانفتاح على عالم من التفاسير الغيبيّة والخرافيّة.

وثَمَّ، من ناحية ثانية، الخطر المقابل، بأن ننغمس في عالم الغيب، ولا نرى في الطبيعة إلّا أثرًا هابطًا نتعوّذ منه. ففي الحالة الأولى، ليس الإنسان إلّا غريبًا، سقط في هذا العالم (سهوًا؟). أمّا في الحالة الثانية، فلا يعدو كونه إحدى تنويعات المادّة وقد تركّبت اتّفاقًا. إنّه الحَوَل، كما كان ابن العربيّ ليسمّيه[28]. ولا نتفاداه إلّا بأن نعضد التفسير الطبيعيّ، الذي يسلك من أسفل إلى أعلى بمعنًى ما، بتفسير يسلك من أعلى إلى أسفل، أي من الغاية إلى المغيّى. وما دمنا نغرف من عند الملّا صدرا، فإنّه يُطلق على هذا النظام السببيّ، السالك من الغاية إلى المترتّبات عليها، اسم “العناية”، أو، بالأحرى، “الفعل بالعناية”. والعناية عنده اسم لأعلى مراتب العلم الإلهيّ – “العلم بالأشياء التي [الذي] هو عين ذاته المقدّسة”[29] – حيث الإجمال في عين التفصيل، والتفصيل في عين الإجمال[30]. والله، عنده، فاعل بالعناية، أي “يتبع فعلُهُ علمَه بوجه الخير، بحسب نفس الأمر، ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيًا لصدوره عنه، من غير قصد زائد على العلم”[31]، وإلّا طُعن في صرافة الذات الإلهيّة. ويعبّر، في الأسفار، كما يلي: “ومنها [أقسام الفاعل] الفاعل بالعناية، وهو الذي منشأ فاعليّته، وعلّة صدور الفعل عنه، والداعي له على الصدور، مجرّد علمه بنظام الفعل والجود لا غير من الأمور الزائدة على نفس العلم”[32].

الآن، تنفتح المسألة على أفق واسع بالفعل، وتحتمل نقاشًا حادًّا وكثير التفرّع، ولكنّني سأكتفي بملاحظات عامّة – كي لا تكون هذه أطول الافتتاحيّات التي كُتبت (!) – تتجاوز الأفق الذي انفسح أمامنا. وسيكون لنا مجال لطرق المسألة في محلّ آخر[33]، خصوصًا على ضوء اعتراضات العلّامة الطباطبائي، وعلى ضوء تفضيل الملّا صدرا القول بكون الله فاعلًا بالعناية على كونه فاعلًا بالرضا، أي كون “علمه بذاته، الذي هو عين ذاته، سببًا لوجود الأشياء”[34]. وهذا ما يعني أنّ الله يتوجّه – أقولها بشيء من التسامح – في خلقه العالمَ إلى وجه الخير في العالم، لا إلى ذاته، وإن انتفى التعارض بين الأمرَين من حيثيّة معيّنة، إلّا أن اختلاف زاوية النظر يوجب اختلافًا في المنظور إليه، وله بالغ الأثر فيما خصّ فهمنا للعالم.

ثمّ إنّ المفردة بحدّ ذاتها تنمّ عن علاقة بالعالم هي أبعد الأشياء عن أن تكون ميكانيكيّةً؛ بل قوامها الحبّ الأوّل الذي سرى، من ثمّ، في كلّ ثنايا الوجود. هو الذي أعطى الطبيعة فعاليّتها، وحرّك كوامنها، وأرسى نظامها، وأسبغ المعنى على توجّهيّتها، فكيف يتعارض معها؟ وهذا مغزى إشارتنا في العدد السابق[35] إلى عدم تعارض الأنطولوجيا والأخلاق، والدعوة إلى أخلاق تأسيسيّة تعيننا على فهم العالم وعَيْشِه. فعناية الله، بالعالم وبأشيائه، تعطيه (أي العالم) صبغةً أخلاقيّة لازمة. فالعالم قد بات متقوّمًا بمقولةٍ (العناية) هي أخلاقيّة، اكتماليّة، في صميمها.

وكما أنّ صدور العناية والمعنى عن جذر واحد قد فتح لنا مجالًا للتفكّر في تشكّل العالم سببيًّا بالصورة التي ذكرناها – إذ اللغة، في العالم، مخزون الإشارات إلى مكنوناته – فإنّنا، كذلك، لا نرى سبيلًا إلى المعنى، إلى الفهم والعيش، خارجًا عن المعاناة. إنّها مكابدة الوجد، واحتمال الألم، كي لا تخمد جذوة التسآل، وتنطفىء جمرة الكدح إلى الحقّ. إنّها روح فلسفة البلاء – {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}[36] – التي تصدر عن عالم متقوّم أخلاقيًّا، لا تسلبه الشرورُ المتفشّيةُ المعنى، بل تجعل المعنى ممكنًا بالمعاناة.

بأيّ الأحوال، تولي المحجّة هذا الارتباط الأخلاقيّ اهتمامها في العددين القادمَين (حول الفلسفة الأخلاقيّة [العدد 28]، ونظريّة القيم [العدد 29])، ولا بأس بإعادة طرح بعض الأسئلة التقليديّة بنَفَس جديد.

مع العدد

ينظر شفيق جرادي في رمزيّة الطبيعة الإنسانيّة التي، لبرزخيّتها، بمعنى استجماعها المعنى الكلّيّ والاشتغال الجزئيّ، تعمر الأرض، وتصوغ التاريخ، بمسؤوليّة الاستخلاف الآدميّ. ويدرس حسن بدران ما يعتبره الطبيعة المعلَّقة في الإنسان، التي تمتلك في فطرتها بذور تفعيل حقيقتها، وإقامة وجهها.

أمّا نادر البزري، فيتقدّم، مستفيدًا من مقدّرات اللغة العربيّة، بقراءة فنمنولوجيّة لفعل الآخر في الذات ومديونيّتها لها. ويقرأ فادي عبد النور في منظومة اللاهوتيّ هانز أُرس فون بالتازار، مستفيدًا من إشاراته حول الله والغشتلت والسرّ، ليتقدّم بمعالجة، للطبيعة الإنسانيّة، ما-وراء-مفهوميّة. وفي ورقته، يدعو حسن جابر إلى إعادة النظر في الاجتماع السياسيّ، عند المسلمين، على ضوء المقاصد القرآنيّة التي التفتت إلى تركّب المسار التكامليّ الإنسانيّ على المستويين المادّيّ والمعنويّ.

ويعرض أنطوان فليفل للاهوت رودلف بولتمان الذي يقول بعدم توافر الطبيعة الإنسانيّة على ما يصل بها إلى معرفة الله، سواء من خلال التفكّر في التاريخ أو الطبيعة، إلّا أن يأتيها الوحي من خارج. أمّا أحمد ماجد فيدرس المنظور الهندوسيّ، على تنوّعه، إلى الطبيعة البشريّة التي باتت تعاني الابتعاد عن أصلها. وفي سياق غير متّصل، وإن تشارك الهواجس إيّاها، تقرأ وفاء شعبان محاولة يورغن هابرماس استعادة الطبيعة الإنسانيّة من ربقة العقل الأداتيّ من خلال ما يسمّيه أخلاقيّات المناقشة. وفي ختام الملّف، نقدّم ترجمةً للنقاش الذي دار بين نوام تشومسكي وميشال فوكو حول الطبيعة البشريّة، والذي يتنقّل بسلاسة بين التاريخ واللغة والعلوم والسياسة، بفعل الحضور الموسوعيّ لكلّ منهما.

كما يشتمل العدد على الورقتَين اللتين قدّمهما كلّ من شفيق جرادي وجورج خضر في ندوة مشتركة بين معهد المعارف الحكميّة وبرنامج أنيس المقدسيّ للآداب في الجامعة الأميركيّة حول مفهومَي – أو لعلّهما مفهوم واحد – الصبغة والمعموديّة في الإسلام والمسيحيّة.

والحمد لله كما هو أهله

[1] انظر، محمود يونس، “الافتتاحيّة”، مجلّة المحجّة 26 [العدد السابق، “الطبيعة البشريّة (1)”] (شتاء-ربيع 2013): الصفحات 3 إلى 9. والتوجّه، كما مرّ هناك، فعل مستمرّ، ومتحرّك باتّجاه الوجهة دومًا.

[2] “قليل لفظه، مستوفًى معناه”؛ صدر الدين محمّد الشيرازي، المظاهر الإلهيّة، تحقيق جلال الدين الآشتياني (قم: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى، 1419ه)، الصفحة 119.

[3] أي أن تصير حقيقتها إنسانيّةً، بمعنى صيرورتها مظهرًا للأسماء الإلهيّة على حدّ الاستواء؛ انظر، “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق..

[4] سورة الصافّات، الآية 164.

[5] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق، الصفحة 6؛ التشديد في الأصل.

[6] أضف إلى ذلك أنّه كائن اجتماعيّ، يحتكم إلى ملاكات مجتمعيّة يتلقّاها، ويفعل فيها فيلقيها إلى من وراءه. ومن هنا، تكون التربية غايةً في الأهمّيّة، وكذلك السياسة بما هي كدح نحو توفير الشروط المجتمعيّة الأمثل لتفعيل قابليّات الإنسان بما ينسجم وحقيقته.

[7] وهذا ما يجعل وجود الإنسان معلّقًا بنحو ما؛ حول الطبيعة المعلّقة، انظر، في هذا العدد، حسن بدران، الإنسان من خلال الطبيعة والشخص والفطرة.

[8] صدر الدين محمّد الشيرازي (1050 ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، الطبعة 4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1990)، الجزء 3، الصفحة 17.

[9] المصدر نفسه، الصفحة 48. وهذه هي حال الطبائع الأخرى سوى الإنسانيّة. فعلّة حركتها متضمَّنة في داخلها. بمعنًى آخر، لم تُجعل الطبيعة، ثمّ كانت لها الحركة بجعل ثان. فلمّا كانت الحركة من ذاتيّات الطبيعة، والجعل لا يتخلّل بين الشيء وذاتيّاته، فإنّ الجعل هاهنا واحد؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحتان 39 و40.

[10] المصدر نفسه، الصفحة 64.

[11] المصدر نفسه، الصفحة 49.

[12] ولا أقول انوجدت فيها، إذ النفوس الإنسانيّة “ليس وجودها في المادّة، ولكن مع المادّة”؛ انظر، المصدر نفسه، الصفحة 55. والمسألة أكثر تطلّبًا من أن نَرِدَها هنا.

[13] المصدر نفسه، الصفحتان 61 و62.

[14] المصدر نفسه، الصفحة 63.

[15] المصدر نفسه، الصفحة 127.

[16] المصدر نفسه، الصفحة 66.

[17] المصدر نفسه، الصفحة 65.

[18] “النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة”؛ انظر، مثلًا، حسن حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون (قم: دفتر تبليغات، 1421ه)، الصفحة 11.

[19] J. Kim, “The American Origins of Philosophical Naturalism,” J. Phil. Res. 28 (2003): 83-98.

[20] See, W. V. O. Quine, “Epistemology Naturalized,” in Epistemology, An Anthology (Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2000), pp. 292-300.

[21] “The American Origins of Philosophical Naturalism,” op. cit; S. Luper, “Naturalized Epistemology,” in E. Craig (ed.), The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy (New York: Routledge, 2005), p. 721; D. W. Hands, Reflection Without Rules: Economic Methodology And Contemporary Science Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 2001), ch. 4.

حتّى ابن سينا لم يسلم من الطبعنة؛ انظر،

  1. McGinnis, “Avicenna’s Naturalized Epistemology and Scientific Method,” in S. Rahman, T. Street, and H. Tahiri (eds.), The Unity of Science in the Arabic Tradition (Springer Science+Business Media B.V, 2008), pp. 129-152.

[22] ثَمَّ فارق بين نظريّة المعرفة والإبستمولوجيا لا يبيح استعمال المفردة محلّ الأخرة، أو ترجمة الثانية إلى الأولى. ففي حين تعالج نظريّة المعرفة سؤال “كيف نعرف”، أو “كيف تُطابق معارفنا العالمَ”، فإنّ الإبستمولوجيا تدرس شروط صيرورة معرفة ما علميّةً (بالمعنى الوضعيّ، أو الطبيعيّ). هذا، وقد راج استعمالها في السياق الفرنسيّ بمعنى دراسة الشروط التاريخيّة التي بموجبها تصير الأشياء غرضًا للمعرفة. انظر، مثلًا،

  1. J. Rheinberger, On Historicizing Epistemology, An Essay, trans. D. Fernbach (Stanford: Stanford University Press, 2010), p. 2.

[23] J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” in Epistemology, An Anthology, op. cit., p. 301.

[24] لا نريد أن نلوم ديكارت على كلّ مصائب الفلسفة الحديثة. بل كلامنا على الديكارتيّة بما هي وجهة عامّة حسمت الأسئلة الأساسيّة، وفرضت حدود المنهج العامّة، فطبعت الاشتغال الفلسفيّ بطابع محدّد: “الأجندة الإبستمولوجيّة الديكارتيّة هي الأجندة الحاكمة في الإبستمولوجيا الغربيّة إلى يومنا”. هذا علمًا أنّ الإبستمولوجيا، بعد النقلة الديكارتيّة، تبوّأت محلّ الفلسفة الأولى (Ibid.). ولعلّ ديكارت لم يكن – بهذا الاعتبار – ديكارتيًّا أصلًا.

[25] Ibid.

[26] See, J. Kim, “What is ‘Naturalized Epistemology’?” op. cit., pp. 301-13; H. Putnam, “Why Reason Can’t Be Naturalized,” in Epistemology, An Anthology, op. cit., pp. 314-24; A. Corraldini, S. Galvan and E. J. Lowe (eds.), Analytic Philosophy without Naturalism (London and New York: Routledge, 2006), intro.; W. L. Craig and J. P. Moreland (eds.), Naturalism, A Critical Analysis (London and New York: Routledge, 2000); J. Beilby (ed.), Naturalism Defeated? (New York: Cornell University Press, 2002).

[27] تجد في الافتتاحيّة السابقة (العدد 26) إشارات نقديّة كافيّة لمركزيّة العقل الأداتيّ، وشبق الصبو إلى اليقين البتّيّ. فالأحرى ألّا أعاود الكلام عليه.

[28] انظر، توشيهيكو إيزوتسو، البنية الأساسيّة للتفكير المتافيزيقيّ في الإسلام، ترجمة محمود يونس، مجلّة المحجّة 21 (صيف – خريف 2010): الصفحات 141 إلى 163.

[29] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 91.

[30] هذا جريًا على عادته في اعتبار العلم شأنًا وجوديًّا، وإطلاق أحكام الوجود عليه. فالوجود، عند الملّا صدرا، في أعلى مراتبه، كثير في عين أنّه واحد، وواحد في عين أنّه كثير. “اعلم أنّ العلم مثل الوجود، لا يدخل تحت مقولة من المقولات وهو حقيقة واحدة، وله درجات متفاوتة، متفاضلة؛ في مرتبة يكون علمًا بكلّ شيء، غير مشوب بالعدم، [و]في مرتبة يكون علمًا بشيء وجهلًا بشيء آخر. ولـمّا كان ذاته تعالى وجودَ كلّ شيء على النحو الأتمّ، فهو علم بكلّ شيء من دون شوبه بالجهل، وكان ذاته علمًا تفصيليًّا بكلّ شيء، على نحو لا يشذّ عن حيطة علمه ذرّة، فحضور ذاته لذاته علم إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ”؛ المظاهر الإلهيّة، الصفحة 89، الهامش 3 (تعليقة الآشتياني).

[31] المصدر نفسه، الصفحتان 100 و101؛ التشديد ليس في الأصل.

[32] الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 12، التشديد ليس في الأصل.

[33] انظر،

  1. Youness, “The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part II: Care and Meaning,” Theological Review, forthcoming.

وهي الجزء الثاني من  عملنا على نظريّة التطوّر:

“The Theory of Evolution: An Islamic Perspective; Part I: Against Parsimony,” Theological Review 33 (2): 107-134.

[34] المظاهر الإلهيّة، مصدر سابق، الصفحة 101.

[35] “الافتتاحيّة”، المحجّة 26، مصدر سابق.

[36] انظر، سورة البقرة، الآية 155؛ سورة محمّد، الآية 31.