شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين حراكًا فكريًا فريدًا تمثّل بانفتاح المؤسسات الحوزوية على أنظومات الفكر المناوئ – الغربي منه أو العربي –، وقد كان هذا الانفتاح أثرًا طبيعيًا لاجتياح بعض المدارس المادية واللادينية للساحة الفكرية في بلاد المسلمين، نتيجة إرهاصات سياسية تاريخية لا مجال لبسطها، حيث كان لهذا التحول آثاره الهادمة لبنية المجتمع الإسلامي، فتنطّح إذ ذاك بعض أساتذة الحوزات العلمية للدفاع عن تعاليم الدين ومواجهة الطروحات النظرية لتلك المدارس. وقد لزم في هذا المسعى أن يتمسك روّاد هذا الحراك بخلفيات التأصيل الفكري التي توفرها الحوزة من جهة، وبميسم الاجتهاد الفكري الذي يتخطى السائد من المعالجة ويفتح للعاقلة آفاقًا علميةً جديدة من جهة أخرى، بحيث يضحي المفكر متوفّرًا على دافع الخوض في حقول وميادين جديدة ولكن برؤية ونفس أصيل ورؤيوي.
ولكن مساعي هذه الزمرة لم تنجُ من نقودات علماء الداخل، وبالداخل أعني المنظومة الإسلامية، لأنه إن كان من خطير الادّعاء القول إن ارتكان الفلسفة إلى مقولات الدين – أي دين كان – هو عامل إقصاء لحيوية تلك الفلسفة وتحديدٍ لمدياتها الغائية في استقراء الوجود، فإن الأخطر منه ادّعاء أن الفلسفة ومطالبها علوم غريبة عن الدين، مشوهة لصورته وحقيقته، نازعة سمة القداسة والإلهية عنه. وهذان تياران كان على أصحاب التوجه المذكور التصدي لهما.
ولإن كنا سنخوض في مسعًى استشرافي لأهم أعلام هذا الحراك، فإننا سنجد العلامة الطباطبائي على رأس قائمة أولئك العلماء، لما اضطلع به من دور مركزي في ذاك السياق. فقد خرج الرجل في عصر كانت الفلسفة تنحو فيه نحو عملية بتر لكل ما هو ديني فيها، لا سيما في العالم الإسلامي، والحوزات تنحو نحو إقصاء لكل مشتغل أو مهتم بالفلسفة، فخرج إذ ذاك ليعيد نسج خارطة العقل الإسلامي والفلسفي على حد سواء، مثبتًا – أو ساعيًا إليه بالحد الأدنى – أن الفلسفة لا يمكن أن تحاكي واقعًا تُغيّبُ منه عالم ما وراء الطبيعة، وما يتعلّق به من مقولات الغيب والإلهام والشهود وغيرها، ومثبتًا من جهة أخرى أن الفهم الديني الحقيقي لا يمكن أن يصبح منتجًا حقيقةً ومعايشًا لهواجس العاقلة الإنسانية المتأخرة ما لم يكن على اضطلاع بمقولات الفلسفة، باسطًا لوجهته فيها، ليعيد بذلك إرساء لُحمة بين هذين الحقلَين.
إلا أن حصر الجهد المعرفي للعلّامة بهذا الحقل قد يكون من الإجحاف بمكان، حيث إن مساحة عمل الرجل تتخطى مجرد دور المدافع في إزاء الطروحات الهجينة، فقد كان له دور ريادي في التأسيس لإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية حول الله والإنسان والعالم، وذلك عبر إسهاماته التي قدّمها في سائر مجالات العلوم الدينية والعقلية، وإنجازاته التي يشهد له بها كل مطّلع؛ فقد أرسى – رحمه الله – منهجًا مستحدثًا في تفسير القرآن، يعتمد آيات القرآن نفسها منطلقًا لتفسير سائر النص القرآني؛ كما وسعى إلى إعادة تقديم النظام الفلسفي لملا صدرا بمرتكزات جديدة، مضيفًا إليه بعض الإبداعات الجديدة كبحثه حول الإدراكات الاعتبارية، وطروحاته في نظرية المعرفة، وغيرها؛ كما وعمل على صياغة نسق عقائدي مواده اليقينيات من القضايا وعناصر هيئته الاستدلال بالتلازم؛ كما وقدم بحوثًا في العرفان والولاية يقع الإنسان فيها أصلًا موضوعيًا يُلحظ في سياق علاقته بالمطلق؛ ذاك كله مضافًا إلى مباحثه في التاريخ والسيرة.
وبذلك، فقد كان لهذا العالم قدم السبق على سائر علماء عصره، وهذا مردّه إلى ما توفرت عليه منظومته الفكرية من مميزات فريدة. فقد اتّسمت تلك الشخصية أولًا بالموسوعية والشمولية، حيث كان ضليعًا في الفلسفة والعقائد طويل باع في الفقه والأصول والحديث متمرّسًا في علوم القرآن والتفسير محيطًا بحقول السيرة والتأريخ، إلى غير ذلك من المجالات؛ واتّمست شخصيته ثانيًا بالعمق والغزارة، حيث كان في كل واحد من تلك المجالات عميق التناول غزير الطرح، يقف على دقائق القضايا ويسائل المركوز فيها فلا يتلهى بالسطحي منها مغمضًا عينه عن لبها وأسِّها؛ ثم اتّسمت شخصيته ثالثًا بالجدة والريادة، حيث كان في كل القضايا العلمية رائدًا في طرح الجديد الذي يفتح آفاق الفكر على موضوعات مفصلية لم يكن قد سبق الخوض في طرحها؛ واتّسمت رابعًا بمسيم الإحيائية لمفهوم الأصالة الإنسانية، حيث جُعل الإنسان في فلسفة الطباطبائي وفكره أصلًا ترتكز عليه فروع المطالب وبلحاظه ترتسم الأفكار وتخاض النقاشات؛ واتّسمت أخيرًا بالواقعية الموضوعية، حيث استندت معظم استدلالاته الفلسفية أو العقائدية أو غيرها على أصول موضوعية هي القضايا اليقينية، وبهذا فإن طروحات الطباطبائي موافقة لما بإزائها في الخارج، أي مطابقة للواقع ونفس الأمر، سواء كان الواقع خارجًا أو ذهنًا أو شيئًا غيرهما.
والمحجة إذ تعمد في عددها هذا إلى استعادة أهم المرتكزات والأسس المنظومية لفكر العلامة الطباطبائي، فهذا مسعًى منها ينصبّ في سياق السعي إلى إعادة قراءة الذات بغية تكوين هوية إسلامية أصيلة ومشخّصة، ذاك أن موضوع الهوية مماسّ ولصيق بموضوع الثقافة ودورها في بناء الذات، خصوصًا مع ثقافة كتلك التي أرساها العلّامة الطباطبائي، الذي جعل التوحيد محورًا دارت حوله كل طروحاته، واتخذ القرآن قاعدةً ارتكز إليها في كل فتوحاته العلمية؛ ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذه الاستعادة.
ولا يفوتنا الإشارة في هذه العجالة إلى أنه سيصار في أعداد قادمة من المحجة إلى نشر أبحاث علمية تقع في إطار مشروع فكري ينطلق من نفس التوجيه المذكور أعلاه، يعمل الباحثون خلاله على بناء نظام منهجي لفكر العلامة الطباطبائي الفلسفي بالاستناد إلى كتابه نهاية الحكمة، فيضحي هذا العدد مثابة مقدمة لمشروع بحثي طويل تباشره المحجة في أعدادها القادمة.
مع العدد
يُستفتح العدد بورقة بحثية لشفيق جرادي يقدم فيها رؤيةً تأسيسيةً لمفهوم العبودية كما يطرحها الطباطبائي، يُرى إلى الإنسان “العبد” فيها بما هو رابط ومظهر لحقيقة القيومية الإلهية، ممهدًا بعد ذلك إلى طرح أساس نظري لنظام قيميّ يرتكز عليه مفهوم العبادة في الإسلام. ثم نطالع بعدها مقاربةً لمحمد ليغنهاوزن ينطلق فيها من حاشية العلّامة الطباطبائي على برهان الصديقين كما طرحه صدر الدين الشيرازي في كتاب الأسفار التي أرسى فيها أصالة الواقع ليواجه طروحات التيار الطبيعاني وبالتحديد آراء ويلارد كواين.
ثم نقف بعدها على طرح بحثي لحسن بدران يتمحور حول فهم الطباطبائي للإنسان تكون الركيزة فيه رؤية الطباطبائي للاعتباريات – بما تختزنه من دلالات على حقائق وجودية تحتها – في سبيل إعادة تشريح البنية الإنسانية على أساس أنثروبولوجيا النفس والروح عند العلّامة.
بعد ذلك نستطلع مع أحمد ماجد الأبعاد المعرفية لمقولة اللغة وماهيتها ودورها عند الطباطبائي، منتقلين منه إلى تناول مفردات اللسان والقول والكلام مع تفريق بينها، لنصل إلى دراسة العلاقة بين الكلام والفكر، مختتمين المطاف ببحث الروابط بين القرآن الكريم واللغة والفكر.
ونعبر بعد ذلك مع سمير خير الدين على دراسة المنهج الاستدلالي العقائدي عند الطباطبائي والذي يرتكز بشكل أساس على السير التلازمي، مطالعين لأهم خصائص هذا السير، متعرضين بعدها لبعض صيغ تطبيق هذا السير على القضايا العقائدية. وننتقل بعدها إلى معالجة إبراهيم بدوي الذي يقدم قراءةً استشرافيةً حول مفهوم السعادة، باسطًا لأهم الآراء المطروحة في سياق معالجته، مختتمًا برأي العلّامة ووجهته، مشعّبًا البحث في وجهتين، أولاهما البحث في نفس معنى مفهوم السعادة، وثانيهما البحث في كيفية تحصيلها.
ثم بعده يقدّم لنا مازن المطوري قراءةً موجزةً في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للعلّامة الطباطبائي يقف فيها على كل مقالات الكتاب ليقدم الفكرة الأساس لكل منها، لاحظًا الكتاب بما يشكل من أرضية لفهم منازل الفلسفة الغربية في فكر العلّامة الطباطبائي. ونختتم عددنا بدراسة بيبلوغرافية يبسط فيها أمير رضا أشرفي أهم المنجزات العلمية المقدمة في إيران حول العلّامة الطباطبائي وتفسيره الشهير الميزان في تفسير القرآن، من مؤتمرات وكتب وطروحات وغيرها.
والحمد لله رب العالمين.